قليل الرقاد كثير التعب
علي بن حمدان مريض، يحارب عدوا شديدا ، ويلقى خطوبا سودا، ولكن على الأسد أن يحمي غيله، والفحل يحمي شوله معقولا. يمضي الرجل في جلاده على العلات، وعلى رغم العلل والحادثات، وأمراء العرب والمسلمين من خلفه كما قال أبو الطيب لهذا الأمير العظيم:
ألهى الممالك عن فخر قفلت به
شرب المدامة والأوتار والنغم
3
في شهر صفر سنة ست وخمسين وثلاثمائة في مدينة حلب يمرض ابن حمدان البطل مرضه الأخير، وينظر وراءه إلى ثلاث وعشرين سنة من المجد والكد، ويتمثل الخيل المغيرة والنقع المثار، والسيوف المتضاربة، والرماح المتطاعنة، والكر والفر، والهزيمة والظفر، ويتذكر من ثبت ومن فر، ومن وفى ومن غدر، كما يتمثل الشعراء أمامه يسجلون وقائعه، ويخلدون مآثره، والعلماء والأدباء يأتونه من كل صوب، ينشرون العلم في كنفه، ويحتمون من الحوادث في جانبه، وتمر بخياله الحوادث حلوها ومرها، والأيام خيرها وشرها، فيبسم بسمة الرجل أدى واجبه، ووفى بعهده، وترك وراءه صيتا بعيدا، وذكرا حميدا.
وهذه الساعة الثالثة من يوم الجمعة لخمس بقين من صفر سنة ست وخمسين وثلاثمائة، والأمير العظيم على فراش الموت يود لو جمع تاريخه في كتاب، وأحصيت وقائعه في سجل يأخذه بيده في ساعته الأخيرة؛ ليلقى ربه بما قدمت يداه في سبيل الله! بل يود لو صورت الخطوب، ومثلت الحوادث، وطوي التاريخ في صورة مجسمة ليصحبه في قبره، ويؤنسه في وحشته، ويمضي معه حجة ناطقة، وشهادة ناصعة، وكيف تصور الخطوب، وتمثل الحوادث، ويطوى التاريخ مجسدا؟!
يقول سيف الدولة: هاتوا اللبنة، قد نفضت دروعي بعد الوقائع ، وجمعت ما عليها من الغبار، وصنعت من الغبار لبنة. علي بهذه اللبنة لأراها، فإذا مت فضعوها في لحدي تحت خدي.
1
ونقلت جثة الأمير الكبير، ولبنة الرجل المجاهد إلى ميافارقين، فدفنا في التربة التي دفن فيها سيف الدولة والدته.
Unknown page