سرنا وراء الرجل يسلك بنا في فناء المسجد حتى انتهى إلى زقاق ضيق يفضي إلى باب مرتفع، فنادى إبراهيم وكلمه، فجاء يحمل المفتاح وتقدم نحو الباب ففتحه، ثم ألقى خشبة ضخمة على كوم من الحطب أمام الباب، فارتقى عليها، ودخل فاتبعناه.
سور قصير يحيط بعرصة واسعة، فيها ارتفاع وانخفاض، وأكوام من التراب، وأكداس من الأحجار، يبدو بدخلها قبران إلى اليمين، عليهما نصبان من الرخام. وإذا أنعم الباحث النظر تبين قبرين دارسين أو ثلاثة في أرجاء أخرى.
قال إبراهيم: ليس هنا إلا القبران اللذان ترى. فتأملت كتابة تركية، وقرأت ما في سطور الفناء من عظات وتواريخ وأسماء، فإذا اسمان آخران، ودفينان مضى عليهما زهاء ثمانين عاما، وجلت في أرجاء المقبرة فرأيت قبرا عليه نصب واقع يتضمن اسما آخر، ثم مررت بقبر لا نصب عليه، وبنصب لا قبر له؛ بطشت يد الزمان العسراء ببقايا الفناء!
تتخلف الآثار عن أصحابها
حينا ويدركها الفناء فتتبع
لبثت حينا أسائل القبور والأحجار فلم تحر عن الشاعر جوابا، فرجعت إلى إبراهيم فقال: كانت هذه الأرض كلها قبورا، فذهب بها الحفر، قلت: أي حفر؟ قال: قلبوا الأرض يفتشون عن قبر الإسكندر؛ فقد أخرجوا ما ضمنته الأرض من أحجار وعظام إلى عشرين ذراعا، فلم يظفروا بشيء، قلت: إنها لتعزية؛ إن فقدنا قبر شاعرنا فقد ضل في ثنايا الأرض وظلمات التاريخ قبر الملك العظيم الفاتح، الإسكندر بن فيليب، إنها لتعزية!
رجعنا إلى صاحبنا الذي أشار بالذهاب إلى المقبرة القديمة فقال: هل عثرتم على القبر المنشود؟ - لا، رأينا قبورا قليلة، وقرأنا ما وجدنا من أنصاب، فلم نجد قبر عاكف باشا. - هنا مقبرة سعيد باشا، أيمكن أن يكون قبره فيها؟ - ليس بعيدا، فقد حدث التاريخ أن محمد علي باشا أحسن وفادته، وبالغ في الحفاوة به، فليس عجيبا أن يكون قد أمر بدفنه بين قبور الأمراء. - يا فلان - قيم مقبرة سعيد باشا وكان بجانبه - ادخل بهما لعلهما يجدان القبر، فأحسبني رأيت هذا الاسم على بعض القبور. - عندي أوراق فيها أسماء القبور كلها، فتفضلا معي.
ودخل إلى بهو به مكتب، فأخرج ورقتين فيهما أسماء معظمة لأمراء وأميرات، أسماء كانت عناوين حياة حافلة بالأبهة والرفاهية، مملوءة بخطوب الزمان، ونوب الأيام، وما هي الآن إلا أسماء قبور.
ما وجدت «عاكف باشا» بين الأسماء، فشكرت للرجلين وانصرفت.
قال صاحبي: لم تعثر عليه.
Unknown page