ثم تحدثت بعد ذلك عن صاحب البرق، وأرادت أن تداعب، فقالت: «إن في صاحبه عيبا واحدا، هو أن هذا الرجل المسكين يدعى «بشارة!» أرأيت في حياتك اسما أكثر ركاكة من هذا؟ ولكن الرجل ليس ركيكا في غير اسمه على ما ظهر لي، وإني لأحشره مع فصيلة دعيبس، وزعيتر، وشخاشيري، وقطة، ودبانة، وزغيب وشركائهم ليمتد.
ما أحرى هؤلاء التعساء بكتابة بيت المعري على بطاقة الزيارة تحت اسمهم المنكود الحظ:
هذا جناه أبي علي «وسأجني على غيري بعدي»
كسرت البيت، وحقه أن يكسر ويحطم عند سماع أسماء لا شعرية، ولكني أسامح صاحب البرق وأصفح له جناية اسمه إكراما لما كتبه في وصف السيدة ألسي.»
عتاب بليغ
واتهمها مرة المرحوم الدكتور صروف في رسالة بعث بها إليها بأنها تفكر بلغة أوروبية قبلما تعبر عن رأيها بالعربية، فأجابته برسالة علمية أدبية بديعة فيها الفكرة الصائبة، والمناجاة البليغة، والدعابة المستملحة، والإحساس المرهف، وقد أشارت فيها إلى ما كان يعانيه الأدباء وقادة الفكر في عهد الملكية في فرنسا:
أستاذي العزيز «لما جاءتني رسالتك يوم الإثنين الماضي كنت غارقة في مطالعة رسالة شائقة بين فيلسوفين عظيمين، فولتير ودالمبير، مراسلة دائرة حول أعظم أثر أدبي رأته القرون الحديثة: دائرة المعارف الفرنسية.
يومئذ كان صاحبنا فولتير منفيا في سويسرا، وكان دالمبير في باريس يتعاون وديدرون والأنسيكلوبيديين الآخرين في إصدار دائرة المعارف جزءا بعد جزء في ظل سليمان الشمال - كما كان فولتير يسمي فريدريك الكبير في ظله المعنوي فقط - وهو الذي كان ينقد بعض فلاسفة فرنسا وعلمائها رواتب شهرية تكفل لهم الغذاء والكساء والسكن، في حين أن الملكية الفرنسية التي كانت يومذاك في أعلى أعالي مجدها لم تكن تفكر فيهم إلا لتطاردهم وتنفيهم وتحرق مؤلفاتهم! وبعد أن وعدتهم هذه بالمساعدة الأدبية قامت مدفوعة من الأكليروس تصادرهم وتكثر العقبات في سبيلهم، فرضت عليهم الرقابة، فقبلوها مرغمين، وعينت من الرقباء أجهلهم، فصار هؤلاء يحذفون كل ما لا يفهمون، ولم يكونوا يفهمون شيئا!
في هذه الحالة المدلهمة أخذ الرجلان الكبيران يتراسلان، وكان فولتير يساعد دالمبير عن بعد في تأليف الإنسكلوبيديا، وكلاهما يشبه رفيقه بما لديه من عظمة فكرية ورغبة في خدمة المصلحة العامة وكره للجهل والدعوى والاستبداد، كذلك تشابهت منهما الرسائل في التظلم وبث الشكوى، وفي معرفة الطبيعة البشرية والتساهل لغباوة الأغبياء. وما أقل كلمات المرارة الخارجة من قلبيهما المصدوعين، وما أعذب كلمات المؤاساة من قلميهما القادرين الملجمين، وما أبعد نقطة يدركها فكراهما في مدى المستقبل المنبسط أمامهما!
دائرة المعارف موضوعهما الأول، يحومان حوله باهتمام كما يهتم الشريكان في عمل يخلدهما أمام وجه الأجيال، إلا أنهما لا يقتصران عليه، بل ترفرف حول هذه النقطة الجوهرية أسراب المواضيع الاجتماعية والفلسفية والعلمية والدينية والسيكولوجية، حتى إذا عثرا على معنى ظريف أو نكتة أو ملحة وقفا عندها يضحكان كأنهما طفلان لم تصادرهما حكومة، ولم يهددا بعقوبات إن لم تكن عقوبات محكمة التفتيش بالاسم، فهي هي بالذات، ولا تقل عنها قسوة وهولا.
Unknown page