Atheism and Injustice in the Sacred Mosque: Between Intention and Implementation
الإلحاد والظلم في المسجد الحرام بين الإرادة والتنفيذ
Publisher
الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
Edition Number
السنة التاسعة والعشرون. العدد السابع بعد المائة. (١٤١٨/١٤١٩هـ) / (١٩٩٨
Publication Year
١٩٩٩م
Genres
الإلحاد والظلم في المسجد الحرام بين الإرادة والتنفيذ
تأليف الدكتور: محمد بن سعد بن عبد الرحمن آل سعود
عضو هيئة التدريس في قسم الكتاب والسنة
بكلية الدعوة وأصول الدين
جامعة أم القرى
المقدمة
الحمد لله فعّال لما يريد، بيده الخير، وهو على كل شيء شهيد. والصلاة والسلام على القائل: "من يُرِد اللهُ بهِ خَيرًا، يُفقِهه في الدين"١.
أما بعد: فقد كنت في زيارة أحد أقاربي، المقربين إلى نفسي في مدينة الرياض، وتناول الحديث معه تعلقه الشديد بأرض الحرم، ورغبته الصادقة في سكناها، والعيش فيها.
وكأني أسخر منه، حين سألته: ولمَ لمْ تفعل؟ فالسبيل ميسر، والوسيلة سائرة، وقد منَّ الله عليك بالتبعية لهذا الكيان الكبير، فلا حدود ولا قيود، وأنت اليوم أصبحت خِلْوًا من التزاماتك نحو عملك في الجامعة.!!!
فتبسم ضاحكًا من قولي، وصوّب نحوي نظرة شفقةٍ، وحنان، وقال: هو كما قُلْتَ، ولولا آية في كتاب الله لفعلت.
ووجمت مندهشًا وقد أخذ مني الفضول مأخذًا، نظرت إليه بلهفة، وفي عيني سؤال: وما تلك الآية، يرحمك الله؟!
فتلا قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [الحج /٢٥] . فكأنه أيقظني من سبات عميق في وادٍ سحيق، فأخذت أردد تلاوة الآية الكريمة في نفسي، ورفعت إليه بصري، وسألته متغابيًا: وما الذي في الآية من معنى يحول بينك وبين تحقيق حلمك الجميل؟ فردَّ قائلًا:
الإنسان منَّا عرضة للخطأ، والنسيان، فيما يقول، ويفعل، ولا يزال تحيط
_________
١ رواه البخاري في صحيحه من كتاب العلم، باب من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين.
1 / 124
به الملذَّات، والشهوات، والرغبات في نيلها، فيريد أن يحقق لنفسه شيئًا منها، إرواءً لغرائزه، فيَهُمُّ بفعلِ معصية، فلا يقع منه في الواقع فعلها، فيصبح موعودًا من الله بعذاب أليم، لمجرد أنه همّ بفعلها في المسجد الحرام. بينما الأمر بخلافه في أي مكان آخر من المعمورة. فالسلامة أن نقتصر على زيارتها - شرَّفها الله - بين الحين والآخر للحج أو العُمرة، فلا يطول بنا المقام إلاّ بقدر تأديتهما والإنتهاء منهما، فنسلم إن شاء الله تعالى من التعرُّض لسخط الله وغضبه.
هذه المحادثة الصغيرة شدَّتْنّي إلى طلب العلم حول هذه القضية، التي كثر الغافلون عنها ممن سكن مكة المكرمة، وجاور المسجد الحرام.
التمهيد إنَّ موضوعًا يبحث في معنى الإلحاد، والظلم، وإرادتهما بأرض الحرم، وجوار المسجد الحرام، له خصائص تختلف في أهميتها، وماهيتها عن غيرها، مما يتعلق بمواضيع شرعية أخرى، وذلك لحرمة المكان بما يؤكده المولى جلّ وعلا في القرآن الكريم بأكثر من آية. والقاطنون بمكة المكرمة من أهلها والوافدون إليها، يهمهم أكثر من غيرهم الوقوف على دقائق هذا الموضوع، وتفاصيله المختلفة، لمن شاء منهم أن ينجو من عذاب الله الأليم، بمعرفة أسبابه، ودوافعه. فما معنى الإرادة؟ وما المراد بالإلحاد، والظلم في الحرم؟ وما المقصود بالحرم، وبالبيت الحرام، والمسجد الحرام؟. فشرعت في سبيل ذلك أجمع الآيات من القرآن، والأحاديث النبوية، وأقوال المفسرين حولها، وأقوال أهل اللغة والتاريخ، والسِّيَر. وكان من الطبيعي أن أحدد المراد بالحرم. أهو المسجد الذي تقام فيه الصلاة بجوار الكعبة، البيت
التمهيد إنَّ موضوعًا يبحث في معنى الإلحاد، والظلم، وإرادتهما بأرض الحرم، وجوار المسجد الحرام، له خصائص تختلف في أهميتها، وماهيتها عن غيرها، مما يتعلق بمواضيع شرعية أخرى، وذلك لحرمة المكان بما يؤكده المولى جلّ وعلا في القرآن الكريم بأكثر من آية. والقاطنون بمكة المكرمة من أهلها والوافدون إليها، يهمهم أكثر من غيرهم الوقوف على دقائق هذا الموضوع، وتفاصيله المختلفة، لمن شاء منهم أن ينجو من عذاب الله الأليم، بمعرفة أسبابه، ودوافعه. فما معنى الإرادة؟ وما المراد بالإلحاد، والظلم في الحرم؟ وما المقصود بالحرم، وبالبيت الحرام، والمسجد الحرام؟. فشرعت في سبيل ذلك أجمع الآيات من القرآن، والأحاديث النبوية، وأقوال المفسرين حولها، وأقوال أهل اللغة والتاريخ، والسِّيَر. وكان من الطبيعي أن أحدد المراد بالحرم. أهو المسجد الذي تقام فيه الصلاة بجوار الكعبة، البيت
1 / 125
الحرام، وما يحيط به من جهاته الأربع من ساحات، وأروقة، ومرافق؟ أم هو كل ما دخل في حدود مدينة مكة المكرمة، البلد الحرام؟.
ومن ثم يتبين المكان الذي يؤاخذ فيه الإنسان بإرادته المجرَّدة، ومضاعفة أجر الصلاة فيه إلى مائة ألف صلاة.
والحِلُّ يُطلق على خارج حدود الحرم، حيث المواقيت للحج والعمرة لمن أَمَّ البيت الحرام، فمن تجاوزها وقد تلبَّس بهما أو بأحدهما منها أو من بلده، فقد وجب عليه إتمامهما، والعمل بأحكامهما.
وتختلف المواقيت التي هي أبواب أرض الحرم قربًا وبعدًا عنه، ليستعدَّ القادم إلى البيت الحرام من لتهيئةِ نفسه وحاله، بعد أن تجرَّد من المخيط، لتتجرد نفسه من أغراض الدنيا وشهواتها، وتُقْبِل على ربها مطمئنَّة راضية، تؤدي نسكها ﴿بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ﴾ [سبأ/١٥]، ﴿ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ [الحج / ٢٩] .
ومكة المكرمة القرية الآمنة، كان نواتُها بعض أهل إبراهيم ﵇، أسكنهم بوادٍ غير ذي زرع عند بيت الله الحرام، ودعا الله ﷿ أن يجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم، ويرزقهم من الثمار - كل الثمار - فالسكنى كانت (عند) المسجد الحرام، وليست (فيه) مما يدل على أن موضع زمزم حيث ترك إبراهيم ابنه لم يكن من المسجد الحرام حينذاك بل بجواره، والله أعلم، واستجاب الله ﷿ لدعوة نبيه وخليله، فاستقر في ذلك المكان من العرب مَنْ بدد وحشة (هاجَر)، وقوَّم لسان إسماعيل ﵇، حتى إذا شبَّ عن الطوق، أنكحوه منهم. ثم عاد الخليل ﵇ يتفقد تركته، ويعلم من شأنهم ما جدّ عليه.
1 / 126
وكرر ذلك مرارًا، حتى جاء أمر الله جلَّ وعلا، يأمرهما بإعادة بناء بيته الحرام بعد أن طمرته الرياح بالرمال، والسيول بالوحل والحجارة، على اعتبار أن الملائكة أول من شيده١، قال تعالى: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [البقرة / ١٢٧] .
حتى إذا شيداه، وأتماّ بناءه توجها إلى ربهما بالدعاء: ﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [البقرة /١٢٨-١٢٩] .
ثم يمتنّ الله تعالى على عباده أن صيَّر بيته الآمن مثابة لهم يعودون إليه حينًا بعد حين، قال ﷿: ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ [البقرة/١٢٥] .
وكلمة (الحرم) تشمل قرية مكة المكرمة، بمبانيها، وطرقها، ومرافقها العامة، تحيط بالمسجد الحرام، إحاطة السوار بالمعصم، وليست منه. قال عمر بن الخطاب لمن أبى أن يأخذ ثمن داره التي هدمها قرب المسجد الحرام لتوسعته، وتمنَّع من البيع، "إنما نزلتم على الكعبة فهو فناؤها، ولم تنزل عليكم" فوضع أثمان دورهم في خزانة الكعبة حتى أخذوها بعد٢ غير أن لها ما يميزها عن سائر مدن
_________
١ قال ابن كثير في تفسيره (١/٣٠٢): "وقد اختلف الناس في أول من بنى الكعبة، فقيل: الملائكة، وقيل آدم".أ. هـ. وانظر البداية والنهاية (١/١٦ (٣) ١٦٦) . وانظر تفسير القرطبي للآية (١٢٧) من سورة البقرة (٢/١٢)، وتفسير البغوي عند تفسير الآية نفسها (١/١٤٩) وانظر: تاريخ الكعبة المعظمة لحسين عبد الله باسلامه (ص٤) ط٢ سنة ١٣٨٤هـ.
٢ انظر " شفاء الغرام " للفاسي (١/٢٢٤)، رواه عن الأزرقي عن جدِّه قال: أخبرني مسلم بن خالد الزنجي عن ابن جريج، وانظر "تاريخ الأمم والملوك" لابن جرير الطبري (٤/٢٠٦) .
1 / 127
الأرض وقراها على الإطلاق، ففيها يُنهى عن عضد الشجر بكل أنواعه إلا ما استثناه الشارع، وأن لا يُنفَّر صيدها مهما كان حجمه أو نوعه، وتقع الفدية على من فعل شيئًا من ذلك، ولا تحل لُقَطَتُها لواجدها مهما تطاول عليها الزمن١ وأن يكون لها منشدًا أبدًا.
و(البيت الحرام) أو (المسجد الحرام) و(الكعبة البيت الحرام) و(البيت) و(البيت العتيق)، لا تأتي إلاّ مُعَرَّفَة، والمراد الكعبةُ نَفْسُها، وما يحيط بها من جهاتها الأربع إلى آخر ما يصل إليه موضع السجود للمؤتمَّ في صلاته بصلاة الإمام فيه، لا يفصل بينهما شيء من المرافق العامة أو الخاصة، وتكون الصفوف متصلة بحيث لو رآها الناس قالوا: الصفوف متصلة، وذلك عُرْفًا - حتى ولو امتدّت إلى أن تشمل قرية مكة كلِّها، فتكون أرض الحرم كلها مسجدًا.
ولا يجوز للحائض، والنفساء، والجنب المكث فيه إلا عابري سبيل كشأن سائر المساجد الأخرى، ولا يطلب ذلك في غير المساجد.
وإذا أراد الله تعالى الإشارة إلى بيته المطهَّر بمكة وصفه بـ"الحرام"، وإذا أشار - جلّ وعلا - إلى غيره من المساجد لم يَصِفْهُ بتلك الصفة، كما قال تعالى عن مسجد بيت المقدس: ﴿وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ [الإسراء/٧] .
وعن مسجد المدينة قال تعالى: ﴿لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى﴾ [التوبة/١٠٨] .
ولا فرق بين جملة (المسجد الحرام) و(البيت الحرام) فالمساجد بيوت الله، وبيوت الله هي المساجد، وأمكن أن يُضاف البيت إلى اسم الجلالة فيقال: بيت
_________
١ انظر صحيح البخاري كتاب العلم، باب كتابة العلم، حديث رقم (١١٢) وأطرافه (٢٤٣٤) و(٦٨٨٠) . وكتاب البيوع باب ما قيل في الصوَّاغ حديث رقم (٢٠٩) وكتاب اللقطة، باب رقم (٧)، وانظر صحيح مسلم كتاب الحج، باب تحريم مكة وصيدها، حديث رقم (١٣٥٥) .
1 / 128
الله الحرام، ولا يقال: مسجد الله الحرام، لأن المساجد لا تكون إلاَّ لعبادة الله وحده، ولا يُقبل عمل فيها إلاّ لله، وهي بمعنى السجود: ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾ [الجن/١٨]، بينما البيوت تطلق على أماكن العبادة وغيرها.
وسمِّيت أرض مكة حرمًا من أجل ما حُرِّم فيها من عضد الشجر وتنفير الصيد، وغيرهما مما اختصت به دون غيرها من بقاع الأرض، والحُرْمَةُ ما لا يَحِلُّ انتهاكُه، ويقال: هُوَ ذو مَحْرَمٍ منها، إذا لم يَحِلّ له نِكاحُها. وحَريم البِئْر وغَيْرِها: ما حولها من مرافقها، وحقوقها١.
فقرية مكة: هي حريم المسجد الحرام، وهي له كسياج تحيط به، تحول بين هوانه ممن لا يعظمه في نفسه، ويعمل على إهانته، والنيل منه، بعبادة ربه بما لم يُشَرِّعه لعباده للتقرب إليه وطاعته، كالمشركين يعبدون الأوثان، ويستغيثون بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله: ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾ فأولئك لو تمكنوا من دخول مكة - الحرم الآمن - لتمكنوا من دخول المسجد الحرام بطريقة أو بأخرى "كالراعي يرعى حول الحمى"، فقطعًا لدابر مثل هذا الاحتمال حُظِر عليهم دخول أرض مكة كلِّها، وبالتالي دخول بيت الله الحرام، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة/٢٨] .
وقد كان من المشركين أربابُ تجارة، يعتادون مكة بأصنافٍ منها، ينتفع بها المسلمون، الذين منهم من اغتمَّ عند نزول صدر الآية الكريمة، خشية الفقر عند انقطاع موارد الرزق، حتى إذا نزل عجزها اطمأنت نفوس المسلمين.
قال ابن حجر: والآية صريحة في منعهم دخول المسجد الحرام، ولو لم
_________
١ مختار الصحاح، مادة (حرم) .
1 / 129
يقصدوا الحج، ولكن لما كان الحج هو المقصود الأعظم صرح لهم بالمنع منه، فيكون ما وراءه أولى بالمنع. والمراد بالمسجد الحرام هنا الحرم كله١.
وقرية مكة المكرمة لها طابع بيئي متميز، الجبال الشاهقة تحيط بها من جميع جوانبها، والأودية تتخلل تلك الجبال، وحتى موضع البيت الحرام في وادي غير ذي زرع تغمره مياه الأمطار، وقد أدَّت السيول إلى هدمه أكثر من مرة من تاريخ إنشائه. غلب على مناخِها طابع الحرارة الشديدة، ولا تكاد تُميَّز فروق الفصول الأربعة فيها.
وأَقْدِر لمكة المكرمة بلدًا يَسكُن حبها نفوسَ المسلمين، ولكن لا يسكنها إلاّ من سكنت إليها نفسه، واطمأنت بالإيمان غالبًا. ومزاجها من السكان خليط، ومن العادات مختلف وجديد. يكاد لا يجمع بينهم من الروابط والعادات الاجتماعية إلاّ رابط التعلق ببيت الله الحرام، والتقرب إلى الله فيه.
تحسبهم جميعًا وفق ما ينبغي من تقوى لله، وورع، والتزام يليق بالجوار والجار، عظمة، وحُرمة، غير أنَّها بلد لم تُحصَّن – كغيرها - ضد الشيطان وجنده، فهم يجوبون طرقها، وأنديتها، ويستحوذون على بعض أفئدة سكانها بما يُزَيِّنونه من مسائل، ووسائل تغوي السفهاء، فتكاد المعاصي فيها من مرتكبيها تتشابه بالمعاصي في غيرها من المدن الأخرى.
ولكن يبقى للمسجد الحرام في مكة المكرمة ما يُميزه عن أي بقعة من بقاع الأرض، ذلك هو مؤاخذة من أراد فيه الإلحاد والظلم، - مجرد الإرادة -، بعذاب أليم، وفي غيره يستوجب الفاعل لهما العقوبة بمباشرته الحدث ووقوعه منه فعلًا وقصدًا، لا بمجرد أن يهمَّ بذلك همًا دون الإلمام به، ولا تخلو نفس
_________
١ فتح الباري شرح صحيح البخاري (٨/٣٢) .
1 / 130
بشرية - إلاّ من رحم - من الهمِّ بفعل يعتبره الشارع معصية يستحق فاعلها عقوبة في الدنيا أو في الآخرة إذا تحقق فعلها منه، وفي الحديث عن ابن عباس يرفعه: "ما مِنْ أَحدٍ مِنْ وَلَدِ آدم ألاّ قد أَخْطأ أو همَّ بخطيئة، ليس يحيى بن زكريا" ١.
وخواطر الإنسان، وأفكاره، وهواجسه لا تقف عند قَدْرٍ، ولا تحدها حدود، فلا يشعر الإنسان إلاّ وقد حلَّقت به أفكاره بعيدًا عن مكان وجود بدنه، ويتصور، ويتخيل شتى الصور والخيالات، المألوفة، وغير المألوفة، المباحة، وغير المباحة.
وقد تُحَرِّك في نفسه بعض تلك الصور المُتَخَيَّلَة نوعًا من الرغبة في نيلها، والاستمتاع بها، فيتدرج مع خياله في سبل تحقيقها حتى يكتمل في ذهنه مُحققًا، وواقعًا ملموسًا، قد ذلل بقدرته على التصور كل العقبات المحتملة دونه، فينزع إلى التنفيذ ويهم بالمباشرة، وتبرز عندئذٍ (الإرادة) فيْصَلًا بين التنفيذ أو الإحجام.
فإن هو سعى في طلب ما نزعت إليه نفسه بنيَّة تحقيقه، في قوة مركَّبة من شهوة، وخاطر، وأمل، واتخذ حيال ذلك الوسائل، والوسائط، والسبل، وأجرى في نفسه مشهدًا تجريبيًا، تجري فصوله مثال الواقع، فاستهواه واستساغه، وشجعه بجعله واقعًا ملموسًا، فهو قد أراد إرادة أكيدة في تحقيق ونيل ما سعى إليه، وتسمى تلك الإرادة المؤكدة (عزيمة)، فإن تم له ما أراد تقرر في حقه الثواب أو العقاب، وإذا حال دون تحقيق إرادته مانعٌ لا يقوى على تذليله، وبقيت معه تلك الإرادة المؤكدة تراوده إلى فعل ما أراد حال تمكُّنه، يسمى فعله
_________
١ رواه الإمام أحمد في مسنده (١/٢٥٤،٢٩٢،٢٩٥،٣٢) عن ابن عباس، وإسناده ضعيف لوجود علي بن زيد بن جدعان التيمي، قال أحمد وأبو زرعة: ليس بالقوي.
1 / 131
ذلك إصرارًا يؤاخذ عليه في الحرم، والإصرار هو: "الإقامة على الذنب، والعزم على فعل مثله"١.
وإذا منعه من تحقيق ما أراد مانع من نفسه، كخوفه من الله، وخشيته من العاقبة، وكان قادرًا على الاسترسال في طلب مراده، وتحقيق ما أراد، فاستغفر ربه وأناب، فكأنَّه في هذه الحالة لم يصدر عنه شيء البتَّة، بل يثاب على تركه المعصية - وقد كان قادرًا على فعلها - خوفًا من الباري جلّ وعلا.
روى النبي ﷺ حديثًا عن ربه جلّ وعلا أنه قال: "إذا أراد عبدي أن يعْمل سيئة فلا تكتبوها عليه حتى يعملها، فإن عملها فاكتبوها له بمثِلها، وإن تركها من أجلي فاكتبوها له حسنة، وإذا أراد أن يعمل حسنة فلم يعملها فاكتبوها له حسنة، فإن عملها فاكتبوها له بعشر أمثالها إلى سبع مائة" ٢.
والحديث - والله أعلم - لم يفرق بين من أراد السيئة في المسجد الحرام، ومن أرادها خارجه، ولكن إن ترك فعل السيئة أو المعصية بعد تمكنه من فعلها، خوفًا من الله فإنَّه يثاب، ولا يؤاخذ بما همَّ به في غير المسجد الحرام.
قال المحاسبي: "أما الهمّ الموضوع فهو التَروية إذا خطرت المعصية أيفعلها أم لا؟ فهو يميل بين الفعل والترك، فلا يُكْتَب عليه شيء حتى يصير إلى أحدهما، فإن صار إلى العَقْد زال عنه الهمّ.
وإن هو صار من الهمِّ إلى الترك صار إلى الطاعة، وكتبت له حسنة، وإذا همّ بفعل حسنة من النفل كتبت له حسنة، فإذا عقد عليها كُتبت له عشرًا، فإذا همَّ بحسنة من الفرض أيفعل أو لا يفعل؟ فليس ذلك من حسنة إنما الهمُّ بالحسنة
_________
١ التعريفات للجرجاني (ص ٣٧) .
٢ أخرجه البخاري في صحيحه كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: ﴿يريدون أن يبدِّلوا كلام الله﴾، حديث رقم (٧٥٠١) .
1 / 132
هو الهمّ بالنفل"١.
وقال الخطابي: "محل كتابة الحسنة على الترك أن يكون التارك قد قدر على الفعل ثم تركه، لأن الإنسان لا يُسمى تاركًا إلاّ مع القدرة، ويدخل فيه من حال بينه وبين حرصه على الفعل مانع، كأن يمشى إلى امرأة ليزني بها - مثلًا - فيجد الباب مغلقًا، ويتعسر فتحه، ومثله من تمكن من الزنا - مثلًا - فلم ينتشِر، أو طَرَقَه ما يخاف من أذاه عاجلًا٢. والله أعلم.
_________
١ انظر كتابه: المسائل في أعمال القلوب والجوارح، (٧٩)، (والمحاسبي) معروف حاله!.
٢ انظر كتابه: أعلام الحديث (٣/٢٢٥٢)، وانظر فتح الباري لابن حجر، (١١/٣٢٦) .
الفصل الأول الحدود والفروق بين الحرم والمسجد الحرام المبحث الأول: حدود مكة المكرمة، ومواقيت حرمها الأربعة من الشمال من طريق المدينة المنورة دون التنعيم١، عند بيوت نِفَار ثلاثة أميال. ومن الجنوب من طريق اليمن، طرف أضاة لَبَن على ستة أميال. وأضاة لبن، سميت كذلك لأن الجبل٢ المطل عليها يقال له: (لَبَن) بالتحريك، وقيل: _________ ١ روى مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك: أن ثمانين رجلًا من أهل مكة هبطوا على رسول الله ﷺ من جبل التنعيم مُتسلِّحين، يريدون غِرَّة النبي ﷺ وأصحابه، فأخذهم سَلمًا فاستحياهم، فأنزل الله ﷿: ﴿وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ﴾ الفتح / ٢٨. (انظر صحيح مسلم كتاب الجهاد والسير، باب قول الله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ﴾ (١٣٣ـ ١٨٠٨)، وأبو داود في الجهاد، باب في المنِّ على الأسير بغير فداء. أقول: وبطن الوادي أسفله، فيكون معنى قوله تعالى: ﴿بِبَطْنِ مَكَّةَ﴾ أي: أن جبل التنعيم من مكة، ويقع في أسفلها من ناحية الشمال، والله أعلم، انظر أسباب النزول للواحدي بتحقيق سيد صقر (ص٤٠٥) . ٢ قيل: جبل (لبن) يقال له اليوم (لُبين) عنده حد الحرم الجنوبي و(إضاة) لبن يقال لها اليوم (العُقَيْشِيَّة) نسبة إلى رجل يقال له (عُقيش) كان يملكها، (انظر أخبار مكة للفاكهي، ج٤/١٩٥) والقِري (٥٨٢) .
الفصل الأول الحدود والفروق بين الحرم والمسجد الحرام المبحث الأول: حدود مكة المكرمة، ومواقيت حرمها الأربعة من الشمال من طريق المدينة المنورة دون التنعيم١، عند بيوت نِفَار ثلاثة أميال. ومن الجنوب من طريق اليمن، طرف أضاة لَبَن على ستة أميال. وأضاة لبن، سميت كذلك لأن الجبل٢ المطل عليها يقال له: (لَبَن) بالتحريك، وقيل: _________ ١ روى مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك: أن ثمانين رجلًا من أهل مكة هبطوا على رسول الله ﷺ من جبل التنعيم مُتسلِّحين، يريدون غِرَّة النبي ﷺ وأصحابه، فأخذهم سَلمًا فاستحياهم، فأنزل الله ﷿: ﴿وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ﴾ الفتح / ٢٨. (انظر صحيح مسلم كتاب الجهاد والسير، باب قول الله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ﴾ (١٣٣ـ ١٨٠٨)، وأبو داود في الجهاد، باب في المنِّ على الأسير بغير فداء. أقول: وبطن الوادي أسفله، فيكون معنى قوله تعالى: ﴿بِبَطْنِ مَكَّةَ﴾ أي: أن جبل التنعيم من مكة، ويقع في أسفلها من ناحية الشمال، والله أعلم، انظر أسباب النزول للواحدي بتحقيق سيد صقر (ص٤٠٥) . ٢ قيل: جبل (لبن) يقال له اليوم (لُبين) عنده حد الحرم الجنوبي و(إضاة) لبن يقال لها اليوم (العُقَيْشِيَّة) نسبة إلى رجل يقال له (عُقيش) كان يملكها، (انظر أخبار مكة للفاكهي، ج٤/١٩٥) والقِري (٥٨٢) .
1 / 133
بكسر اللام وإسكان الباء، (والأَضَاة) خَبْتٌ يجتمع سيل وادي مكة فيه، على وزن فتاة. ومن الغرب طريق جدة منقطع الأعشاش على عشرة أميال. و(الأعْشَاش) منطقة رملية تقع بين الحديبية وبين سلسلة جبال (المُرَيْر) و(الجوف)، ويخترقها طريق جدة القديم. وأنصاب الحرم قبل الحديبية١ بكيل ونصف، ومن الجنوب الشرقي من طريق الطائف على طريق عرفة من بطن نمرة على أحد عشر ميلًا. ومن الشمال من طريق العراق على ثَنيَّة خَلٍّ بالمُقَطَّع٢، على سبعة أميال.
و(ثنيَّة خل) يقال لها أيضًا: (خلِّ الصِفَاح) نسبة إلى أرض الصِفاح، وهي أرض بيضاء واسعة تقع ضمن (المغْمس الأفيح) ٣. أقول: تُسمى اليوم: الشرائع السُفلى، أو قرية المجاهدين.
ومن الشرق من طريق الجِعْرانة في شعب عبد الله بن خالد بن أُسيد٤، على تسعة أميال.
وعن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، قال: نصب إبراهيم
_________
١ قال الإمام مالك في العُتْبيَّة: والحديبية في الحرم، (انظر فتح الباري لابن حجر: ٥/٣٣٤)، وشفاء الغرام - للفاسي (١/٥٨) .
٢ سمي مقطَّعًا لأنهم قطعوا منه أحجار الكبعة في زمن ابن الزبير، "انظر شفاء الغرام للفاسي (١/٥٦) ".
٣ انظر أخبار مكة للفاكهي (٤/١٩٥) .
٤ قال الفاسي: هو فيما أحسب ابن أخي عتّاب بن أُسيد بن أبي العاص الأموي القرشي أمير مكة، لأنه كان لعبد الله المذكور بمكة شهرة لولايته لأمر مكة. وقيل: هو عبد الله بن خالد بن أُسيد الخزاعي، وقيل: آل عبد الله القسري، وقال: وحدُّ الحرام من هذه الجهة لا يُعرف موضعه الآن، إلاّ أن بعض أعراب مكة زعم أنه في مقدار نصف طريق الجِعْرانة، وسئل عن سبب معرفته لذلك فقال: إن الموضع المشهور الذي أشار إليه في محاذاة أعلام الحرم من جهة نخلة، وهي جهة العراق، (شفاء الغرام - ج١ ص٥٧) .
1 / 134
أنصاب الحرم، يُريه جبريل ﵇، ثم لم تُحرَّك حتى كان قُصَي فجددها، ثم لم تُحرَّك حتى كان النبي ﷺ، فبعث عام الفتح تميم بن أسيد الخزاعي فجدّدها١، ثم لم تحرك حتى كان عمر بن الخطاب فبعث أربعة من قريش فجددوها: مخرمة بن نوفل، وسعيد بن يربوع، وحُويطب بن عبد العُزى، وأزهر بن عبد عوف، ثم جدَّدها معاوية، ثم أمر عبد الملك بتجديدها. وقيل: أن آدم ﵇ لما أهبط إلى الأرض خاف على نفسه من الشياطين، فاستعاذ بالله، فأرسل الله تعالى ملائكة حَفَّوا بمكة من كل جانب، ووقفوا حواليها، فحرّم الله تعالى الحرم حيث وقفت الملائكة٢.
وأما عن المواقيت المكانية ففي الصحيحين عن ابن عباس أن النبي ﷺ وقّت لأهل المدينة ذا الحليفة٣، ولأهل الشام الجُحْفَة٤، ولأهل نجد قَرْنَ المنازل٥، ولأهل اليمن يَلَمْلَمْ٦، وقال: "هنَّ لهن ولكل آتٍ عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة، ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ، حتى أهل
_________
١ انظر مصنف عبد الرزاق (٥/٢٥) رقم (٨٨٦٤) وفيه: تميم بن أسد، بدل أُسيد، وكذا ابن سعد في الطبقات الكبرى (٤/٢٩٥)، وقال ابن حجر في الإصابة (١/٣.٤) رقم (٨٣): وأخرجه أبو نعيم، وزاد: " وكان إبراهيم وضعها يُريه إيَّاها جبريل" إسناده حسن، وانظر تعجيل المنفعة للبزار (ص٣٩) .
٢ انظر القِرى لقاصد أم القرى، لمحب الدين الطبري (ص ٦٥٢ - ٦٥٣) .
(ذو الحليفة) بالمهملة والفاء مُصغرًا، مكان معروف بينه وبين مكة مائتا ميل غير ميلين، وقيل: عشر مراحل، وبينها وبين المدينة ستة أميال، بها مسجد الشجرة، وبئر يقال لها بئر علي، (انظر فتح الباري: (٣/٣٨٥) .
(الجحفة) قرية بين مكة والمدينة على أربع مراحل من مكة، وهي ميقات أهل الشام، ومصر، والمغرب، ويحرم المصريون الآن من رابغ بوزن فاعل، قريب من الجحفة.
(قرن المنازل) و(قرن الثعالب) واحد، وهو تلقاء ذات عِرْق على مرحلتين من مكة، وهو ميقات أهل النجدين، نجد الحجاز، ونجد تهامة واليمن.
(يلملم) جبل من جبال تهامة على مرحلتين من مكة، وقيل: واديًا.
1 / 135
مكة يُهِلون من مكة" ١.
قوله: "حتى أهل مكة يهلون من مكة"، قال المحب الطبري: هذا في الحج بالإجماع.
أما العمرة فلا أعلم أحدًا جعل مكة ميقاتًا للعمرة في حق المكيِّ، بل عليه أن يخرج من الحرم إلى أدنى الحِلِّ، لأمره ﷺ عائشة أن تخرج إلى التنعيم٢ عندما أرادت العمرة بعد الحج.
وعن ابن عمر قال: لما فُتح هذان المصران (البصرة والكوفة)، أتوا عمر فقالوا: يا أمير المؤمنين إن رسول الله ﷺ حدّ لأهل نجدٍ قَرْنًا، وهو جَوْر عن طريقنا، وإنا إن أردنا قرْنًا شق علينا، قال: "فانظروا حْذوها من طريقكم" فحدّ لهم ذات عِرْق٣.
وعن ابن عباس أن النبي ﷺ وقّت لأهل المشرق العقيق٤، و(العقيق) قريب من ذات عرق، قبلها بمرحلة أو مرحلتين، وكل موضع شقَّه ماء السيل فوسَّعه فهو عقيق٥.
_________
١ انظر صحيح البخاري كتاب الحج باب مُهل أهل مكة للحج والعمرة، (فتح الباري: ٣/٣٨٤)، وصحيح مسلم كتاب الحج باب مواقيت الحج والعمرة (١١/١١٨١) .
٢ انظر كتابه القِري لقاصد أم القرى (ص٩٩) .
٣ أخرجه البخاري في صحيحه من كتاب الحج باب ذات عرق لأهل العراق، (وذات عرق) بكسر العين وسكون الراء بعدها قاف، بينها وبين مكة مرحلتان، والمسافة إثنان وأربعون ميلًا، وهو الحد الفاصل بين نجد وتهامة، (انظر فتح الباري ٣/٣٨٩) .
٤ أخرجه أبو داود في سننه، من كتاب المناسك، باب في المواقيت، حديث رقم (١٧٤)، والترمذي في الحج، باب في المواقيت حديث رقم (٨٣٢)، وقال: حديث حسن، قال الخطابي: الحديث في العقيق أثبت منه في ذات عِرق، (معالم السنن)، وانظر صحيح مسلم كتاب "الحج" باب مواقيت الحج والعمرة، وفيه من حديث جابر أن النبي ﷺ وقَّت لأهل المشرق ذات عرق.
٥ انظر القِري لقاصد أم القرى (ص١٠١) .
1 / 136
المبحث الثاني: حدود المسجد الحرام
قال ﷺ لقريش: "قفوا على مشاعركم، فإنكم على إرث من إرث أبيكم إبراهيم" ١.
وعن أبي ذرٍ قال: قلت يا رسول الله أي مسجد وضع في الأرض أول؟، قال: "المسجد الحرام".
قلت: ثم أَيّ؟.
قال: "المسجد الأقصى".
قلت: كم بينهما؟.
قال: "أربعون سنة، ثم أين أدركتك الصلاة بَعْدُ فصلَّ فإن الفضل فيه" ٢.
قال المحب الطبري:
"إعلم أن المسجد الحرام كان صغيرًا، ولم يكن عليه جدار، وإنما كانت الدور محدقة به، وبين الدور أبواب يدخل الناس من كل ناحية، فضاق على الناس المسجد فاشترى عمر بن الخطاب دورًا فهدمها، وأدخلها فيه، ثم أحاط
_________
١ أخرجه أبو داود في سننه من كتاب المناسك باب موضع الوقوف بعرفة، والترمذي في الحج باب في الوقوف بعرفات والدعاء بها، وقال: حديث حسن، وابن ماجه في الحج باب الموقف بعرفات، ومسند الإمام أحمد (٤ /١٣٧) وجامع الأصول حديث (١٥٢٢) قال الإمام الخطابي في معالم السنن (٢/٤٧)، المشاعر: المعالم، وأصله من قولك: شعرت بالشيء "أي" علمته، وليت شعري ما فعل فلان، أي: ليت علمي بلغه، وأحاط به، وقال الأزهري (٥/٤٣) في تهذيب اللغة: "الحرم قد ضُرب على حدوده بالمنار القديمة التي بيَّن خليل الله ﵇ مشاعِرها، وكانت قريش تعرفها في الجاهلية والإسلام لأنهم كانوا سكان الحرم، ويعلمون أن ما دون المنار إلى مكة من الحرم، وما وراءها ليس من الحرم".
٢ أخرجه مسلم في صحيحه من كتاب المساجد الباب الأول، والإمام أحمد في مسنده (٥/١٥.،١٥٦،١٥٧،١٦) .
1 / 137
عليه جدارًا قصيرًا، ثم وسع المسجد عثمان بن عفان فاشترى من قوم، ثم زاد ابن الزبير فيه، واشترى دورًا، وأدخلها فيه"١.
لعل من الملاحظ أن حدود المسجد الحرام على مرِّ العصور لم تتسم مساحتها بالثبات، مما يحيط بالكعبة المشرفة من أروقة، وساحات، ومرافق، بل بالإتساع، والزيادة، والتضعيف خلال أزمنة مختلفة متفاوتة، وذلك لكثرة الوافدين إلى البيت، والآمّين له عامًا بعد عام من شتى صقاع الأرض، خاصة بعد بعثة النبي ﷺ، وما أعقب ذلك من فتوحات للبلدان المجاورة والبعيدة عن جزيرة العرب واتساع رقعة الإسلام، وكثرة من اعتنقه من الأمم الأخرى.
وكان للكوارث التي حلت بالبيت الحرام، من اجتياح السيول وما نتج عنه من هدم، وغرق، وما أصابه من حريق عند إصابته بالمنجنيق، وتصدع لبعض أركانه، وجوانبه لتطاول العهد عليها، الدافع القوي لدى ولاة الأمر لإصلاحه، وترميمه، وحماية جوانبه من تكرار ما حلّ به من كوارث، وكان يواكب تلك الإصلاحات في الغالب إضافة مساحات جديدة إلى مساحته القديمة.
وكان يتسابق الملوك، والخلفاء، والولاة على العناية بالمسجد الحرام لينالوا بذلك شرف خدمته، تقربًا إلى مولاهم جلّ وعلا.
ويقول المؤرخون٢: إن أولّ من قام بتوسعة المسجد الحرام هو:
الخليفة الراشد الفاروق عمر بن الخطاب: سنة سبع عشرة من الهجرة، فقد كانت مساحته في زمن قريش: ألفين ومائة وستة وعشرين مترًا مربعًا، فبلغت بعد زيادة عمر ﵁: ثلاثة آلاف وسِتُّ مائة وثلاثة عشر مترًا مربعًا.
_________
١ انظر كتابه القِرى لقاصد أم القرى (ص ٦٥٧) .
٢ انظر تاريخ ابن جرير (٤/٢٠٦)، وإتحاف الورى (٢/٨)، وأخبار مكة للفاكهي (تحقيق ابن دهيش) (٢/١٧٥-١٧٦) .
1 / 138
ثم تلاه خليفته ذو النورين عثمان بن عفان ﵁: سنة ستة وعشرين من الهجرة، وأحدث زيادة في مساحة المسجد الحرام، قدرها: ثمان مائة وتسع وستون مترًا.
وتلاه عبد الله بن الزبير: سنة خمس وستين من الهجرة فأضاف إلى المساحة القديمة: ألفين وتسع مائة وثلاثة وثمانين مترًا مربعًا.
ثم أضاف الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك: سنة إحدى وتسعين من الهجرة إلى مساحة المسجد الحرام: ألفين وثمان مائة مترًا مربعًا.
وأما في العهد العباسي فقد أضاف الخليفة أبو جعفر المنصور: سنة سبع وثلاثين بعد المائة الأولى من الهجرة: خمسة آلاف ومئتين وواحدًا وعشرين مترًا مربعًا.
وفي عهد الخليفة محمد المهدي: سنة إحدى وستين ومائة بلغت الزيادة: إثنى عشر ألفًا وخمس مائة واثني عشر مترًا مربعًا.
ثم أضاف المعتضد: سنة أربع وثمانين ومئتين من الهجرة: ألفًا وثلاث مائة وتسعًا وثلاثين مترًا مربعًا.
وأخيرًا أضاف الخليفة المقتدر: سنة ست وثلاث مائة من الهجرة: سبع مائة وأربعة عشر مترًا مربعًا.
فبلغ ما أضيف إلى المسجد الحرام من زيادات منذ عهد عمر بن الخطاب إلى عهد الخليفة المقتدر، بالإضافة إلى ما كانت عليه مساحته أيام قريش قبل البعثة، أكثر من ثلاثين ألف مترًا مربعًا.
وبقيت مساحة المسجد الحرام ثابتة منذ عهد الخليفة العباسي المقتدر إلى عهد الحكم السعودي في دولته الثالثة، فقد شرع الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل يرحمه الله في مشروع كبير لتوسعة المسجد الحرام، وذلك
1 / 139
سنة ثلاث وسبعين وثلاث مائة وألف من الهجرة، ووافاه الأجل في السنة نفسها - يرحمه الله - وتولى الأمر بعده ابنه الملك سعود يرحمه الله ومضى في تنفيذ وإتمام ما بدأه والده.
ولما انتقلت الولاية للملك فيصل بعد أخيه - يرحمهما الله - واصل تنفيذ وإتمام توسعة المسجد الحرام على أكمل وجه، وأحسنه، وتم ذلك سنة ست وتسعين وثلاث مائة وألف، واستغرق تنفيذ المشروع عشرين عامًا.
فبلغت مساحة المسجد الحرام بعد إتمام التوسعة في عهد الملك فيصل بن عبد العزيز - يرحمه الله -: إحدى وخمسين ومائة ألف مترٍ مربعٍ، وتعرف هذه التوسعة بالتوسعة السعودية الأولى.
وفي العام التاسع بعد الأربع مائة والألف من الهجرة بدأت التوسعة السعودية الثانية، التي تعرف اليوم بتوسعة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز، وتمت في العام الثاني عشر بعد الأربع مائة والألف من الهجرة، فأصبحت مساحة المسجد الحرام، مع ما يحيط به من ساحات تزيد على ثمان وعشرين وثلاث مائة ألف متر مربع١.
وحول مسألة الإسراء بالنبي ﷺ من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى كما نص عليه قوله تعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الإسراء/١]، وقع ما يمكن أن نسميه إلتباسًا في الفهم، حول المكان الذي أسري برسول الله ﷺ منه، وذلك لورود نوعين من الأحاديث: أكثرها تنص على أن الإسراء تم من
_________
١ انظر: توسعة وعمارة الحرمين الشريفين، رؤية حضارية (ص٢) .
1 / 140
المسجد الحرام١، والأخرى تنص على أنه ﷺ كان في بيت أم هانئ٢ عندما آتاه الملائكة، وشقّ جبريل ﵇ عن صدره، وبيت أم هانئ حينذاك كان خارج المسجد الحرام.
وفي حديث لأنس بن مالك عن أبي ذر أن رسول الله ﷺ، قال: "فُرٍج عن سقف بيتي وأنا بمكة٣..." وساق الحديث... وبيته كان في الشعب فأخذ الذين يقولون بأن مكة غير المسجد الحرام في مضاعفة المثوبة أو العقاب والأخذ بالإرادة قبل التنفيذ بالأحاديث الدّالة على أن الإسراء إنما كان من المسجد الحرام.
وأخذ الذين قالوا: بأن لا فرق بين أرض مكة والمسجد الحرام في مضاعفة الثواب أو العقاب، والأخذ بالإرادة من الإنسان على فعل المعصية، قبل فعلها منه، إلى حديث أم هانئ عند الحاكم وغيره، وإلى حديث البخاري في كتاب الصلاة.
قال ابن حجر: "وإن كان مختلفًا في (الحطيم) هل هو الحِجْرُ، أم لا؟ لكن المراد بيان البقعة التي وقع ذلك فيها، ومعلوم أنها لم تتعدد، لأن القصة متحدة لاتحاد مخرجها.
وقد تقدم في أول بدء الخلق٤ بلفظ: "بينا أنا عند البيت" وهو أعم، ووقع
_________
١ انظر صحيح البخاري كتاب التوحيد باب: (وكلّم الله موسى تكليمًا) حديث رقم (٥٧١٧) وصحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله ﷺ، حديث رقم (١٦٢،١٦٤)، وانظر جامع الأصول لابن الأثير (١١/٣٠٥-٣١٠) .
٢ انظر الطبراني في الكبير (٢٤/٤٣٢) حديث رقم (١٠٥٩) عن أم هانيء (بات رسول الله ليلة أسرى به في بيتي ...)، وانظر تفسير أول سورة الإسراء عند ابن كثير.
٣ أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الصلاة الباب الأول، كيف فرضت الصلوات في الإسراء؟.
٤ كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة من صحيح البخاري، حديث رقم (٣٢٠٧) .
1 / 141
في رواية الزهري عن أنس عن أبي ذر١: "فُرج سقف بيتي وأنا بمكة"، وفي رواية الواقدي٢ بأسانيده أنه ﷺ أُسري به من شعب أبي طالب، وفي حديث أم هانئ عند الطبراني: أنه ﷺ بات في بيتها، قالت: "ففقدته من الليل، فقال: لها "إن جبريل أتاني".
والجمع بين هذه الأقوال أنه ﷺ نام في بيت أم هانئ، وبيتها عند شعب أبي طالب، ففرج سقف بيته ﷺ، - وأضاف البيت إليه لكونه كان يسكنه - فنزل منه الملك، فأخرجه من البيت إلى المسجد، فكان مضطجعًا، وبه أثر النعاس، ثم أخرجه الملك إلى باب المسجد فأركبه البراق.
وقد وقع في مراسيل الحسن عند ابن اسحاق: أن جبريل أتاه فأخرجه إلى المسجد، فأركبه البراق، وهو يؤيد هذا الجمع٣.
_________
١ هي في صحيح البخاري كتاب الصلاة، باب كيف فُرضت الصلوات في الإسراء؟ وصحيح مسلم في كتاب الإيمان باب الإسراء برسول الله ﷺ.
٢ أنظر: طبقات ابن سعد (١/٢١٣)، وسيرة ابن هشام (٢/٣٦) والروض الأُنف (٣/٣٩٩) .
٣ انظر فتح الباري شرح صحيح البخاري، لأحمد بن علي بن حجر (٧/٢٠٤) .
المبحث الثالث: الفرق في الاسم والوصف بين أرض مكة المكرمة، وأرض المسجد الحرام مما ذكر في القرآن الكريم أولًا - مكة المكرمة: تقع في الجهة الغربية من شبه الجزيرة العربية، غربي مدينة الطائف، وشرقي مدينة جدة، وجنوبي المدينة المنورة، وهضبة نجد. وبطن مكة ليس فيه ماء، ولم يكن لأحد فيه قرار. بدأت أهميتها للمسلمين بلدًا مقدسًا منذ أن أسكن فيها
المبحث الثالث: الفرق في الاسم والوصف بين أرض مكة المكرمة، وأرض المسجد الحرام مما ذكر في القرآن الكريم أولًا - مكة المكرمة: تقع في الجهة الغربية من شبه الجزيرة العربية، غربي مدينة الطائف، وشرقي مدينة جدة، وجنوبي المدينة المنورة، وهضبة نجد. وبطن مكة ليس فيه ماء، ولم يكن لأحد فيه قرار. بدأت أهميتها للمسلمين بلدًا مقدسًا منذ أن أسكن فيها
1 / 142
إبراهيم إبنه إسماعيل ﵉ مع أمه (هاجر) بأمر من الله. وقول الله ﵎ على لسان إبراهيم - بعد أن ترك أهله وأراد العودة إلى الشام: ﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾ [إبراهيم ٣٧] .
فقوله تعالى: ﴿بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ﴾ وصف مميز لطبيعة أرض مكة المكرمة الجغرافية، فالوادي ممر تجري فيه سيول الأمطار، وكونه (غير ذي زرع) دليل على عدم صلاح تربة جانبيه للزرع، ولوجود الصخور والأحجار المتناثرة فوقه، ولعدم ملائمة جوه الحار الجاف لانبات كثير من أنواع الشجر، والزروع التي تحتاج إلى رطوبة الجو، وغزارة المياه لكي تنمو وتعطي ثمارها. فالموقع الذي اختاره الخليل ﵇ لأهله لا يختاره إنسان بإرادته ومعرفته البشرية، لخلوه في الظاهر من أكثر عناصر الحياة أهمية للإنسان وهما: الماء والغذاء. مما يدل على أن الله جل وعلا بعلمه وحكمته، اختار له ذلك المكان ليترك أهله، ويعود من حيث أتى وهو مطمئن على مصيرهم لثقته برعاية الله لهم، وله معًا.
لذلك عندما أوقفته (هاجر) وسألته: إن كان الله هو الذي أمره بتركهم في هذا المكان المقفر، أجاب: نعم. قالت: إن الله لن يضيعنا١.
وأنبط الله ماء زمزم، حيث وضع الفتى ﵇ جرى ماءً غَدَقًا، فرحت به الأم المتعبة، فأخذت تحوطه بيديها كي لا يضيع في التراب، شفقة منها، ولهفة عليه. فسقت، وأسقت واطمأنت، وخلتْ.
ومر بهما نفر من جرهم، اعتادوا اجتياز هذا الوادي المقفر، ولم يعهدوا فيه ماء، ولا طيرًا تحوم حوله. وقد شدهم رؤية طير فوقهم صافات ويقبضن، فبعثوا
_________
١ انظر: صحيح البخاري كتاب الأنبياء، باب يزفون: النسلان المشي رقم (٩) وفتح الباري لابن حجر (٦/٣٩٦) رقم الحديث (٣٣٦٤) .
1 / 143