فقاطعته قائلة: «أريد سؤالا واحدا آخر، متي يعود زوجي إلى داره؟» - «لا عليك، فنحن لا نخلف الوعد، سنعطيه وظيفة طيبة في «دنيبروبتروفسك» وستكونين أنت مهندسة معمارية.»
وعاد «سرجي» بالفعل بعد ما يقرب من شهرين، وإنه لرجل عاقل طيب القلب، فهو يعلم أنني لا أكن له سوى الإشفاق، أما الحب القلبي بمعنى الكلمة القديم، فلم يكن له بيننا وجود، ولعل النظام السوفيتي هو الذي قتل فينا مثل هذه الرابطة، لم يسألني قط كيف استطعت إنقاذه، ومن يدري؟ لعل ما يتوهمه في ذلك من شكوك أشد بشاعة من الواقع على ما اتصف به ذلك الواقع من سواد.
ألا ما أفظع هذا القرار الذي أخذت به نفسي آخر الأمر، لكنك يا «فيتيا» لو رأيت معسكر الاعتقال، وما انتاب «سرجي» من تحول مخيف؛ لعرفت لماذا استسلمت في النهاية بعد أعوام من الإباء، وما أنا إلا واحدة من ألوف أجبروا على هذا النحو أن ينفذوا أوامر الشرطة السرية، ولا يتصل عضو بعضو من هذه الألوف، فيستحيل على أحد منا أن يرى أحدا في الدار التي رأيتني فيها، فكل منا يساق إلى غرفة وحده بحيث يستحيل أن يرى أحد أحدا حتى بالمصادفة، ومع ذلك فقد صادفت بعض هؤلاء الناس خلال أداء مهمتي، وإن من بينهم لزوجات لكبار الموظفين وأعلام الرجال بصفة عامة.
فأحيانا تقع الواحدة منهن في الفخ لضعف حيلتها فتقبل العمل تحت شيء من الوعيد، وأحيانا يغري رجال الشرطة السرية بعض هؤلاء النساء بفعل السوء وبعدئذ يضطرونهن إلى العمل معهم وإلا وشوا بفساد سيرتهن إلى أزواجهن، وأعتقد أنه كثيرا ما يتهم بعض هؤلاء بجرائم لم يقترفنها، فتصاغ هذه الجرائم على نحو محبوك بحيث يستحيل على أزواجهن أن يشكوا في إثمهن، فتراهن لهذا يستسلمن مجبرات، فهنالك من أقذر الأساليب مئات وألوف لينشئوا جيش الجاسوسية يا «فيتيا»، وقليلات جدا أولئك اللائي يعملن هذا العمل لمال أو لسلطان؛ إذ العادة أن يتم الأمر تحت ضغط لا يقاوم، فالقصة كما ترى مليئة بألوان الوحشية وصنوف البشاعة.» - «وإذن فهذا سبب قدومك إلى «دنيبروبتروفسك» يا إلينا؟» - «نعم يا «فيتيا»، وهذا هو سبيل لقائي بك بعد نحو شهر من قدومي من خاركوف، ولقد بلغت عن صلتي بك، فلم يكن أمامي في ذلك سبيل للاختيار، لكني لم أذكر شيئا أكثر من مجرد الصلة، أي حبيبي فيتيا.» - «وهل قال لك رؤساؤك شيئا عني؟» - «بالطبع، لكنهم لم يقولوا شيئا يسيء، فصحيفتك فيما يظهر نقية من الشوائب في الجانب الذي يعنيهم، أما تزال دهشا جازعا لاشتغالي بالتجسس؟» - «نعم، إذا أردت أن أكون صادقا فلا بد لي من زمن ينقضي حتى تتهيأ نفسي لهذه الصدمة.» - «ومع ذلك يا «فيتيا» فأنت شيوعي، وواجبك على هذا الاعتبار أن تبلغ كل شيء مما عسى أن يكون ضارا بالحزب، سواء أرضيت ذلك أم كرهت، فهل ترى من فارق كبير بين هؤلاء الملايين من الجواسيس المختارين وبين أولئك الذين اضطروا اضطرارا أن يتجسسوا؟ أليس كلانا مصيدا في الشبكة القذرة بعينها؟» - «إن فيما تقولين شيئا من الصدق، وإن تكن الموازنة - ماذا أقول؟ - ساذجة، فالواقع أن كلانا يدفع الأذى عن نظامنا السياسي، سواء أكان ذلك كرها أم طواعية.» - «أما وقد جازفت يا حبيبي فأنبأتك بقصتي، فقد باتت حياتي في يديك، فإذا أردت أن تكون شيوعيا صالحا؛ وجب عليك أن تكاشف أولي الأمر بما سمعت، ومع ذلك فلست أرتاب لحظة واحدة في أنك لن تفعل ذلك، وما أهون علي أن أذهب إلى أقصى الأرض لأنجو من فخاخ الشرطة السرية، لكن هذه الشرطة السرية متناولها بعيد المدى، فلا مفر منها إلا بالموت، ولكم فكرت في الانتحار على أنه الوسيلة التي لا وسيلة سواها للخلاص.
فيتيا يا حبيبي كن على حذر، فنحن نعيش في بلاد كل من يحيط بنا من أهلها يلبس قناعا، فلا تثق بإنسان كائنا من كان بحيث تسر له بمكنون نفسك، ولست أقصر حديثي على البوابين والمتسمعين خلال ثقوب الأبواب، إنما أعني أكثر الناس في هذا البلد احتراما، فطريق السلامة الوحيد هو في افتراض أن الناس جميعا بغير استثناء ينقلون الأخبار ثم ينقلونها وينقلونها ... أواه يا «فيتيا» لقد بلغ مني الإعياء واليأس مبلغا عظيما، وسأظل على حبك حتى لو نبذتني نبذ النواة.»
فقلت في انفعال عاطفي إزاء هذه الفتاة التي وقعت في الشرك: «إلينا أمسكي عن هذا الهراء، إنه ليشقيني الآن شيء واحد، وذلك أني عاجز عن معونتك، فكم يثير صدر الرجل أن يرى نفسه عاجزا عن مساعدة المرأة التي يحب.»
فقالت إلينا: «هيا نسبح فتذكري لما انتابني من صعاب يجعلني أحس كأنما تلزج مني الجسد.»
كان الماء دفئا، وسبحنا في الظلام وتحت المطر، وسط لمعات من البرق وقرقعة من الرعد، نعم إن ذلك الفعل منا جاء دليلا على شيء من الحماقة وعدم الحرص، لكنني رأيت السباحة عندئذ ضرورة لكي أزيل بالماء بشاعة القصة التي روت، ثم حملتها خارج الماء حيث وضعتها في حظيرة السماك ونشفت جسدها كأنها الطفل، ولففتها في مخدع من الدريس العاطر، ولما كانت منهكة بما تحرك في نفسها من انفعالات خلال ذلك اليوم العجيب، فقد استغرقت في النعاس من فورها.
ولما أصبح الصباح عدنا بالقطار إلى المدينة.
وهمست في أذني قائلة: «الحق يا «فيتيا» أني أحس الآن خيرا مما كنت وأنقى مما كنت، ما دام هذا السر المخيف قد ارتفع من بيننا، فلو دمت على حبك إياي فسأكون بذلك أسعد مني في أي لحظة مما مضى.»
Unknown page