At-Tawdih ar-Rashid fi Sharh at-Tawhid
التوضيح الرشيد في شرح التوحيد
Genres
- قَوْلُهُ (يُحِبُّ اللهَ وَرَسُوْلَهُ، وَيُحبُّهُ اللهُ وَرَسُوْلُهُ): فِيْهِ إِثْبَاتُ المَحَبَّةِ للهِ مِنَ الجَانِبَيْنِ، أَيْ: أَنَّ اللهَ تَعَالَى يُحِبُ ويُحَبُ، وَقَدْ أنكرَ هَذَا أَهْلُ التَّعْطِيْلِ، وَقَالُوا: المُرَادُ بِمَحَبَّةِ اللهِ لِلعَبْدِ إِثَابَتُهُ أَوْ إِرَادَةُ إِثَابَتِهِ! وَأَنَّ المُرَادَ بِمَحَبَّةِ العَبْدِ للهِ مَحَبَّةُ ثَوَابِهِ! وَهَذَا تَحْرِيْفٌ لِلكَلَامِ عَنْ ظَاهِرِهِ؛ عَدَا عَنْ مُخَالَفَةِ إِجْمَاعِ السَّلَفِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِيْنَ وَأَئِمَّةِ الهُدَى مِنْ بَعْدِهِم (١)، فَمَحَبَّةُ اللهِ تَعَالَى ثَابِتَةٌ لَهُ حَقِيْقَةً وَهِيَ مِنْ صِفَاتِهِ الفِعْلِيَّةِ. (٢)
_________
(١) قُلْتُ: وَسَبَبُ كَوْنِهَا مُخَالِفَةً لِلإِجْمَاعِ أَنَّهُ لَمْ يُنقلْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ السَّلفِ أَبَدًا تَأْوِيْلُ مَحَبَّةِ اللهِ تَعَالَى بِالثَّوَابِ أَوْ بِإِرَادَةِ الثَّوَابِ، فَمَنْ قَالَ بِذَلِكَ طَالَبْنَاهُ بِالدَّلِيْلِ.
(٢) قَالَ النَّوَوِيُّ ﵀ وَغَفَرَ لَهُ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ (٩٥/ ٦): (قَوْلُهُ ﷺ فِي الَّذِيْ قَالَ فِي ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَد﴾: لِأَنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمَنِ؛ فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَقْرَأَ بِهَا: (أَخْبِرُوْهُ أَنَّ اللهَ يُحِبُّهُ)، قَالَ المَازِرِيُّ: مَحَبَّةُ اللهِ تَعَالَى لِعِبَادِهِ؛ إِرَادَةُ ثَوَابِهِم وَتَنْعِيْمِهِم، وَقِيْلَ: مَحَبَّتُهُ لَهُم نَفْسُ الإِثَابَةِ وَالتَّنْعِيْمِ لَا الإِرَادَةُ. قَالَ القَاضِي: وَأَمَّا مَحَبَّتُهُم لَهُ سُبْحَانَهُ فَلَا يَبْعُدُ فِيْهَا المَيْلُ مِنْهُم إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ، وَهُوَ مُتَقَدِّسٌ عَنِ المَيْلِ. قَالَ: وَقِيْلَ مَحَبَّتُهُم لَهُ اسْتِقَامَتُهُم عَلَى طَاعَتِهِ، وَقِيْلَ: الاسْتِقَامَةُ ثَمَرَةُ المَحَبَّةِ. وَحَقِيْقَةُ المَحَبَّةِ لَهُ: مَيْلُهُم إِلَيْهِ لِاسْتِحْقَاقِهِ ﷾ المَحَبَّةَ مِنْ جَمِيْعِ وُجُوْهِهَا).
قُلْتُ: قَالَ ابنُ أَبِي العِزِّ الحَنَفِيِّ ﵀ فِي شَرْحِ العَقِيْدَةِ الطَّحَاوِيَّةِ (ص٢٩٤): (قَالَ تَعَالَى: ﴿وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيْمَ خَلِيْلًا﴾ (النِّسَاء:١٢٥) وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَكَلَّمَ اللهُ مُوْسَى تَكْلِيْمًا﴾ (النِّسَاء:١٦٤). الخِلَّةُ: كَمَالُ المَحَبَّةِ. وَأَنْكَرَتِ الجَهْمِيَّةُ حَقِيْقَةَ المَحَبَّةِ مِنَ الجَانِبَيْنِ زَعْمًا مِنْهُم أَنَّ المَحَبَّةَ لَا تَكُوْنُ إِلَّا لِمُنَاسَبَةٍ بَيْنَ المُحِبِّ وَالمَحْبُوْبِ؛ وَأَنَّهُ لَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَ القَدِيْمِ وَالمُحْدَثِ تُوْجِبُ المَحَبَّةَ! وَكَذَلِكَ أَنْكَرُوا حَقِيْقَةَ التَّكْلِيْمِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَكَانَ أوَّلَ مَنِ ابْتَدَعَ هَذَا فِي الإِسْلَامِ هُوَ الجَعِدُ بْنُ دِرْهَمٍ فِي أَوَائِلِ المَائَةِ الثَّانِيَةِ؛ فَضَحَّى بِهِ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ القَسْرِيُّ أَمِيْرُ العِرَاقِ وَالمَشْرِقِ بِوَاسِطٍ، خَطَبَ النَّاسَ يَوْمَ الأَضْحَى فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ ضَحُّوا تَقَبَّلَ اللهُ ضَحَايَاكُم فَإِنِّي مُضَحٍّ بِالجَعِدِ بْنِ دِرْهَم؛ إِنَّهُ زَعَمَ أَنَّ اللهَ لَمْ يَتَّخِذْ إِبْرَاهِيْمَ خَلِيْلًا وَلَمْ يُكَلِّمْ مُوْسَى تَكْلِيْمًا، ثُمَّ نَزَلَ فَذَبَحَهُ، وَكَانَ ذَلِكَ بِفَتْوَى أَهْلِ زَمَانِهِ مِنْ عُلَمَاءِ التَّابِعِيْنَ ﵃؛ فَجَزَاهُ اللهُ عَنِ الدِّيْنِ وَأَهْلِهِ خَيْرًا.
وَأَخَذَ هَذَا المَذْهَبَ عَنِ الجَعِدِ الجَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ فَأَظْهَرَهُ وَنَاظَرَ عَلَيْهِ، وَإِلَيْهِ أُضِيْفَ قَوْلُ الجَهْمِيَّةِ، فَقَتَلَهُ سَلَمُ بْنُ أَحْوَز - أَمِيْرُ خُرَاسَانَ بِهَا -، ثُمَّ انْتَقَلَ ذَلِكَ إِلَى المُعْتَزِلَةِ أَتْبَاعِ عَمْرُو بْنِ عُبَيْدٍ، وَظَهَرَ قَوْلُهُم فِي أَثْنَاءِ خِلَافَةِ المَأْمُوْنِ حَتَّى امْتُحِنَ أَئِمَّةُ الإِسْلَامِ، وَدَعَوْهُم إِلَى المُوَافَقَةِ لَهُم عَلَى ذَلِكَ.
وَأَصْلُ هَذَا مَأْخُوْذٌ عَنِ المُشْرِكِيْنَ وَالصَّابِئَةِ، وَهُمْ يُنْكِرُوْنَ أَنْ يَكُوْنَ إِبْرَاهِيْمُ خَلِيْلًا وَمُوْسَى كَلِيْمًا؛ لِأَنَّ الخِلَّةَ هِيَ كَمَالُ المَحَبَّةِ المُسْتَغْرِقَةِ لِلمُحِبِّ كَمَا قِيْلَ: (قَدْ تَخَلَّلْتَ مَسْلَكَ الرُّوْحِ مِنِّي .. وَلِذَا سُمِّيَ الخَلِيْلُ خَلِيْلًا)، وَلَكِنْ مَحَبَّتَهُ وَخِلَّتَهُ كَمَا يَلِيْقُ بِهِ تَعَالَى كَسَائِرِ صِفَاتِهِ ...).
1 / 30