237

Al-Tawḍīḥ al-Rashīd fī sharḥ al-tawḥīd

التوضيح الرشيد في شرح التوحيد

Genres

- المَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ) مَا الوَحْيُ وَمَا الإِلْهَامِ؟
الوَحْيُ لُغَةً: هُوَ الإِعْلَامُ بِسُرْعَةٍ وخَفَاءٍ، وَهُوَ نَوْعَانِ: وَحْيُ إِلْهَامٍ - وَوَحْيُ إِرْسَالٍ.
فَوَحْيُ الإِلْهَامِ: هُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الجِبَالِ بُيُوْتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُوْنَ﴾ (النَّحل:٦٨)،
وكَقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوْسَى أَنْ أَرْضِعِيْهِ﴾ (القَصَص:٧).
وَأَمَّا وَحْيُ الإِرْسَالِ: فَهُوَ الَّذِيْ يَنْزِلُ بِهِ جِبْرِيْلُ إِلَى الرُّسُلِ، وَهَذَا الوَحْيُ قَدْ يَكُوْنَ مَا يُخَاطَبُ بِهِ النَّبِيُّ مُشَافَهَةً وَيَرَاهُ بِعَيْنِهِ (١)، وَقَدْ يَكُوْنُ مَا يُبَثُّ فِي نَفْسِهِ ﷺ. (٢)
وَإِذَا أُطْلِقَ لَفْظُ الوَحْيِّ فَالأَصْلُ أَنَّهُ يُقْصَدُ بِهِ مَا كَانَ مِنَ اللهِ تَعَالَى جَزْمًا (٣)، رُغْمَ أَنَّهُ قَدْ يُقْصَدُ بِهِ أَحْيَانًا الإِلْهَامُ، أَوْ تَزْيِيْنُ الشَّيَاطِيْنِ. (٤)
وَأَمَّا الإِلْهَامُ فَالأَصْلُ أَنَّهُ يُقْصَدُ بِهِ مَا يَقَعُ فِي النَّفْسِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَجْزِمَ المَرْءُ بِأَنَّهُ مِنَ اللهِ تَعَالَى، فَتُحَدِّثُهُ نَفْسُهُ بِهِ، كَمَا جَرَى معَ أَمِيْرِ المُؤْمِنِيْنَ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ ﵁. (٥)
فَالفَرْقُ بَيْنَهُمَا - كَمَا أَثْبَتْنَا آخِرًا - أَنَّ الوَحْيَ يَكُوْنُ حَقًّا ومِنَ اللهِ تَعَالَى (٦)؛ فَإِنْ كَانَ فِي الشَّرِيْعَةِ - الآنَ - فَهُوَ مُحَالٌ؛ وَذَلِكَ لِكَمَالِ الشَّريْعَةِ بِوَفَاةِ النَّبِيِّ ﷺ (٧)، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِهَا فَمَرْدُوْدٌ أَيْضًا وَذَلِكَ لِانْقِطَاعِ الوَحْي بِعْدَهُ أَيْضًا ﷺ. (٨)
أَمَّا الإِلْهَامُ فَلَا يَسْتَطِيْعُ صَاحِبُهُ أَنْ يَجْزِمَ بِصَوَابِهِ أَصْلًا - فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُوْنَ ضَلَالًا فِي نَفْسِهِ؛ أَوْ مُفْضِيًا إِلَى ضَلَالٍ- فَإِنْ كَانَ خَيْرًا كَانَ تَوفِيْقًا مِنَ اللهِ تَعَالَى وَمَعُوْنَةً، وَإِنْ كَانَ شَرًّا فَإِضْلَالٌ مِنَ الشَّيْطَانِ. (٩) (١٠)
قَالَ ابْنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ (مَدَارِجُ السَّالِكِيْنَ) (١١) عِنْدَ شَرْحِ حَدِيْثِ الصِّرَاطِ وَالسُّوْرَانِ (١٢): (فَهَذَا الوَاعِظُ فِي قُلُوْبِ المُؤْمِنِيْنَ هُوَ الإِلْهَامُ الإِلَهِيُّ بِوَاسِطَةِ المَلَائِكَةِ).

(١) كَمَا فِي الحَدِيْثِ (كَانَ جَبْرَائِيلُ يَأْتِي النَّبِيَّ فِي صُوْرَةِ دِحْيَةَ الكَلْبِيِّ). صَحِيْحٌ. ابْنُ سَعْدٍ (٢٥٠/ ٤) عَنِ ابْنِ عُمَرَ. اُنْظُرِ التَّعْلِيْقَ عَلَى حَدِيْثَ الصَّحِيْحَةِ (١١١١).
قُلْتُ: وَالمَعْنَى أَنَّ جِبْرَائِيْلَ ﵇ كَانَ أَشْبَهَ بِدِحْيَةَ الكَلْبِيِّ؛ لَا أَنَّهُ هُوَ دِحْيَةُ الكَلْبِيُّ، كَمَا فِي لَفْظِ ابْنِ سَعْدٍ (٢٥٠/ ٤) عَنِ ابْنِ شِهَابٍ مَرْفُوْعًا. الصَّحِيْحَةُ (١١١١).
(٢) كَمَا فِي الحَدِيْثِ (إنَّ رُوْحَ القُدْسِ نَفَثَ فِي رُوْعِي؛ أَنَّهُ لَنْ تَمُوْتَ نَفْسٌ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَهَا وأَجَلَهَا). صَحِيْحٌ. الحَاكِمُ (٢١٣٦) عَنِ ابْنِ مَسْعُوْدٍ مَرْفُوْعًا. الصَّحِيْحَةُ (٢٨٦٦).
(٣) كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُوْلًا فَيُوْحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيْمٌ﴾ (الشُّوْرَى:٥١).
(٤) كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوْهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُوْنَ﴾ (الأَنْعَام:١١٢).
(٥) كَمَا سَبَقَ فِي الحَدِيْثِ (لَقَدْ كَانَ فِيْمَنْ كَانَ قَبْلَكُم مِنَ الأُمَمِ نَاسٌ مُحَدَّثُوْنَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُوْنُوا أَنْبِيَاءَ، فَإِنْ يَكُنْ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ فإِنَّهُ عُمَرُ). قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: تَفْسِيْرُ (مُحَدَّثُوْنَ): مُلْهَمُوْن. رَوَاهُ البُخَارِيُّ (٣٦٨٩) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوْعًا، وَمُسْلِمٌ (٢٣٩٨) عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوْعًا.
وَعَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ هَذَا هُوَ فَقِيْهٌ مِنَ الأَئِمَّةِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ، (ت ١٩٧ هـ).
(٦) لِذَلِكَ فَقَدْ جَعَلَ اللهُ تَعَالَى لِهَذَا الوَحْي حَرَسًا لِئَلَّا يُسْتَرِقَ وَلِئَلَّا يُخْلَطَ بِهِ غَيْرُهُ - بِخِلَافِ الإِلْهَامِ - كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿عَالِمُ الغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا، إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُوْلٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا﴾ (الجِنّ:٢٧).
(٧) لِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِيْنَكُمْ﴾ (المَائِدَة:٣).
(٨) كَمَا فِي الأَثَرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (مَا نَزَلَ وَحْيٌ بَعْدَ رَسُوْلِ اللهِ ﷺ. صَحِيْحٌ. أَحْمَدُ (٢١٤٢). صَحَّحَهُ الشَّيْخُ شُعَيْبٌ الأَرْنَؤُوْطُ.
(٩) قُلْتُ: فَضَابِطُهُ أَمْرَانِ: عَدَمُ مُخَالَفَةِ الشَّرْعِ، ثُمَّ حُصُوْلُ الخَيْرِ بِهِ. وَاللهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
(١٠) كَمَا فِي الحَدِيْثِ (إِنَّ لِلشَّيْطانِ لَمَّةً بِابْنِ آدَمَ وَلِلْمَلَكِ لَمَّةً، فَأَمَّا لَمَّةُ الشَّيْطَانِ: فَإِيْعَادٌ بِالشَّرِّ وَتَكْذِيْبٌ بِالحَقِّ، وَأَمَّا لَمَّةُ المَلَكِ فَإِيْعَادٌ بِالخَيْرِ وَتَصْدِيْقٌ بِالحَقِّ. فَمَنْ وَجَدَ ذَلِكَ فَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ مِنَ اللهِ تَعَالَى فَلْيَحْمَدِ اللهِ، وَمَنْ وَجَدَ الأُخْرَى فَلْيَتَعَوَّذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ). صَحِيْحٌ. التِّرْمِذِيُّ (٢٩٨٨) عَنِ ابْنِ مَسْعُوْدٍ مَرْفُوْعًا. صَحِيْحُ مَوَارِدِ الظَمْآنِ (٣٨). وَكَانَ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ ﵀ قَدْ ضَعَّفَهُ أَوَّلًا، ثُمَّ صَحَّحَه بَعْدُ؛ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.
(١١) (٧٠/ ١).
(١٢) وَالحَدِيْثُ هُوَ (ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا صِرَاطًا مُسْتَقِيْمًا، وَعَلَى جَنْبَتَيْ الصِّرَاطِ سُوْرَانِ، فِيْهِمَا أَبْوَابٌ مُفَتَّحَةٌ، وَعَلَى الأَبْوَابِ سُتُوْرٌ مُرْخَاةٌ، وَعَلَى بَابِ الصِّرَاطِ دَاعٍ يَقُوْلُ: أَيُّهَا النَّاسُ، ادْخُلُوا الصِّرَاطَ جَمِيْعًا وَلَا تَتَعَرَّجُوا (وَفِي نُسَخٍ: وَلَا تَتَفَرَّجُوا، وَلَا تَعْوَجُّوا)، وَدَاعٍ يَدْعُوْ مِنْ فَوْقِ الصِّرَاطِ، فَإِذَا أَرَادَ يَفْتَحُ شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الأَبْوَابِ، قَالَ: وَيْحَكَ لَا تَفْتَحْهُ، فَإِنَّكَ إِنْ تَفْتَحْهُ تَلِجْهُ، وَالصِّرَاطُ الإِسْلَامُ، وَالسُّوْرَانِ: حُدُوْدُ اللهِ، وَالأَبْوَابُ المُفَتَّحَةُ: مَحَارِمُ اللهِ، وَذَلِكَ الدَّاعِي عَلَى رَأْسِ الصِّرَاطِ: كِتَابُ اللهِ، وَالدَّاعِي مِنِ فَوْقَ الصِّرَاطِ: وَاعِظُ اللهِ فِي قَلْبِ كُلِّ مُسْلِمٍ». صَحِيْحٌ. أَحْمَدُ (١٧٦٣٤) عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ مَرْفُوْعًا. صَحِيْحُ الجَامِعِ (٣٨٨٧).

1 / 237