Al-Tawḍīḥ al-Rashīd fī sharḥ al-tawḥīd
التوضيح الرشيد في شرح التوحيد
Genres
فَائِدَةٌ) فِي إِطْلَاعِ اللهِ تَعَالَى الرُّسلَ عَلَى الغَيْبِ ثَلَاثُ مُلَاحَظَاتٍ هِيَ:
١) صَحِيْحٌ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يُظْهِرُ رُسَلَهُ عَلَى الغَيْبِ؛ وَلَكِنَّ الإِظْهَارَ هُوَ إِطْلَاعٌ عَلَى شَيْءٍ مِنْهُ فَقَط، وَلَيْسَ عِلْمًا تَامًّا. (١)
أَمَّا دَعْوَى عِلْمِهِم بِالغَيْبِ مُطْلَقًا فَهُوَ كَذِبٌ، قَالَ تَعَالَى عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: ﴿قُلْ لَا أَقُوْلُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللهِ وَلَا أَعِلْم الغَيْبِ﴾ (الأَنْعَام:٥٠). (٢)
٢) هَذِهِ الأَشْيَاءُ الَّتِيْ أُطْلِعَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ ﷺ هِيَ مِنْ بَابِ إِظْهَارِ الآيَاتِ عَلَى صِدْقِهِ وَعَلَى تَأْيِيْدِ رَبِّهِ لَهُ، وَلَكنَّهُ لَا يَمْلِكُ أَنْ يَأْتِيَ بِهَا اسْتِقْلَالًا (٣)، بَلْ هِيَ مَقْرُوْنَةٌ بِإِذْنِ اللهِ تَعَالَى، وَلَهُ الحِكْمَةُ البَالِغَةُ فِي إِطْلَاعِهِ عَلَيْهَا مَتَى شَاءَ سُبْحَانَهُ، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا كَانَ لِرَسُوْلٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ﴾ (الرَّعْد:٣٨). (٤)
فَمَا يُخْبِرُ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ مِنْ أُمُوْرِ المُغَيَّبَاتِ إِنَّمَا هُوَ بِإِطْلَاعِ اللهِ تَعَالَى لَهُ عَلَيْهِ - وَلَيْسَ اسْتِقْلَالًا - لِذَلِكَ أَثْبَتَ اللهُ تَعَالَى الإِظْهَارَ مِنْهُ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، وَنَفَى عَنْهُ العِلْمَ بِالغَيْبِ، فَقَالَ تَعَالَى: ﴿عَالِمُ الغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا، إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُوْلٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا﴾ (الجِنّ:٢٦)، وَقَالَ أَيْضًا سُبْحَانَهُ فِي النَّفْي: ﴿قُلْ لَا أَقُوْلُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللهِ وَلَا أَعِلْم الغَيْبِ﴾ (الأَنْعَام:٥٠).
٣) أَنَّ الغَايَةَ مِنْ إِظْهَارِهِم عَلَى شَيْءٍ مِنَ الغَيْبِ هُوَ تَأْيِيْدُهُم عَلَى صِحَّةِ دَعوَاهُم، وَإظْهَارُ نُصْرَتِهِم عَلَى عَدُوِّهِم، كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْ عِيْسَى ﵊: ﴿وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُوْنَ وَمَا تَدَّخِرُوْنَ فِي بُيُوْتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِيْنَ﴾ (آل عِمْرَان:٤٩)؛ بِخِلَافِ غَايَةِ مَنْ يَنْسِبُ عِلْمَ الغَيْبِ إِلَى المَشَايْخِ وَالأَوْلِيَاءِ - مِنَ المُتَصَوِّفَةِ وَغَيْرِهِم - فَهُمْ يُرِيْدُوْنَ بِذَلِكَ فَتْحَ بَابِ الاسْتِغَاثَةِ بِهِم وَالتَّعَلُّقِ بِهِم وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِم، وَشَتَّانَ بَينَ الوَجْهَينِ. (٥)
أما مَا يُنْسَبُ لِبَعْضِ الشُّيُوْخِ أَوِ الصَّالِحِيْنَ مِنْ أُمُوْرٍ تَشْتَبِهُ عَلَى سَامِعِهَا، أَوْ تَحْصُلُ مَعَ أَفْرَادٍ مِنَّا نَحنُ! فيُمْكِنُ تَصْدِيْقُهَا - مَا لَمْ تُخَالِفْ نَصًّا - عَلَى اعْتِبَارِ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِغَيْبٍ؛ وَلَا بِإِطْلَاعٍ مِنَ اللهِ تَعَالَى، وَلَكِنَّه قَدْ يَكُوْنُ إِلْهَامًا وَمَعُونَةً مِنْهُ تَعَالَى وَتَوْفِيْقًا، وَلَكِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ لَا يَسْتَطيْعُ صَاحِبُهُ أَنْ يَجْزِمَ بِكَونِهِ تَلَقَّاهُ مِنَ اللهِ تَعَالَى؛ وَأَنَّهُ تَعَالَى أَطْلَعَهُ عَلَى الغَيْبِ، وَلَكِنَّهُ حَدْسٌ وَحُسْنُ ظَنٍّ بِهِ تَعَالَى أنَّهُ سَيُوَفِّقُهُ فِي أَمْرِهِ.
كَمَا فِي الحَدِيْثِ عَنْ أَنَسٍ؛ قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ ﷺ: (لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ وَيُعْجِبُنِي الفَأْلُ). قَالُوا: وَمَا الفَأْلُ؟ قَالَ: (الكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ). (٦)
وَكَمَا فِي الحَدِيْثِ (لَقَدْ كَانَ فِيْمَنْ كَانَ قَبْلَكُم مِنَ الأُمَمِ نَاسٌ مُحَدَّثوْنَ - مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُوْنُوا أَنْبِيَاءَ - فَإِنْ يَكُنْ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ فَإِنَّهُ عُمَرُ). (٧) (٨) (٩)
(١) وكَقَوْلِهِ تَعَالَى أَيْضًا ﴿وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغَيْبِ وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ (آل عِمْرَان:١٧٩).
قَالَ أَبُو حَيَّانَ الأَنْدَلُسِيُّ ﵀ فِي تَفْسِيْرِهِ (البَحْرُ المُحِيْطُ) (١٣٢/ ٣): (فَاطِّلَاعُ الرَّسُوْلِ عَلَى الغَيْبِ هُوَ بِإِطْلَاعِ اللهِ تَعَالَى بِوَحْيٍ إِلَيْهِ، فَيُخْبَرُ بِأَنَّ فِي الغَيْبِ كَذَا مِنْ نِفَاقِ هَذَا وَإِخْلَاصِ هَذَا، فَهُوَ عَالِمٌ بِذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الوَحِي، لَا مِنْ جِهَةِ اطِّلَاعِهِ نَفْسِهِ مِنْ غَيرِ وَاسِطَةِ وَحْيٍ عَلَى المُغَيَّبَاتِ).
(٢) قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُوْنَ وَمِنْ أَهْلِ المَدِيْنَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ﴾ (التَّوْبَة:١٠١)،
وَقَالَ أَيْضًا سُبْحَانَهُ: ﴿وَآخَرِيْنَ مِنْ دُوْنِهِمْ لَا تَعْلَمُوْنَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ﴾ (الأَنْفَال:٦٠).
وَفِي الحَدِيْثِ (إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُوْنَ إِلَيَّ؛ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ أَخِيْهِ شَيْئًا بِقَوْلِهِ؛ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ؛ فَلَا يَأْخُذْهَا). رَوَاهُ البُخَارِيُّ (٢٦٨٠) عَنْ أمِّ سَلَمَةَ مَرْفُوْعًا.
وَفِي الحَدِيْثِ (أَلَا إِنَّهُ يُجَاءُ بِرِجَالٍ مِنْ أُمَّتِي فَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ فَأَقُوْلُ: يَا رَبِّ أَصْحَابِي! فَيُقَالُ: لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ). رَوَاهُ البُخَارِيُّ (٤٧٤٠) عَنِ ابْنِ عبَّاسٍ مَرْفُوْعًا.
وَكَمَا فِي حَدِيْثِ عَائِشَةَ ﵂ فِي رَدِّهَا عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ؛ حَيْثُ قَالَتْ ﵂: (وَمَنْ حَدَّثَكَ أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ، فَقَدْ كَذَبَ ثُمَّ قَرَأَتْ: ﴿وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا﴾، وَمَنْ حَدَّثَكَ أَنَّهُ كَتَمَ فَقَدْ كَذَبَ ثُمَّ قَرَأَتْ: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُوْلُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾) البُخَارِيُّ (٤٨٥٥)، وَمُسْلِمٌ (١٧٧).
(٣) أَيْ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ أَنْ يَأْتِيَ بِهَا مَتَى شَاءَ بِاخْتِيَارِهِ وَقَصْدِهِ؛ وَإِلَّا فَكُلُّ شَيْءٍ مَقْرُوْنٌ بِحَوْلِ اللهِ تَعَالَى وَمَشِيْئَتِهِ؛ فَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ.
(٤) وقَالَ تَعَالَى أَيْضًا: ﴿قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُوْنَ﴾ (إِبْرَاهِيْم:١١).
(٥) وَيَلْزَمُ عَلَى مَذْهَبِ هَؤُلَاءِ أَنْ يُصَحِّحُوا دُعَاءَ النَّصَارَى لِعِيْسَى ﵊؛ وَهُوَ أَوْلَى مِنْ تَصْحِيْحِ دُعَائِهِم لِأَوْلِيَائِهِم؛ وَذَلِكَ لِكَوْنِ النَّصِّ القُرْآنِيِّ قَدْ شَهِدَ لِعِيْسَى ﵊ بِأَمْرَيْنِ زَائِدَيْنِ عَلَى دَعْوَى أَوْلَئِكَ، وُهُمَا:
أ) أَنَّ اللهَ تَعَالَى مَكَّنَهُ مِنَ العِلْمِ بِالغَيْبِ؛ بَلْ وَمِنْ شِفَاءِ المَرْضَى وَإِحْيَاءِ المَوْتَى - بِإِذْنِهِ كَمَا يَقُوْلُوْنَ عَنْ أَوْلِيَائِهِم! -.
ب) حَيَاتُهُ الحَقِيْقِيَّةُ - وَلَيْسَتْ البَرْزَخِيَّةُ كَحَالِ أَوْلِيَائِهِم - الآنَ، حَيْثُ أَنَّهُ لَمْ يَمُتْ وَإِنَّمَا رُفِعَ ﵊.
وَحَقِيْقَةُ حَالِ هَؤُلَاءِ أَنَّهُم غَافِلُوْنَ عَنْ أَنَّ أَصْلَ شِرْكِ المُشْرِكِيْنَ كَانَ فِي التَّعَلُّقِ بِالصَّالِحِيْنَ، كَمَا فِي حَدِيْثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قِصَّةِ اللَّاتِ؛ وَقِصَّةِ قَوْمِ نُوْحٍ ﵊ مَعَ صَالِحِيْهِم. وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ. وَالحَمْدُ للهِ عَلَى تَوْفِيْقِهِ.
(٦) البُخَارِيُّ (٥٧٧٦)، ومُسْلِمٌ (٢٢٢٤). وَسَيَأْتِي مَزِيْدُ بَيَانٍ - إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى - فِي بَابِ (مَا جَاءَ فِي التَّطَيُّرِ).
(٧) رَوَاهُ البُخَارِيُّ (٣٦٨٩) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوْعًا، وَمُسْلِمٌ (٢٣٩٨) عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوْعًا.
(٨) رَاجِعْ شَرِيْطَ (٦٨٨) مِنْ أَشْرِطَةَ فَتَاوَى سِلْسِلَةِ الهُدَى وَالنُّوْرِ لِلشَّيْخِ الأَلْبَانِيِّ ﵀ عِنْدَ جَوَابِ سُؤَالٍ (هَلِ الرُّؤيا الصَّالِحَةُ مِنَ الغَيْبِ؟).
(٩) وَهَذَا عَلَى القَوْلِ بِأَنَّهُ لَيْسَ خَاصًّا بِعُمَرَ ﵁، وَسَيَأْتِي مَزِيْدُ بَيَانٍ فِي ذَلِكَ.
1 / 236