161

At-Tawdih ar-Rashid fi Sharh at-Tawhid

التوضيح الرشيد في شرح التوحيد

Genres

- الفَصْلُ الثَّالِثُ: فِي أَنَّ اتِّخَاذَ القُبُوْرِ مَسَاجِدَ مِنَ الكَبَائِرِ: وَذَلِكَ لِاسْتِحْقَاقِ اللَّعْنِ؛ وَلِوَصْفِهِم بِشِرَارِ الخَلْقِ.
وَالعُلَمَاءُ فِي اتِّخَاذِ القُبُوْرِ مَسَاجِدَ مُتَّفِقُوْنَ عَلَى المَنْعِ: (١)
١ - مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ كَبِيْرَةٌ.
قَالَ الحَافِظُ الهَيْتَمِيُّ ﵀ فِي كِتَابِهِ (الزَّوَاجِرُ عَنِ اقْتِرَافِ الكَبَائِرِ): (الكَبِيْرَةُ الثَّالِثَةُ وَالرَّابِعَةُ وَالخَامِسَةُ وَالسَّادِسَةُ وَالسَّابِعَةُ وَالثَّامِنَةُ وَالتِّسْعُوْنَ: اتِّخَاذُ القُبُوْرِ مَسَاجِدَ، وَإِيقَادُ السُّرُجِ عَلَيْهَا، وَاتِّخَاذُهَا أَوْثَانًا، وَالطَّوَافُ بِهَا، وَاسْتِلَامُهَا، وَالصَّلَاةُ إلَيْهَا). (٢)
قَالَ النَّوَوِيُّ ﵀ فِي المَجْمُوْعِ (٣): (وَاتَّفَقَتْ نُصُوْصُ الشَّافِعِيِّ وَالأَصْحَابِ عَلى كَرَاهَةِ بِنَاءِ مَسْجِدٍ عَلى القَبْرِ سَوَاءً كَانَ المَيِّتُ مَشْهُوْرًا بِالصَّلَاحِ أَوْ غَيْرِهِ، لِعُمُوْمِ الأَحَادِيْثِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالأَصْحَابُ: وَتُكْرَهُ الصَّلاةُ إِلَى القُبُوْرِ - سَوَاءً كَانَ المَيِّتُ صَالِحًا أَوْ غَيْرَهُ -، قَال الحَافِظُ أَبُو مُوْسَى (٤): قَالَ الإِمَامُ أَبُو الحَسَنِ الزَّعْفَرَانِيُّ ﵀ (٥): (وَلا يُصَلَّى إِلَى قَبْرِهِ، وَلَا عِنْدَهُ تَبَرُّكًا بِهِ وَإِعْظَامًا لَهُ لِلأَحَادِيْثِ، وَاَللهُ أَعْلمُ».
٢ - مَذْهَبُ الحَنَفِيَّةِ الكَرَاهَةُ التَّحْرِيْمِيَّةُ.
فَقَالَ الإِمَامُ مُحَمَّدُ - تَلِمِيْذُ أَبِي حَنِيْفَة - فِي كِتَابِهِ (الآثَارُ): (لَا نَرَى أَنْ يُزادَ عَلَى مَا خَرَجَ مِنَ القَبْرِ، وَنَكْرَهُ أَنْ يُجَصَّصَ أَوْ يُطَيَّنَ أَوْ يُجْعَلَ عِنْدَهُ مَسْجِدًا). (٦)
٣ - مَذْهَبُ المَالِكِيَّةِ التَّحْرِيْمُ.
قَالَ القُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيْرِهِ (٧) - بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الحَدِيْثَ الخَامِسَ (٨): (قَالَ عُلَمَاؤُنَا: وَهَذَا يُحرِّمُ عَلَى المُسْلِمِيْنَ أَنْ يَتَّخِذُوا قُبُوْرَ الأَنْبِيَاءِ وَالعُلَمَاءِ مَسَاجِدَ).
٤ - مَذْهَبُ الحَنَابِلَةِ التَّحْرِيْمُ أَيْضًا.
قَالَ ابْنُ تيميَّةَ فِي (الفَتَاوَى الكُبْرَى): (يَحْرُمُ الإِسْرَاجُ عَلَى القُبُوْرِ وَاتِّخَاذُ القُبُوْرِ المَسَاجِدَ عَلَيْهَا وبَيْنَهَا، وَيَتَعَيَّنُ إِزَالَتُهَا، وَلَا أَعْلَمُ فِيْهِ خِلَافًا بَيْنَ العُلَمَاءِ المَعْرُوْفِيْنَ). (٩) (١٠)

(١) قَالَ الجزيْريُّ فِي كِتَابِهِ (الفِقْهُ عَلَى المَذَاهَبِ الأَرْبَعَةِ) (٤٨٧/ ١): (يُكْرَهُ أَنْ يُبْنَى عَلَى القَبْرِ بَيْتٌ أَوْ قُبَّةٌ أَوْ مَدْرَسَةٌ أَوْ مَسْجِدٌ أَوْ حِيْطَانٌ تُحْدِقُ بهِ - كَالحِيْشَانِ - إِذَا لَمْ يُقْصَدْ بِهَا الزِّيْنَةُ وَالتَّفَاخُرُ؛ وَإلَّا كَانَ ذَلِكَ حَرَامًا). قُلْتُ: وَهُوَ المَنْقُوْلُ أَيْضًا عَنْ فَتَاوَى عُلَمَاءِ الأَزْهَرِ.
وَالحَوْشُ: (الحَوْشُ: شِبْهُ الحَظِيرَةِ ...، ويُطْلِقُه أَهْلُ مِصْرَ عَلَى فِنَاءِ الدَّارِ). تَاجُ العَرُوْسِ (١٦٣/ ١٧).
(٢) الزَّوَاجِرُ (٢٤٤/ ١).
وَقَالَ أَيْضًا ﵀: (وَأَمَّا اتِّخَاذُهَا أَوْثَانًا فَجَاءَ النَّهْيُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ ﷺ (لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ بَعْدِي) أَيْ: لَا تُعَظِّمُوهُ تَعْظِيْمَ غَيْرِكُمْ لِأَوْثَانِهِمْ بِالسُّجُوْدِ لَهُ أَوْ نَحْوِهِ؛ فَإِنْ أَرَادَ ذَلِكَ الإِمَامُ (قُلْتُ: هُوَ أَحَدُ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ الَّذِيْنَ نَقَلَ قَوْلَهُم) بِقَوْلِهِ (وَاتِّخَاذُهَا أَوْثَانًا) هَذَا المَعْنَى! اتَّجَهَ مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ ذَلِكَ كَبِيْرَةٌ؛ بَلْ كُفْرٌ بِشَرْطِهِ (قُلْتُ: أَيْ: أنَّ سَبَبَ الصَّلَاةِ عِنْدَ ذَلِكَ الإمَامِ كَانَ التَّبَرُّكَ وَالتَّعْظِيْمَ)، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ مُطْلَقَ التَّعْظِيْمِ الَّذِيْ لَمْ يُؤْذَنْ فِيْهِ كَبِيْرَةٌ فَفِيْهِ بُعْدٌ! نَعَمْ.
قَالَ بَعْضُ الحَنَابِلَةِ: قَصْدُ الرَّجُلِ الصَّلَاةَ عِنْدَ القَبْرِ مُتَبَرِّكًا بِهَا عَيْنُ المُحَادَّةِ لِلَّهِ وَرَسُوْلِهِ، وَإِبْدَاعُ دِيْنٍ لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ لِلنَّهْيِ عَنْهَا ثُمَّ إجْمَاعًا، فَإِنَّ أَعْظَمَ المُحَرَّمَاتِ وَأَسْبَابِ الشِّرْكِ الصَّلَاةُ عِنْدَهَا وَاتِّخَاذُهَا مَسَاجِدَ أَوْ بِنَاؤُهَا عَلَيْهَا، وَالقَوْلُ بِالكَرَاهَةِ مَحْمُوْلٌ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ، إذْ لَا يُظَنُّ بِالعُلَمَاءِ تَجْوِيْزُ فِعْلٍ تَوَاتَرَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ لَعْنُ فَاعِلِهِ، وَتَجِبُ المُبَادَرَةُ لِهَدْمِهَا وَهَدْمِ القِبَابِ الَّتِيْ عَلَى القُبُوْرِ إذْ هِيَ أَضَرُّ مِنْ مَسْجِدِ الضِّرَارِ؛ لِأَنَّهَا أُسِّسَتْ عَلَى مَعْصِيَةِ رَسُوْلِ اللهِ ﷺ لِأَنَّهُ نَهَى عَنْ ذَلِكَ وَأَمَرَ ﷺ بِهَدْمِ القُبُوْرِ المُشْرِفَةِ، وَتَجِبُ إزَالَةُ كُلِّ قِنْدِيْلٍ أَوْ سِرَاجٍ عَلَى قَبْرٍ وَلَا يَصِحُّ وَقْفُهُ وَنَذْرُهُ. انْتَهَى).
(٣) المَجْمُوْعُ (٣١٦/ ٥).
(٤) هُوَ أَبُو مُوْسَى المَدِيْنِيِّ؛ الحَافِظُ الكَبِيْرُ شَيْخُ الإِسْلَامِ؛ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الأَصْبَهَانِيُّ؛ صَاحِبُ التَّصَانِيْفِ (ت ٥٨١ هـ). اُنْظُرْ كِتَابَ (تَذْكِرَةُ الحُفَّاظِ) (٨٦/ ٤) لِلحَافِظِ الذَّهَبِيِّ.
(٥) هُوَ الشَّيْخُ الإِمَامُ أَبُو الحَسَنِ؛ مُحَمَّدُ بْنُ مَرْزُوْقٍ بْنِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بْنِ مُحَمَّدٍ؛ البَغْدَادِيُّ الزَّعْفَرَانِيُّ الشَّافِعِيُّ، الفَقِيْهُ العَلَّامَةُ المُحَدِّثُ الثَّبْتُ، (ت ٥١٧ هـ). اُنْظُرِ السِّيَرَ لِلذَّهَبِيِّ ﵀ (٤٧١/ ١٩).
(٦) الآثَارُ (١٩٠/ ٢)، وَقَالَ فِي آخِرِهِ: (وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيْفَةَ ﵁، وَالكَرَاهَةُ عِنْدَ الحَنَفِيَّةِ إِذَا أُطْلِقَتْ فَهِيَ لِلتَّحْرِيْمِ كَمَا هُوَ مَعْرُوْفٌ لَدَيْهِم، وَقَدْ صَرَّحَ بِالتَّحْرِيْمِ فِي هَذِهِ المَسْأَلَةِ ابْنُ المَلِكِ مِنْهُم.
(٧) (٣٨٠/ ١٠).
(٨) وَهُوَ حَدِيْثُ البُخَارِيِّ (٤٣٤)، وَمُسْلِمٍ (٥٢٨) وَفِيْهِ (أُوْلَئِكَ إِذَا كَانَ فِيْهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ فَمَاتَ؛ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا).
(٩) الفَتَاوَى الكُبْرَى (٣٦١/ ٥).
(١٠) وَقَالَ ابْنُ القيِّمِ ﵀ فِي كِتَابِهِ (زَادُ المَعَادِ) (٥٠١/ ٣): (وَمِنْهَا: أَنَّ الوَقْفَ لَا يَصِحُّ عَلَى غَيْرِ بِرٍّ وَلَا قُرْبَةٍ، كَمَا لَمْ يَصِحَّ وَقْفُ هَذَا المَسْجِدِ (المَبْنِيِّ عَلَى قَبْرٍ) وَعَلَى هَذَا: فَيُهْدَمُ المَسْجِدُ إذَا بُنِيَ عَلَى قَبْرٍ، كَمَا يُنْبَشُ المَيِّتُ إذَا دُفِنَ فِي المَسْجِدِ - نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ - فَلَا يَجْتَمِعُ فِي دِيْنِ الإِسْلَامِ مَسْجِدٌ وَقَبْرٌ، بَلْ أَيُّهُمَا طَرَأَ عَلَى الآخَرِ مُنِعَ مِنْهُ وَكَانَ الحُكْمُ لِلسَّابِقِ.
فَلَوْ وُضِعَا مَعًا لَمْ يَجُزْ وَلَا يَصِحُّ هَذَا الوَقْفُ، وَلَا يَجُوزُ، وَلَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ فِي هَذَا المَسْجِدِ لِنَهْي رَسُوْلِ اللهِ ﷺ عَنْ ذَلِكَ، وَلَعْنِهِ مَنْ اتَّخَذَ القَبْرَ مَسْجِدًا أَوْ أَوْقَدَ عَلَيْهِ سِرَاجًا، فَهَذَا دِيْنُ الإِسْلَامِ الَّذِيْ بَعَثَ اللهُ بِهِ رَسُوْلَهُ وَنَبِيَّهُ، وَغُرْبَتُهُ بَيْنَ النَّاسِ كَمَا تَرَى).

1 / 161