At-Tawdih ar-Rashid fi Sharh at-Tawhid
التوضيح الرشيد في شرح التوحيد
Genres
(١) جُعِلَتِ الآيَتَانِ هُنَا دَلِيْلَيْنِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ المَعْنَى فِيْهِمَا وَاحِدٌ؛ وَهُوَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى شَبَّهَ الكَافِرَ بِالمَيِّتِ مِنْ جِهَةِ عَدَمِ السَّمَاعِ. (٢) أَيْ: أَنَّ المَنْفِيَّ عَنْهُم هُوَ سَمَاعُ الانْتِفَاعِ، وَأَنَّ الكُفَّارَ لَا يَسْمَعُونَ سَمَاعَ الانْتِفَاعِ مِثْلَهُم، كَمِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيْهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ﴾ (الأَنْفَال:٢٣). (٣) أَقُوْلُ: لَا بُدَّ مِنْ لَفْتِ النَّظَرِ إِلَى أَنَّ الأَمْرَ إِذَا زَادَ وُضُوْحُهُ صَعُبَ إِيْجَادُ مَنْ يَنُصُّ عَلَيْهِ بِلَفْظِهِ، فَمَثَلًا يَصْعُبُ أَنْ تَجِدَ مَنْ يَنُصُّ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ عَلَى أَنَّ الشَّمْسَ وَاضِحَةٌ، وَعَلَى أَنَّ البَشَرَ يَنْطِقُوْنَ، وَعَلَى أَنَّ الأَنْعَامَ بَهَائِمٌ لَا تَعْقِلُ، وَعَلَى أَنَّ اللبَنَ أَبْيَضٌ؛ رُغْمَ أَنَّ كُلًّا مِنْهَا تَجِدُ لَهُ نَصٌّ شَرْعيٌّ فِي التَّشْبِيْهِ بِهِ، فَكَذَا الأَمْرُ هُنَا. فَمِنَ العَجَبِ أَنْ يُذكَرَ أَنَّ المَيِّتَ يَسْمَعُ، وَقَدْ عُلِمَ بِالحِسِّ التَّامِ أَنَّ المَيِّتَ عِنْدَ جَمِيْعِ النَّاسِ لَا يَسْتَجِيْبُ، فَهُم لِذَلِكَ يُسَفِّهُوْنَ مَنْ يُخَاطِبُ المَيِّتَ فِي بَعْضِ شُؤُوْنِهِ، كَمِثْلِ مُغَسِّلٍ يَعْتَذِرُ مِنَ المَيِّتِ إِذَا اسْتَخْدَمَ لَهُ مَاءًا حَارًّا أَوْ بَارِدًا! وَاللهُ المُسْتَعَانُ. (٤) (١١٧/ ٢٠). (٥) قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِيْنَ﴾ قُيِّدَ الحُكْمُ بِهِ لِيَكُوْنَ أَشَدَّ اسْتِحَالَةٍ، فَإِنَّ الأَصَمَّ المُقْبِلَ وَإِنْ لَمْ يَسْمَعِ الكَلَامَ فَإِنَّهُ يَفْطَنُ مِنْهُ بِوَاسِطَةِ الحَرَكَاتِ شَيْئًا. اُنْظُرْ تَفْسِيْرَ البَيْضَاوِيِّ (٣٤١/ ٤). (٦) وَمِنْ نَفْسِ البَابِ؛ يُقَالُ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى شَبَّهَ الكُفَّارَ بِالصُمِّ فِي عَدَمِ السَّمَاعِ فِي نَفْسِ الآيَاتِ السَّابِقَةِ، فَهَلْ يُمْكِنُ القَوْلُ بِأَنَّ الآيَةَ قَصَدَتِ الكُفَّارَ؛ وَلَيْسَ فِيْهَا دِلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الصُمَّ لَا يَسْمَعُوْنَ! وَالحَمْدُ للهِ عَلَى تَوْفِيْقِهِ. (٧) قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيْرٍ ﵀ فِي التَّفْسِيْرِ (٣٢٤/ ٦) (الآيَةُ (٥٢) مِنْ سُوْرَةِ الرُّوْمِ): (يَقُوْلُ تَعَالَى: كَمَا أَنَّكَ لَيْسَ فِي قُدْرَتِكَ أَنْ تُسْمِعَ الأَمْوَاتَ فِي أَجْدَاثِهَا، وَلَا تُبْلِغَ كَلَامَكَ الصُمَّ الَّذِيْنَ لَا يَسْمَعُوْنَ - وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ مُدْبِرُوْنَ عَنْكَ - كَذَلِكَ لَا تَقْدِرُ عَلَى هِدَايَةِ العُمْيَانِ عَنِ الحَقِّ، وَرَدِّهِم عَنْ ضَلَالَتِهِم، بَلْ ذَلِكَ إِلَى اللهِ تَعَالَى، فَإِنَّهُ بِقُدْرَتِهِ يُسْمِعُ الأَمْوَاتَ أَصْوَاتَ الأَحْيَاءِ إِذَا شَاءَ، وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَحَدٍ سِوَاهُ). وَعِنْدَ تَفْسِيْرِهِ لِآيَةِ سُوْرَةِ فَاطِرٍ قَالَ ﵀: (﴿وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي القُبُوْرِ﴾ أَيْ: كَمَا لَا يَسْمَعُ وَيَنْتَفِعُ الأَمْوَاتُ بَعْدَ مَوْتِهِم وَصَيْرُوْرَتِهِم إِلَى قُبُوْرِهِم - وَهُمْ كُفَّارٌ - بِالهِدَايَةِ وَالدَّعْوَةِ إِلَيْهَا، كَذَلِكَ هَؤُلَاءِ المُشْرِكُوْنَ الَّذِيْنَ كُتِبَتْ عَلَيْهِم الشَّقَاوةُ لَا حِيْلَةَ لَكَ فِيْهِم، وَلَا تَسْتَطِيْعُ هِدَايَتَهُم). قُلْتُ: وَالمَعْنَى فِي ذَلِكَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى طَمَسَ عَلَى قُلُوْبِهِم، فَهُمْ يَسْمَعُوْنَ وَلَا يَنْتَفِعُوْنَ بِمَا سَمِعُوا، فَصَارُوا كَأَنَّهُم لَا يَسْمَعُوْنَ لِعَدَمِ انْتِفَاعِهِم بِسَمْعِهِم. (٨) وَإِذَا تَأَمَّلْتَ قَوْلَهُ تَعَالَى ﴿وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلَا الأَمْوَاتُ إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ﴾ (فَاطِر:٢٢)؛ وَهُوَ سياقُ الآيَةِ الَّتِيْ فِي سُوْرَةِ فَاطِرٍ؛ فَإِنَّكَ سَتَجِدُ أَدِلَّةً أُخْرَى عَلَى عَدَمِ السَّمَاعِ، مِنْهَا: أ- أَنَّ الحَيَّ وَالمَيِّتَ لَا يَسْتَوِيَانِ، وَهُوَ مَثَلٌ ضُرِبَ لِلكَافِرِ وَالمُؤْمِنِ مِنْ جِهَةِ عَدَمِ السَّمَاعِ؛ حَيْثُ جُعِل مَنْ لَمْ يَنْتَفِعْ بِالسَّمَاعِ كَمَنْ لَا سَمْعَ لَهُ؛ لِعَدَمِ حُصُوْلِ الغَايَةِ مِنْهُ. ب- أَنَّ اللهَ تَعَالَى سَلَبَ المَيِّتَ سَمْعَهُ، وَهُوَ ظَاهِرٌ مِنْ كَوْنِهِ مِثَالًا لِمَنْ لَمْ يَنْتَفِعْ بِالسَّمَاعِ، حَيْثُ أَخْبَرَ أَنَّهُ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ؛ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السَّمَاعَ خِلَافُ الأَصْلِ. ج - أَخِيْرًا وَهِيَ قَاصِمَةُ ظُهُوْرِ القُبُوْرِيينَ؛ نَقُوْلُ: هَبْ أَنَّ المَيِّتَ هُوَ كَالكَافِرِ فِي كَوْنِهِ - فَقَط - لَا يَسْمَعُ سَمَاعَ انْتِفَاعٍ وَاسْتِجَابَةٍ؛ وَإِنَّمَا يَسْمَعُ سَمَاعَ إِدْرَاكٍ، فَنَقُوْلُ: هَذَا القَدْرُ يَكْفِيْنَا فِي أَنَّ المَيِّتَ يَسْمَعُكَ وَلَكِنَّهُ لَا يَسْتَجِيْبُ لَكَ؛ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَنْفَعَكَ! فَبَطَلَتْ بِذَلِكَ غَايَتُهُم مِنْ إِثْبَاتِ سَمَاعِ الأَمْوَاتِ. وَالحَمْدُ للهِ الَّذِيْ بِنِعْمَتِهِ تَتِمُّ الصَّالِحَاتُ.
1 / 102