مقدمة الطبعة الأولى
مقدمة الطبعة الرابعة
1 - هدية رمضان
2 - حمام الطوبخانة
3 - فطور ملوكي
4 - بعد مضي 16 سنة
5 - بطل المستقبل
6 - عائشة هانم
7 - صيرورة السرية سلطانة
8 - وصول الإمبراطورة أوجيني إلى الأستانة
9 - حمامتان
10 - سراي جراغان
11 - عرس صلاح الدين
12 - تعيين محمود باشا خلفا لعالي باشا
13 - مقدمة الثورة
14 - مراد أفندي «ولي العهد»
15 - ليلة 30 أيار 1876م
16 - موت السلطان عبد العزيز
17 - مجلس الوزراء
18 - الجزاء
مقدمة الطبعة الأولى
مقدمة الطبعة الرابعة
1 - هدية رمضان
2 - حمام الطوبخانة
3 - فطور ملوكي
4 - بعد مضي 16 سنة
5 - بطل المستقبل
6 - عائشة هانم
7 - صيرورة السرية سلطانة
8 - وصول الإمبراطورة أوجيني إلى الأستانة
9 - حمامتان
10 - سراي جراغان
11 - عرس صلاح الدين
12 - تعيين محمود باشا خلفا لعالي باشا
13 - مقدمة الثورة
14 - مراد أفندي «ولي العهد»
15 - ليلة 30 أيار 1876م
16 - موت السلطان عبد العزيز
17 - مجلس الوزراء
18 - الجزاء
أسرار القصور
أسرار القصور
سياسية، تاريخية، غرامية، أدبية
تأليف
أمين أرسلان
مقدمة الطبعة الأولى
كثر في الشرق الميل إلى مطالعة الروايات الأدبية، وكثر المشتغلون في كتابتها بين معرب ومصنف، لكن أكثر هؤلاء الكتبة اختار منها النوع الغرامي المحض الذي لا شيء فيه سوى الفكاهة، ولم يشتغل منهم بالروايات التاريخية إلا أفراد قلائل يعدون على الأصابع، في حين أن الروايات التاريخية تمتاز عما سواها بما تجمعه من لذة الفكاهة وفائدة التاريخ.
ولما كان أعظم ما يهمنا من التاريخ ما تعلق بنا وقرب عهده منا، وكان له مساس حسي في أحوالنا الحاضرة ولا سيما السياسي منها، رأيت أن أقدم لقراء العربية عموما وللعثمانيين خصوصا هذه الرواية التي اشتملت على ملخص تاريخ السلاطين العثمانيين الثلاثة سلفاء جلالة السلطان الحالي، وهم: عبد المجيد وعبد العزيز ومراد، وأن أودعها أنباء كثيرة من أميالهم الشخصية ومذاهبهم السياسية، ولمعا كافية عن كبار رجال السلطنة في عهدهم، وقد دعوتها «أسرار القصور»؛ لأنها حوت كثيرا من الأسرار غير المعلومة إلا لأفراد قليلين، وأملي كبير أنها ستحوز رضاء قرائها الكرام.
من باريس في الثلاثين من شهر أيار سنة 1897م.
أمين أرسلان
مقدمة الطبعة الرابعة
لما نشبت الحرب بين دولتنا العلية والدولة الإيطالية، وأجمعت الجالية العثمانية في الديار الأرخنتينية على وجوب تعزيز بحريتنا بابتناء غواصة باسم جاليتنا المحبوبة تضم إلى أسطولنا، فكرت طويلا بطريقة أعضد بها هذا المشروع الوطني الجليل، فعن لي ساعتئذ أن أعيد طبع هذه الرواية التي صادفت ما صادفته من استحسان القوم، وأن أضيف ريعها إلى تعزيز ذلك المشروع.
وقد أجهدت نفسي طويلا في هذه الأيام الأخيرة للحصول على نسخة من إحدى الطبعات الثلاث، فأعياني البحث ولم أظفر بواحدة منها إلا بعد طول التساؤل، مما دلني على أن اهتمام القوم بالكتاب كان متواليا حتى نفدت كل طبعاته مما لم يسبق له مثيل في تاريخ الروايات الشرقية على ما أظن.
وبالطبع إن الذي ساعد كثيرا على نشر الرواية هذا الانتشار الغريب هو السلطان المخلوع عبد الحميد الذي لما بلغه رنينها قام لها وقعد، ولشدة جبنه حسب قوائم عرشه تهتز لدى حقائقها التاريخية وهو في إبان صولته وعلى منصة مجده. فأوفد من قبله الوفود، وبث العيون والأرصاد، وظل مقتفيا آثارها حتى عثر أخيرا على أكثر نسخها، فاستحضرت إلى الأستانة، وهنالك أمر بحرقها - قيل على مشهد منه - ووهم حينئذ أنه قد طمس ذكرها ... وكأنما فاته أن أحب شيء إلى الإنسان ما منعا، وبعد زمن عاد الناس يلهجون بذكر الرواية، وتضاعفت رغبة الجمهور إلى مطالعتها، فاندفع بعضهم رغبة بالكسب فأعادوا طبعها مرتين دون علم مني.
هذا، وأحسبني بإقدامي على إعادة نشرها للمرة الرابعة أخدم كل ذي فكر حر، وأجيب رغبة الكثيرين ممن فاتهم درس الكتاب، واستيعاب حوادثه التاريخية التي ستكون بمثابة مثال أورده إلى القراء الكرام عن تقييد الأفكار والأقلام في الدور الحميدي المشئوم، وعن هلع ذلك السلطان لدى أقل تلميح إلى الحرية والإصلاح، ولدى نشر أية الحقائق على أبسط علاتها.
فإلى العالم العربي أزف هذه الرواية رافلة بثوبها القديم، ومتشحة بالحلة التي ألبستها إياها منذ أربع عشرة سنة، وأنا مقصي عن بلادي في إحدى زوايا عاصمة الفرنسيس، آملا أن تروق لقرائها اليوم كما راقت لهم بالأمس.
والله ولي الصادق الأمين.
عن بونس أيرس في 20 تشرين الثاني سنة 1911م.
أمين أرسلان
الفصل الأول
هدية رمضان
كان ابتداء قصتنا يوم عيد رمضان المبارك من عام 1268 للهجرة، وكان قد انقضى شهر ذلك الصوم المجيد في فصل الشتاء، فاحتفل به أهل الأستانة كثيرا، وأطلقت المدافع برا وبحرا إجلالا وتبشيرا، وزينت البوارج والدوارع الراسية في البوسفور، ورفعت الأعلام العثمانية تخفق فوق رءوس المآذن الشاهقة العديدة.
وكان الجو في ذلك اليوم أدكن، والسحائب سوداء، والمطر يتدفق كمن أفواه القرب، ولكن هذا كله لم يحل دون ازدحام الطرق والشوارع، وقد زادها ازدحاما تكاثر الحمالين الناقلين على رءوسهم الأغنام المذبوحة والخدمة الحاملة أطباق الحلوى المغطاة بالشفوف الحريرية الوردية اللون.
وانقضى ذلك العيد في مبادلة التهاني، وتزاور العائلات بين رجال وسيدات، فكانت النساء تبسطن بعضهن لبعض هدايا أزواجهن في ذلك العيد من الحلي والجواهر والجواري يتحدثن ويتفاخرن بكرم مواليهن وسادتهن، وقد أكثرن جميعهن من أكل الحلوى والتدخين، وشارك الفقير الغني في أفراح ذلك العيد. ذلك من فضل تلك العادة القديمة التي هي أن يذبح كل غني أو وجيه عددا معينا من الأغنام أمام عتبة داره ويفرقها على الفقراء تبريكا وإحسانا. •••
وكان في أعلى محلة «الطوبخانة» بيت خشبي حقير تعصف ريح الشتاء في جوانبه، ويشعر الناظر إليه بأن أفراح ذلك العيد لم تطرقه، وكان في الغرفة الكبيرة منه شيخ هرم قد جلس مع امرأة عجوز حول مصطلى للنار يصطليان، وليس فيه إلا الرماد، وكان الصمت سائدا بين العجوزين، فلما أطلقت مدافع الغروب، وصعد المؤذنون يدعون المؤمنين إلى الصلاة صاح الشيخ بامرأته قائلا: أي فاطمة من كان يقول إنا سنصل يوما إلى هذا الحد من الشقاء والفقر المدقع؟ ها قد دخلنا في اليوم الثاني، ونحن بلا طعام نغتذي به، ولا نار نصطلي حرارتها. لم منعتني هذا الصباح من الذهاب إلى دار رشيد باشا؟ فلو تركتني لمكنتك الساعة من الاقتيات بقليل من اللحم، ولكن آه من النفوس إذا كانت كبارا، أنسيت أن الشبيبة قد فارقتنا، وأن الدهر قد حط بنا؟ فوالله ليشق علي أن أراك في هذه الحال ضئيلة هزيلة صفراء اللون ... فقاطعته امرأته الكلام قائلة: خفض عنك يا عثمان، فإن الموت خير لدي من أن أراك تمد يدك للسؤال والاستعطاء ... لا وألف لا؛ إن كريمة يوسف باشا لا تأكل خبز التسول، وزوجها لا يطرق أبواب الناس ينتظر كالكلاب قطعة من اللحم. فتنهد الشيخ من قلب مقروح، وقال بصوت منخفض: آه من الجنون. نعم، إن الحب جنون ... نعم، هذا الشقاء كله إنما هو ثمرة الحب:
الحب كالكأس قد طابت أوائله
لكنه ربما مجت أواخره
ثم صاح آه يا ربي لم عرفتني بها؟ كانت غادة غنية سعيدة هنية تركت كل شيء، وتبعتني وأنا لا أملك من حطام الدنيا إلا قلبا محبا كان لها مهرا ... والآن هي تموت جوعا، ولا يمكنني أن أغذيها. فصاحت به العجوز: ما هذا القول يا عثمان؟ أتجدف علي اسم الخالق؛ لأنه جمعنا سويا ...؟ أي ذنب عليك؟ لو لم يحط بنا الدهر لكنا في أحسن حال وأنعم بال، ولكن هذا كله قضاء وقدر ... أخذ أولادنا وفلاذ أكبادنا، وأضاع أموالنا، ولا يحق لنا مع هذا إلا حمده على كل حال في السراء وفي الضراء، والمحن إذا تناهت انتهت، والرزايا إذا توالت تولت، ولا بد أن يجعل بعد العسر يسرا، فدع عنك هذه الأوهام وقم بنا للصلاة، فها مدافع الغروب قد أطلقت وقد مضى النهار، فلم يذكرنا صديق ولا جاءنا أنيس مباركا. هذه سنة الله في أرضه، والذي نرجو رحمته ورضاه ...
قالت العجوز هذا ونهضت للحال، فتوضأت بالماء البارد رغما عن البرد القارس، والتفت بمنديلها، وبسطت سجادتها، وشرعت تصلي بحرارة وخشوع، واقتفى زوجها أثرها وصلى بعدها. فلما فرغا عادا إلى حول مصطلى النار يصطليان، وأخذت العجوز تحرك الرماد لعلها تجد فيه جذوة نار، فلم تجد إلا رمادا برماد، وجاء الليل بظلامه الدامس، ولم يكن عندهما نور فبقيا تحت جنح الظلام، وأخذت الشفقة الشيخ على امرأته فنزع فروته وألقاها على منكبيها وقاية لها من البرد، وساد الصمت مرة ثانية، وغاص كل في أفكاره يتأمل شقاء حاله ...
وكانت تلك الليلة عاصفة والرعود قاصفة فتلمع سيوف البرق على صفحات الأفق فتنيرهم من آن إلى آخر. وكانت الموسيقى العسكرية تعزف بألحانها الشجية في الثكنة القريبة منهما فتثير أشجانهما، وتزيد في قلبيهما الحسرات، وبينما هما على تلك الحالة وإذ طرق الباب بعنف شديد، فذعرت العجوز وقالت: أسمعت طرق الباب؟ قم مسرعا يا عثمان وانظر من الطارق، فقام الشيخ يتحسس في الظلام حتى اهتدى إلى زلاج الباب ففتحه فلم يجد أحدا، والتفت في الطريق ذات اليمين وذات الشمال، فلم يلق فيه عابرا أو زائرا، وكانت امرأته قد تبعته فسألته: ما هذا؟ - لا أعلم، فإني لم أجد أحدا.
ثم حدق بعينيه فوجد شيئا كبيرا ملقى أمام الباب، وأبرقت السماء حينئذ فرأى طبقا كبيرا مغطى بشف وردي، فصاح: هذه «هدية رمضان»، وخال له ولامرأته في الوهلة الأولى أن الحمال قد غلط عن الطريق وأضاع العنوان؛ لأنها كانت هدية رجل كبير، وهما لا يعرفان أحدا من كبار القوم، أو أن لصا قد اختطف تلك الهدية وخاف أن يكتشف فألقاها أمام بابهما، ولما رفع عثمان الشف وجد ورقة مطوية فقال: لا بد من معرفة المهدي والمهدى إليه، ثم التفت إلى امرأته، وقال: ألا يوجد عندك شمع؟ - بلى فيما أظن. - أسرعي بعود.
فأسرعت وعادت فأشعلت واحدا، وفض الشيخ الورقة وقرأها فكان فيها ما نصه: «رمضان مبارك على فاطمة هانم الفاضلة. يصلك كل عيد في رمضان مثل هذه الهدية إذا اعتنيت بالشيء الثمين الذي أودعه إلى عنايتك، وأسلمه إلى مروءتك، ولا حاجة إلى التوصية بإفراغ الجهد حرصا عليه.»
ورفع الشيخ المنديل الحريري عن الطبق، وإذا به يرى فيه طفلا صغيرا ابن أمسه على صدره كيس مملوء ذهبا، فعرت الدهشة العجوزين، وأخذا يتساءلان ما يكون من وراء هذا السر، ولكن الجوع كان آخذا من الطفل فطفق يبكي، فقالت العجوز: وا حيرتاه! كيف أغذيه هذا المساء؟ ثم فكرت قليلا وصاحت: إن جارتنا قد ولدت منذ عهد قريب فسأذهب إليها وأرجوها المعونة، والتفتت إلى زوجها فقالت له: أما أنت فاذهب إلى السوق قبل أن يقفل، واشتر لنا ما نحتاج إليه من الطعام والنور والتدفئة.
وهكذا في أقل من ساعة من الزمن تبدلت حالة ذلك البيت وسكانه إلى حال أخرى، واتصل الخبر سريعا بمسامع الجيران، فتقاطروا يهنئونهم بتلك الهدية، ويتلطفون عناية بذلك الطفل الرضيع، وجلس الشيخ في السلاملك (قاعة الاستقبال) مع جيرانه، وكل يدعي صداقته، وهو يفكر في تقلبات الدهر، ويقول:
والليالي من الزمان حبالى
مثقلات يلدن كل عجيبه
وإذا بامرأته أطلت من دائرة الحرم، وقالت له: قد نسيت الحلوى يا عثمان، فاذهب وابتع لنا شيئا وافرا منها إكراما لضيوفنا، فخرج عثمان للحال ملبيا الطلب، وفيما هو عائد إلى البيت إذا به يسمع وقع حوافر خيل، ثم أبرقت السماء فرأى خصيا من خصيان السراي السلطانية ممتطيا جوادا عربيا كريما، ومعه عبد أسود من سياس القصر، فمرا من أمام عثمان، وتفقدا ما هو حامل بيده، وأخذا يبحثان ويتلفتان كمن أضاع في التراب خاتمه، ثم صاح الخصي بالخادم قائلا: قد أضعت أثره «يا أحمد»، ويستحيل أن يكون قد جاء إلى هذا الزقاق، ثم أعمل المهماز في شاكلة الجواد، وخرج من الزقاق والعبد يعدو وراءه كالكلب. فعرف الشيخ للحال أن البحث جار عن الطفل، وأدرك خطورة الأمر؛ لأن البحث كان من السراي، فلما وصل البيت طلب من الجلاس الصمت، وأسدل السجوف خشية أن يستلفت أنظار المارة، وكان كلما سمع حركة أو همسا ظن أنهم جاءوا يطالبونه بالطفل، ويذيقونه ألوان العذاب جزاء ذنب لم يرتكبه، وندم على إطلاع جيرانه على سره، وعرف فساد رأيه وأن أقل وشاية كافية لهلاكه، فأسرع في وضع الخوان ودعا ضيوفه إلى الطعام، ثم قدم القهوة والتبغ، وجلس يفكر في هذا الحادث، وهو يحاول عبثا إزالة علامة ارتباكه، وقد لحظ أحد الجلاس عليه ذلك فقال له: ما لك مفكرا كأن ليس العيد عيدك؟ - قد مضت علي مدة لم أذق بها طعم التبغ فأتلذذ به الآن، فضلا عن أن أيام الشبيبة قد مضت.
ثم تربص ريثما فرغت امرأته من إقراء ضيوفها فصرفهم جميعا، ولم يبق منهم إلا التي أرضعت الطفل ، فساومتها امرأته أجرتها عن سنة واتخذتها للحال ظئرا له، ولكن تلك الهدية في تلك الحالة قد أدهشتهم إلى حد أن أذهلتهم عن معرفة الطفل إذا كان ذكرا أو أنثى، فقالت العجوز: سأعطيها اسم ابنتي عائشة، ما قولك يا عثمان؟ - بالحق نطقت عسى تكون سلوى مصابنا.
والآن أرجو القارئ الكريم أن يعود بي إلى ذكر حادثة جرت قبل ستة أشهر من هذا العهد.
الفصل الثاني
حمام الطوبخانة
لا يخفى أن يوم الذهاب إلى الحمام عند النساء التركيات من الأيام المعدودة عندهن للنزهة والسلوى؛ ولذا يغتنمن أقل فرصة للتملص من ربقة الاحتجاب، فيأخذن منذ الصباح بالتهيؤ والاستعداد فيحضرون المناشف المعطرة والثياب الحريرية الملونة، ويجلين الطاسات الفضية، ويشترين الأثمار اللذيذة والحلويات العديدة، ويعتنين خصوصا بالسجائر التركية؛ لأنها سلوتهن الوحيدة في مقاصيرهن، وما تكون ترى سلوى الطيور في أقفاصها، فيلبسن بعد الغداء «فراجياتهن»،
1
وينتشرن في الأسواق أزواجا وفرادى، ويقفن أمام كل واجهة من مخازن الحلي والأقمشة؛ لمشاهدة السلع كالأولاد الصغار، وقد اشتهر منذ عشرين سنة بين حمامات الأستانة العديدة حمام اسمه «الطوبخانة» حتى كاد يزاحم حمام «غلطه سراي» بشهرته، وما ذلك إلا لشهرة غسالاته اللائي كن يكثرن من وصف الأدوية المختلفة للحمل وأمراض العقل والبدن، وعبثا كان الإنسان يحاول إقناع النساء بخرافة ما يسمعن وأضرار ما تصف لهن الغسالات من الأدوية، فإنه كان كمن يضرب في حديد بارد، وكان هذا الحمام فخيم البناء على الهندسة العربية له باب عظيم من الرخام الجميل.
فحدث أن في غرة جمادى الأولى من تلك السنة؛ أي قبل ستة أشهر من عيد رمضان، اكتظ ذلك الحمام على اتساعه بالمستحمات، وكان بين غسالاته امرأة عجوز اسمها فاطمة لا ينظر إليها أحد بعين الاهتمام؛ لفقرها المدقع أولا ولأنفة نفسها خصوصا، فبقيت ذلك النهار بلا عمل على الرغم من كثرة الزائرات، فجلست تنظر بعين الحسد إلى زميلاتها وهن منهمكات وهي مكتوفة اليدين، وإذ رفع ستار الباب ودخلت جارية زنجية تحمل صرة ثياب وراءها امرأة في مقتبل العمر جميلة الصورة معتدلة القوام على سذاجة في الملابس، فظن الحاضرات أنها زوجة «أفندي عادي»، ولا سيما لأنها لم تكن مصحوبة إلا بجارية واحدة، والنساء التركيات يفاخرن بكثرة الجواري والعبيد والخصيان. فقامت فاطمة للقائها مؤملة أن تلقى منها التفاتا وإقبالا وقالت لها: هانم أفندي قد أخذت جميع المحلات في هذا الطابق، فهل تريدين الصعود إلى الطابق الأعلى؟ - لا بأس.
فتقدمتها فاطمة تدلها، وأدخلتها إلى مخدع جميل، وبسطت فيه سجادة عجمية، وساعدتها على نزع «فراجيتها»، ثم سألتها أتريدين غسالة أو تنوب الجارية منابها؟ - بل أريد غسالة ... وأريد أيضا أدوية ... وصبغ الحياء وجهها ...
فقالت فاطمة العجوز في نفسها ... وأي دواء تريد هذه المرأة الجميلة ذات البنية القوية؟ ثم قادتها إلى صحن الحمام الذي ينحصر فيه البخار، فدهشت المستحمات من جمال تلك الزائرة الجديدة، واعتدال قوامها، وبياض بشرتها الناصع، وقد سدلت شعرها الحالك على منكبيها فأزعجها تصويب الأنظار إليها، وطلبت غرفة مستقلة، فقادتها الغسالة إلى مخدع جميل وأجلستها على مقعد من رخام، وشرعت تسعى في تهيئة ما يلزم لها، وأما الجارية فبقيت في الطابق الأعلى تحرس ثياب سيدتها، فجلست المرأة، ثم تنهدت الصعداء من قلب مقروح، ووضعت رأسها بين يديها مفكرة وقد كبر الهم عليها.
فلما رأت الغسالة حالة تلك السيدة، رأت من باب الملاطفة أن تسألها عن حالها، فقالت لها: هانم أفندي ما لك حزينة كئيبة؟ هل ينقص هذا الجمال الفتان شيء من السعادة والهناء؟ - وا حسرتاه، أي سعادة وأي هناء! إني أشقى خلق الله، كأني من عبر عنه الشاعر بقوله:
ولو كان هم واحد لاحتملته
ولكنه هم وثان وثالث
فأجابتها العجوز: لو تعلمين شقائي لعرفت أنك سعيدة، وأن في الدنيا من هو أشقى منك بكثير. - أحقا أنت تعيسة نظيري، أخبريني مصابك، فإني أشعر بميل وانعطاف إلى كل مسكين.
فشرعت العجوز تغسلها وتدلك بدنها، وتقص عليها ما أصابها في حياتها من الشقاء، وكيف أن الدهر قد أخنى عليها إلى حد أن اضطرت أن تكون غسالة في الحمامات بعد أن كان عندها العبيد والجواري. فلما فرغت من حديثها قالت المرأة: أحقا قد احتملت كل هذا الشقاء، وأصابك كل هذه المصائب؟ نعم، إنه لمصاب عظيم أن تسقط امرأة شريفة نظيرك إلى هذا الحد من الفقر والمسكنة، ثم تبسمت وقالت: نحن في يد العناية كحبات الرمال إذ تتلاعب بها ريح السموم.
ولما فرغت من الاستحمام وقفت، وارتدت ملابسها الحريرية، وسارت إلى غرفة الاستراحة تطفئ ظمأها بشرب المثلجات والمبردات والتدخين، وأمرت بمثل ذلك إلى العجوز، ثم جلست وقد عاودها الهم وبدا على وجهها الاضطراب، وأرادت أن تطلب الدواء فمنعها الحياء، ولكن ما عتمت أن استأنست من العجوز لطفا، فتغلبت على حيائها، وأمسكت بيد العجوز، وقربت فمها من أذنها، وقالت لها همسا بعد أن صبغ الحياء وجهها: يقولون إنك ماهرة في وصف الأدوية ... فأرجوك أن تصفي لي دواء ... ولم تجسر أن تسميه أو تعنيه.
فقالت العجوز وقد فهمت ما تريد: لا أشير عليك بأخذه؛ لأنه يعرضك لخطر الموت، وأنا الوحيدة في هذا المكان التي تعارض هذه العادة السيئة.
فخجلت الهانم من هذا الكلام، وغطت وجهها بيديها حياء، وطفقت تبكي. - لا أريد هانم أفندي توبيخك، وقد عرفت سبب حيائك وخوفك، فتلك إرادة الله لا يحق لأحد معارضتها.
فأجابتها هذه باكية: قد قلت الحق، ولكن لا بد لي من شرب ذلك الدواء؛ لأني هالكة على الحالين، فإذا ما هيأته لا أدري إذا كان عندي جرأة كافية لتجرعه. قالت هذا وضجت بالبكاء والنحيب. - ما معنى هذا البكاء ... عفوا على جرأتي مولاتي ... وإنما أريد مشاطرتك مصابك، فقلبي منعطف بكليته إليك. - إن من الفؤاد إلى الفؤاد سبيلا، أنا شقية، ولا أجسر أن أبوح بشقائي لأحد في العالمين على أنه:
فلا بد من شكوى إلى ذي مروءة
يؤاسيك أو يسليك أو يتوجع
وقد عيل اصطباري وطفح كيل همومي، ثم صمتت هنيهة، وقالت: أعيريني سمعك ... إني مذنبة لدى مولاتي، ثم تداركت قولها فقالت: لدى الهانم أفندي وأنا مدينة لها بكل شيء، ولكن النصيب قد قدر فكان ... فالباشا متغيب الآن، ولا يمكنه أن يحول دون انتقام الهانم مني، وقد عرفت هي ذنبي، وتروم مني إخفاءه ... قبل رجوع زوجها. وهل للهانم أولاد؟ - لا، وهذا مما زاد في حنقها.
ففكرت العجوز قليلا، وعضت على شفتها السفلى مفكرة.
فقالت لها الهانم: حاولت عبثا إخفاء إثمي والتكفير عن ذنبي، ولكن هذا ذنب لا يمحى إلا بالإثم، نحن وا أسفاه البنات الشركسيات يتركنا آباؤنا منذ نعومة أظفارنا، فيلتقطنا الغرباء لجمالنا، فنقضي حياتنا وليس لنا أهل ولا ولد، فإذا شعرنا بمولود في أحشائنا كان ذلك عزاءنا الوحيد، وموضوع حبنا، وكعبة آمالنا، ندافع عنه بأزواجنا، ولكن وا حسرتاه هو كالزهرة لا تكاد تفتح حتى تقطف، وكالغصن لا يثمر حتى يقصف، وأنا مع شقائي أشعر بلذة بما أنا فيه.
فاغرورقت عينا العجوز أسفا لحالة المرأة. - آه، قد رق قلبك لحالي ورثيت لمصابي ... جزيت عني خيرا ... هذه هي المرة الأولى التي شعرت فيها بحي يشاركني في عواطفي ... والآن أرجوك أن تقنعيني بالعدول عن عزمي والإقلاع عن جرأتي ... آه إني مدفوعة إلى هذا الطلب ... مرغمة عليه ... آه قد وهنت قواي وحلت عزائمي. قالت هذا وانطرحت بين ذراعي العجوز تجهش بالبكاء.
فأخذت العجوز تقبلها وتهدئ روعها تخفيفا لمصابها، ثم قالت: لا يحق لي أن أعلم بأكثر مما علمت، ولا أن أعرف اسم سيدك، وأصرح لك بامتناعي عن أن أمد يدا لصنع ذلك الدواء المخالف لذمتي ولمشيئة الخالق - سبحانه وتعالى - فتشجعي يا بنية، واعتصمي بالصبر الجميل؛ فالله القادر على كل شيء ينجيك، ويمكنك التخلص من انتقام الهانم إذا تظاهرت بالخضوع لها والامتثال لأمرها. أما أنا فمقيمة في محلة الطوبخانة في بيت خشبي حقير في الزقاق المعروف «بالشبوقجي»، ومهما كان بيتي صغيرا حقيرا فهو يسعك وولدك، والبيت الضيق يسع ألف صديق، فثقي بإخلاصي وصفاء نيتي، واعلمي أن لك في قلبي محلا رحيبا. - جزيت خيرا يا فاطمة، وأخذت يد العجوزة فقبلتها اتباعا للعادة التركية، ثم قالت سأذكرك ما دمت حية، وسأتبع نصائحك، وأسأل الله أن يباركك؛ لأنك لم تخيبي رجاء «إقبال» المسكينة.
ثم لبست ثيابها، وخرجت مطمئنة الفؤاد قليلا، فتقدمت الجارية، وقالت للعجوز: هل لك أن تخبري «أحمد» أن يتقدم بالعربة، فخرجت العجوز إلى باب الحمام وصاحت يا أحمد، فتقدم عبد أسود كبير؛ فقالت له: أخبر الحوذي أن يتقدم بعربة الهانم، فأشار إلى الحوذي. ولما دنت العربة من أمام الباب رأت العجوز الطغراء العثمانية منقوشة على العدة، فأخذتها الدهشة لما عرفت أن تلك المرأة ليست جارية لأحد الباشاوات، بل إنها من الحرم السلطاني ثم تقدمت الهانم «إقبال» بردائها البسيط، ونقدت العجوز دينارا عثمانيا، وشكرتها كثيرا، وركبت فسارت بها الخيل تنهب الأرض نهبا.
وفي المساء عادت العجوز إلى بيتها، وأخبرت زوجها بما رأت من أمر تلك الفتاة التركية، وأخذ العجوزان يتساءلان من تكون هذه؟ وما هو شأنها؟
ثم مضت الأيام والأسابيع والشهور على تلك الحادثة فنسياها تماما، وذهب الصيف والخريف وجاء الشتاء بقره حتى كان ما كان من أمر عيد رمضان والهدية. فلما أخبرها زوجها بالتقائه بخصي السراي، وما سمعه لما نادى الخادم «أحمد» فكرت بهذا الاسم لما نادته هي في الحمام كما تقدم.
فتأكدت حينئذ أن الطفلة هي ابنة إقبال بعينها، وأنها قد حفظت وصيتها، ورأت هي وزوجها من باب الحكمة والصواب أن يهجرا محلة «الطوبخانة» خوفا من بث العيون والأرصاد أو من وشاية الجواسيس والحساد، فذهبا مختبئين في قرية في أعالي البوسفور يقال لها بايكوس في ناحية أسكي دار، وأفرغت المرأة جهدها اعتناء بالطفلة.
ومما زاد العجوز اقتناعا بأن الطفلة هي ابنة إقبال أن وجدت في طاقيتها خاتما ذهبيا مرصعا بحجر كريم من الزمرد رأته في خنصر إقبال لما جاءت مستحمة، ودرءا للشبهة ومنعا لاقتفاء الأثر أشاع الشيخ في محلته أنه عازم على الإقامة في إستامبول في محلة «شيخ زاده باشي» ولم يصحبه معه إلا الظئر التي رضيت أن تكون للطفلة مقام أمها.
وشرعت فاطمة من ذلك العهد تفرغ الجهد سعيا وراء معرفة مقر إقبال في القصر السلطاني؛ لتخبرها عن مقامها الجديد، ولكن قد كان دون ذلك أهوال؛ إذ كيف يتسنى لها معرفتها بين مئات من السراري والجواري في ذلك القصر العظيم. ففكر زوجها الشيخ طويلا، فرأى أن أحسن وسيلة هي أن يذهب كل يوم إلى نواحي القصر السلطاني متنزها يترقب خروج الخدم والخصيان ورجوعهم؛ حتى يعثر بالخصي أو الخادم (أحمد) الذي لقيهما أثناء رجوعه إلى البيت مساء عيد رمضان، فتزيا بلباس بائع حلويات، واشترى علبة نقالة، وملأها من أنواع الحلوى المختلفة، وصار يتأبطها كل صباح، فيعبر البوسفور قاصدا سراي «طلمه بغجه» التي كان يفضلها السلطان عبد المجيد على جميع قصوره.
وكان الخدم والخصيان يكثرون من الترداد إلى ميدان السراي، فيجيء عثمان بعلبته ويقف في الطريق المؤدية إلى شارع «بشكطاش إلى أورطه كي»، فلم يلبث طويلا حتى أصبح جميع خدم السراي وحشمها من معارفه ومعامليه، وكان هو يتفحصهم واحدا بعد واحد، فتحقق أخيرا أن الخصي وأحمد ليسا بينهم، وكانت صورتهما قد رسخت في ذهنه، ولئن كان لم يشاهدهما إلا لحظة واحدة لما برقت السماء، ولكي يبالغ في التأكيد ادعى يوما أن خصيا اشترى منه حلوى بالأمس بثلاثين بارة لم ينقده إياها، فجاء الخصيان بعضهم بالبعض وهو يتفحصهم جيدا، فتأكد أن الخصي الذي يطلبه ليس بينهم، فعزم حينئذ على الانتقال إلى سراي أخرى، وظل على هذا المنوال من البحث والتنقيب مدة ثلاثة أسابيع يجتاز البوسفور كل صباح، ويقف على قارعة الطرق تحت المطر الوابل في ذلك الشتاء القارس؛ حتى عثر أخيرا على ضالته المنشودة، فرجع ذات يوم إلى قريته فرحا مسرورا، وألقى علبته في زاوية البيت، وقال لامرأته: من تأنى نال ما تمنى، وكل من سار على الدرب وصل، لا حاجة لي بهذه العلبة بعد الآن، فقد عرفت السراي، ولقيت الباب، وجاء دورك، وعليك تدبير حيلة نسائية للوصول إلى إقبال. أما الحيلة فهين تدبيرها؛ فعند أي هانم هي؟ - عند السلطانة علية هانم عمة مولانا السلطان وقرينة محمود باشا داماد. - يا رباه ... أهي عند تلك السلطانة الظالمة ... أقسى امرأة خلقها الله في آل عثمان؟!
ثم قالت: عسى أن تكون الأيام والسنون قد دمثت شيئا من أخلاقها، ولكن مهما يكن من أمرها فلا بد من الوصول إلى إقبال وعلى الله الاتكال . - إن شاء الله.
الفصل الثالث
فطور ملوكي
إذا سرح الناظر طرفه في مباني الأستانة ومناظرها وجد أن من أبدع قصورها وسراياها جمالا؛ القصر الكائن على شاطئ البوسفور عند مدخل الأستانة المعروف باسم «صالح بازار» تطل إحدى وجهاته على الطريق المؤدية إلى «طلمه بغجه» وتشرف الأخرى على بحر مرمرا، فيرى الناظر منه الأستانة بمبانيها وقبب جوامعها ومآذنها، ويرى أمامه الزوارق العديدة ماخرة بين شاطئي أوروبا وآسيا، هذا هو قصر السلطانة علية هانم.
ففي مساء ليلة من شهر صفر كانت السلطانة المشار إليها جالسة في غرفتها مفكرة في أمر مهم تقلب بيدها سبحة من حب العنبر، والجواري من حولها واقفات صامتات مكتوفات الأيدي خاشعات البصر ينتظرن أقل إشارة تبدو من سموها ليتسابقن إلى امتثالها. وكانت الريح عاصفة والرعود قاصفة، وأمواج البوسفور تتلاطم فيتضاعف دويها في ذلك الليل البهيم، والسلطانة معيرة أذنها كأنها تنتظر أمرا كبيرا.
ثم دقت الساعة الرابعة من الليل، فرأت السلطانة أن قد طال السهر، فأشارت إلى الجواري والسراري بالانصراف، فانصرفن وقد مشين القهقرى، ولكن تقدمت سرية شركسية الأصل بارعة الجمال طويلة القوام وتجاسرت بأن سألت السلطانة إذا كانت تأمر بمساعدتها على نزع ثيابها. - لا يا إقبال هانم لا أريد أحدا. انصرفي حالا؛ لأني أروم انتظار الباشا وحدي هذا المساء.
فامتثلت إقبال الأمر، وخرجت منكسة الرأس، وقد طار قلبها هلعا، وعادت السلطانة فغاصت في بحار التأملات، وكانت قد كبرت وشاخت، وذهب ما كانت عليه في أيام صباها من الجمال القليل، على أنها كانت مع ذلك تتزين وتتبرج كأنها تريد أن تعود إلى أيام الصبا، ولكن هيهات؛ فلا يصلح العطار ما أفسد الدهر.
فلما ابتعدت الجواري رفع ستار باب مجاور، وبرز منه خصي لم تشعر به حتى صار أمامها فسألته: ما وراءك يا علي؟ - لقد صدق مولاتي الباشا بقوله؛ فهو مدعو هذا المساء للطعام عند الصدر الأعظم. - ثم. - قد أفرغت الجهد امتثالا لأمر سموك في البحث عن الأمر الذي يهمك، ولكني لم أقف له على أثر، وأرى من العبث إتمام البحث . - أتظنني واهمة أو مخدوعة؟ - كلا مولاتي، ولكن أخصامنا أو بالحري أخصام سموك يخفون عنك الحقيقة إلا إذا بحثت عنها من صاحبها ... - أمجنون أنت؟ أتظن أن ليس عندي جرأة كافية على الانتقام ممن يمس شرفي أيا كان؟ - لم أرد هذا بقولي مولاتي.
ثم تقدم خطوتين إلى أمامها، وقال لها خافضا صوته: يتعذر، لا بل يستحيل معرفة الحقيقة من إقبال، وقد جربت فوجدت أن الوعد والوعيد لم يفيدا شيئا، ولا يمكنك بعد هذه الساعة الوقوف على الحقيقة إلا من دولة الباشا نفسه.
أما السلطانة فاكتفت بهز رأسها استخفافا. فقال لها الخصي: لا أجهل يا مولاتي أنه متى كان صاحيا من سكره لا يقر بشيء؛ لأنه شديد الميل إلى إقبال، ولكن متى لعبت الخمرة برأسه سهل عليك الوقوف على أسراره، وسيرجع هذا المساء مترنحا ...
فقاطعته الكلام، وقد انتبهت إلى قوله فصاحت به: أصبت ... وحزرت ... سر حالا إلى الحرم، ولا تدع أحدا من السراري أو الجواري أن يقلق راحتي بعد هذه الساعة، وبلغ أمري إلى أغا دولته أن يخبر مولاه بأني في انتظاره، وأني آمرة له بالدخول علي في أية ساعة رجع.
فانحنى الخصي ممتثلا للأمر الكريم، وخرج فرحا مسرورا.
ولا شك أن القارئ قد عرف أن هذا الخصي هو الذي ذهب إلى محلة الطوبخانة مع أحمد للبحث عن الطفلة مساء عيد رمضان.
ولم تمض ساعة من الزمن على ذلك الانتظار حتى سمعت السلطانة وقع حوافر الخيل في صحن الدار، فعرفت أنها عربة الباشا زوجها، أما هو فلم ينحدر منها حتى تقدم إليه الأغا، وبلغه أمر السلطانة، فعلا وجهه الاضطراب، وخاف وقلق، وظن سوءا، ولكنه تجلد وصعد إلى غرفة السلطانة، وهو يكاد لا يقف على قدميه من السكر، فلما دخل عليها ووجدها باسمة زال عنه القلق، وسرت هي لما رأته في تلك الحالة، فتقدم إليها مسلما كما يسلم العبد على مولاه، أما هي فأعطته يدها فقبلها مرارا، ثم قالت له: تفضل باشا أفندي حضرتلري. - أمرت سموك الأغا أن يبلغني أمرك السامي بشرف المثول بين يديك أية ساعة رجعت، فأقلقني هذا الأمر خوفا من أن يكون قد أصاب صحتك الثمينة انحراف. - أي عزيزي محمد، ألا تظن سببا لرؤيتك إلا المرض، فهل تكرهني إلى هذا الحد؟
فأندى جبين الباشا من العرق، ولم يفهم حرفا من هذا السؤال؛ فتقدمت إليه ومسكت بيده متلطفة قائلة: لقد أخطأت نحوك وأذنبت لديك؛ فها قد مضى ستة أشهر وأنا حردة عليك، ولقد أسأت الظن بك، وندمت الساعة فأبعدت الجواري لألتمس منك عفوا عن قساوتي الماضية وظلمي ... ثم لصقت بجانبه وسألته قائلة: أفي قلبك بعد أثر من الحب لي؟ - مولاتي قد غمرتني لطفا، أتلتمسين مني العفو وأنا المذنب المسيء؟ - إذن تعترف بأنك مذنب أيضا، لقد زدت في عيني اعتبارا وفي قلبي حبا بهذا الإقرار، وتعترف أيضا أني لست بمذنبة ... أي محمد، ألا ترى بكائي؟! ومسحت دموعا كاذبة.
أما الباشا فكان قد أعماه السكر، وظن نفسه في منام؛ لأن السلطانة لم تعوده منذ اقترن بها هذا اللطف، ولم تسمعه من قبل مثل هذا الكلام.
وغلب عليه السكر والنعاس فقال لها: خففي عنك مولاتي لقد كنت مصيبة في غيرتك وحنقك ... وأنا وحدي المذنب لديك وأنت الملاك الكريم.
فتجلدت السلطانة، وأخفت غيظها، ثم تنهدت، وقالت: أعفو عنك على شرط أن تقر بالحقيقة كلها، وألا تخفي علي شيئا، ومدت يدها إلى الباشا فقبلها مرارا. - لم أخف الحقيقة عنك، وإنما عنفوانك حال دون إبلاغك الحقيقة، ولقد كنت تناسيت تلك الحادثة لو لم تأخذني الشفقة على تلك المسكينة ...
فانتفضت السلطانة حنقا من هذا الكلام كما ينتفض العصفور بلله القطر، ولكنها تجلدت رغبة منها في معرفة السر المكنون، فاتكأت على كتف زوجها، وقالت له باسمة: إلى أين أرسلت هدية رمضان؟ لم لم تكل إلي تربية المولود ... فقد كنت بذلت جهدي اعتناء به، ولا سيما لأني لم أرزق ولدا.
فحدق الباشا بها، وظن نفسه في منام أو ما يسمعه أضغاث أحلام، فسألها مبهوتا حائرا: كيف ... أنت ... تتنازلين ... إلى تربيته، من أخبرك؟ - عرفت كل شيء، ولم تخفني خافية، ولهذا أسامحك لأني عرفت أن الخوف من انتقامي حال دون إقرارك بالحقيقة، ولهذا السبب وضعت المولود بمساعدة إقبال في طبق العيد، وأرسلته إلى محلة الطوبخانة ...
فأشار الباشا برأسه مصادقا على قولها، ثم تلجلج لسانه، وقال: صحيح سلمه أحمد ... ورأت السلطانة أن النعاس قد استولى عليه وغلبه السكر فلم يعد يحتمل النطق، فأخذت تهزه وتقول له: أفق قليلا ... تذكر إلى من سلمه أحمد. - لا أذكر ... شيئا ... وأقسم لك إني ... لا أعرف ... إلا اسم العجوز ...
ودمدم كلمة لم تفهمها السلطانة، وانقلب على المقعد، وبدأ يغط غارقا في سبات عميق.
وعند ذلك بلغ هياج السلطانة حده، فدفعت باب الغرفة التي كان الخصي بانتظارها فيها وصاحت به: لقد أصبت فيما ظننت، ثم جلست وقد زفرت زفرة شديدة من الغضب، وتلجلجت شفتاها، واصطكت أسنانها، وجحظت عيناها، وانتفخت أوداجها؛ فقال لها الخصي: خير إن شاء الله. - قل شر؛ لقد اعترف الباشا بكل شيء في سكره وقد سخرت إقبال بي، فهي لم تشرب الدواء الذي أمرتها بشربه يوم أرسلتها إلى حمام الطوبخانة، ولكن سترى عاقبة مخالفة أمري، ثم ضحكت ضحك الحنق المغتاظ، وصاحت: أي نعم هي الولود وأنا العقيم ... فسألها الخصي: وأين المولود؟ - هو في المكان الذي ذكرت. نقله أحمد يوم العيد مع هدايا رمضان، ويظهر أن السعد قد خدم تلك الشقية؛ لأنها قد وضعت حملها يوم العيد أثناء تغيبي في السراي الهمايونية، فأرسلوا الولد إلى الطوبخانة قبل رجوعي. - خففي عنك مولاتي، فلا بد من وجود المولود، ويمكنك الانتقام. - نعم، أريد انتقاما هائلا، أنكون سلطانات ويكون لنا ضرائر؟ إذا ترمل أزواجنا فلا يحق لهم من بعدنا الزيجة، ومتى رفعنا رجلا إلى شرف حبنا لا يحق له أن يلتفت إلى سوانا أحياء كنا أو أمواتا ... ثم التفتت إلى الغرفة التي كان راقدا زوجها فيها، وصاحت: والله سأنتقمن يا محمد وأي انتقام ...
وأفاق محمد باشا في الغد عند الظهيرة غير واع شيئا من حديث الأمس، ولا غرابة فكلام الليل يمحوه النهار. وكان قد ازدحم الزوار عند بابه، وفي قاعة استقباله، وجلهم من كبار المأمورين وطلاب الوظائف؛ لأن السلطان عبد المجيد كان في ذلك العهد مريضا قليل العناية بشئون دولته، وكان محمد باشا صهره من المقربين إليه النافذين لديه، والناس في الشرق قد اعتادوا أن يدوروا مع الزمان كيفما دار. فخرج يقتبل زواره بالبشاشة التركية، وصرفهم جميعا مطيبا خواطرهم بالجواب التركي المشهور الذي ذهب مثلا وهو «بقالم»؛ أي سنرى.
ثم دخل عليه الخصي، وعرض أن عجوزا في الباب تريد التشرف بناديه.
قل لها أن تنتظرني في دائرة الحرم، وأعد لي الطعام، فقد استولى علي الخوار، ولا أؤجلن طعاما من أجل أحد، فكيف من أجل عجوز ...
فعاد الخصي على أعقابه، وقاد العجوز إلى دائرة الحرم، وأمرها بانتظاره، وقد عرف القارئ لا شك أنها «فاطمة» بعينها، فسألت الخصي: أسمو السلطانة في السراي؟ - كلا قد خرجت في هذا الصباح. - ألا يمكني مقابلة أحد من الجواري أو السراري؟ - قد رافقنها جميعهن. - أجميعهن ...؟ - نعم ... جميعهن.
فتفاءلت العجوز من هذا الجواب، وقالت عساه خيرا، ثم جلست تنتظر المثول بين يدي الباشا قلقة، وقد وطدت عزيمتها على إطلاعه على كل شيء، فلم تلبث طويلا حتى دخل الباشا عليها، وسألها قائلا: هانم أفندي ماذا تريدين مني؟ - باشا أفندي حضرتلري ربما لا يجهل دولته اسمي ... أنا فاطمة ابنة يوسف باشا المصري وقرينة عثمان باشا الحلبي.
فحدق الباشا بنظره إليها مستفهما. فقالت: ربما خفي عليك هذا الاسم ... أنا التي كنت مقيمة في الطوبخانة لما وصلني في مساء عيد رمضان ... فقاطعها الباشا متخوفا، وصاح بالله عليك لا تنبسي ببنت شفة. أتجهلين أنك في دائرة الحرم وهو موضوع سوء الظن والتجسس، ثم خفض صوته، وقال لها: ماذا جاء بك إلى هنا؟ أخفي عليك أنك تعرضين «إقبالا» إلى الهلاك؟ - لا تخش أمرا مولاي، فقد كنت دبرت حيلة من غير أن تبعث أحدا إلى سوء الظن، ولكن لم تجد شيئا؛ لأن سمو السلطانة قد خرجت هذا الصباح. - فصاح بها الباشا مستفهما: أخرجت؟ وإلى أين؟ - لا أعلم، فهكذا أخبرني الخدم والخصيان، وأخشى أن يكون من وراء ذلك شر .
فقلق الباشا وهب لساعته يطوف في السراي يستدعي الخدم، فيسألهم عن سبب خروج السلطانة، فأجابوه جميعا بأنها سارت إلى السراي الهمايوني منذ الصباح مصحوبة بجميع جواريها وسراريها. فعاد إلى الغرفة وقد غلب عليه الاضطراب، وعلت على وجهه أمارات الاكتئاب. ثم جلس مفكرا وقد عاد إلى ذهنه ما كان منها في المساء، ثم قال لها: لا شك أنها خدعتني، واحتالت علي حتى عرفت موضع سري. - وهل أطلعتها عليه وعرفت بولادة عائشة ومقرها؟ - نعم ... وا أسفاه. - كيف كان ذلك ...؟ وماذا قلت لها مولاي؟
تبا للسكر تبا للخمرة، ولعنة الله عليها وعلى شاربيها، هي السبب ... نعم هي كل السبب ... كنت مدعوا بالأمس إلى العشاء عند الصدر الأعظم فشربنا منها كثيرا، ولما عدت، وكان قد دب دبيبها في رأسي، استدعتني السلطانة، وأخذت تتملقني وتلاطفني حتى خدعت فاعترفت بذنبي، وأظنني صرحت باسمك أيضا ... وهي كانت عالمة بمقرك. - يا للمصاب ... يا للداهية الدهماء ... الله أعلم أية مكيدة تكيد لي ولها ... - نعم، الله أعلم ... وبظلمها أدري وقلقي شديد؛ لأنها قد استصحبت «إقبالا» معها، ثم صمت قليلا، وقال: هانم أفندي، أرجوك الرحيل من هذا المكان ريثما يتسنى لإقبال الذهاب لرؤية طفلتها. - قرب لله ذلك اليوم مولاي ... وشفعنا برحمته. - اتكلي على الله وثقي بي ... سأكون لك ولها سندا وعضدا ... وبالمناسبة ماذا سميت الطفلة؟ - عائشة يا مولاي؛ على اسم ابنتي المفقودة، فإذا كنت تريد أن أدعوها باسم آخر، فلك الأمر وعلي الامتثال. - لا يهمني الاسم كثيرا ... سأذكر عائشة، وأفضالك عليها، وعنايتك بها.
وإذا بالخادم دخل يدعو مولاه إلى الغذاء، وأرادت العجوز أن تطيل الحديث معه، ولكن لما رأته قلقا مضطربا، قالت له: أفندم، قد انتقلنا الآن إلى قرية بايكوس لا يعرف مقرنا إلا الله أمام جامع «أينكيار أسكه مني» فإذا رأيت من الصواب الرحيل والابتعاد إلى مدينة أخرى فأنا رهينة الإشارة، فأية مدينة تراها بمعزل عن شك السلطانة وانتقامها. - أرمينيا أفضل الولايات لدي من هذا القبيل؛ فهي بعيدة الشقة كثيرة المشقة عسرة الاتصال، فإذا أقمت في قرية بجوار أرضروم مثلا كنت في مأمن من كل غدر وخيانة. - الأمر أمرك مولاي، فسأرحل من غد.
ثم انحنت مسلمة، وعادت على أعقابها إلى قريتها تتهيأ للسفر.
وقام الباشا إلى مائدة الطعام، فجاء خادم بصدر فضي كبير، ووضعه على «اسكملة» منقوشة أحسن نقش، وجاء خادم آخر بطست بهي المنظر وصابونة عطرية، فغسل الباشا يديه ونشفهما وجلس أمام الصدر. وإذا برئيس الخصيان قد دخل وعليه أمارات الاضطراب، فسأله الباشا: ألا تعلم سبب سفر زوجتي الهانم؟ - تريد لا شك أن تقول سمو السلطانة ...؟ قد دعتها والدتها للذهاب إلى السراي الهمايوني؛ فلم تر وجوبا لإعلامك، ولم تأذن لي بإخبارك بالسبب. - إذن تعرف السبب وتريد إخفاءه عني؟ - نعم، على أسف مني.
فكاد الباشا يتميز غيظا لهذا الجواب المهين، وقال: حتى الخصيان صاروا يحتقرونني، فصمت. ثم انتهره قائلا: جئني بالطعام حالا.
فخرج الخصي، وعاد حاملا صحفة كبيرة مغطاة بقبة فضية منقوشة نقشا بديعا، فوضعها الخصي على الصدر أمام الباشا، وقال: هذه الصحفة تخبر دولتك عن سبب سفر سموها ... ثم ابتعد، ولم يرفع الغطاء الفضي اتباعا للعادة. فحملق الباشا فيه وكاد لا يصدق أذنيه، ثم مد يديه وهي ترتجف حنقا، ورفع الغطاء بحده، ثم طرحه وصاح مذعورا صيحة دوت لها جوانب السراي، وتراكض من أجلها جميع الخدم والخصيان، وقد جمد الدم في عروقهم لما وجدوا رأس «إقبال» غائصا بدمها الطري موضوعا في تلك الصحفة الفضية، وعينيها النجلاوين مفتوحتين قليلا، وهي باسمة الفم دلالة على أن رأسها قد حز غيلة، وشعرها الطويل يكلل ذلك الوجه الجميل. ولبث الباشا يصرخ ويصيح وا غوثاه! فلا من سميع ولا من مغيث. وأخيرا تقدم إليه أحمد العبد ورفعه من منكبيه، وأدخله إلى غرفة ثانية، وهناك أجهش الباشا بالبكاء والنحيب متمثلا في صورة تلك الغادة الهيفاء، وهو يقول: وا حسرتاه عليك يا إقبال! مسكينة أنت ... ذهبت غيلة وظلما! ثم فتح ذراعيه إلى السماء، وقال: أسألك اللهم أن تنجي طفلتها من الهلاك ... أنت القدير على كل شيء ...
الفصل الرابع
بعد مضي 16 سنة
وحدث بعد ذلك العهد؛ أي بعد انقضاء 16 سنة، أمور كثيرة كانت الأحوال قد تبدلت فيها تبدلا كليا، فكان السلطان عبد المجيد قد انتقل إلى رحمة ربه منذ ست سنوات، وجاء أخوه ولي العهد عبد العزيز أفندي، فحقق آمال العثمانيين به، وكان هذا السلطان كل أيام ولاية عهده حتى يوم تسنم عرش أجداده منقطعا عن الأمور السياسية معتزلا الأشغال العمومية مقيما في مزرعة «جفتلك» بجوار قرية بايكوس عائشا عيشة الفلاحين البسيطة مصوبا عنايته إلى الفلاحة والزراعة، فأحبه الجميع لحسن أخلاقه وأحوال معيشته.
وبينما كانت السراي السلطانية الهمايونية مكتظة بالجواري الحسان والسراري الشركسيات المجلوبة من جميع أطراف المملكة رغما عن عجز السلطان عبد المجيد ومرضه، كان ولي العهد عبد العزيز أفندي في مقتبل الشباب وعنفوان العمر مكتفيا بسرية واحدة شركسية الأصل بديعة الجمال اختارها قرينة لنفسه، فلم تعرف لها ضرة. وبينما كان السلطان عبد المجيد يرقد إلى الظهر ولا يقابل وزراءه في الشهر مرة، كان عبد العزيز ينهض مع الشمس لمراقبة مزرعته، وقد جاء بمهندس زراعي بارع من سويسرا، وجلب منها ثيرانا كبيرة وتقاوي جيدة من جميع الحبوب حتى صار يضرب المثل بجودة ذلك الحقل، وصار أنموذجا في البلاد العثمانية، وتعاظم ميل الناس إليه، وغدا مدحه أنشودة كل شفة ولسان.
ولما تسنم عبد العزيز عرش آل عثمان طفحت قلوب العثمانيين فرحا وسرورا، وتفاءلوا به خيرا، وجاءت السنون الأولى من ملكه محققة للآمال، مصدقة لذلك التفاؤل، مبشرة بحسن مستقبل الأيام ونهضة الدولة من حضيض الانحطاط.
وكانت فاتحة أعماله أن أخذ يرأس مجلس الوزراء كل مرة بنفسه في السر عسكرية فيقضي ليله ساهرا معهم على النظر في شئون المملكة الدقيقة، مهتما براحة رعاياه، الأمر الذي لم يسبقه إليه أحد من أسلافه.
وكانت العادة قد جرت في السراي كما لا يخفى أن تقدم والدة السلطان كل عام في أول شهر رمضان سرية إلى جلالة ابنها، فرغب السلطان عبد العزيز إلغاء تلك العادة، وإبدالها بتقديم جارية إلى امرأته السلطانة، ثم صوب اعتناءه إلى افتتاح المدارس المجانية لجميع الملل والنحل بقطع النظر عن الأديان والأجناس، وساعد كثيرا على انتشار العلوم والمعارف من ماله الخاص، وشاد المستشفيات الطبية والجمعيات الخيرية وغيرها من الأعمال المفيدة.
وخصه الله بمعرفة قدر الرجال، فانتقى من بين وزرائه اثنين هيهات أن يأتي الزمان بمثلهما، امتازا في دولة آل عثمان بالذكاء ودقة الفهم وشدة الوطنية والبراعة في السياسة، أعني بهما عالي باشا وفؤاد باشا؛ اللذين شهدت لهما رجال الغرب بالسبق والفضل، فساعدا السلطان كثيرا على إنهاض المملكة.
وكانت الملابس التركية باقية إلى ذاك العهد على زيها القديم، فأبدلها السلطان بالزي الأوروبي الحديث بعد أن نقحه كما يليق؛ إلا النساء، فقد بقين محافظات على «اليمشق والفراجية»، وإنما خففن كثيرا من كثافة المنديل، فصار شفافا يزيد الوجه حسنا وجمالا. واقتنى الوزراء والكبراء العربات الأوروبية، وجاءوا من عواصم أوروبا بالرياش الفاخرة والأمتعة الثمينة، وحدث بجملة القول في ذلك العهد ثورة تقليدية عظيمة للمعيشة الأوروبية، الأمر الذي سر كثيرين ممن كانوا قد تلقوا العلوم واللغات الأوروبية، وكانوا من دعاة الحرية والمدنية. وقد بلغ الفرح والسرور منهم حده لما تحققوا أن السلطان قد عزم على نسخ العادة القديمة وهي عادة التقيد ضمن حدود ملكه، وأنه عازم على تفقد البلاد المصرية أولا ترويحا للنفس، ثم على زيارة العواصم الأوروبية متفرجا ومستكشفا سر التقدم الأوروبي، ومستطلعا أسباب رقي الشعوب. فخيل لهم حينئذ أن تركيا قد بلغت أوج التمدن والفلاح، ووهموا أنه سيعود من السياحة في تلك البلدان منبع الثروة والفنون حاملا من المدنية لآلئ يقلد بها جيد عرشه، وناشرا أعلام الرقي والحضارة في كافة أرجاء مملكته المترامية الأطراف. وقد استصحب السلطان معه في تلك الرحلة وزير خارجيته فؤاد باشا المشهور وولدي أخيه مراد أفندي؛ ولي العهد وشقيقه عبد الحميد (السلطان المخلوع)، وسر الشعب من ذلك، وعدوه برهانا جديدا على دقة أفكار السلطان وسمو مبادئه، حيث قد جرت العادة أن يقصي السلطان أولياء العهد في قصور بعيدة يملؤها من النساء والسراري الحسان بعيدين عن جميع الناس جاهلين أحوال المملكة التي ستلقى مقاليدها إليهم . فكان استصحاب عبد العزيز لولدي أخيه دليلا على أنه يريد إفادتهما من مدنية أوروبا كي يحذوا حذوه بترقية المملكة العثمانية في معارج التقدم والفلاح من بعده، ولذا كان يوم سفره إلى باريس يوما حافلا مشهودا.
وقد أناب عنه في إدارة شئون المملكة الصدر الأعظم عالي باشا، وأطلق له حرية العمل في تدبيرها أثناء غيابه كما ترتئي حكمته، وكان مركز الدولة يومئذ حرجا؛ إذ ظهر فرقة من المشايخ الذين أعماهم التعصب، وانضم إليهم المعزولون من رجال السلطان عبد المجيد، فألفوا حزبا قويا لمعاكسة الحزب الجديد الذي سر من هذه الحركة المدنية الجديدة، ومن اندفاع السلطان إليها، وهذا الحزب هو الذي عرف باسم «تركيا الفتاة»، وقد خال للجميع يومئذ أن الظفر سيبقى لهذا الحزب (حزب الإصلاح) لو لم تمد النساء أيديهن الضعيفة القوية آخذا بناصر الحزب القديم الذي كان مبدؤه وشعاره «بقاء القديم على قدمه»، وللنساء في تركيا - كما في جميع أنحاء المعمور - نفوذ شديد، إلا أنهن في الشرق وراء الحجاب لا يمكن الوصول إليهن، ولكن قد أخطأ من قال إن لا نفوذ للنساء في الشرق.
ولما تقرر سفر السلطان في جلسة الوزراء رسميا قدم بعض كبار المشايخ استعفاءاتهم، فقبلها السلطان حالا، فاتخذ الحزب الديني ذلك إهانة لهم، وأما العظماء وغيرهم من نجباء الأمة فقد سروا من عزم السلطان، وعدوه أمرا سياسيا مهما، ولكن المشايخ كانوا بالعكس، فثاروا وحاولوا إحباط ذلك المسعى، فأقنعوا السلطانة والدته أن مصير ابنها إلى الهلاك إذا ظل صاغيا إلى حزب «تركيا الفتاة».
وحاولت والدته إقناعه بالعدول، فذهبت أتعابها أدراج الرياح، وإنما وعدها السلطان وعدا شافيا ألا يطيل تغيبه عن عاصمته أكثر من شهر. •••
ففي اليوم الرابع والعشرين من شهر تموز (يوليو) لعام 1284 للهجرة ورد نبأ برقي من فارنا إلى فخامة الصدر الأعظم مبشرا بقدوم جلالة السلطان على يخته صباح غد عائدا من رحلته الأوروبية.
ولم ينشر هذا النبأ في أنحاء الأستانة حتى هب سكانها على اختلاف أجناسهم وأديانهم يستعدون للزينة والاحتفال برجوع مليكهم المحبوب، ولما نشر ضوء الصباح في الأفق سرادقه ركب الوزراء والعلماء والكبراء والقواد بواخر الشركة الخيرية، وساروا إلى لقاء جلالة السلطان عند فم البحر الأسود. وركبت والدة جلالته والسلطانة قرينته يختا ملوكيا مصحوبة بجميع الأميرات والسراري لاستقبال جلالته أيضا.
وكانت شمس تموز لامعة الضياء، والجو صافيا والهواء عليلا، فلم تطل الباخرة المقلة جلالته حتى بدأت حصون الأستانة ومعاقلها في جميع أطرافها بإطلاق المدافع تبشيرا بقدوم البادشاه، وكان الهتاف «بادشاهم جوق يشا» (فليعش سلطاننا كثيرا) يدوي بين شاطئ القارتين آسيا وأوروبا، ويعجز القلم عن وصف عظمة ذلك الاحتفال وبهائه، فإنه كان مشهدا بالغا حد الأبهة والجلال أثر بجلالة السلطان كثيرا؛ إذ استدل منه على تعلق الشعب به وآماله فيه.
ووقف يخت السلطان قليلا ريثما صعد إليه المستقبلون، ثم أكمل مسيره بعظمة وبهاء يختال في مشيه كأنه عالم بعظمة من يقل، ويتبعه عشرون باخرة، وبعد أن استقبل السلطان حرمه المصون عاد إلى ظهر المركب؛ حيث كان عالي باشا بانتظار جلالته، وكل منهما متشوق لرؤية الآخر؛ هذا للسؤال عن أحوال مملكته، وذاك لمعرفة التأثير الذي كان لتلك الرحلة في أفكار مولاه، فبعد أن سأله السلطان قليلا عن أحوال المملكة عموما تجاسر عالي باشا فقال له: عسى أن يكون قد سر مولاي من هذه الرحلة. - نعم، سررت جدا، إنما أشكر الله تعالى أني لست بمليك أوروبي تابعا لديانة مخالفة تماما لديانتنا. - هل أتجاسر على سؤال مولاي، أي شيء أثر في جلالته من أخلاق الأوروبيين وعوائدهم، وأي شيء أعجبه في المدن التي شرفها بسياحته؟ - لا مشاحة في أن المدن الأوروبية جميلة المباني، وإنما مراكزها لا تساعدها على الحسن كمنظر الأستانة مثلا؛ فضلا عن أن الإنسان يشعر فيها للحال أن تلك الحركة الشديدة هي من أجل السعي وراء المال، وهي الغاية الوحيدة التي تطمح إليها أنظار الأوروبيين ... أما النساء فحدث عنهن ولا حرج، يخرجن إلى المراقص متلعات الأعناق مكشوفات الأكتاف مفتوحات الصدور مشدودات الخصور، يلففن أذرعهن بقحة غريبة بأذرع الرجال على مرأى من أزواجهن الذين ينظرون إليهن بدون أقل غيرة أو اكتراث. - نعم، قد أصبت مولاي، للتمدن الأوروبي عادات لا تنطبق على عاداتنا، ومخالفة للدين المحمدي الشريف، ولكن رغما من تلك الحرية الظاهرة فإنهن على الغالب أمهات شقيقات، وزوجات محصنات، والتربية تساعدهن كثيرا على هذا. - ولكن ما هذه المدنية إذا كان الفقر والجوع يميت في مدينة كعاصمة لندره مثلا ألوفا من الخلق في العام ... فهل قرأت إحصاءات الجرائم والمسجونين في تلك البلاد الصناعية؟ - نعم قرأتها، وإنما يجازون في أوروبا جميع الجرائم بلا استثناء، أما في الأستانة فالعدالة غير تامة، فإن المجرم ينجو كثيرا من العقاب. - ولكنه لا ينجو من عقاب الله. - أرى أن جلالتك لم تسر كثيرا من رحلتك الأوروبية. - بلى سررت، خصوصا لإقدامي عليها، لكني لا أخفي عليك أني كنت أستعد للرجوع إلى الأستانة، فإن تلك العيشة المملوءة من الحركة الدائمة لا تروق لي؛ لأن الملك نفسه هناك كتلميذ مدرسة ليس له ساعة فراغ، فهو عبد الشعب مع أن الشعوب خلقت لتكون عبيدنا.
فالتفت عالي باشا إلى من حوله خوفا من أن يكون قد سمع أحد ذلك الكلام من فم السلطان الذي أتم كلامه فقال: إن الشعوب الأوروبية كثيرة الاهتمام بالأمور التافهة كالفنون والصناعة والزراعة والتجارة والسياسة، ويغفلون عن أهم شيء في هذه الدنيا ألا وهو الحرص على السلامة.
فتنفس عالي باشا الصعداء لهذا الكلام، وعرف أن السلطان لم ينظر إلا لحال الضعف في الأوروبيين، وأنه لم يستفد شيئا جليلا من رحلته هذه فقال: ولكن لا بد قد أعجبتك المتاحف والمشاهد، وخصوصا لتضافر الأفراد على رفع منار بلادهم. - لا، وإنما أشد شيء أثر بي قباحة وجوه الأميرات الملوكيات، فلم أر فيهن امرأة جميلة إلا الإمبراطورة أوجيني والإمبراطورة اليصابات، مع أني أرى أن الملك إذا تزوج يجب أن يختار أجمل امرأة في مملكته، أما هم فبالعكس يكتفي الواحد منهم بأن تكون المرأة من عائلة ملوكية، ولا يهمه قبحها أو جمالها مع أن هذا هو الحمق بعينه.
ومر اليخت السلطاني أمام سراي «أميرجيان» الخاصة بإسماعيل باشا خديوي مصر، فصوب جلالته منظاره إليها، واغتنم عالي باشا تلك الفرصة فأرسل نظره باحثا عن فؤاد باشا فوجده يتحدث مع مراد أفندي ولي العهد، فقال السلطان ساخرا: حديقة إسماعيل باشا جميلة، فهي على الطراز الأوروبي، ويريد أن يتقلدنا. - كلا مولاي؛ هو ولوع بتقليد الأوروبيين. - تريد أن تقول المسيحيين. - لا، ولكن لا تنكر جلالتك على إسماعيل باشا الذكاء. - هذه كل بضاعته. - هي كافية مولاي. - أتعرف أني لما زرت مصر وجدت لباس جنوده أحسن من لباس جنودي؟ - ليس الجندي بلباسه بل بقواده. - تعال غدا بعد السلاملك لأطلعك على مشروع الإصلاح الذي وضعته. - الأمر أمرك أطال الله عمرك. - اصحب معك فؤاد. - هذا جل متمناي.
وجاء أحد الخصيان فعرض على جلالته أن والدته بانتظاره، فقام السلطان عاجلا، وبقي عالي باشا وحده على ظهر الباخرة، وقد غلب عليه الأسف واليأس؛ لأن أحوال كريت كانت على أهبة الثورة والعصيان، فلما رأى فؤاد باشا الصدر الأعظم وحده تقدم إليه لمصافحته، فتبادلا التحية، ثم سأله بلهفة: كيف أحوال كريت؟ - تلك مسألة كنت أحب سماعها من السلطان.
فتقدم إليه فؤاد وقبض على يده، وهمس في أذنه قائلا: تريد أن تقول السلطنة ... الويل يا عالي لتركيا يوم نسقط. - إذن أنت مقتنع بأن السلطان عبد العزيز كأسلافه. - نعم، لا يزيد ولا ينقص عنهم بشيء. - وهل سمعت حكمه على أوروبا؟ - سمعت أكثر من ذلك، فقد قال لي إنه أكثر مدنية من الفرنسيين والإنجليز والبروسيانيين، وقال أرى نفسي في غنى عنهم وعن مدنيتهم، ولم يعجبني في فرنسا شيء، ثم رفس الأرض برجله، وقال: أقسم بالله العلي العظيم لا أكون سلطانا إذا كنت لا أجد امرأة شبيهة بالإمبراطورة أوجيني، وإذا كنت لا أشيد في إنجلترا نفسها أسطولا أمنع من أسطولهم. - وهل هذه كانت نتيجة رحلته؟ - نعم وا حسرتاه على تركيا، وقد بدأت أقتنع بأن لا بد من ظهور نجم جديد في أفق السياسة يستلفت إليه أنظار تركيا الفتاة. - وأي هو؟
فالتفت فؤاد إلى مؤخر الباخرة حيث كان يوجد حلقة من كبار رجال الدولة ووزرائها، وقال انظر إلى أبسطهم هيئة وأكثرهم بشرا. - من أمراد أفندي؟ - نعم هو بعينه، وأتنبأ لك أنه سيكون سبب سقوط السلطان عبد العزيز. - تريد أن تقول سبب وفاته؛ إذ لا تسقط السلاطين إلا بوفاتها.
وحينئذ سمعا صوتا من ورائهما يقول: تتغير العادات بتغير السنين والأيام، فالتفتا إلى ما ورائهما مذعورين خوفا من أن يكون قد سمع حديثهما أحد، وإذا بهما رأيا شيخا مهابا بشوشا قد تقدم إلى عالي باشا، ومد إليه يده وقال: صافحني بالأكف كي أقول إني جئت بعادة جديدة من جيراننا، وكان ذلك القادم شيخ السلطان خير الله أفندي، وقد اشتهر بحدة الذكاء وحرية الفكر وحب الإصلاح والمدنية.
فقابله عالي باشا بمزيد الترحاب، وهنأه بسلامة الوصول، ثم سأله قائلا: ماذا تريد بعبارتك: تتغير العادات بتغير الأيام؟ - تلك فاتحة عملي بمصافحتي إياك بالأكف.
فقال له فؤاد: وهل تعلق كبير أمر على تلك المصافحة؟ - نعم؛ لأني نسخت بها عادة ثلاثين سنة، وهذه المصافحة الأوروبية هي العربون الذي يجب أن يكون بين تركيا والدول المتحابة، وهكذا برهنت لكما أني من رأيكما بوجوب الاتفاق من أجل سلامة المملكة ونجاحها؛ إذن إن العادات تتغير بتغير السنين والأيام، فأجابه فؤاد: لا تتغير لسوء الحظ إلا السنون. - لا شيء يرضيك باشا أفندي حضرتلري. - لا غرابة فقد صرت كهلا ...
ثم صعد السلطان إلى ظهر يخته يتبعه أركان حربه وكبار حاشيته، وكان الربان قد أوقف اليخت أمام سراي طلمه بغجه، وانحدر السلطان منه إلى زورقه المذهب البديع حتى أسفل سلم السراي، وكان العلماء والوزراء والكبراء قد احتشدوا من مدخل القصر حتى القاعة الكبرى؛ لتقديم واجبات التهنئة لجلالة السلطان بالعود المجيد من تلك الرحلة الأوروبية الجديدة في تاريخ آل عثمان.
الفصل الخامس
بطل المستقبل
بينما كان السلطان عبد العزيز يستقبل وفود المهنئين أرجو القارئ الكريم أن يتبع فارسين قد أعمل كل منهما المهماز في شاكلة جواده وهما ينهبان الأرض نهبا مسرعين نحو محلة «أورطه كي» أحدهما: شاب في الثانية والعشرين من عمره أسمر اللون خفيف العارضين اسمه «صلاح الدين بك» من ياوران جلالة السلطان ونجل أحد قواد الدولة المتقاعدين، والثاني: شاب يافع شركسي الأصل اسمه «حسن» لا يعرف له أصل ولا نسب ولا أهل إلا شقيقة فتاة ربتها والدة السلطان في حرمها، وقد ارتبط هذا مع صلاح الدين بك بمودة شديدة، وكان والده مقيما على هضبة بالقرب من قرية «أورطه كي» في بيت بسيط تحيط به حديقة فيها كثير من أشجار الفاكهة المختلفة.
فلما وصلا البيت قفز صلاح الدين عن جواده كالغزال، وأول سؤال وجهه إلى خادمه كان عن صحة والده الشيخ الجليل، ثم سار إلى السلاملك يصحبه صديقه حسن، فضمه والده حميد باشا إلى صدره وعانقه شديدا، ثم أمره بالدخول إلى الحرم لتقبيل يدي والدته نعمت هانم، وكانت جالسة مع السراري تنتقي زهر الورد لطبخه بالسكر، وكانت منذ سمعت إطلاق المدافع تبشيرا بقدوم السلطان تنتظر وصول ابنها بذاهب الصبر، فكانت ترسل كل هنيهة إحدى جواريها تتفقد وصوله، وكان صلاح الدين هذا وحيدا لوالديه، وموضوع حبهما، قد تلقى علومه في كلية فينا الكبرى، وانتقل منها إلى فرنسا حيث أكمل دروسه الحربية في مدرسة «سان سير»، فأخذ عن الفرنسيين ما اشتهر عنهم من الظرف واللطف ورقة المعاشرة، ولم تطمح أنظاره إلا لخدمة وطنه وأمته، فانخرط في سلك دعاة الحرية والمصلحين، وكان ورعا من غير تعصب جريء القلب بطلا مقداما، وقد سر جدا لما عرف أن جلالة السلطان قد انتقاه ليكون من ياورانه ورفيقا له في رحلته الأوروبية، وقد علق على هذه الرحلة كبير أمل من التأثير على أفكار السلطان؛ ليدفعه إلى الصعود في معراج التمدن والحرية. فلما دخل الحرم أخذ يدي والدته يقبلهما بشوق، وقامت الجواري والسراري فرحات مسرورات يقبلن طرف ثوبه، وأكثرهن كن يعددن لرجوعه الأيام والساعات، وقد أملن جميعا أنهن يحظين بالتفات منه، أما هو فاستقبلهن بلطف، ثم تحول عنهن، وانطرح على الديوان بالقرب من والدته يقص عليها أخبار رحلة السلطان.
ولبث ساعتين يروي ظمأ اشتياقه، وإذا بجارية دخلت وأبلغته أن والده الباشا قد اضطر للخروج من أجل رد بعض زيارات، وأن صديقه حسن باق وحده في السلاملك.
فهب صلاح الدين حالا إليه يعتذر عن قصوره، فوجده واقفا بالقرب من النافذة ينقر زجاجها بأصابعه تسلية وإضاعة للوقت، فتقدم إليه صلاح الدين وقال: أرجوك العذر لقلة أدبي ... ولكن من غاب عن والدته شهرا كان الشهر عنده دهرا. - أصبت ... ثم تنهد، وقال: طوبى لمن له عائلة ... أما أنا فإني يتيم وحيد أشعر بثقلي أين ذهبت وكيف اتجهت؟ - ما هذا القول يا حسن ...؟ أتجهل محبة أصدقائك، واعتبارهم لك؟ والأصدقاء الصادقون هم كالأهل، بل خير منهم؛ إذ الإنسان له فيهم خيار الانتقاء.
إذا كان يحق للإنسان انتقاء أخ فأنت أخي الوحيد. - عزيز علي يا حسن ألا يكون عندي شقيقة تثبت لك صدق قولك، ولكن أنت تعلم أني وحيد لوالدي. - وأما أنا فلي شقيقة يا صلاح الدين أحبها حبا شديدا، اجتزت وإياها منذ خمس سنوات بلادنا الشركسية يوم قادونا كالأغنام للبيع في الأستانة، فقدر النصيب أن اشترت والدة السلطان شقيقتي - مهرى - ووضعتها في حرمها ... وهكذا حرمت من مشاهدتها كل حين، ولا يسعدني الحظ بذلك إلا متى انتقل الحرم السلطاني إلى المصيف. - ولكن سمعت اليوم من رئيس الخصيان أن جميع السراري قد ذهبن للاستحمام في البحر عند قصر «بكلربك» الذي هو قبالتنا. - فأبرقت أسرة حسن فرحا، وقال: أحقيقي ما تقول؟ وكيف يمكننا تحقيق ذلك؟ - أمر سهل لا يكلفنا كبير عناء ... تعال نكتري زورقا، ونذهب لتحقيق ذلك، فنسأل رئيس الخصيان إذا كانت شقيقتك بين السراري أو إذا كانت بقيت في السراي الهمايوني، وكيفما كان الحال نكون قد قضينا نزهة لطيفة. - ما أكرم أخلاقك وألطف طباعك ...! هيا بنا. - هذا من واجباتي؛ فقد تركتك وحدك منذ ساعتين وأنا أتنعم بلذة مشاهدة والدتي، فوجب علي الآن التعويض، واكتريا زورقا للحال واجتازا البوسفور، فوصلا في أثناء عشر دقائق إلى شاطئ آسيا إلى بيكلربك، وهي القرية التي بنى السلطان فيها قصرا على شاطئ البحر في غاية من الظرف، فصعد الصديقان إلى باب السراي، فلما رأى الخدم والحشم صلاح الدين عرفوا من ملابسه أنه من ياوران جلالة السلطان، فسأل حسن أحد الخصيان عن مهرى هانم فأجابه أنها في السراي وأنه يمكنه مشاهدتها؛ فسر كثيرا، ثم التفت إلى صديقه صلاح الدين، وقد أخذته الحيرة بوجوده، وقال: ما العمل؟ - خفض عنك، فإني سأتمشى على هذه الطريق المحاذية لحديقة السراي حتى تشماليجة، ثم أعود إلى هذه الساحة أنتظرك في قهوتها فلا تضيع وقتك، واعلم أني أكون مسرورا إذا كنت سهلت عليك هذا الاجتماع، وسأنتظرك بسرور مهما طال اجتماعك، ثم مد يده فصافحه، وتبع حسن الخصي وعاد صلاح الدين وحده متجها نحو الطريق التي سار إليها، فلما صعد إلى أعلى الهضبة وقف أمام بستان السراي يحيط به شجر الجوز الكبير وحائط رفيع لا يرى منه إلا رءوس الأشجار، فوقف يسرح الطرف في ذلك المشهد البديع، وإذا به يسمع صوتا رخيما مناديا. - مهرى هانم ... مهرى هانم ... تعالي التقطي الخوخ ...
وسمع في الوقت نفسه هز شجرة صوت الثمار تتساقط على العشب الأخضر، فرمى بنظره إلى الشجرة فرأى غادة تركية قد تسلقتها كالسنجاب وقد تطاير منديلها الشفاف عن رأسها، فأبان وجها صبوحا وعينين نجلاوين وشعرا حالكا مسترسلا على أكتافها غدائر، وكانت أوراق الشجرة وأغصانها الملتفة حجابها الوحيد، ويظهر أن السبب في مناداتها لرفيقتها بصوت عال كان استلفاتا منها لنظر صلاح الدين الذي لما سمع الصوت ورأى الغادة وقف مبهوتا ذاهلا من جمالها الفتان، وهي لما رأت مركزها الحرج حاولت عبثا الاختباء وراء الأغصان والأوراق، ثم سمع صوتا من أرومة الشجرة يقول: عائشة هانم لم لا تلقين الخوخ؟ - لم يبق ثمر في الشجرة. - إليك هذا الغصن المدلى على الطريق، فقد رزح من كثرة الثمر، فمدت عائشة يدها اللطيفة إلى الغصن فهزته بعنف وتساقط الخوخ على الطريق أمام صلاح الدين، فهم بالتقاطه، وفي الحال فتح باب صغير للحديقة، وخرجت منه فتاة تركية مسرعة لالتقاطه أيضا، فلما رأت صلاح الدين أمامها صاحت مذعورة، وهرولت ناكصة على أعقابها تاركة الأثمار غنيمة باردة له، واغتنمت عائشة فرصة انحناء الرجل لالتقاط الثمر فانحدرت عن الشجرة بعجل، ولم يكد صلاح الدين يتم التقاط الثمر حتى مر به خصي، فنظر إليه نظرة المرتاب، وأراد الدخول إلى البستان، فوجد الباب موصدا، ولم يفتح له حتى عرف بنفسه فقال بصوت عال: مهرى هانم جاء أخوك حسن إلى السراي يريد مشاهدتك. - ها أنذا ... ها أنذا حاضرة.
فابتعد صلاح الدين قليلا احتراما، وإذا بالباب قد فتح، وخرجت منه مهرى يتبعها الخصي ثم أقفل على مهل ريثما تمكن صلاح الدين من النظر إلى عائشة قليلا، ووقفت هي تبسم له ابتسامة الممازحة، فتظاهر هو بأنه عابر طريق، فأخذ في مسيره قليلا، ولكنه عوض أن ينحدر إلى القرية كما كان عزمه صعد إلى الأكمة ثانية، ومنعا للريبة عرج إلى طريق ضيقة محاذية لسياج البستان، ولما ابتعد عن الطريق العامة تسلق شجرة توت كبيرة ملتفة الأغصان، فجعلها مرصدا له يترقب من خلالها الشارد والوارد في الداخل والخارج.
والحب أول ما يكون مجانة
فإذا تمكن صار شغلا شاغلا
دفعت الرغبة صلاح الدين إلى معرفة تلك الغادة الفتانة التي جذبت فؤاده من أول نظرة «وما الحب إلا نظرة بعد نظرة»، وقد أحس في الحال بشعور غريب وعاطفة جديدة لم يلامسا بعد قلبه الخالي.
ولما صار في أعلى الشجرة رأى أن عائشة ليست وحدها في البستان، بل يصحبها أربع من رفيقاتها السراري، وقد جلسن جميعا أمام جدول ماء نمير تحف به أشجار بديعة الائتلاف والاصطفاف مكللة بآلاف من الفاكهة المتنوعة الأصناف، والنهر بفرط صفائه ورقة مائه ينم عما بأسفله من رمله وحصبائه، وكلهن يدخن التبغ اللذيذ، ويأكلن أنواع الفاكهة النادرة، ورأى في آخر الحديقة بيتا خشبيا صغيرا قد أخفته الأشجار الملتفة.
فرأى صلاح الدين من مرصده أن الغادة التي جذبت قلبه واختلبت لبه كانت تقف من حين إلى آخر على طرفي قدميها، فترمي بنظرها إلى الطريق الصاعدة أو تتطلع من خلال السياج كأنها تنتظر مرور شخص، ثم تعود فتجلس مقطبة الوجه، فعرف صلاح الدين أنه هو الشخص المنتظر، وكان يسر كلما رآها جلست عابسة الوجه مقطبة الجبين، ثم تولتها السآمة فقامت وتركت رفيقاتها لتجمع باقة زهر ، وبدأت تتوغل في البستان تقتطف أنواع الزهور حتى وصلت إلى أسفل الشجرة التي كان مختبئا فيها صلاح الدين، فأخذ للحال أثمار الخوخ التي التقطها من الطريق، ورمى بها أمام عائشة، فدهشت لما رأت أن التوت قد أثمر خوخا يتساقط على قدميها، فرفعت نظرها إلى الشجرة، فذعرت مبهوتة لما رأت صلاح الدين جاثما كالطير في أغصان الشجرة، وصاحت صوتا يتخلله الخوف والفرح اهتز له قلب صلاح الدين طربا، فقفز من أعلى الشجرة، وصار في أقل من لمح البصر أمام قدميها، فصاحت به الفتاة: ما هذه الجسارة بك أفندي؟
ثم أخذت منديلها ولفت وجهها الجميل، ثم قالت: أمن أجل ابتسامة تقتحم حدائق الناس وتتسلق الأشجار ...؟ ابتعد حالا وإلا ناديت والدتي ... تأديبا لك. - مهلا هانم أفندي ... إني أعجب كيف يخرج هذا الكلام القاسي من هذا الفم الجميل ... وليس مولاتي الذنب ذنبي؛ فإن جمالك الفتان هو الذي دفعني إلى هذه الجسارة، وإذا كان في وسعك منعي من العود إلى هذا المكان فليس في طاقتك منع قلبي من أن يهواك، وأن يكون بكليته لك. - لا أفهم ما تقول ... ولكن أرى أنك واهم ... لست بجارية لأرضى بمثل هذا الحب. - أصبت فيما قلت، وإنما أرجوك المعذرة؛ لأن جمالك قد أضاع صوابي، واسمحي لي أن أعرفك بنفسي ... إنني أدعى صلاح الدين، وحميد باشا المقيم في «أورطه كي» والدي، وشقيق مهرى هانم صديقتك يخبرك عني طويلا إذا رغبت المزيد، وأعلل النفس برؤيتك مرة أخرى.
فلم تجب الفتاة ببنت شفة، ولكن لمح صلاح الدين أن عينيها تضحكان سرا ... فحياها التحية التركية قائلا: أي والله هانم أفندي. - أي والله.
ثم تسلق الحاجز وقفز إلى الطريق وهو يقول: لله درها ما أفتن جمالها! وأكملت عائشة مسيرها تقول في نفسها لله دره ما أنضر شبابه وأرشق عبارته!
وعاد صلاح الدين عند ذلك إلى القهوة فوجد صديقه حسنا بانتظاره، فلما رآه ابتسم له قائلا: قد رأتك شقيقتي الساعة. - وكيف عرفتني؟ - كنت أريتها رسمك؟ وقلت لها: انظري هذا الأخ اللطيف الذي لي، وقد أعجبها جمالك وشبابك. - هذا ولا شك لطف منها. - وأنت هل رأيتها؟ - كلا لم أتجاسر على رفع نظري إليها؛ فضلا عن أنها كانت محجبة بيشمق كثيف. - نعم، هذه إرادة السلطانة؟ إذ لا يخفاك أنها معاكسة للأفكار الجديدة. - وهي أفكار السلطان أيضا، فإنه عاد من رحلته الأوروبية أكثر تعصبا من ذي قبل، وأشد استبدادا.
فلم يجب حسن على هذا الكلام؛ لأنه كان من حزب تركيا القديم الكاره للأفكار الجديدة والإصلاحات الأوروبية.
وكان السلطان عبد العزيز يفضل سراي بيكلر بك على جميع قصوره بعد سراي «طلمه بغجه»، فكان ينتقل إليها مدة فصل الصيف تاركا شئون الدولة ملقيا مهام المملكة على عاتق الصدر الأعظم عالي باشا الذي كان صارفا جل اهتمامه في إخماد ثورة كريت.
وبينما كان السلطان محتجبا في قصره معتزلا أشغال الدولة التي كان مصوبا إليها أولا جل اهتمامه كان هوبار باشا محاصرا سيرا بالأسطول العثماني، وفؤاد باشا يقدح زناد فكره آناء الليل وأطراف النهار في سبيل مرضاة سفراء الدول في الأستانة، وكان مدحت باشا واليا لولاية الطونة، فاستدعي إلى الأستانة، وقلد رئاسة شورى الدولة.
ولا يختلف اثنان في أنه لو سلمت مقاليد الدولة في ذلك العهد إلى هؤلاء الوزراء الثلاثة لسلمت من العطب، وأمنت العثار، واستغنت عن السلطان عبد العزيز الذي كان قد بدأ فيه حب الأثرة والاستبداد، وصرح بأن ما أظهره قبلا من الميل إلى الحرية والإصلاحات ليس إلا سياسة منه اكتسابا للأميال وتهدئة للأفكار الثائرة.
ففي صباح شهر سبتمبر 1867م (الواقع في 4 شعبان) أمر السلطان أن يسرج له جواد عربي يخرج عليه للنزهة، فسار وحده بين البساتين والحدائق صعدا، يتبعه من بعيد أحد يورانه حتى وصل إلى أعلى الأكمة، فوقف في المكان الذي وقف فيه قبله صلاح الدين منذ شهرين يسرح الطرف في ذلك المنظر الجميل، وإذا به يسمع حديثا همسيا داخل البستان، فدفعته الرغبة والريبة إلى معرفة المتحدثين ورؤيتهم، فدخل البستان من الباب الصغير. •••
وكانت عائشة جالسة على العشب الأخضر متكئة على صدر رفيقة لها شركسية جميلة الوجه بهية المنظر، وأمامها امرأة عجوز راقدة في ظل شجرة.
فتنهدت الشركسية، ثم أكملت حديثها قائلة: نعم إني أحب السلطان، ولا أتجاسر على رفع نظري إليه، فإذا نظرته ارتجفت أعضائي ... ثم أخذت يد رفيقتها، وقالت لها: ضعي يدك على قلبي فتسمعي دقات اختلاجه ... ثم قالت: ما الذي جاء به إلى هنا يا ترى هذا الصباح ...؟ وهو كسول لا ينهض من رقاده حتى الظهر. - لعله عرف بمجيئك إلى هنا، ويحتمل أن يكون قد جاء يبحث عنك. - كفاك هزءا وسخرية ... أنت سعيدة بحبك لألطف شاب في تركيا فهنيئا لك، أما أنا فقد تطاولت في حبي إلى ما وراء الآمال، وبنيت قصورا شاهقة لأوهامي. - لا ... ألست بربة الجمال ...؟ وأنت في حرم والدة السلطان، تتسنى لك رؤية السلطان كل يوم. - نعم، فإني كل يوم «أشاهد معنى حسنه فيلذ لي»، ولكن نحن السراري والجواري نعد هنا بالعشرات والمئات وكلنا جميلات، وهو مع ذلك قليل الاكتراث بنا جميعا وخصوصا بي، مع أن نظري لا يقع عليه مرة حتى أنتفض «كما انتفض العصفور بلله القطر». - ما أشد حبك وأعظم تعلقك مهرى ...! بمثل هذا الحب تعلقت بصلاح الدين بك منذ شهرين، واشتد بك الوجد والهيام إلى درجة أن دبت في قلبي عقارب الغيرة، ثم صرت هائمة بحب السلطان، وسنرى إذا كان لهذا الحب دوام. - ما الحيلة يا عزيزة ... وقد حكم علينا الدهر بهذه المعيشة؛ فلا بد أن يتعلق قلبنا بشيء سواء كان أهلا له أو لم يكن ... تذكرين القصة التي قصتها فاطمة قادين على مسامعنا ... أتظنين أن تلك المسكينة أحبت ذلك الباشا السمين الغليظ الكبد الذي مات متخوما؟ - فأجابت عائشة: وا حسرتاه ... لقد كانت ولادتي سببا لورودها حتفها، وهذا سيكون شؤما علي كل أيام حياتي، ولم تتم عائشة هذا الكلام حتى صاحت مهرى هانم مذعورة؛ لأنها لمحت عيني رجل ينظر إليهن من خلال سياج الورد كأنه يتلصص لسماع حديثهن، وانذعرت القادين من رقادها الهني، فقامت تنظر من ذا الذي تجاسر أن يرسل نظره إلى الحرم السلطاني. •••
وكان صلاح الدين يمر كل يوم من ذلك المكان، فيلقي من فوق السياج باقة من الزهر الجميل إلى عائشة مليكة قلبه، وكانت العجوز جاهلة أو متجاهلة حادثة الخوخ حتى كتمتها عن الجميع، ولم تخبر بها إلا رفيقتها مهرى هانم الشركسية.
أما صلاح الدين فكان قد أباح بسره إلى والدته نعمت هانم، وكشف لها عن لواعج غرامه، وكانت تعرف جميع عائلات الأستانة الكبيرة، فأخذت تسعى منذ ذاك العهد وراء معرفة أصل عائشة هانم التي هام ابنها بحبها، فقصدت جميع العائلات، فلم يهدها أحد إلى خبرها، فسارت إلى الحمامات، وهي - كما لا يخفى في الشرق - جرائد المدينة يقف الإنسان فيها على جميع الحوادث المحلية، وغاسلاتها يعرفن جميلات البلاد أصلا وفصلا، لكنها لم تستفد شيئا. فكلف صلاح الدين صديقه حسنا بأن يستعلم شقيقته مهرى هانم، فتجاهلت ولم تخبره أمرا، وأخيرا عزمت والدته على أن تقصد العجوز فاطمة قادين والدة الفتاة.
فقامت ذات يوم قاصدة سراي «بيكلر بك» متخذة حجة بسيطة، وسألت مقابلة الباش قادين؛ أي رئيسة الحرم، وكانت من أعز صديقاتها، فاقتبلتها بمزيد الأنس والترحاب، فكشف لها نعمت هانم غمتها، والتمست منها أن تسمح لمهرى هانم بمرافقتها إلى بيت عائشة هانم، فأجابتها الصديقة: ابقي هنا إلى ما بعد صلاة الظهر، حيث نتناول الطعام معا، وسنخرج اليوم جميعا إلى البستان، وهناك ربما يتسنى لك معرفة ما تريدين من مهرى، أو أننا نخرج بحجة النزهة إلى كرم العنب، فتذهبين إلى بيت عائشة وهي كما لا يخفاك جارتنا؛ فقبلت نعمت هانم هذه الدعوة بمزيد الشكر والامتنان.
ولم يكن مدعوا إلى تلك النزهة إلا نعمت هانم، فخرجن إلى البستان، وجلست السراري والجواري على شكل دائرة منتظمة، ولما كانت مهرى قد امتازت عنهن بمعرفة ضرب القيثارة وبالصوت الرخيم طلبن إليها جميعا أن تطربهن.
وكانت جميع السلطانات في جهة أخرى من البستان يفرق بينهن وبين السراري فرقة من الخصيان. فلما فرغت مهرى من توقيع ألحانها صفقن لها وامتدحنها، واغتنمت نعمت هانم الفرصة فتقدمت إليها، وأطنبت في الثناء عليها، ثم أخذتها بيدها ممازحة، وساقت الحديث إلى صديقتها عائشة، فأجابتها مهرى بكل صراحة وحرية ضمير على ما تريد، لكن لم تلبث طويلا حتى صمتت ولم تنبس ببنت شفة. فقالت لها نعمت هانم: لم هذا الصمت يا حبيبتي؟ وأنت تعلمين بأن ابني هائم بحب تلك الفتاة، ويريدها زوجة له، أيوجد سر غامض في ذلك البيت؟
فأجابت مهرى متنهدة: نعم. - أرجوك إذن يجب إطلاعي عليه؛ نعم، إن ابني لا يهمك أمره، ولكن لي الأمل ألا تخيبي رجاء والدة ابنها هو وحيدها وفلذة كبدها، فأستحلفك بحرمة والدتك ألا تخفي عني شيئا؛ لأن عليها تتوقف سعادة صلاح الدين، وعليه تتوقف سعادتي وحياتي. - لا أعرف لي أما، فإننا نحن الشركسيات لا نعرف لحب العائلات والوالدات معنى، وأرجوك أن لا تلحي علي بالأسئلة؛ إذ لا يمكنني الجواب.
فصمتت نعمت هانم برهة حزينة كئيبة، وقد أثر فيها الكلام، فقالت لها مهرى: لا غرو أن أدهشك كلامي، ولكن متى علم السبب بطل العجب: إني غائرة من عائشة. - كيف ذلك؟ إذن أنت تحبين أيضا صلاح الدين. - لا كنت قد أحببته قبلا، وأما الآن فقد تخليت عنه لعائشة وحدها، وخلفه في قلبي آخر لا أبدله بأحد في العالمين وروحي وحياتي فداه. - أتحب عائشة يا ترى ذلك الآخر؟ - كلا هي لا تحبه ... وإنما قد استلفتت أنظاره، وهذا كاف لإيقاد نيران غيرتي؛ لأنها متى عرفته لا تستطيع الثبات أمامه. - إذن يوجد طريقة سهلة للتخلص منها، وهي أن يتزوج صلاح الدين بها، فيخلو لك الجو وحدك. - لا ... يجب تأجيل هذه الزيجة إلى أجل ما؛ حبا بصالح عائشة وصالحي. - هذا لغز معمي يعسر علي حله ... ولكن من يقدر يا ترى على معاكسة هذا الاقتران؟! - أنا ...
فكادت نعمت هانم تتميز غيظا من هذه القحة، فصاحت بمهرى يظهر أنك قد نسيت كونك جارية، فتجاسرت على مثل هذا الكلام، ثم ذهبت إلى صديقتها الباش قادين وقصت عليها الحديث، وقالت لها: تحذري من هذه الفتاة. - خففي عنك، فإني سأعيد إليها صوابها ... ولكن اغتنمي الآن فرصة وجودك، فسيري إلى البستان المحاذي الخاص بعائشة هانم، واستخبري عما تريدين منها رأسا ... إذ لا أخالها تخفي على والدة محبها شيئا.
فقامت نعمت هانم للحال مسرعة إلى البستان فدخلته، فلم تجد إلا جارية سوداء وبعض السيدات يتنزهن، فسألتها: من هي صاحبة البستان من الخواتين؟ - لا نعلم، فلم نجد فيه أحدا لما دخلناه.
فرأت نعمت هانم بيتا صغيرا في آخر البستان، فقصدته، وقرعت الباب فوجدته موصدا، فعادت بخفي حنين.
وإذا بها التقت برجل طاعن في السن يظهر عليه من ملابسه أنه أحد الخدم، فسألها: ماذا تريدين هانم أفندي؟ - كنت أرغب في مقابلة عائشة هانم.
فنظر إليها الخادم نظرة المرتاب، وقال لها: لعلك تكونين من السراي؟ - كلا، لست إلا زائرة، وأنا مقيمة في «أورطه كي». - أأنت والدة صلاح الدين؟ - نعم، أنا نعمت هانم. - بارك الله فيك ... خرجت مولاتي هانم أفندي ووالدتها هذا الصباح، ولا يرجعان إلا بعد خمسة عشر يوما. - جزيت خيرا. - أرجوك أن تخبري صلاح الدين بك بذلك. - لا بد ... ولكن هل لك أن تفيدني عن سبب هذا التغيب؟ - لا أعلم.
فعادت نعمت هانم إلى السراي فوجدت الجميع في لهو وزهو ورقص وطرب.
وفي ذلك المساء بعينه لما جاءت الباش قادين لافتقاد السراري في أسرتهن وجدت سرير مهرى هانم فارغا، لم يفرش بعد، فاستشاطت غيظا، وقد وهمت أن مهرى خالفت النظام، لكن لما سألت الخصي قال لها: إن السلطان قد استدعاها.
فقلب هذا الالتفات الشاهاني حال مهرى من شيء إلى شيء؛ إذ بعد أن كانت جارية تتزلف إلى الخادم والخصي والجارية والرئيسة أصبحت في ليلة واحدة الآمرة المطاعة يتزاحم من في السراي للتزلف إليها؛ لأنه إذا أسعدها الحظ فحملت يوما تصبح حالا من سلطانات آل عثمان ...
ولم يعد أحد يذكر عائشة هانم بشيء، كأن سعد رفيقتها مهرى قد حجب سعدها.
الفصل السادس
عائشة هانم
إذا رام محب أن يقف على مقام حبيبته ومليكة فؤاده سهل عليه ذلك؛ لأن قلبه كثيرا ما يكون هاديا له ودليلا. فلم تنقض الخمسة عشر يوما التي ضربها أحمد لنعمت هانم حتى كان صلاح الدين قد عرف مكان حبيبته ومقامها، فقد كلفت هي خادمها أحمد هذا أن يخبر صلاح الدين بعدم استطاعتها الرجوع إلى «تشيمالجه» وببقائها في بايكوس تمرض والدتها، فأخبر أحمد صلاح الدين بذلك، ورجاه أن يبقي الخبر مخزونا في أعماق فؤاده، فقال له صلاح الدين: أنت تعلم مقدار حبي لعائشة هانم وكفى ... ولا أطلب منك مزيدا، وأعدك بألا أطلع أحدا على مقرها حتى ولا والدتي. - أي بك أفندي أرجوك عفوا إذا وجدتني قلقا ملحا بوجوب كتمان السر ... إذ لو علم الأعداء المحيقون بهذه الفتاة المسكينة التي أوصاني والدها بالاعتناء بها قبل وفاته لعذرتني. - ولكن من الغريب أن يكون لهذه الفتاة السليمة القلب أعداء ألداء وأخصام أقوياء ... - نعم وا أسفاه ... لو كنت على الأقل زوجها لحسن حظها ... إن قلبي يرتجف جزعا كلما فكرت بأن فاطمة هانم أصبحت عجوزا هرمة، وأن الموت يترصدها كل هنيهة ... فإلى من نكل أمر تلك المسكينة بعد ذلك يا ترى؟ - خفف عنك ستكون - إن شاء الله - عائشة قرينة لي إذا رضيتني بعلا لها، أدفع عنها الأخصام، وأحميها من طوارق الحدثان، وغدر الأعداء. - وأي أعداء ... إن أسماءهم لتحرق الشفاه. - ولكن لسنا والحمد لله في عهد السلطان محمود ... فالعدالة مرعية في تركيا الآن. - لا عدالة إلا في السماء مولاي. - هذه أفكار قديمة العهد. - أي بك أفندي أنت شاب ترى كل شيء حسنا زاهيا، وقد رأيت السراي الهمايوني مفروشا بالدمقس الأوروبي فوهمت، لكن البكاء والصراخ ملآ جوانب القصر فلا يصل إلينا شيء من الفظائع التي تجري تحت طي الأطالس. - تلك خرافات قديمة، والذي تربى نظيري في العواصم الأوروبية لا يعيرها كل سماعه. - هذا هو السبب يا مولاي في جسارتي على هذا الكلام؛ لأني قضيت عمري بين أحذية الباشاوات، وفي زوايا السرايات، وأقسم لك إنا لا نزال كما كنا في أيام عثمان الفاتح.
فأثر في صلاح الدين هذا الكلام الخارج من فم خادم ساذج عرك الدهر طويلا، وذاق حلوه ومره، فقال له: أتظن إذن أن خطرا يتهدد عزيزتي الهانم؟ - نعم يا مولاي، عسى أن يشفق الله على تلك المسكينة.
وأراد أن يكمل حديثه، فرأى أنه قد تجاوز الحد. فقال: لا أريد تكديرك، فكفى ما صرحت لك به، ولا تنس أن فاطمة هانم ترغب في مقابلتك ... ففي أي يوم تريد؟ - هذا المساء بعد صلاة الغروب. - إذن أنتظرك عند موقف البواخر.
ثم ودعه وانصرف، وانقلب صلاح الدين إلى بيته يفكر فيما يكون ذلك الخطر الذي يتهدد حبيبته ومليكة فؤاده.
وفي العشاء وصل صلاح الدين في الموعد المضروب متنكرا، وقد ارتدى ثوبا رمادي اللون، فكان أحمد في انتظاره، فسار أمامه في طرق بايكوس الضيقة حتى وصل إلى أمام بيت خشبي صغير، فتناول أحمد مفتاحا كبيرا، ودعا الضابط إلى السلاملك.
وكان ذلك البيت الصغير ملكا لفاطمة هانم تمكنت من مشتراه من فضلات نعم المرحوم محمد باشا داماد وعطاياه، وفي هذا البيت أخفت عائشة منذ ست عشرة سنة خوفا عليها من انتقام السلطانة علية هانم، وكان الحزن والفرح يتلاعبان بقلب صلاح الدين؛ تارة يتغلب عليه الحزن خشية من مفاجأة موانع قوية تحول دون مرامه، وطورا يسود على قلبه الفرح؛ لأنه أصبح ومليكة فؤاده تحت سقف واحد، وإذا بفاطمة هانم دعته إلى دخول غرفتها في الحرم، وكانت قد تربعت على ديوان من الحرير الدمشقي وتقنعت بمنديل ناصع البياض، ولما رأت صلاح الدين يتردد في الدخول صاحت به: تفضل بك أفندي أنا، عجوز لا خوف علي من محادثة الرجال، وإذا كنت قد استدعيتك لمفاوضتك خلافا للعادة التركية التي تقضي على الأم ألا تتظاهر بالاهتمام في تزويج ابنتها فذلك الأمر مهم، وإذا كنت فضلت مقابلتك على مقابلة والدتك التي تنازلت إلى زيارتي، فهو لأن الوقت ضيق والأمر مستعجل حرج ... إني شاعرة بك أفندي بدنو أجلي، ثم التفتت إلى الباب لترى إذا كان وراءه منصت، وجلس صلاح الدين على طرف الديوان باحترام خافض النظر يتساءل إذا كانت تلك العجوز هي والدة مليكة فؤاده حقيقة أو أن سرا يرفرف فوقها. فقال لها صلاح: قد أحسنت بما فعلت من حيث استدعائي، والله أسأل أن يطيل عمرك ويحفظك طويلا لابنتك، أما أنا فإني مستعد للإقدام على كل شيء برهانا على اعتباري لك وامتثالي لأوامرك، وخصوصا لحبي الشديد لعائشة هانم. - إذن أنت تحب الابنة بإخلاص تام. - نعم، أحبها حبا شديدا من كل جوارحي. - وهل ترى من نفسك قوة لاقتحام الأخطار المحدقة بها توصلا إلى الاقتران؟ - نعم، لا شيء يثنيني عن حبها. - إذن حبك متين، وليس حبا زائلا يتكسر في أول ساحل. - أجل هانم أفندي حبي أصدق مما تظنين، وأمتن ما ضرب في الحب عهود، فهو ولئن نشأ عن نظرة لا يقل شيئا عما لو كان تولد عن أيام وسنين، فكأن الشاعر أنشد لسان حالي حين قال:
وما هي إلا لحظة بعد لحظة
إذا نزلت في قلبه رحل العقل
جرى حبها مجرى دمي في مفاصلي
فأصبح لي عن كل شغل بها شغل
فقالت العجوز: ولكن أتعرف من هي عائشة؟ - هي جميلة وطاهرة، وقد اختارها قلبي عروسا لي وكفى. - ألا تخشى أن تكون من بيت وضيع. - بيتها كيفما كان هو خير عندي من قصور الملوك والأمراء. - جزيت خيرا ووقيت ضيرا ... قد تحقق الآن لدي ما كنت سمعته من الثناء عليك، وكشفت لي ما أنت تطويه من الشهامة والمروءة التي أقر لك بها أعداؤك قبل أصدقائك، وكفاك فخرا فإن الفضل ما شهدت به الأعداء. ثم تبسمت وقالت: أتظنني كنت جاهلة جولانك حول البستان، وكيف كنت وعائشة تتسارقان الحديث؟ كلا، كنت واقفة على كل شيء؛ إذ لا شيء يخفى على لب والدة، أو بالحري على صديقة مخلصة، فقد أزف الوقت الذي يجب أن أبوح لك فيه بسري ... ثم صمتت قليلا والتفتت إلى الباب، ثم قالت همسا ... أي بك أفندي نعم لست بوالدة عائشة ...
فلم يجب صلاح الدين بشيء؛ لأنه كان قد خامره الريب بذلك، فقالت: يجب أن أقص عليك الخبر، وأطلعك على كل شيء؛ لتعرف كم كلفت الحورية التي أحببتها من الدم والدمع ... وشرعت تقص عليه مأساة إقبال هانم - كما ذكرناها سابقا - فارتجف قلب صلاح الدين من تلك القسوة البربرية، وطار قلبه شعاعا لما فهم خبر مقتل والدة حبيبته بالتفصيل فصاح: ولكن أيمكن ارتكاب مثل هذه الفظائع في أيامنا هذه؟ - نعم ... الانتقام هائل، وأشد هولا منه متى كان لا مرد له. - من يعلم هانم أفندي إذا كان لا يأتي يوم يخشى فيه السلاطين رعاياهم. - لسنا بعد لسوء الطالع في أوروبا، والسلطان لا يزال الآمر المطلق بلا قيد ولا نظام ... هذه مشيئة الله. - كلا إن الله - سبحانه وتعالى - لا يرضى بخراب مملكته، فهي صائرة إلى الخراب والاندثار إذا بقيت في أيدي الظلمة العتاة. - أرجوك بك أفندي بإلحاح ألا تتداخل في الأحزاب السياسية ... دع التقادير تجري في أعنتها، ودع الرجال يسيرون كيفما شاءوا، وأنت إذا شئت أن تكون عائشة عروسا لك إياك إياك والانضمام إلى الحزب الذي يلقب نفسه بحزب الإصلاح، أولئك الذين عادوا من أوروبا وقد ملئوا رءوسهم من الأفكار الحرة الجديدة التي يستحيل إجراؤها، فيجب على الإنسان أن يحب الله قبل عائلته وعائلته قبل وطنه ... - لا هانم أفندي لا أخالك تشترطين علي جحود وطني ... ولكن خفضي عنك: فلي يمين أساعد بها وطني، وقلب أحب به امرأتي ... •••
وعاد صلاح الدين إلى «أورطه كي» عند منتصف الليل، فقضى ثلاثة أرباع الساعة في البوسفور؛ لأن الهواء كان معاكسا، فلما وصل إلى قرب البيت وجد الأنوار تتدفق من جميع نوافذه، فظن أن زائرا كريما جاءهم في أثناء غيابه، فلما دخل السلاملك وجد صناديق سفره وأمتعته توضع فيها باعتناء، فصاح بالخدم: ما هذا؟ ولمن هذا الاستعداد؟ - لسفر سعادتك. - لسفر من؟ - لسفر سعادتك؛ إذ ميعاد السفر الساعة واحدة، وها قد أزفت الساعة.
فحار صلاح الدين في أمره، وظن نفسه في منام، أو أن الخدم اعتراهم الجنون، فدفع باب غرفة الاستقبال فوجد والده الشيخ مع صديقه حسن الشركسي وبعض الجيران بانتظاره يتحدثون. فصاح به والده قد أطلت الغيبة ونحن هنا جميعا بانتظارك، وقام حسن يصافحه، وهو يقول: إني بانتظارك منذ ساعتين، وقد جئت ناقلا إليك إرادة سنية تقضي عليك بالسفر الساعة مع ك ... باشا الذي سيركب الباخرة «سلطانية» إلى مرسيليا قاصدا باريس لتقديم أربعة رءوس من الجياد العربية هدية إلى الإمبراطور نابليون الثالث، وقد اختار جلالة السلطان أن تكون بمعية الباشا. - ولكن من ذا الذي أشار على السلطان باختياري لهذه المهمة، فلا أخفي عليك بأني مستاء من هذه البعثة خصوصا في الظروف الحاضرة. - أعرف ذلك ... ولكن لا أدري سبب هذا الاختيار، ومهما كان الأمر فغيبتك ستكون قصيرة الأجل إن شاء الله. ثم انزوى مع صديقه وقال له همسا: بلغني أن السبب في هذه البعثة هو أن السلطان قد باغتك صباح يوم تحدث فتاة مسلمة على قارعة الطريق ... طريق بيكلر بك ... أتذكر ذلك، وأنت تعلم صرامة السلطان في وجوب الحرص على عوائد المسلمين ... وقد جاء من أوروبا أكثر صرامة من ذي قبل. - ولكن هذه الفتاة هي خطيبتي ... وستكون عن قرب امرأتي. - السلطان يجهل هذا على كل حال، ولكن العقاب ليس بصارم ... - فتنهد صلاح الدين من قلب مقروح؛ لأنه كان مضطرا للسفر إلى أوروبا دون أن يمتع طرفه برؤية مليكة فؤاده ووداعها، ثم التفت إلى صديقه، وقال له: أي حسن أنت صديقي وخليلي، وأنت سندي وعمادي، وأنت عالم بحبي لعائشة، فهل أحتاج بعد الآن إلى توصيتك بها ... كن لها أخا وسندا؛ لأن أعداءها قديرون. - لا تخش شيئا، وضع ثقتك بأخيك، وتوكل على الله. - إذن لم يبق علي إلا وداع والدتي، انتظرني قليلا ... سنعود إلى إستانبول سوية.
ودخل صلاح الدين إلى الحرم يقضي لدى والدته واجب الوداع، وعاد حسن إلى السلاملك والناس يبالغون في ملاطفته، ويهنئونه بترقية رتبته إلى أميرالاي؛ إذ علموا أن السبب كان حظوة شقيقته مهرى في عين السلطان عبد العزيز، وكانت قد أحست الباش هانم في السراي الهمايوني بعد أن كانت جارية فيه.
وركب في ذلك المساء بعينه ك ... باشا وصلاح الدين بك الباخرة «سلطانية» فأقلعت في الحال.
وبعد ثمانية أيام وصل إلى وزارة الخارجية في الأستانة التلغراف الآتي الذي ضرب في إيجازه المثل، وطاف العواصم الأوروبية، وهو بنصه وفصه:
نحن والبهائم وصلنا بصحة جيدة .
الفصل السابع
صيرورة السرية سلطانة
لا غرو أن تشوق القارئ إلى معرفة الكيفية التي توصلت بها مهرى إلى صيرورتها محظية السلطان عبد العزيز ... على أن السبب بسيط:
وإذا أراد الله نصرة عبده
كانت له أعداؤه أنصارا
والحظ إذا ساعد الإنسان أوصله إلى معارج العز والفخار، وهذا رفع مهرى هانم إلى مقام سلطانات آل عثمان بعد أن كانت إحدى جواري والدة السلطان. أما الواقعة فهي أن السلطانات رغبن في يوم قد صحا جوه واعتل هواؤه أن يتغذين في بستان بيكلربك، وصادف ذلك النهار أن خرج السلطان إلى نفس البستان، ودخل في أحد الكشكات الجميلة المتفرقة في أنحاء الحديقة، وقد التفت حوله الأشجار الكثيفة والرياحين والأزهار بأبهى مشهد وأحسن منظر.
ولم يكن السلطان في تلك الساعة مهتما بتسريح طرفه في تلك المناظر البهجة التي يحق له أن يفاخر بها ملوك الأرض طرا. بل كان واقفا وراء ستار حريري مرسلا بنظره إلى الطريق كأنه ينتظر مرور شخص تهمه معرفته، فبعد أن انتظر قليلا عيل صبره، فالتفت إلى خصيه ونديمه الخاص وقال: قد بكرنا بالمجيء فحرارة الشمس لاذعة، ولا أظنهما تخرجان الساعة. - كلا بل قد خرجتا مثل هذه الساعة الاثنين الفائت. - وهل أنت واثق أنهما غاية في الجمال والبهاء، وأنهما تحبانني؟ - نعم، إنهما غاية في الحسن ونهاية في الجمال، وإن إحداهما صرحت بهيامها بجلالتك. - وهل أنت واثق من أنها صرحت بذلك عفوا من غير قصد ولا أمل أن يسمعها أحد فينقل كلامها إلي. - نعم، باغتها تبوح بسرها همسا إلى رفيقتها دون أن تراني أو تشك بي. - كنت أحب أن أسمع هذه النجوى بأذني، فقد سمعت النساء كثيرا يقسمن بحبي، لكن لا أعرف إن كن يبحن بحقيقة ما يضمرن. - ولكن هذه مولاي من حرم جلالة السلطانة الوالدة. - وكيف لم ألمحها حتى الآن؟ - يصعب تمييز الجمال متى كثر ... ولكن ها هي قادمة لتفتح الباب الصغير لصديقتها وجارتنا. - فأطل السلطان فوجد عائشة قد دخلت وطوقتها مهرى بذراعيها فتعانقتا طويلا، ثم دخلتا البستان سوية فنادى السلطان الخصيان أن يتبعوه، وكان كلما سار خطوة وقف يلهث من التعب؛ لشدة سمنه وضخامة جثته، لكنه كان على الرغم من ذلك باقيا لذلك العهد جميل الصورة بهي الطلعة مهاب المنظر، فلما وصل إلى أمام الباب تقدم إلى الطريق، وعاد على أعقابه غاضبا مذعورا، فصاح الخصي: ما بال جلالتك؟ - لسنا وحدنا في القنص.
فتقدم الخصيان فوجدوا فارسا مرتديا حلة ياوران واقفا ينظر إلى الفتاتين المتعانقتين، وكان هذا الفارس صلاح الدين، فلما أبصرته مهرى ورأت السلطان يباغتهما أيضا أفلتت يدها من صديقتها، واحتجبت وراء غيضة ترتجف خوفا، وما إن لمحت عائشة صلاح الدين حتى تقدمت إليه ومدت له يدها فقبلها مرارا، ثم اتكأت على حصانه، وكشفت نقابها عن محياها الجميل تبسم له، وقد رقص فؤادها طربا.
فوقف السلطان خمس دقائق ينظر إلى ذلك المشهد الحبي الذي لم يكن قد شاهده من قبل، ولربما أخذته الغيرة من صاحبه، وحسده على حبه وشغف قلبه بحبيبته، وقد لمحت مهرى ذلك فكادت تذوب غيرة وحسدا.
ثم أقفل السلطان الباب بعنف قائلا: أهكذا تثقف بناتنا المسلمات وأولئك الشبان الذين نرسلهم إلى أوروبا، هم الذين يحملون إلينا هذه العادات المذمومة، ويسمونها التقدم والمدنية فيدوسون شريعتنا المقدسة. قال هذا وسار في طريقه.
فتقدم خصي السلطان الخاص إلى مهرى، وكان قد شاهدها وانتهرها قائلا: أتعرفين «إقبال» هذه؟
فانتفضت مهرى عند سماعها هذا الاسم (إقبال) وأجابت: لا أعرف ماذا تعني بقولك هذا؟ - منذ كم من الزمان هذه الفتاة مقيمة في بيكلربك؟ - لا أعلم بالتمام. - أخطيبة صلاح الدين بك هي؟ - لا أظن. - كيف لا تظنين، أنت صديقتها وخليلتها وموضع سرها، وتجهلين هذه الأمور كلها؟
فصمتت مهرى ولم تجب بحرف. فقهقه الخصي وقال: من الحمق سؤالك؛ لأني عالم بكل شيء، ثم تركها وانصرف.
فوقفت مهرى مبهوتة تنظر إلى ما حولها مفكرة بما شاهدت وما سمعت، وظنت أنها في منام وقد تجاذب قلبها عاملان؛ الصداقة والغيرة؛ إذ إن كلمة واحدة منها كانت كافية لهلاك صديقتها أو لنجاتها، لكن غلبت الصداقة الغيرة، فاستدعت إحدى جواريها المخلصات لها ، وقالت لها: أتحبينني يا زعفران ؟ - لم هذا السؤال مولاتي؟ - أريد منك القيام بخدمة هامة. - مري بما تريدين. - يجب أن تعديني بكتمان السر. - ثقي واطمئني. - يجب أن تكوني حريصة. ارتدي ملاءتك بالعجل، وخذي غرشا بيدك، فإذا سألك أحد إلى أين تخرجين أجيبي أنك ذاهبة لمشترى حلوى. - وبعد ذلك. - فإذا وصلت إلى طريق بيكلر بك المؤدية إلى تشماليجة تيممين بستان فاطمة العجوز. - والدة صديقتك عائشة. - هي بعينها فتدخلين عليها، وتهمسين في أذنها قائلة: أرسلتني مهرى إليك لأخبرك بأن الخصي عليا عالم بكل شيء، وبوجودك في بيكلربك. - أهذا كل ما تريدين؟ - نعم، أتذكرين ما قلت؟ - نعم أذكره جيدا. - العجل العجل يا عزيزتي، وإذا صرت يوما ما سلطانة ...
فوقفت الجارية وقالت: ماذا تعملين لي ...؟ - أتحفك بالهدايا والعطايا ... العجل العجل. •••
وبقي السلطان ذلك النهار بطوله مقطب الوجه، لا شيء يسره ولا المملكة تشغله، فلما غابت الشمس وطلع القمر يرسل أنواره اللجينية على مياه البوسفور، وقد سكن الهواء، وساد السكون قام السلطان إلى شرفة قصره، واتكأ على الحاجز الحديدي مسرحا طرفه في ذلك الفضاء، فانتعش فؤاده وارتاحت نفسه، وإذا به يسمع صوتا حنونا رخيما ساعده سكون الهواء على سماع إيقاعه وألحانه وكلامه جميعا، فرقص له فؤاده طربا واهتزت جوارحه، وكانت الأنشودة غرامية صادرة عن قلب قرحه الحب وبرحه الشوق، فانتصب السلطان وكاد يقطع أنفاسه كي لا تفوته نغمة من أنغامه، ثم نادى خصيه وقال له: تعال واستمع. ما هذا الغناء في البستان؟ - لا بد أنه صوت جارية من جواري حرم والدة جلالتك، فقد دعت السلطانات هذا المساء للعشاء في البستان. - اذهب وجئني بها فقد أعجبني غناؤها.
وانقطع الصوت، فقام الخصي مهرولا إلى أعلى البستان امتثالا لأمر مولاه، فوجد السراري جميعا قد أحطن بمهرى إحاطة الهالة بالقمر، وقد ظللنها بالأزهار والرياحين لحسن غنائها، فلما أطل الخصي صحن به جميعا تعال واستمع غناء مهرى، فأجاب: صوتها أرخم من بعيد. - لا لا هو أرخم بكثير من قريب. - تعالي مهرى لنذهب إلى ما وراء هذه الغيضة فيتحققن قولي، فصحن جميعهن لا بأس اذهبي يا مهرى ، وسنبقى نحن هنا لنرى من المصيب.
فأخذ الخصي بيدها وسار بها قاصدا الكشك الذي كان السلطان بانتظارها فيه، فلما ابتعدا قليلا خافت مهرى من طروء أمر ما، فقالت للخصي بصوت مرتجف إلى أين تقودني؟ - جلالة «البادشاه» يرغب في سماع غنائك، فأفرغي الجهد في الإجادة، فلما وصل إلى أمام الباب دفعها أمامه، وقال: هذا هو الكناري يا مولاي.
فلم يتمالك السلطان من إخفاء إعجابه بجمال تلك الغادة الهيفاء، وقد صبغ الحياء وجهها فزادها جمالا، وكانت القيثارة ترتجف بين يديها، فقال لها السلطان متلطفا باسما ادخلي يا بنية ... لا تخافي، وتناول الخصي وسادة من المخمل وطرحها وراء مهرى قائلا لها: اجلسي وأنشدي نشيدك المشهور «ذهب العاشق»، فجلست مهرى وقد اصفر لونها وشرعت تنظم أوتار قيثارتها بيد مرتجفة، ولكن لما أرادت الغناء خانها جلدها، فأجهشت في البكاء فدهش السلطان، وقال: الله ما هذه الفتاة؟ وما معنى هذا البكاء؟
فقال الخصي: هذه هي مهرى الفتاة التي شاهدناها مع صديقتها هذا الصباح في البستان، ثم همس في أذنه: وهي الهائمة بحب جلالتك.
فحدق السلطان بها وزاد إعجابه بجمالها على إعجابه ببكائها، والنساء أشوق ما يكن إذا بكين، ثم أخذ في ملاطفتها حتى ثاب إليها وعيها، فبدأت بنشيدها المذكور بصوت مطرب خارج من صميم فؤادها، فاهتزت له جوارح السلطان طربا ورقص فؤاده فرحا وأخذه الهوس، فتناول من خنصره خاتما كريما على فص من حجر ماس كبير، وتناول مهرى وألبسها إياه بيده، فقبلت طرف ثوبه وهي لا تكاد تصدق ما هي عليه ... •••
وأخبر في الغد الخصي رفقاءه بهذه الحادثة، وختمها قائلا: هكذا تصير السرية سلطانة ...
الفصل الثامن
وصول الإمبراطورة أوجيني إلى الأستانة
كانت الأستانة في 7 سبتمبر 1869م في قيام وقعود استعدادا لاستقبال زائر كبير وضيف عظيم، وكانت ألوف من الزوارق ومئات من البواخر مكتظة بالمتفرجين والمستقبلين تشق عباب البوسفور ذهابا وإيابا، وكان أهالي الأستانة كبارا وصغارا يتسابقون ويحتشدون بين شاطئ أوروبا وآسيا لانتظار ذلك القادم العظيم، وقد رفعت الحرم من مقاصيرهن الحواجز الشبكية، وصوبن نظاراتهن نحو بحر مرمرا يستطلعن تلك الباخرة التي تقل ذلك المنتظر، وقد حق لهم جميعا ذلك الانتظار وذلك الاحتفال؛ لأن الزائر ذلك اليوم كان الإمبراطورة أوجيني قرينة نابوليون الثالث، وكان نابوليون الثالث في ذروة مجده وقمة سؤدده، وكانت تلك هي المرة الأولى التي جاءت فيها إمبراطورة فرنسوية إلى عاصمة الشرق زائرة حالة ضيفة كريمة عند سلطان آل عثمان.
وكان السلطان عبد العزيز - كما ذكرنا - ميالا إليها معجبا بجمالها، فبالغ في الاحتفال بقدومها، والاحتفاء باستقبالها حتى إنه أمر بتجديد فرش السراي كله، وبأن يجلب من باريس أثاث للغرفة التي أعدها للإمبراطورة كأثاث غرفتها في قصر التويلري تماما حتى لا يخال لها أنها خرجت من سرايها، وأنشأ زورقا يبهر الأنظار بقبته المذهبة وستائره المخملية ومقاعده الحريرية، وكل ذلك لنقلها بضعة أذرع من الباخرة إلى السراي ... وغير ذلك من الاستعداد الدال على الكرم الشرقي والبذخ التركي. وكانت الشمس ذلك اليوم ساطعة والجو صحوا والهواء بليلا، فلم يلبث الناس طويلا في الانتظار حتى أطلت الباخرة «النسر» الباهرة تقل جلالة الإمبراطورة، فبدأت الحصون والمعاقل بإطلاق المدافع تبشيرا بقدومها، وسارت الدوارع التركية إلى لقائها، فأحاطت بها إحاطة السوار بالمعصم، وقد صعد البحارة إلى أعلى السواري يصيحون «لتحيا الإمبراطورة أوجيني».
فلما وصلت الباخرة أمام سراي بيكلربك المعد لنزول الإمبراطورة ألقت مرساتها، وانحدر السلطان بنفسه إلى لقائها، وأخذت الموسيقى تصدح بأنغامها، فلم يطأ السلم حتى رفعت الباخرة العلم العثماني يخفق مع العلم الفرنساوي المثلث الألوان.
ولم تمض برهة يسيرة حتى أطل السلطان عبد العزيز من أعلى السلم مرتديا ثوبا مثيرا، وذراع الإمبراطورة ملتف بذراعه، وهي لابسة ثوبا جميلا ناصع البياض يزيدها حسنا وجمالا، وقد أثر بها ذلك المشهد البديع والاحتفاء الشائق.
وأجلسها السلطان في الزورق عن يمينه، وكان السفراء والوزراء والأمراء والعلماء وكبار المملكة جميعا بانتظار جلالتها في سراي بيكلربك، فقدمهم السلطان إليها، ثم عاد إلى سراي «طلمه بغجه» حيث كان قد أعد لها مأدبة شائقة للمساء.
وكان بين ذلك الجمع المزدحم شاب جميل الصورة شركسي المنظر برتبة أميرالاي يحاول عبثا الوصول إلى الإمبراطورة فيحول دونه الزحام، ثم رأى بين ذلك الجمع وجها يعرفه، فبرقت أسرة وجهه فرحا؛ إذ رآه يتبسم له ويشير إليه بالتقدم منه، فلما وصل إليه مد له يده وصافحه قائلا: كيف حالك يا صلاح الدين؟ قد أنقذتني الآن؛ لأني كدت أموت خنقا من الزحام. - انتظر قليلا لأقدمك إلى جلالة الإمبراطورة، فإن سفيري روسيا والنمسا يحيطان بها الساعة. - مسكين أنت يا صلاح الدين، من كان يقول إنك ستقضي سنتين في سفارة باريس، وأنت قد سرت للقيام فيها بضعة أيام. - نعم، قد طال غضب السلطان علي، وبحجة ترقيتي أبعدوني قصيا، ولكن لم أعدم لحسن الحظ الأخبار السارة، فهي التي ساعدتني على احتمال مصابي، على أن الفضل عائد إليك يا حسن وإلى كتبك المتواصلة ... في كل حال. - لم أقض إلا واجب الصداقة والإخاء ... ويا حبذا لو أمكنني المزيد. - أنا معترف بجميلك ذاكر معروفك. ثم التفت نحو الإمبراطورة، فقال: تعال لأقدمك إلى جلالتها؛ إذ الفرصة مناسبة.
ولما كان صلاح الدين قد عين حاجبا خاصا للإمبراطورة حق له تقديم صديقه حسن الذي كان يجهل اللغة الفرنسوية.
فاستقبلته الإمبراطورة بلطفها المعهود، والتفتت إلى صلاح الدين قائلة: اعذرني أمام مواطنيك لجهلي اللغة التركية؛ إذ يعسر على مجاوبتهم على تهانيهم، وليس لدي ترجمان أبرع منك وأنت تحسن اللغتين. فانحنى الضابطان احتراما وامتنانا، ورجعا القهقرى مسلمين، ومن ثم انحدر الصديقان إلى زاوية البستان عند شاطئ البحر يتحدثان.
فقال حسن: لا شك أن مأموريتك قد جعلتك أسيرا، فمتى يتسنى لك يا ترى الذهاب إلى أورطه كي؟ - لا أعلم، لكن لا بد من ذلك فقد صافحت والدي للساعة بين القوم، ولم أتمكن بعد من معانقة والدتي، وإني أنظر البيت فهو لم يتغير من ظاهره شيء، ثم حدق بنظره إليه قليلا، وقال: الحمد لله، ثم الحمد لله ها أنا في تركيا، ويخال لي أني كنت في منام وما شاهدته أضغاث أحلام، وقد عزمت على الإقامة هنا، ولو كلفت الاستقالة؛ لأني أريد الاقتران. - قد أحسنت وأصبت.
وأدرك حسن أن صديقه سيلقي عليه أسئلة يريد التملص منها، ويثقل عليه الجواب عنها، فقال صلاح الدين مستأنفا: لم تذكر لي شيئا يا حسن في كتابك الأخير المؤرخ في 10 مارس عن فاطمة هانم، وقطعت منذ ذلك العهد أخبارك، فلم هذا الصمت؟ - بلى حررت لك مرتين من ذلك التاريخ، ألم يصلك شيء مني؟ - لا، ولكن كيف حال فاطمة هانم وعائشة؟ - عائشة هانم هي بكل خير وعافية، أما فاطمة هانم فكنت واهما أنك عالم منذ شهرين. - بأي شيء؟ - بوفاتها. - أماتت؟! لا إله إلا الله ... وقد بقيت عائشة وحدها مع أحمد، ولكن لم لم تأخذها والدتي إلى أورطه كي؟ مسكينة ... لا شك أنها اتهمتني بالصد والجفا، ويحق لها الشكوى.
وتضايق حسن من هذا الحديث، وأراد التخلص منه فقاطعه الكلام قائلا: خصي شقيقتي مهرى سلطانة يدعوني، فصاح صلاح الدين مدهوشا: مهرى سلطانة؟ - ألا تعلم أنها رزقت ابنا؟ - عرفت أن قد رزق السلطان ابنا، ولم أعلم أن مهرى والدته. فقال حسن مودعا: أي والله، ثم تركه وانصرف.
وغادر حسن صلاح الدين وحده يتعثر بأذياله، ويفكر بما سمع وما رأى، ويتساءل كيف أن فاطمة هانم قد ماتت ولم تعتن والدته بعائشة، ولم تأخذها إلى منزلها بعد أن عاهدته قبل سفره على ذلك، ولم كان وجه والده عبوسا في الصباح؟ وكيف لم يذكر له حرفا عن خطيبته وهي مع ذلك لا تزال على قيد الحياة كما أكد له حسن، وكان يشتد قلقه واضطرابه كلما فكر في أن مليكة فؤاده هي على بعد بضع خطوات منه في بايكوس، وهو لا يستطيع الطيران إليها مقيد بخدمة الإمبراطورة، ثم قام إلى السراي، فجعل يطوف غرفها ليرى إذا كان لا يزال والده حميد باشا بين المهنئين، فوجد أنه كان في مقدمة المنصرفين، فانطرح على متكأ وقد علت وجهه أمارات الاضطراب تشاؤما من أمر جلل حدث في أثناء غيابه، وإذ تذكر أن الإمبراطورة مدعوة في المساء إلى العشاء في «طلمه بغجه»، وعليه السير في معيتها قطع كل أمل من الذهاب إلى بايكوس، ومشاهدة مليكة فؤاده.
ثم سمع حفيف ثوب فذعر، وأنصت بسمعه مبهوتا، وإذا به وجد الإمبراطورة أوجيني واقفة أمامه وهي في ثوبها الحريري الباهر، والجواهر تتلألأ عليها كالكواكب، فرأت على وجهه أمارات الاضطراب والاكتئاب، فقالت له باسمة متلطفة: كنت أظن وصولنا إلى البوسفور يملأ قلبك فرحا وسرورا، فإذا بي أراك حزينا آسفا. - مولاتي، ليس السبب إلا عائلي. - ألم يطمئنك والدك هذا الصباح؟ أرى أن والدتك لا تزال على قيد الحياة، وأنك ذائب شوقا إلى مشاهدتها، فبرقت أسرة صلاح الدين لهذا السؤال، وأدركت الإمبراطورة فرحه فقالت له: أعفيك من الخدمة هذا المساء، فإلى غد «مسيو صلاح الدين». - ألف منة وشكر لنعم جلالتك.
فحيته الإمبراطورة بابتسامة، وسارت تتبعها حاشيتها.
فطار صلاح الدين بأقل من طرفة عين إلى الشاطئ، وقفز إلى أحد الزوارق ليس لمشاهدة والدته كما وهمت الإمبراطورية، بل إلى بايكوس لمشاهدة خطيبته ومليكة فؤاده؛ لأن عوامل الغرام أشد فعلا من عوامل الحب البنوي. فلم يصل إلى بايكوس إلا بعد ساعة، وكانت الشمس قد غابت واشتد الظلام، فلم يهتد إلى الطريق وأضاع السبيل؛ لأنه لم يكن يعرف بايكوس إلا مرة جاءها مساء، وكان أحمد دليله فحاول عبثا الوصول إلى بيت عائشة والاهتداء إليه؛ لأنه فضلا عن مضي سنتين على زيارته الأولى كانت حريقة هائلة قد دمرت قسما كبيرا من القرية، فارتعدت فرائصه خوفا من أن تكون النار التهمت بيت حبيبته، وبينما هو يطوف طرقاتها الضيقة، وإذا به عرف البيت في منعطف طريق، ووقف يطرق الباب وهو لا يسمعه إلا دقات قلبه، فجاء شيخ جليل بيده شمعة وفتح له، فقال صلاح الدين: عفوا أيها الشيخ الجليل من إزعاجي إياك، أليس هنا بيت أحمد أفندي؟ - أيهما تريد؟ أأحمد الشاب الذي تزوج منذ عهد قريب أو أحمد الدرويش؟ - لا هذا ولا ذاك؛ بل أريد أحمد أفندي خادم المرحوم محمد باشا التونسي، أليس هذا «قناق» (منزل) فاطمة هانم؟ - تريد القادين العجوز؟ - نعم.
ألا تدري أنها ماتت منذ شهرين ... ولكن تفضل بك أفندي، واشرب فنجان قهوة.
فدخل صلاح الدين رغبة الوقوف على ما جرى، فعرف للحال أن البيت بيع بعد وفاة فاطمة هانم، وأن عائشة وأحمد هاجرا بايكوس منذ أواخر شهر تموز (يوليو) فشكر صلاح الدين الشيخ على إفادته، وعاد إلى زورقه مسرعا قائلا للنوتيين وقد وجدهما ملتفين بالعبي راقدين: العجل العجل إلى أورطه كي، فنهضا للحال وشرعا بالتجديف، واتكأ صلاح الدين على وسادة، ثم رفع رأسه إلى السماء وقد رصعتها النجوم، فقال في نفسه: يا له من بله لا شك أن عائشة هي عند والدتي، وكان يجب أن أذهب أولا إلى معانقتها، ولكن الحمد لله فهم يعرفون أني مقيد بخدمة الإمبراطورة، وإلا لقلقوا من أجلي كثيرا.
وأخذ يفكر في أحواله مستغرقا، وظن النوتيان أنه قد رقد، فلم ينبسا ببنت شفة حتى وصلا إلى أورطه كي، فنادى به أحدهما: بك أفندي قد وصلنا، فنفحهما صلاح الدين أجرة مضاعفة، وقام إلى بيته مهرولا، وكانت الأزقة خالية والصمت تاما، فلما أطل على البيت وجده مظلما، فقال في نفسه: «وقد رقدت الحبيبة وقطعت الأمل من مجيئي». ثم طرق الباب بمطرقته الحديدية بعنف، فهرول الخدم للقائه، ولما عرفوه أخذوا يهنئونه بسلامة الوصول، فسألهم عن والده فأجابوا أنه في الحرم. فسار إليه وطرق الباب، فسمع صوت جارية تقول: من هذا؟ فقال: أنا صلاح الدين. فعلت صيحة الجواري فرحا وسرورا بقدومه، وقامت والدته للقائه، ولم يكد الباب يفتح له حتى انطرح بين يديها يقبلهما، وهي تضمه إلى صدرها وتقول مكررة: الحمد لله قد شاهدتك سالما معافى بعد غيبة سنتين، ولكني رأيت هذا اليوم أطول من العامين؛ لأنك كنت قريبا مني وبعيدا عني.
وأراد صلاح الدين أن يسألها عن عائشة، وسبب عدم وجودها معها، لكنه تربص ريثما فرغت من معانقته وتهنئته، ثم سألها: أين عائشة؟ فتصامت والدته أولا عن هذا السؤال، فكرره ثانية، فحدقت إليه بنظرة كئيبة تطير منها صلاح الدين، فصاح مذعورا: أين عائشة يا أماه؟! فكان جوابها أن أجهشت بالبكاء؛ فصرخ صلاح الدين: أماتت، يالله يا للمصاب! وكادت العبرات تخنقه.
فأجابه والده بصوت مهيب، وكان قد وطئ عتبة الباب: لا لم تمت. - إذن تزوجت؟ - لا لم تتزوج. - إذن ماذا أصابها إذا كانت لم تمت ولم تتزوج وهي ليست هنا، أخانت عهدي يا ترى؟
فأجابت والدته: لو كان الأمر كذلك لما بكت والدتك ابنة خانت عهد ولدها. - فأين هي الآن إذن؟ - هي في السراي.
فعض صلاح الدين على شفته حنقا وغيظا، لكنه تجلد وقال: أتعرفين السبب والتفصيلات؟! - اجلس لأخبرك يا ولداه بما حدث، ثم مسحت دموعها وشرعت تقص عليه ما جرى في غيابه ...
الفصل التاسع
حمامتان
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا
ويأتيك بالأخبار من لم تزود
فقالت: أي ولدي العزيز؛ عدني ألا تتألم مما ستسمعه، وأن تعتصم بالصبر الجميل، وتستسلم إلى القدر متكلا على الله المتعال ... أنت تعلم أن لا شيء كان أحب لدي من أن تراني اليوم مقدمة لك حبيبتك قائلة: هذه يا صلاح الدين خطيبتك، قد عاشت في حرم والدتك، وبعنايتها ربيت، وهي لا تزال طاهرة نقية كالثلج ... ولكن:
ما كل ما يتمنى المرء يدركه
تجري الرياح بما لا تشتهي السفن
ذهبت في غد سفرك إلى بايكوس، وبلغت فاطمة وعائشة امتثالك للأمر الشاهاني، وأمر بعثتك إلى باريس ورجوعك قريبا منها ... ولا أخفي عليك أني دهشت لما شاهدت ذلك الجمال البارع الذي ازدانت به عروسك، وزدت بها حبا لما رأيتها تذرف الدموع السخينة عندما بلغها خبر سفرك الفجائي، واشتداد حزنها لغيابك وبعادك ... وكنت أتردد إلى بايكوس المرة بعد المرة لا يصحبني إلا ظئرك (مينور) التي تعرف إخلاصها لنا، وأما صديقك حسن بك الشركسي فكان أولا قليل التردد على بايكوس، ولا أعرف بأية صدفة التقى بعائشة يوما من الأيام في «السلاملك»، أما هي فاحتجبت بسرعة، ولم يلحظها هو إلا لحظة واحدة كانت كافية لأن تشعل قلبه حبا وهياما بها، فأكثر حيئنذ من ترداده؛ وهذا هو السر عندي في تظاهره بصداقة أحمد، وكان يجيء كل مرة بحجة أنه مرسل من قبل شقيقته السلطانة مهرى للسؤال عن عائشة حاملا لها الأزهار المختلفة والأثمار المتنوعة ، ثم حمل إليها مؤخرا بعض الحلي الثمينة، فأدركت فاطمة هانم السبب فرفضتها، وأظهرت له عائشة الجفاء بعد ذلك حتى اضطرته إلى الانقطاع عن الذهاب إلى بايكوس.
وكان المرض قد بدأ ينخر فاطمة هانم يوما بعد يوم، وشعرت هي بدنو أجلها، فكانت تقول لي مرارا: «آه ... لو كان على الأقل صلاح الدين بك هنا!»
ثم جاءني أحمد في صباح شهر أغسطس مذعورا، وقال: اشتد المرض على فاطمة هانم فأرجوك العجل. فهرولت إلى بايكوس مسرعة فوجدتها تحتضر، أما هي فجمعت قواها الخائرة لما أبصرتني، وحاولت أن تسند رأسها وقالت لي: عائشة ... عائشة أرجوك العناية بها ... احرصي عليها من علية سلطانة ... وانطرحت عائشة عليها تبكي وتنتحب، فقبلتها فاطمة قبلة لفظت بها روحها الكريمة. وللحال اجتمعت نساء الجيرة، وبدأن يصحن ويولولن، وعائشة تزيد في البكاء والنحيب، وقلت لظئرك أخيرا أن تضع ملاءة وفراجية على فاطمة لأعود بها في الحال.
وفيما نحن على ما سمعت، وإذا بعربة وقفت أمام الباب، ودخل علينا خصي هائل في الكبر، وشق الجمع بيديه مناديا: سمو السلطانة علية ... فلما سمعت هذا الاسم اضطربت حواسي، وخفت من أمر مفاجئ، واختبأت عائشة ورائي، واختفى أحمد وراء الجميع، فتقدم الخصي وهو علي اللعين إلى فراش الميتة، وقال: فاطمة هانم؛ سمو السلطانة علية شرفتك بزيارتها، فأجابته النسوة: هي ميتة.
فصاحت السلطانة مذعورة: ميتة ...! إلى أين قدتني يا علي؟! تعال نخرج سريعا فقد أخافني هذا الموت. أما الخصي فكان كالغراب الذي لا يلذ له إلا نهش لحوم الأموات، فأخذ يدير ألحاظه بين الحاضرين حتى وقع على أحمد فعرفه، فتقدم إليه غاضبا وأمسكه بعنقه، وتقدم به إلى السلطانة قائلا: هذا هو أحمد الخائن قد شاب شعره منذ ست عشرة سنة، ولكن لم يزل على خبثه، وأحمد الذي تعرف سكون جأشه في الملمات ضاع هداه في تلك الساعة أمام السلطانة، وموت فاطمة، وذلك المشهد الرهيب، فقالت السلطانة: نعم هو هو بعينه قد عرفته الآن، وهو الذي ساعد سيده على خيانتي، ثم سألته: أين بنت محمد باشا؟ وماذا فعلت بها ...؟
فأجاب دون أن يرفع رأسه: قد ماتت.
فصاحت السلطانة: كيف ماتت وهي في زهرة شبابها، ومقتبل عمرها، وخطيبة صلاح الدين؟ - نعم ماتت، ولا أعرف كيف.
أما النساء الحاضرات فلم يفهمن شيئا من هذا الحديث، وكان علي يحدق بنظره إلينا ليعرف أين عائشة؛ لأنه لم يرها إلا مرة، وكان نقابها كثيفا، فلم يعرفها، وكدنا نخلص من ذلك المركز الحرج. وقد أملت أن كذبة أحمد تنجينا، ولكن لا نصير إذا لم ينصر القدر.
فإنه لما يئس من الحصول على نتيجة من أحمد تضايقت السلطانة وهمت بالخروج، ولكن لم تصل الباب حتى كان السلطان قد أنفذ رجلا خرب جميع ما بنيناه من الآمال. فصاح الخصي: أهلا وسهلا بحسن بك، تعال وانظر ما حصد الموت.
فانحنى حسن تسليما للسلطانة، ثم قال: نعم، عرفت الساعة بوفاة فاطمة هانم، فهرولت مقدما خدماتي إلى عائشة هانم التي خان خطيبها عهدها.
فصاح صلاح الدين: يا للخيانة! فقالت له والدته: مهلا يا ولداه، اسكت ريثما تعرف النتيجة، فلما رأيت وعائشة حسن بك عرفنا سوء المصير، ونظر إلينا أحمد نظر الأسيف البائس، ووقفت السلطانة تنظر ماذا يكون؟ فقال علي: إذن كذب هذا الخائن بقوله إن عائشة قد ماتت، فأجاب حسن: لا وألف لا، فقد أكد لي بعض الجواسيس أنهم شاهدوها بالأمس في هذا المكان، وهي لا تزال حية ترزق. فتقدم الخصي إلى أحمد ولكمه بجمع يده قائلا: أما ترى كذلك أيها الخائن الماكر؟ فأجاب أحمد: لم أقل إلا الحق ... فأجابه حسن بحنق: كذبت وخسئت أين أخفيت عائشة، قل أين هي الآن وإلا قتلتك في الحال، وألقيتك في السجن حيث تلاقي من أنواع العذاب أشكالا وألوانا، فأجابه أحمد: افعل ما تشاء، فلا أعرف أين هي. فضحك حسن وقال: إني في غنى عنك، ثم تقدم إلى الباب ونادى امرأة فاقتربت وإذا بها سنية خادمتنا التي طردتها منذ مدة، فقال لها: تعالي وأخبريني من هي مولاتك ومن هي عائشة. فلما سمعت النساء الحاضرات هذا الكلام استولى عليهن الرعب؛ فانذعرن وانفلتن من كل جهة، فحاولت الفرار وأمسكت بذراع عائشة لتتبعني. وإذا بالخادمة تقدمت إلينا وقالت مشيرة إلي هذه نعمت هانم وهذه عائشة وراءها. وللحال تقدم حسن إلى الباب ومنعنا من الخروج، فصعد الدم إلى رأسي، وكدت أتميز من الغيظ، فصحت بصديقك: ابتعد يا خائن، بأي حق تمنعني عن الخروج؟ فأجاب متظاهرا بالاحتشام: لا أريد هانم أفندي منعك بل منع الهانم التي معك.
فقلت: هذه ابنتي وخطيبة ابني صلاح الدين بك وهي في حماي.
والويل لمن يمسها، فأجابني الخصي: سهي عن بالك هانم أفندي أن سمو السلطانة مشرفة هذا المكان، وأن عائشة هي ابنة إحدى جواريها ومن صلب زوجها محمد باشا، فهي إذن تخصها. فقلت: ولكن ستصير زوجة لابني، فقاطعني حسن الكلام ساخرا ستصير ولكن لم تصر بعد، فمتى عاد صلاح الدين بالسلامة يمكنك طلبها من سموها إذا سمحت بها.
فقالت عائشة حيئنذ: لا أريد الذهاب مع هذه السلطانة، فقد خضبت يديها بدم والدتي.
فأجابها الخصي: هي جنت على نفسها بخيانتها، فصحت حينئذ: سيجزيكم الله على أعمالكم، وشعرت من نفسي بقوة للنضال، ولكن أنى لنا ذلك ونحن امرأتان مع عجوز ضد رجلين، وقد تجمع خدم السلطانة فملئوا البيت لما سمعوا صياحنا، فالتفتت السلطانة إلي وقالت: تهديدك لا يفيدك، ثم أدارت وجهها إلى الخدم وقالت: احملوا هذه الابنة، فهجموا علينا كالذئاب الخاطفة، وحاول أحمد إنقاذنا، فأمسكوه وقيدوه، ونزعوا من بين يدي عائشة قهرا وجبرا، وأنا أصيح ولا معين، وأستغيث ولا مجير، أخيرا خانتني قواي فأغمي علي، ولم أعد أعي ما حدث، ولكن لما أفقت وصحوت من إغمائي وجدت نفسي وحيدة مع الميتة؛ فاستولى علي الرعب وقمت في الحال مهرولة إلى الطريق مسرعة إلى الشاطئ، وركبت، كذات جنة، زورقا حتى وصلت إلى أورطه كي، وتولاني الحزن والكآبة، وذهب أبوك في الغد إلى السراي يريد الاستئذان بالدخول على السلطان، فلم يؤذن له وأشار عليه أصدقاؤه أن يترك المسألة ريثما تعود من غيبتك، وزد على ذلك أن لا أحد يتجاسر الآن أن يشكو من حسن بك وهو نديم السلطان وشقيق السلطانة مهرى التي امتلكت قلبه، واستولت على لبه، وهي الآمرة المطاعة. أما عائشة فقد تمكنت مع ذلك من الكتابة إلي وهي التي أخبرتني بأن أحمد مسجون في أيك سراي جزاء أمانته لمولاته، والذي أعرفه وأنا واثقة منه أن عائشة لا تزال على حبك وعهدك، وبانتظار رجوعك ... ولكن فهمت أيضا أن حسنا سيقترن بها عن قريب جزاء خيانته ... هذا ما جرى في أثناء غيابك يا ولداه، وهذا هو السبب الذي من أجله لم تر عائشة هذا المساء في هذا المكان.
فالتفت حميد باشا والده، وقال له: وماذا تقول في هذا كله؟ وماذا يحدث من جراء ذلك؟
فأجاب صلاح: أقول إن قطرة واحدة تكفي أحيانا لأن يفيض الكأس، وأن عدالة الشعب يد قوية كافية لسحق الملوك وكئوس مسراتهم وبطرهم ...
هي الدنيا تقول بملء فيها
حذار حذار من بطشي وفتكي
فلا يغرركم مني ابتسام
فقولي مضحك والفعل مبكي
الفصل العاشر
سراي جراغان
إذا أراد القارئ الكريم معرفة قدر هذا القصر العظيم وفخامته فليتمثل قصرا باذخا عربي الهندسة، مشيدا على ضفة البوسفور، قائما على ألوف من الأعمدة الرخامية، منقوشا أظرف نقش، وحسبك أن قد بلغت نفقة بنائه مائة وخمسين مليونا، وقد اعتنى بفروشة وتزيينه أبرع مهندسي أوروبا وفراشيها.
ومنذ تولت السلطانة مهرى على فؤاد السلطان عبد العزيز زادت مصاريف الدولة وتجاوزت ميزانيتها الحد، وحاول عبثا كل من فؤاد وعالي ومدحت إقناع السلطان بالعدول عن ذلك البذخ المفرط والإسراف الزائد، والالتفات إلى حاجات الدولة، ومعدات الجند، وأهبة الحرب، فكانوا كمن ينفخ في رماد أو يصرخ في بطن واد، فإن أقل لفظة من إحدى محظيات السلطان كانت كافية لإنفاق القناطير المقنطرة من الأموال. ورغبت مهرى في تشييد قصر جديد يزري في بهائه وفخامته بسراي جراغان، وقد أرادت بذلك أن تبرهن أن السلطانة الجديدة لا تقل قيمة عن السلطانات اللائي تقدمنها، وأنها هي الآمرة المطاعة، وسعت والدة السلطان، فنجحت بإبعاد من عرف بانتمائه إلى حزب المصلحين والأحرار، وأبدلتهم برجال الحزب القديم المشهور بتعصبه وجهله ، وهكذا أقصي من الوظائف جميع من كان من حزب تركيا الفتاة، وكان واضعا جل آماله في الوزراء الثلاثة المذكورين، ولكن المنية داهمت لسوء بختهم فؤادا وعاليا، فخسروا وخسرت الدولة بهم أعظم وزرائها وأقوى مساعديها.
ولما زارت الإمبراطورة أوجيني حرم السلطان في جراغان ارتدت مهرى ثوبا مزركشا باللآلئ والجواهر ما تبلغ قيمته ستة ملايين حتى كانت تبهر الأنظار، وكانت نساؤها وجواريها كذلك تتلألأ بالحجارة الكريمة، كأن اللباس الظاهر يغشي ما هن عليه من العبودية، مع أنك لو سألت أية امرأة أوروبية لفضلت الحرية على جميع زخرف الشرق وبهائه، كأن الشاعر الهونكاري عبر عنهن بقوله: شيئان في هذه الأرض يحبباني بالحياة: الحرية والحب، أفدي حبي بحياتي، ولكن أضحيه من أجل حريتي. (وهذا هو الأصل الفرنسي):
Deux choses lei-has me font aimer le jour:
La liberté, l’amour
vie,
Mais pour la liberté je donnerai l’amour.
وقد ترجمها أحد الشعراء العصريين؛ صديقنا الدكتور جورج أفندي صوايا، فأجاد حيث قال:
شيئان في الدنيا هما قد حببا
لي ذي الحياة: الحب والحرية
أفدي حياتي دون حبي إنما
حبي فدى حريتي الشخصية
وجاءت الإمبراطورة أوجيني أولا إلى سراي طلمه بغجه لزيارة والدة السلطان والسلطانة الأولى قرينته والدة نجله الأكبر يوسف عز الدين أفندي، ومن ثم سارت إلى جراغان لزيارة السلطانة مهرى التي كانت نائلة حظوة السلطان، فجاءت بقية السلطانات بنات عبد المجيد وغيرهن من العائلة السلطانية يستقبلن الإمبراطورة عندها وبمعيتها تزلفا إليها واكتسابا لرضاها، وجاءت السلطانة علية وبمعيتها سراريها وبينهن عائشة هانم التي لما أبصرتها مهرى تقدمت إليها وأخذت تقبلها ناسية مقامها، وسألتها كيف عادت، فوقعت في يد حماتها، أما عائشة فلم ترد جوابا، وقد دهشت لما شاهدت صديقتها القديمة فيما هي عليه من العز والفخر، وفكرت بحالها وكيف مضى عليها سنتان تقاسي ألم فراق حبيبها تحت سلطة امرأة قاسية غليظة الفؤاد، وكيف ساعد الحظ صديقتها فصارت سلطانة، ونالت أكثر مما تمنت من الحب والعز والعلى والفخار، وكيف تقلب الدهر فصير الأمة سلطانة والحرة أمة.
وأخذت السلطانة مهرى يد صديقتها وقادتها إلى غرفة مجاورة تستطلعها خبرها وما حدث لها، فأخذت تقص عائشة على مسامعها ما جرى لها منذ نالت هي حظوة السلطان ... إلى آخر ما كان من شقيقها حسن بك. فقالت مهرى: ولكن هذا السلوك عجيب من مثل حسن بك، وقد بدأت أفهم الآن سبب صمته أخيرا لما كنت أسأله عنك وعن أحوالك ... أواه من الحب ... كيف يدفع الإنسان إلى ارتكاب المنكرات، ولكن سامحيه يا عزيزة، فهو لا شك يحبك كثيرا. - ولكنني أقسمت يا ذات الجلالة ألا أكون عروسا إلا لصلاح الدين. - إذن لا تزالين على حبك. - كحبك لجلالة السلطان. - ثقي بأنني كنت جاهلة كل ما أتيته، وإلا لما تأخرت البتة سعيا وراء إنقاذك ... ألم أنجيك قبل اليوم من علي (الخصي) ... ولكن لم لم تطلبي مقابلتي؟ - ليس الدنو منك من الهنات الهينات، فالصعوبات والموانع أكثر مما تظنين، وزيدي على ذلك العزة والأبهة، فكيف يتسنى لجارية أسيرة مثلي الدنو إليك والاقتراب منك، ولولا هذه الصدفة الخارقة العادة كزيارة سلطانة الفرنسيس لما أسعدني الحظ بالتشرف برؤيتك. - ولكن صلاح الدين قد عاد الآن، وسيفرغ جهده، ولا شك في استمالة رضى السلطانة ... فخفضي عنك يا عزيزة، وثقي أن لك بي صديقة مخلصة، وأنا التي قلت لنعمت هانم إن من الصعب إزواجك من صلاح الدين يومئذ؛ حيث كان يعرضكم جميعا لانتقام السلطانة علية؛ فضلا عن أن الخصي كان يتجسس والدة خطيبك، وهي ولا شك كانت السبب في شقائك على الرغم منها. - لا مولاتي وألف لا ... حب نعمت هانم لا يقل عن حبها لابنها ووحيدها، وقد أرادت أن تفديني بروحها لو تمكنت من إنقاذي من يد الظلمة الطغاة ... ثم استدركت قولها فقالت من أيدي خدمة السلطانة ... - ولكن الحمد لله قد تيسرت لي رؤيتك في هذا النهار. - مولاتي أقبل قدميك، وأرجوك أن تحنني قلب السلطانة علي ... أنقذيني من عذابي لا تدعيهم يقسروني على الزواج من حسن بك ... أنقذيني أنقذك الله من كل ضير.
وترامت عائشة على قدمي مهرى تقبلهما، فتأثرت الشركسية لما رأت صديقتها القديمة منطرحة بين قدميها، فأنهضتها وطيبت خاطرها، ووعدتها بالمساعدة، فاطمأن فؤادها قليلا.
وفي الساعة السادسة مساء أقبل الزورق الخاص يتلألأ مقلا الإمبراطورة، فلما وصل إلى سلم سراي جراغان امتلأت النوافذ من السراري يشاهدن تلك الزائرة العظيمة الغريبة، وهكذا تسنى لعائشة أن تشاهد من وراء ستار شفاف حبيبها صلاح الدين الذي كان بمعية الإمبراطورة، وكان مرتديا ثيابه الرسمية المذهبة يقدم برشاقة باريسية ذراعه للسيدات اللائي كن بمعية الإمبراطورة؛ فلم تمتلك نفسها من البكاء لما شاهدت مليك فؤادها على بضعة خطوات منها، وهو لا يمكنه مشاهدتها والدنو منها، بين أن النساء الأوروبيات يكلمنه بحرية ويصافحنه، فتنهدت من قلب قرحه الهوى، وقالت: «آه، يا ليتني كنت أوروبية.»
وكان السلطان قد أعد للإمبراطورة مائدتين؛ الأولى: أوروبية محضة صحفها من معمل «سفر» الشهير، ومناشفها من معمل «أساكس»، وكئوسها البلورية من «بوهيميا»، والطعام على اختلاف الألوان والأشكال من الطبخ الإفرنسي، وكانت المائدة الأخرى شرقية محضة مؤلفة من أطباق كبيرة فضية منقوشة أبدع نقش موضوعة على «إسكملات» مرصعة بعرق اللؤلؤ، والخوان من الحرير المقصب، والصحف من ذهب خالص، وحول الأطباق مساند مخملية مطرزة بالقصب، فتقدمت السلطانة مهرى وخيرت الإمبراطورة بين المائدتين، فاختارت الشرقية تلطفا منها ورغبة في معرفة الغريب، وجلست وحاشيتها من حولها وراء الأطباق على الأرض، وجلست السلطانات حول المائدة الأوروبية على الكراسي، وقد سررن جميعهن مما أكلن وشربن.
ثم قامت الإمبراطورة إلى قاعة كبرى تدخن التبغ التركي المعطر، وتشاهد الرقص الشرقي وتسمع الغناء التركي، وكانت البرنسس نازلي هانم كريمة المرحوم البرنس مصطفى فاضل باشا مؤسس حزب تركيا الفتاة ترجمانها، وهي تحسن التكلم بأكثر اللغات الأوروبية.
وفي الساعة العاشرة دخل السلطان الحرم، فهرعت السلطانات لتقبيل ثوبه، وكان في ذلك المساء بشوشا طربا، وزاده سرورا إطناب الإمبراطورة بكرمه وفخامة قصره، وخصوصا بجمال نسائه، وحسن ضيافته، وأكثرت من مديح جمال السلطانة مهرى، فأراد السلطان أن يري الإمبراطورة أن مهرى لم تتميز بجمالها فقط، بل إن الغناء من جملة محاسنها، ومن ثم التفت إلى مهرى وطلب إليها أن تنشد فامتثلت للحال، ولكن خانها صوتها لسوء حظها في ذلك الوقت فلم تحسن الغناء، ولربما كان ذلك من تأثرها أو لسبب آخر فلم يسر السلطان منها ، وشعرت هي باستيائه منها، ورغبت في التعويض فاستدعت صديقتها عائشة، وكان صوتها مطربا للغاية، وطلبت إليها أن تنشد نشيدا عربيا، وأتتها باثنتي عشرة راقصة مصرية، فطربت الإمبراطورة من اللحن العربي، وسرت من رشاقة الرقص، وعاد السلطان إلى بشاشته.
ثم أديرت القهوة والأشربة، وقدر لعائشة إذ ذاك أن تقدم إلى السلطان فنجانه، فحملت إليه الطبق الذهبي، وجثت أمامه على قدم واحد، وأمعن السلطان فيها النظر فإذا هي بارعة الجمال، فأخذ الفنجان يشربه على مهل، وهو يقلب فكره قائلا إني شاهدت هذا الوجه الفتان، ولكن قد غاب عني الزمان والمكان، ولاحظت مهرى والسلطانة علية افتتانه بجمال عائشة وانجذابه لها، فذابت مهرى حسدا وغيرة، وطارت السلطانة علية فرحا وسرورا، ثم أعاد السلطان الفنجان وشكرها خلافا لعادته؛ وللحال عزمت مهرى أن تزوج عائشة من صلاح الدين، وتقصيها مع زوجها إلى إحدى الولايات؛ لتبقى بعيدة عن أعين السلطان. وقالت السلطانة علية: الحمد لله قد اجتذبت السلطان، فتلك خير وسيلة للانتقام، والحصول على الرضى والإنعام، واستطالت مهرى تلك الحفلة ولا سيما لما رأت أن السلطان يكثر من الالتفات نحو عائشة، فلما انتصف الليل قامت الإمبراطورة تريد الانصراف، فشيعها السلطان حتى زورقها، ومن ثم ركب هو زورقه قاصدا طلمه بغجه من غير أن يرى السلطانة مهرى ...
فقلقت مهرى، وقالت على مسمع من السلطانة علية: نحن بالاسم سلطانات وبالفعل إماء ترفعنا لحظة وتسقطنا لفتة، فطوبى للسلطانات الأوروبيات إذا لبسن التاج مرة أمن عليه من السقوط، فأجابتها: لا، لا نزال نحن أسعد منهن حالا. نعم إن سعادتنا تتوقف على رضى رجل واحد لا يتبع إلا هواه، ولكن الأوروبيات يتعلقن برضى الشعب كله، فلم تفهم مهرى ماذا تريد بقولها. ولم يؤثر هذا الكلام بها، ولما انصرف الجميع كتبت إلى شقيقها حسن ما يأتي:
يا حسن يجب أن تحب شقيقتك، وتضع سعادتها فوق هواك، وأقول لك ذلك لأنك بصنيعك ستجلب ويلا عظيما ... أي سقوط مهرى العزيزة لديك، فإن السلطان قد أكثر من الالتفات إلى عائشة ، وعليه فلا يصح أن يراها بعد الآن ... أفهمت صريحا؟ أريد أن تقترن عائشة في الحال من صلاح الدين، وغدا يتعين هو متصرفا في أحد الأقضية البعيدة، ويؤمر بالسفر العاجل إلى مأموريته. هذه هي إرادتي وأمر شقيقتك.
السلطانة مهرى
ولما وصل السلطان إلى سراي طلمه بغجه استدعى خصيه الخاص، وقال له: التقيت هذه الليلة بفتاة فتانة، وهي التي شاهدتها في طريق بيكلربك مرة أتتذكر ذلك؟ فكيف هي في السراي إذا كانت مخطوبة؟ - نعم، أذكر هذا، وهي من أسرار علي خصي عمة جلالتك السلطانة علية. - وهل هي تخصها؟ - نعم.
وإذا برئيس الخصيان دخل ينتظر أمر السلطان، فأجابه لا أريد أحدا هذا المساء ... ثم قام إلى نافذة، وجلس يفكر في أمره ...
الفصل الحادي عشر
عرس صلاح الدين
وكانت الأعياد والولائم تتوالى احتفالا بالإمبراطورة أوجيني، وصلاح الدين مضطرا لحضورها مقيدا بخدمة الإمبراطورة؛ الوجه منه باسم والقلب كسير.
وفي 13 أكتوبر غادرت الإمبراطورة الأستانة شاخصة بالعز والإقبال إلى مصر لحضور افتتاح برزخ السويس؛ حيث كان إسماعيل باشا خديوي مصر معدا لها ما أدهش العالم بأسره، فطلب صلاح الدين رخصة شهر، فنالها وحاز في أي عمل يقضيه، ورام أولا الانتقام من صديقه حسن بك الذي خان عهده، ونكث وده، وأعاد مليكة فؤاده إلى حماتها، لكنه رأى هذا عمل رعونة وجهل يجلب عليه وعلى والده الشيخ وآله أجمعين الويل والخراب؛ ومن ثم حرمانه الدائم من خطيبته، فرأى أن انتظاره خير وأبقى قائلا رب صدفة خير من ميعاد، ولم يعرف أن شرا أشد هولا كان حائما فوق رأس حبيبته.
وكانت عائشة هانم قد هرعت، فبشرت نعمت هانم بما توقع لها، وبحديثها مع السلطانة مهرى، ووعدها باقترانها بابنها، أما صلاح الدين فلم يصدق شيئا من ذلك الفعل، قال: هذا كذب وخداع من الشركسية، فأي خير ترجوه من إغاظة شقيقها حسن بك؟!
ثم إن عائشة أنفذت في 6 أكتوبر رسولا مخصوصا إلى نعمت هانم تخبرها بأن السلطانة علية قد وهبتها إلى السلطانة مهرى إجابة لطلبها، وأنها ستنتقل إلى سراي جراغان. فقال صلاح الدين: ومن يعلم ما طبخته لنا هذه الشركسية، وإذا كانت لا تريد التعجيل بإزواجها من حسن بك. فقالت له والدته معترضة، ولكنها لم تصرح لها بألا ترضى بسواك بعلا، فلا يجب يا بني إساءة الظن إلى هذا الحد واليأس من رحمة الله، ألا يكفي عائشة أنها تخلصت من نير تلك المرأة القاسية الغليظة القلب، وأصبحت سعيدة آمنة عند مولاة لها تحبها، وقد كانت صديقتها؛ فيجب ألا تكفر بالنعمة فإن الكفر يدعو إلى زوالها، فاقتنع صلاح الدين بكلام والدته، وسر كثيرا لما عرف أن السلطان قد أنفذ حسن بك إلى كريت بمهمة يقضيها، ويضطر بها إلى الإقامة في تلك الجزيرة ستة أشهر، وطار فرحا لما وصل إلى والدته في 10 أكتوبر الكتاب الآتي:
هانم أفندي المحترمة
أنا الآن بمعية السلطانة مهرى تعاملني كصديقة لا كجارية، وقد سافر حسن بك إلى كريت متغيبا بمهمة إلى مدة، وقد وعدتني جلالتها بالاقتران من ابنك المحبوب بعد برهة يسيرة، ريثما تتغلب على جميع الموانع؛ إذ لا يزال يظهر عوائق كما لا يخفاك، وقد أرتني جلالتها أن أدعوك للمجيء إلى جراغان لمشاهدتك وتقبيل يدك.
عائشة
ولنترك الآن صلاح الدين يبني قصور آماله، ولنعد إلى حديث جرى بين خصيين: الأول: خاص بالسلطان عبد العزيز، والثاني: بالسلطانة علية، وكانا يتنزهان صباح يوم في ظل أشجار البستان، فقال الخصي علي سائلا زميله: وهكذا قد حجزت كتاب السلطانة مهرى إلى شقيقتها، وتظن أنك قد أحسنت سياسة. - لا شك عندي بذلك؛ إذ لو كان يجب إطاعة هوى كل جارية تصير سلطانة أو غيرتها لتعذرت علينا المعيشة في هذا المكان. - أما سمو السلطانة علية فقد سرت كثيرا من هدية جلالة السلطانة مهرى، وأدركت السبب، وهو أن تتنازل لها عن جاريتها عائشة. - نعم، ولكن يدهشني في هذه المسألة طلب السلطانة مهرى أخذ عائشة إلى جراغان مع معرفتها بإعجاب السلطان بها. - إذا كنت كتوما للأسرار بحت لك بأمر هام، وهو أنه يجب عليك مراقبة السلطانة مهرى، فقد سمعتها تتحدث همسا مع مولاتي السلطانة علية، وكنت مختفيا وراء ستار الباب، فسمعت مهرى تقول: وهل أنت واثقة من أن هذا السم يشوه الوجه بدون أن يفتك بالحياة؟ فأجابتها: أنا واثقة من الأول، ولكن لا أكفل الحياة، فقالت لها حينئذ السلطانة مهرى: لا بأس هذا يكفيني، وإذا بعائشة دخلت فانقطع الحديث. فقال الخصي: أشكرك جدا لهذا الخبر، ولكني لا أصدق أن السلطانة مهرى تريد الموت لصديقتها. - ولكن قد أصبحت الآن خصيمتها. - أنت تسيء الظن كثيرا بالنساء. - لأني قضيت حياتي معهن. - عيشة رغيدة. - وقد رأيت أعمالهن وحيلهن بعيني. - ولكن يتراءى لي أنك كنت تكره عائشة قديما، والآن تريد مني حمايتها من غدر السلطانة. - أنا لست بكاره ولا بمحب لها، بل ككلب الصياد عليه متابعة طريدته، فلما كانت مولاتي مطاردة لها أفرغت جهدي حتى وجدتها. - أصبت، هكذا يجب أن يكون الخادم الأمين، وافترق الخصيان عند هذا الكلام. •••
وجاءت نعمت هانم إلى جراغان، فقابلتها عائشة مترحبة، ولكن وجهها كان قد تورم، فشوه جمالها، فضمتها نعمت هانم إلى صدرها وعانقتها طويلا، ثم جاءت السلطانة مهرى متلطفة، وقالت لها: يجب أن تستعدي لعرس صلاح الدين، فقد زالت كل الموانع ...
ولكن لم يمض الأسبوع الأول حتى عيل صبر صلاح الدين، وأخذ يلح على والدته بالزواج والعود إلى السراي لاستصحاب حبيبته. فسارت ووجدتها لسوء حظها بأسوأ حال لما تقاسي من ألم عينيها، وقد تنفخت وملئ وجهها ورما، وكانت عائشة حزينة حتى الموت من جراء ما أصاب وجهها من التشويه، ولم ترغب في مشاهدة حبيبها على تلك الحالة، ولكن طمأنتها نعمت هانم كثيرا، وأقنعتها بأن تلك بثور الصبا فلا تلبث حتى تزول تماما. فقالت عائشة: ولكن لا أريد أن يشاهدني صلاح الدين على هذه الحالة خشية أن يصيبه ما أصاب السلطان. فقالت نعمت هانم: وما أصابه؟ قالت: تنازل جلالته فدعاني لخدمته ذات يوم، فلما شاهدني أدار وجهه عني اشمئزازا، ولا تسألي عما أصابني من الغم والخجل؛ وضحكت السلطانة مهرى من ذلك، ولكن لو كان صلاح الدين عوضا عن السلطان لمت في الحال حزنا وغما. فأخذت نعمت هانم تطيب خاطرها، وتخفف عنها استياءها ، وقالت: إننا ننتظر إبلالك وشفاءك حتى يعود جمالك، وهو عائد قريبا إن شاء الله.
ومنذ أظهر السلطان اشمئزازه من عائشة أخذت مهرى تضاعف اعتناءها بها، وسعت بتعيين صلاح الدين متصرفا، فسمي على سالونيك وأعطى ألف جنيه مهرا لامرأته.
ولم ينتشر هذا الخبر بين أصحاب صلاح الدين ومعارفه حتى جاءوا يهنئونه من كل صوب على تلك الحظوة؛ لأن التزوج من إحدى سراري السراي يعد التفاتا عاليا كما لا يخفى، ولكن المرض كان يزداد على عائشة، وهي تزداد رفضا للزواج. أما صلاح الدين فقد ذابت الروح منه اشتياقا، ونفدت جعبة صبره من الانتظار، وظن أن تمنع عائشة هو غنج ودلال على حد قول الشاعر: «عرف الحبيب مقامه فتدللا.» فأنفذ والدته تطلب عائشة لاصطحابها معها إلى حرمها تتمرض فيها ريثما تنال الشفاء التام، فسارت إلى السراي، وتمكنت من إقناع عائشة بأن مناخ مدينة سالونيك يعجل شفاءها، فرضيت وقد اشترطت ألا يشاهدها صلاح الدين إلا بعد شفائها.
وأذنت السلطانة مهرى بذلك فشكرتها عائشة كثيرا، ودعت لها طويلا قائلة: جازاك الله عني جزاء عملك معي ... وأفضالك علي ... فارتعشت مهرى من هذا الدعاء ... وخافت سوء العاقبة وإجابة الطلب.
وسر صلاح الدين من وجود حبيبته تحت سقف بيته، وإنما ساءه تحجبها الشديد عنه طول مدة إقامتها، فدخل ذات يوم على والدته غاضبا، وألقى طربوشه على الديوان، وقال: أأنت مؤكدة يا أماه من أن عائشة تحبني بعد الآن؟ - ما هذا السؤال يا صلاح الدين، وهل أنت في ريبة من ذلك؟ - نعم فقد بدأت أشك بحبها؛ إذ ما معنى ذلك التأجيل، فإن العرس كان منتهى آمالها، وقد حالت دونه الموانع الكثيرة، فماذا تريد من هذا الانتظار الآن سوى رجوع حسن بك حتى نعود إلى ما كنا عليه، ناهيك عن أني لا يسعني بعد احتمال هذه المعيشة، أأراها تحت سقف بيتي، وأسمع كل يوم صوتها، ولا أقدر أن أمتع نظري بمحياها؟ لقد عيل صبري! فبلغيها أنه لا يبعد إذا كلمتني مرة من وراء الباب كعادتها أن أحطمه، وأدخل عليها ناسيا حقوق الضيافة وقداسة الشرائع والعوائد. - ولكن قد تغيرت المسكينة كثيرا. - وماذا يهمني؟ ذلك نفاط يزول قريبا كما أكد لي جميع الأطباء، وهل يجوز تأجيل هذا العرس من أجل غنج فتاة معجبة بجمالها؟ فإني أحبها وتحبني، وكفى تأجيل، فأكدي لها ذلك، وأقنعيها أن هذا الامتناع من قلبها يخفف حبي لها، وأني لست بغر لأعلق كبير أهمية على مثل تلك المسائل التافهة.
ونقلت نعمت هانم حديث ابنها إلى عائشة، فخافت من وعيد حبيبها وهجرها، فرضيت بما طلب، وبمباشرة احتفال العرس، وطار قلب صلاح الدين فرحا، ونسي السياسة والأحزاب والإصلاح، وغفر ما كان للسلطان من الذنوب والمعائب، ولا غرابة فعين الرضى عن كل عيب كليلة.
وضربوا موعدا للاحتفال بمراسم العرس 15 ديسمبر، فاكتظ البيت بالمهنئين والمهنئات، وكان حميد باشا الذي رافق ابنه إلى سالونيك يستقبل في السلاملك وفود المهنئين، ونعمت هانم تستقبل النساء اللائي كن يساعدنها على تزيين عائشة المسكينة فألبستها ثوبا حريريا ناصع البياض مطرزا بالقصب، وأسبلن قناعا طويلا على وجهها، وأديرت المرطبات والحلويات، وتمت جميع الطقوس والعوائد الجارية في تلك البلاد. ولما كانت العادة كما لا يخفى أن يدخل العريس ويقود عروسه إلى الغرفة المعدة لهما، دعي صلاح من السلاملك للدخول إلى الحرم، فقام وقلبه مفعم فرحا، ولما قدم إليها يده قال لها همسا: الحمد لله أنت لي منذ الآن؟ فقالت له عائشة بصوت مرتجف: وهل تبقى على حبك؟ فأجابها: إلى آخر نسمة من حياتي. فقالت: إذن وقد أمر الله تعالى بذلك فاكشف قناعي. فمد صلاح الدين يده بلهفة، ورفع القناع وهم بتقبيلها، فلما شاهد وجه حبيبته على تلك الحالة من التشويه نفر منها وصاح مذعورا وقد غطى وجهه بكلتا يديه أهكذا أعطيت لي؟ فكاد الغم يخنق عائشة فتقدمت إلى حبيبها، وقالت له: ألا تريد أن تقبل عائشة المسكينة؟ فرفع صلاح الدين وجهه يريد تقبيلها، ولكن لما شاهد البثور والندوب في وجهها لم يقدر أن يملك نفسه من التردد والاشمئزاز، وخاف أن يسوءها، فأراد إصلاح خطأه ، ولكن هيهات، فإن عائشة لما رأت ذلك النفور من حبيبها ركضت إلى النافذة، وألقت بنفسها إلى البحر قائلة: لا أكون لك عروسا بلا حب، وهب صلاح الدين يريد مسكها ومنعها، فلم يتمكن إلا من مشاهدة جثة حبيبته تخبط في اليم.
فصاح صيحة تراكضت لها النساء، فوجدنه يحاول إلقاء نفسه في البحر، فأمسكنه وتعلقن به، وهو يحاول التملص من أيديهن جاحظ العينين ضائع الهدى، والنساء يصرخن ويستغثن، وإذ بيد من حديد قبضت على صلاح الدين وصوت يقول له: هذه ساعة الرجولة فإن عائشة كانت مائتة لا محالة، إن غبار الماس سم الأستانة هو سبب هلاكها، فيجب أن تعيش لتأخذ بثأرها، وهذا رجاء والدتك إليك ودعاء عائشة أيضا. كان ذلك الصوت صوت والدته، فانتبه صلاح الدين لهذا الكلام كمن أفيق من سبات عميق، وقال: حقا نطقت ... وصدقا قلت.
الفصل الثاني عشر
تعيين محمود باشا خلفا لعالي باشا
من أصعب الأمور على رجل عادي أن يخلف رجلا عظيما اشتهر بسمو الأفكار، وتوقد الذهن، والدهاء السياسي في منصبه، وهكذا صعب على محمود باشا الذي ولاه السلطان عبد العزيز الصدارة العظمى خلفا لذلك الوزير الخطير الذي هيهات أن يأتي الزمان بمثله في تركيا. وقد تبوأ محمود باشا منصة ذلك المنصب الرفيع، ولم ينظر إلى عواقبه ونتائجه؛ لأن فخامته كان من مذهب القائلين: «ومن بعدي الطوفان» لا هم له إلا ملء كيسه وزيادة ثروته، ومن ثم اكتساب ثقة السلطان ورضى حاشيته، ولم يكن يقدر لغيرهم قدرا، بل لم يكن يهمه أحد ما دام السلطان الآمر المستبد. وكان حزب تركيا الفتاة يحرق الإرم لدى كل مظلمة، وعند كل قرض، وعلى الأخص لما شرع الصدر باضطهاد رجاله، فنفى منهم كثيرا وعزل جميع المأمورين الذين اتهموا بالانتماء إلى الحرية والإصلاح، وبدأت زوبعة تلك الثورة بإلغاء الجرائد وتقييد الأقلام والضغط على الأفكار، وكان الكدر يتعاظم ويشتد، ولكنه كان كالنار كامنا تحت الرماد.
هكذا كانت حالة تركيا في أواخر عهد السلطان عبد العزيز في صدارة محمود باشا، وكان سفير روسيا شديد التمسك به رغما عن مقاومة الوزراء له، فتمكن بدهائه من إقناع السلطان بأنه الوزير الوحيد في تركيا الذي يوافق بقاؤه حرصا على تركيا وحفظا لصوالحها. وكانت روسيا مشاهدة بأن كل سنة من صدارة محمود باشا تنقص خمسين عاما من عمر تلك الدولة التي طالما تمنت وحاولت ابتلاعها. وبعد أن كانت أحوال الدولة قد تحسنت في بداءة عهد السلطان عادت فسقطت، وانحط اسمها ومقامها في أوروبا، واضطرمت نيران الثورة في أنحائها، ولم يكن الصدر الأعظم المذكور معتمدا على سفير روسيا في الأستانة فقط، بل على الحرم السلطاني أيضا؛ لأنه كان متزوجا من شقيقة السلطان عبد العزيز نفسه، وكانت كلما مرت الأيام تزداد الأحوال سوءا، فصارت تركيا على شفيرها والسلطان محتجب لا يخرج من سرايه إلا كل جمعة للصلاة في جامع طلمه بغجه المحاذي لقصره، ويخرج في المساء فيختبئ في إحدى مقصورات بستانه يقتل الوقت، ويزيل السآمة بشرب العرق ومسامرة الندماء.
ففي مساء يوم الجمعة (26 أبريل 1876) طلب الصدر الأعظم من السلطان الدخول عليه، وكانت قد تغيرت سحنته كثيرا واشتد سمنه وشاب مفرقه، واستولت عليه الكآبة وخامره سوء الظن والريبة بمن كان يقرب منه، فلما وجد محمود باشا مولاه على تلك الحالة من الضجر والقلق أخذ يحاول تسليته وترويح فؤاده، فيسرد على مسامعه النكات الظريفة والفكاهات اللطيفة، وهو يائس لا يلذ له شيء، وكان السلطان مغرما في مشاهدة مقاتلة الديوك فصار يكرهها، وأخيرا تجاسر الصدر الأعظم، فقال لمولاه مخاطبا: أي مولاي لم تسيء الظن إلى هذا الحد برعيتك؟ فقد أرسل إلي ناظر الشرطة هذا الصباح تقريره مبشرا بأن الأمن في غاية ما يكون من الاستتباب والراحة شاملة جميع طبقات الرعية الداعية لك بالتأييد والنصر، ومع ذلك فإن جلالتك لا تخرج من القصر إلا نادرا محتاطا بالجنود محترسا متحفظا.
فأجابه السلطان: ومع ذلك ألا يوجد إلا هم لحماية سلطانهم عند الشدة؟ - لم يا مولاي هذه الأفكار والهواجس؟ ألا تعلم أنك أعظم سلطان تنسم عرش آل عثمان ...؟ روسيا عدوتنا اللدودة قد انقلبت تتزلف إلينا ودانت لنا صاغرة ... هذه الأستانة قاعدة السلطنة صارت تضاهي أعظم عواصم أوروبا ... ها أوروبا قد أصبحت بأجمعها تتزاحم لاكتساب رضانا، فهل تريد من مزيد يا مولاي؟
فانتصب السلطان واقفا عند سماعه هذا الكلام، وقال: أنت خادم أمين يا محمود، وتريد أن تخفف قلقي واضطرابي، ولكن هل تخالني جاهلا أن عدوي في بلادي نفسها، وأن حزب تركيا الفتاة يترقب وفاتي لتنصيب مراد ابن أخي؟
فقال الصدر بهيئة الساخر: ولكن يا مولاي أنت تقدر لهذا الحزب أهمية كبرى وهو لا يزال في مهد الطفولية، ولا بد أن ينتظر طويلا إذا كانت هذه أمانيه وما دمت أنا في الصدارة، فسأستأصل شأفتهم إن شاء الله، وأجعلنهم عبرة لمن اعتبر، فصمت السلطان عند هذا الكلام، وأظهر ارتياحه إليه، لكنه قام في الغرفة يتمشى ذهابا وإيابا كالأسد في عرينه، ثم قال: وليس هذا الحزب سبب قلقي واهتمامي الوحيد، فإن السلطانة وهواجسها شاغلة أفكاري، فإن قلبها يحدثها منذ أيام بدنو شر أو مصاب كبير قريب، فقال الصدر: ولكن يا مولاي أظن أن حملها هو السبب في هذه الأفكار والأوهام، وقد عرفت ذلك من زوجتي، فأجاب السلطان: لا يا محمود ليس الأمر كذلك، فأنا أعلم الناس بمهرى وطباعها، فهي ليست قط من النساء الجبناء اللائي يتطيرن من الحوادث والصدف ويتشاءمن من الأخبار ويصدقن خرافات العرافات، ولكن قد تسبب كل هذا القلق منذ وفاة عمتي السلطانة علية، وكانت وفاتها لسوء الحظ فجأة، وفي الحرم عند مهرى، فإنها بينما كانت تضحك وتهزل كعادتها وإذا بها قطبت حاجبيها وحملقت بنظرها، ثم صاحت مذعورة، وقالت: إن جارية وأمها كانتا عندها، وقد توفيت الأولى بعد الأخرى بست عشرة سنة، وجاءت تختطف روحها، فخافت وانذعرت، وأخذت تستغيث وتصرخ، وخافت السلطانات الحاضرات، وظنن أنها قد مست بعارض من الجنون، وبقيت عمتي المسكينة تصيح عائشة ... إقبال ... (وهما اسما جاريتيها) أرجوكما ... ابعدا ... لا تقربا ... الدم ... الدم ... النطع ... وغير ذلك من العبارات المتقطعة، وعيناها جاحظتان، وقد انتفش شعرها وضاع صوابها، وكلما اقترب منها أحد صاحت لا لا ابعد ... خنقوني ... قتلوني ... فقد فتحوا قبري، ثم نظرت إلى مهرى أخيرا، وحملقت فيها بنظرها، وصاحت بها ...
الحذر يا مهرى، إن دورك قريب ... فأغمي على مهرى عند سماعها هذا الكلام، ولبثت عمتي المسكينة على تلك الحالة، وهي تتمرغ على الأرض، وسلمت روحها قائلة: قد اختطفها عزرائيل.
فتأثر الصدر عند سماعه هذه الحادثة، وقال: حقا إن تلك ميتة غريبة. فقال السلطان: وتراكض الأطباء من كل جانب، فوجدوا جثة بلا روح، وحكموا أن سبب الوفاة انفجار شرايين القلب عقب نوبة عصبية هائلة ... وقد مر يا محمود على تلك الحادثة ثلاثة أشهر ولا تزال مرسومة لحد الآن في مخيلة مهرى تتمثلها آناء الليل وأطراف النهار، وهي لا تجسر على النوم في الليل، وقد تولاها السهاد، ولا تتجرأ على البقاء وحدها في غرفة النهار، فرغبت إليها أن تذهب أين شاءت لتبديل الهواء، فلم ترض، وجوابها الوحيد أن خطرا يتهددني، وأنها لا تريد أن تفارقني، فقال الصدر: ولا شك أن جلالتك قد تأثرت من تلك الحادثة الغريبة، ولكن يخشى من عدوى تلك الأفكار والوساوس إلى عظمتك.
فقال السلطان: بلى وأنا أخشى ذلك أيضا، وهذا سبب قلقي وعلة اضطرابي.
قال الصدر: إذن أرى من الحكمة الابتعاد عن الحرم، فهذا خير علاج، فأجاب السلطان متنهدا: وهذا هو السبب في كدري، فإني أشرب هذا الشراب المحرم تبديدا لتلك الأفكار السوداء ...
بينما هما كذلك، وإذا بأحد الحجاب استأذن بالدخول على السلطان لعرض غرض مهم، فأذن له السلطان في الحال وقد قلق، وإذا هو حسن بك شقيق مهرى قد دخل على السلطان أصفر الوجه غير مرتب الثياب، فسأله السلطان بلهفة: ما وراءك يا حسن؟ أأصاب مهرى شر؟
وارتجف الصدر عند رؤية حسن بك داخلا على تلك الحالة، فقال: أعوذ بالله خبر الشراكسة. فأجاب: حسن لا يا مولاي، ليت على مهرى كان قلقي فهو على راحة جلالتك ... إني يا مولاي قادم من إستانبول ... حيث يتآمرون على جلالتك. فالتفت السلطان إلى الصدر، وقال له: أرأيت ... وسمعت ...؟ فأجاب الصدر مقاطعا حسن بك: ولكن هذا بعيد بك أفندي إن لم يكن مستحيلا. فصاح حسن بك: كيف هو بعيد ومستحيل، وأنا أقول لك: إني قادم منها، وقد حضرت ساعة المؤامرة من بدئها إلى آخرها، وأنا أرتجف حنقا وغيظا، وقد أنهكني التعب. فقال له السلطان: اجلس واسترح قليلا وقل ما تشاء. فقال: أعداؤك يا مولاي لا يحصون، وهم يتآمرون عليك في المجالس الخصوصية والمحافل الماسونية والجوامع ...
فصاح السلطان مذعورا ... في الجوامع؟! نعم في الجوامع، أجاب حسن بك. فاعترض الصدر قائلا: لا صحة لهذا القول، فإن لي جواسيس بين الماسون والمأمورين والسفطاء وهم أمناء، ولا تخفى عليهم خافية، فقال حسن بك: ربما أن جواسيسك هم أيضا جواسيس تركيا الفتاة، وإنما يقبضون منك رواتبهم.
فقال الصدر: فإذن أنت يا بك تشك بصدق عبوديتي أمام جلالته. فانتهره السلطان قائلا: دعه يا محمود يتكلم ...
فقال حسن: أستأذن من جلالتك بأن أعرض التفاصيل على المسامع العالية؛ لأنها واجبة جلاء للحادثة، وأرجو فخامة الصدر ألا يشك بصدق عرضي. فقال له السلطان: قل ما تريد. فشرع حسن يقص ما رأى، فقال: مولاي مررت هذا المساء بجامع شاه زاده باشى، فعرجت للصلاة، فوجدته مكتظا بألوف من المصلين، وقد تجمع أكثرهم حول الميضأة يتوضئون، فانتظرت ريثما جاءت نوبتي، على أنني فيما كنت منتظرا رأيت إماما يتقدم متظاهرا بتفقد المياه فيقترب من البعض فيلمس أكتافهم بخفة، وكان يجيبه الكثيرون برفع أيديهم اليسرى إلى جبهتهم دون أن يلتفتوا إليه، فلم أعبأ لأول وهلة بتلك الإشارة، ولكني لما شاهدتها تكررت، قلت في نفسي تلك إشارة التعارف، فلا بد لي من الوقوف على دخيلة المسألة فتقدمت للوضوء، وإذا بالإمام المذكور تقدم إلي ولمس كتفي بحجة افتقاد الماء، فأعطيت الإشارة فتقدم حينئذ إلى أذني، وهمس قائلا هذه الكلمات الثلاث: «الليلة بعد الصلاة»، وابتعد معيدا تلك الإشارة ومكررا تلك العبارة. فدخلت الجامع وقد غص بالمصلين وأنا قلق مما سيكون، على أن الأنوار كانت لحسن الحظ ضعيفة، وقد خفت أن يعرفني أحد فنكست طربوشي على عيني، وانزويت جانبا دفعا لكل ريبة، ولما فرغت الصلاة خرج البعض وبقي الأكثر، وللحال أقفلت أبواب الجامع، وشرع الأئمة والمشايخ والسفطاء يتفاوضون همسا بما لم أسمعه، وأخذ يرقى المنبر كل بعد الآخر، وعوضا عن الاستشهاد بالآيات القرآنية كانوا يحثون الناس على المناداة بالحرية وإطلاق الجرائد من قيود المراقبة الصارمة وتحطيم سلاسل العبودية قائلين: يجب على السلطان أن يخضع لإرادة الشعب، وأن يعجل بإجابته إلى مطالبه حفظا للدولة وصونا للملة والأمة كي تعود المملكة إلى مركزها القديم وتلحق بالدول الأوروبية العزيزة، وقالوا: إن ولاياتنا متسعة الأطراف ممتدة إلى جميع جهات القارات الثلاث: آسيا وأفريقيا وأوروبا، وأرضنا أخصب أرض الله وأغناها، نملك خمسة أبحر ونسود ثلاثين أمة مختلفة ... ولكن لم نحن في مؤخرة الشعوب؟ ولم ماليتنا في عجز ومقامنا في انحطاط ...؟ كل هذا لأن اليد القابضة على زمام المملكة لم تحسن إدارتها.
هذه يا مولاي قحة منهم لم يسبقهم إليها أحد، فقد دفعهم الجنون حتى إلى التطاول على أمير المؤمنين وخليفة رسول رب العالمين ... أما أنا فكنت أحرق الإرم غيظا، ولكنني كنت عاجزا عن الدفاع والانتقام من أولئك الخطباء الفجار، وكان يزداد غيظي خصوصا لما كنت أرى السامعين يقابلونهم بمزيد الاستحسان، وقد انتهت تلك الجلسة التي تمكنت فيها من معرفة جميع أعداء جلالتك، وهم ليسوا بقلائل، وقد استلفت نظري خصوصا واحد امتاز عن الجميع بحدة لهجته وشدة عداوته. فقال الصدر: وما اسمه؟ فتردد حسن في الجواب، ثم قال: لا يمكنني إباحة اسمه الآن، ولكن إذا قبضت على المؤتمرين كان هو في طليعتهم.
وكان السلطان غائصا في بحار التأملات، فلم يفهم سؤال الصدر ولا جواب حسن، فلما صمت حسن بك انتبه السلطان فقال: وهل هذا كل ما رأيت؟ فأجاب: نعم، ثم بعد أن فرغ الجميع من الكلام، فتحت الأبواب، فخرجت مسرعا، وفكرت أولا في الذهاب إلى نظارة الشرطة، ولكني عدت فعدلت، وقلت الأولى أن أعرض المسألة على مسامع جلالتك رأسا.
فالتفت السلطان إلى الصدر، وقال له ساخرا: أرأيت هذا الأمن العظيم؟ ها هم يتجاسرون على ذمي وثلبي في قلب بلادي وداخل عاصمتي، فكيف يفعلون في الخارج؟ فحار الصدر في الجواب وتلجلج لسانه رعبا، ثم قال: مولاي أخذت على نفسي مسئولية ما يحدث في المملكة، وتعهدت لجلالتك بدفع كل شر تخشاه من أعدائك ما دمت في الصدارة العظمى، وعليه أتعهد لجلالتك الآن أنه لا يأتي الغد إلا وقد تشتت أولئك الشبان في أقاصي البلاد؛ فإني أرى في ثورة الهرسك حجة سديدة لإبعادهم، فسأنظم من هؤلاء الأحرار جيشا، وأدفعهم إلى ساحة الحرب، حيث يتجرعون كأس حتفهم لا محالة فدية عن وطنهم، وهكذا نتخلص من شرهم. فوافق السلطان على هذا الرأي، فقال حسن بك: يا مولاي إذا أمهل الانتقام أخطأ الغرض. فأجاب الصدر: دم الشباب يغلي في صدر حسن بك، وهو يجهل ولا شك المثل العربي القائل: من تأنى نال ما تمنى. فقال السلطان: اليوم خمر وغدا أمر. ثم أمر بترقية حسن بك إلى رتبة ياور أول لكبير أنجاله يوسف عز الدين أفندي، وأنعم عليه بالوسام المجيدي جزاء اجتهاده، ثم فكر قليلا وهز رأسه قائلا: بدأت مخاوف مهرى تتحقق. وقلق السلطان جدا لما شاهد أحد ياوري وزير الحرب قادما بسرعة نحو السراي، كأنه ناقل خبرا خطيرا، وقبل أن يستأذن الياور بالدخول أمر هو بذلك فدخل للحال، ولما عرفه حسن بك أنه صلاح الدين انتفض لمرآه، واحتجب وراء الستار كي لا يقع نظره عليه، وقال في نفسه: لا بد من خبر شؤم وإلا لما نقله صلاح الدين بك. فقال السلطان: ما وراءك ...؟ فانحنى صلاح الدين إلى الأرض تعظيما، وقال: لدي هذه الرسالة البرقية من درويش باشا. ثم قدمها للصدر وهذا رفعها إلى السلطان، فلم يقع نظره عليها حتى تقطب حاجباه وأكمد وجهه، وبقي صلاح الدين رابط الجأش تقدح عيناه شررا حقدا وانتقاما، ثم أشار إليه السلطان بالانصراف، فقفل راجعا حتى غاب عن الأنظار، فتقدم حسن حينئذ وتلا الرسالة، وإذا هي من قومندان الجيش من ساحة الحرب، وهذه صورتها:
موستار 15 أفريل 76 (محرمانه خصوصى)
احتاطت بي جيوش الثورة، فاضطررت أن أعود القهقرى بعد أن خسرت ستمائة جندي وثمانية مدافع ، أما خسارة الأعداء فقليلة، عجلوا بإمدادي بالمال والزاد ...
درويش
فصاح الصدر فرحا: إن درويش باشا يطلب نجدة فحبا وكرامة، وسأنفذ له غدا نخبة رجال تركيا الفتاة؛ لأرى هل يحسنون عقد المؤامرات ... ونشرت الجرائد المحلية هذه الرسالة، وعلقت على جدران المدينة بعد أن حورت قليلا كما سيرى القارئ، فصارت هكذا:
موستار في 15 أفريل
دحرت الثوار فعادوا بالفشل بعد خسائر جسيمة، واستشهد من رجالنا ستة بعد أن غنمنا زادا وافرا وذخيرة كثيرة.
درويش
فطار السذج لهذا الخبر فرحا وسرورا، وصاحوا ليحيا السلطان، أما الذين كانوا يعرفون حقائق الأمور فأخذوا يتساءلون قائلين: «تلك أعجوبة آخر زمان كلما ظفرنا في معركة هبطت أوراقنا المالية.» فقال البعض: هذا يسمونه في تركيا نشر الأخبار الحقيقية ...
الفصل الثالث عشر
مقدمة الثورة
بينما كانت الكتائب والفيالق تزحف من الولايات لإخماد ثورة البوسنة والهرسك كانت الاجتماعات السرية تتوالى في الأستانة ليلا، ثم عدل المتآمرون عن الاحتجاب وراء ستار الليل والتعارف بالإشارات، وأخذوا يجاهرون بأفكارهم في المحافل والجوامع، وخشي بقية السكان من غير المسلمين في الأستانة من تلك المظاهرات التي لم يسبق لها مثيل في تاريخ تركيا، واشتد قلقهم كثيرا، وكان السفطاء والأئمة يطيبون خواطرهم ويهدئون روعهم، مؤكدين لهم أنهم لا يريدون بأحد شرا، وإنما غايتهم تغيير الأحكام الجائرة بإصلاحات عادلة.
وقلق السفراء أيضا، فجاءوا الصدارة يستعلمون عن سبب تلك الاجتماعات، وينددون بما لها من العواقب الوخيمة، فكان الصدر يجيبهم: لا تخشوا شيئا، فهي مؤامرة على الحكومة فقط. فلم يهدأ بال الأوروبيين لهذا الكلام، وأخذوا يرحلون أفواجا أفواجا. وكان محمود باشا عارفا بأن سخط الأهالي عليه عظيم، وأنهم يريدون عزله وعزل شيخ الإسلام معه. وعرف الوزراء الباقون ذلك، فالتمسوا من السلطان أن يبدل الصدر إرضاء للرأي العام الهائج، ولكن الصدر كان قد تمكن من إقناع السلطان بأنه إذا أقصاه وضع نفسه في أيدي أعدائه، وأصبحت حياته من ثم في خطر، فزاد السلطان به تمسكا وثقة، وكان سفير روسيا أشد عضد له يشجعه على الثبات والاعتقاد به، وكانت سياسته هذه خشية من فقدان ثمرة أتعابه التي كان يعانيها منذ عشر سنوات وهي تعجيل انحلال تركيا. وكانت الثورات قد هبت من كل جهة لتقرض تركيا وتنخر عظامها بسرعة. وكانت ثورة واحدة في الأستانة يذبح فيها بعض المسيحيين كافية لأن تتخذها روسيا حجة للزحف على تركيا بدعوى أنها حامية نصارى الشرق، وكانت الألسنة تلهج في جميع المحافل النصرانية يومئذ بأن الدولة الصديقة لتركيا على أهبة تامة من الزحف على الأستانة؛ لترفع علمها فوق مآذن جامع أجيا صوفيا.
وهذا ما حدا بالسفطاء والأئمة والعلماء للقيام والسعي تغييرا لتلك الأفكار. وقد أرادوا أن يضطروا حكومتهم إلى انتهاج سياسة جديدة وإجراء إصلاحات عامة، وكانت روسيا معاكسة لكل إصلاح حقيقي عدوة لكل نهضة، وقد نجحت فألفت لنفسها حزبا عرف يومئذ بالحزب الروسي تحت رئاسة الصدر الأعظم محمود باشا الذي لقب باسم «محمودوف»، وكان معاكسا له حزب تركيا الفتاة. وكان يرأس هذا مدحت باشا وحسين عوني باشا ورديف باشا، وكانت غايتهم إنهاض الدولة وحفظها من السقوط غنيمة باردة بين مخالب الدب الأبيض ...
وهكذا بقيت تلك الأزمة تشتد يوما بعد آخر، والأخبار تتوالى متناقضة، والأفكار قلقة حائرة، وقد توقفت الأشغال وتعطلت التجارة، ثم نقل البرق في 7 أيار سنة 1876 خبر ذبح قنصلي فرنسا وروسيا في سالونيك، واتهم الناس الحكومة التركية بمشاركة الذابحين. فقامت أوروبا لهذا النبأ وقعدت، وكان سبب تلك المذبحة أن امرأة بلغارية كانت قد اعتنقت الإسلام، لكنها لم تلبث طويلا حتى ثقل عليها الاحتجاب، ولم تطق معيشة الحرم، فعادت إلى سالونيك ملتجئة إلى قنصل روسيا. وعرف بعض الإروام موعد وصولها، فساروا إلى المحطة للقائها، وأنفذت الحكومة نفرا من الشرطة أيضا، فلما وصلت وكانت لا تزال على الزي الإسلامي أراد الشرطة أن تقودوها إلى الإمام؛ لتنزع عنده رداءها وتقر أمامه بارتدادها، فعارضهم الإروام وانتزعوها قوة واقتدارا من بين أيديهم، وحملوها إلى دار رجل من ذوي قرباها بلغاري الأصل، وكان أيضا وكيلا لدولتي روسيا وأمريكا، فجرح في تلك المناوشة عند المحطة بعض الأتراك البلغاريين، وطار الخبر في المدينة فاستولى على سكانها القلق والجزع، وبلغ الهياج حدا عظيما بين المسلمين الذين قاموا يطالبون بالمرأة البلغارية بحجة أنها لا يحق لها سكنى بيت مسيحي ما دامت لم تنزع رسميا ثوبها الإسلامي.
وكان قنصلا فرنسا وروسيا شابين متصاهرين محبوبين في المدينة، فظنا أن خروجهما بين الجمع يهدئ ثائر الأفكار، فأخبرا الوالي بذلك، وخرجا إلى الجامع حيث كان قد اكتظ بالهائجين، فلما شاهد الثوار القنصلين زاد هياجهم فنزعوا القضبان الحديدية من النوافذ، وهجموا عليهما على الرغم من معارضة الوالي، وأخذوا يضربونهما حتى قتلوهما أشنع قتلة. •••
وتجمع بعد تلك الحادثة ببضعة أيام خلق كثير من السفطاء، وذهبوا إلى جامع بشكطاش صباح يوم جمعة ينتظرون خروج السلطان إلى الصلاة؛ ليرفعوا إليه عرضا بمطالبهم. فعرف السلطان خبر تجمعهم، فتمارض ولم يخرج ذلك النهار خائفا على حياته، وحاول عبثا إخماد لهيب تلك الثورة. أما السفطاء فعادوا على أعقابهم فشلا من طول الانتظار، لكنهم انتشروا في الغد في الأسواق يشترون الأسلحة بفاحش الأثمان، فقلق الجميع لهذه التأهبات حتى إن بعض السفراء نقلوا عيالهم وأثمن مقتنياتهم إلى بوارجهم، ولكن لم يحدث في ذلك الليل ما شوش الأفكار، وعاد الجميع إلى أشغالهم كالعادة ... وعند الساعة العاشرة من الصباح التالي تجمهر السفطاء مرة أخرى وساروا إلى غلطه، فلم يقفوا فيها إلا ريثما استراحوا من عناء السير وانتظار بعضهم البعض، ثم وصلوا طلمه بغجه، فخرج للقائهم حسن بك ياور كبير أنجال السلطان يوسف عز الدين أفندي، وسألهم قائلا: ماذا تريدون؟ فأجابوه بصوت واحد: نريد مقابلة السلطان. فأجابهم جلالته منحرف الصحة، وقد أمرني أن أبلغ عبيده الأمناء أن يصرحوا لي برغائبهم؛ لأرفعها إلى جلالته فصاحوا ... لا، لابد من مقابلته ... فأجاباهم حسن بك بصوت الحزم والشدة ... قلت لكم: إن جلالته منحرف المزاج، فإذا شئتم صرحوا بما تريدون ... فتردد السفطاء قليلا، ثم تشاوروا مدة فيما بينهم، وقالوا بصوت واحد: نريد عزل الصدر الأعظم وشيخ الإسلام. فأجابهم حسن: سأرفع طلبكم إلى جلالته ودخل السراي ... وبقي السفطاء خارجا ينتظرون الجواب. فلم يمض ربع ساعة حتى عاد حسن إليهم باسما ابتسامة الغيظ والكدر، وقال: جلالته يبلغكم امتنانه من ثقتكم به، وقد أصغى لاستماع شكوى عبيده الأمناء، وهو يأمركم بالذهاب إلى الباب حيث يتبعكم الفرمان. فهلل السفطاء فرحا وسرورا، وصاحوا كثيرا ليعش سلطاننا زمنا مديدا، وعادوا إلى إستانبول وهم لا يكادون يصدقون بنجاح مسعاهم ...
ولم يكن السلطان مريضا، بل كان في الحرم قلقا مضطربا حائرا في أمره يتمشى تارة ويقعد أخرى، ويضرب الفضاء بمجموع كفه حنقا، وكانت والدته مع السلطانة مهرى تحاولان عبثا تهدئة باله وتطييب خاطره، وتشجعانه على رد مطالب السفطاء.
فكانت والدته تقول: الساعة ساعة الحزم والثبات، فلا يسوغ الإصغاء إلى مطالب هؤلاء المجانين؛ لأنك إن أظهرت الضعف سقطت من عيون شعبك وهلكت ...
والسلطان يجيبهما بصوت أنيس: ولكن يقولون إن عنادي سيكون سببا لهلاكي. فقالت له السلطانة مهرى معترضة: ولكن هذا قول الأعداء، وهل يعمل أحد برأي عدوه أو بقوله؟
فقالت له والدته: ألا تعلم أن محمود باشا هو أخلص الناس إليك، فإذا عزلته فعلى من تتكل من بعده ...؟ فأجاب السلطان: ولكني لا أعرض بنفسي للهلاك من أجل وزيري، فكثيرا ما يضطر الملوك التظاهر بغير ما يريدون اتباعا لرغائب شعبهم ...
ثم دخل خصي وقال: مولاي حسن بك بانتظار الجواب، فأجابه السلطان: قل له أن يجيبهم أن الفرمان سيتبعهم إلى الباب العالي قبل مضي ساعة من الزمن.
وهكذا أراد السلطان عبد العزيز أن يقوم بما وعد به، فأنفذ أحد حجابه إلى الوزراء يبشرهم بتعيين محمد رشدي باشا صدرا أعظم، وتعيين خير الله أفندي الشيخ المشهور بحرية أفكاره شيخا للإسلام. فقابل الجمهور هذه البشرى بمزيد الفرح والسرور والتهليل العظيم، وملئوا أحياء الأستانة هتافا «بادشاه جوق بشا».
وقام الصدر الجديد إلى طلمه بغجه مسرعا يحف به السفطاء من كل جانب؛ ليرفع واجب شكره وامتنانه إلى السلطان، فقابله ببردوة فأدرك الصدر حالا أن السلطان كان مضطرا إلى تعيينه غير مختار. وقد أبى السلطان أيضا أن يطل من شرفة القصر لاستقبال تهليل الشعب له، وهكذا عاد الصدر وانقلب السفطاء غاضبين حانقين.
وقد وهم السلطان عبد العزيز أنه قد أرضى الأمة بعزله الصدر الأعظم، وأن ذلك يعفيه من إجراء الإصلاحات؛ فأبقى جميع الذين كانوا صنيعة محمود باشا في الوظائف بنوع أن حزبه بقي مستلما شئون الدولة كعادته، وهذا هو الحزب الذي كان يحاول رجال تركيا الفتاة إبادته فوجدوه ثابت الأركان ... وكان السلطان يوالي طلب الدراهم من الصدر الأعظم، وكانت الخزينة فارغة تماما والوزارة حائرة كيف تدفع للجنود ما تأخر لهم من رواتبهم القديمة بقطع النظر عن الجديدة؛ ولذا تعذر على الصدر إجابة طلب السلطان بالمال للاحتفال بتزويج إحدى شقيقاته ومشترى الأحجار الكريمة لها، وبلغ كدر السلطان من الصدر حده؛ لأن تلك كانت المرة الأولى التي تجاسر فيها صدر أن يرد طلب السلطان، فاستدعاه إليه ووبخه على ذلك بقارص الكلام، فعاد الصدر إلى مجلس الوزراء وأبلغهم ما جرى له، وأنه عازم على الاستقالة؛ فقام الوزراء لذلك وقعدوا، والتمسوا منه البقاء خوفا من إثارة حرب أهلية تغتنمها روسيا فرصة لامتلاك البلاد، وقرروا أن ينفذوا من قبلهم ثلاثة من الوزراء الجريئين؛ لأجل إقناع السلطان بالعدول عن إسرافه وبذخه، وإجراء الإصلاحات.
فسار في صباح 20 أيار كل من الصدر محمد رشدي باشا وحسين عوني باشا ورديف باشا، واستأذنوا السلطان بالدخول، وكان في ذلك النهار معكر المزاج لم تذق عيناه طعم الكرى، وكان قد تواتر على مهرى ظهور الأشباح والخيالات الهائلة، فوجدوا السلطان مستلقيا على كرسي وبيده سبحة من عنبر وعلى وجهه أمارات التعب والاكتئاب، فانحنوا إلى الأرض مسلمين، فلم يتنازل إلى تحريك شفتيه لرد السلام، فقدم لهم الخصيان كراسي، وجلسوا بكل خضوع منكسي الرءوس، وبقوا صامتين حتى وجه السلطان إليهم الخطاب، فالتفت إلى وزير الحرب شذرا وقال: ما أخبار الحرب؟
فأجاب الوزير: مولاي لقد أظهرت جنود جلالتك بسالة غريبة، ولكن يظهر أن الهرسك أمنع من عقاب الجو ... فالثائرون يقاتلون من وراء الصخور وقنن الجبال ومنعطفات الطرق، فلا يلتقون بجنودنا المظفرة حتى يفروا من أمامهم.
فقال السلطان: كلاب ... - نعم، ويجب إبادتهم عن آخرهم واستئصال شأفتهم، فإنهم هم سبب جميع مصائبنا .
فقطب السلطان وجهه وقال: وأي مصائب تعني ...؟
فقال الصدر: مولاي، حالتنا المالية هي في أسوأ مركز، فالتجارة قد تعطلت والزراعة متأخرة والشقاء عام ...
فقاطعه السلطان قائلا: بلى، قد فكرتني وأنا أشقى سكان مملكتي منذ قطعوا عني دفع «الرانت» ألا يرد على الخزينة نقود هذا الأسبوع؟
فتردد الصدر ثم قال: بلى يا مولاي ستصلني ضرائب ولايتي أنقرة وإيدين وهما أحسن ولايات الدولة.
وأجاب السلطان: لا تنس إذن أن تدفع لي حالا «كوبون الرانت» وهي قيمة زهيدة لا تزيد عن 18 ألف ليرة فقط، وكان قد تعهد لي محمود باشا لما عقد المعاهدة المالية التي خفض بها فائض الرانت أن يبقى ما يخصني على حاله ...
فأجفل الصدر لهذا الكلام، ولكنه تمالك نفسه، وقال: نعم مولاي إن القيمة زهيدة جدا لسلطان عظيم كجلالتك، ولكنني بانتظار ستين ألف ليرة حال كونه يجب علي أن أدفع ستمائة ألف ليرة؛ ولذا تراني مضطرا لإرسال ما أنتظره إلى الهرسك حالا، فإن جنودنا هنالك حفاة عراة يتضورون جوعا ...
فقاطعه السلطان قائلا: أنا أقول لك إني محتاج إلى المال ...
فأجاب الصدر: فهمت أمر جلالتكم، وأكرر العرض بأن جنودنا تتضور جوعا، وجرحانا يموتون من عدم الاعتناء بهم؛ لأننا لم نقدر على إرسال المستشفيات النقالة حتى الآن ...
فقال السلطان غاضبا: تلك حجج فارغة لم أسمعها من أحد من سلفائك.
فأجاب الصدر: إنني آسف لذلك يا مولاي، على أني أرى من الحكمة إخماد حنق الشعب بإرضاء الجيش.
فقال السلطان: لم يهتم أحد من قبلك في إرضاء هذا الشعب، وأنا أعرف الآن دواءه الوحيد وهو حز رقاب رؤسائه فتبرد حرارة بقية الأعضاء ...
فقال الصدر: نعم، ولكن ذلك هواء قديم لا يجدي الآن، فضلا عن أنه يستحيل إجراء ذلك.
فصاح السلطان مستفهما: أمستحيل؟ وأي متى حرمت حق التصرف بأرواح عبادي وأملاك رعيتي؟
فأجاب الصدر بصوت ثابت: منذ عدتنا روسيا من الدول المتمدنة.
فصاح السلطان وكاد يتميز من الغيظ: هذه والله أفكار حزب تركيا الفتاة. فعض الصدر على شفتيه حنقا، فقال حسين عوني باشا، ساعتئذ، مولاي إن الغاية من تشرفنا اليوم في أعتابك الجليلة هي عرض مسألة مهمة يتوقف عليها نجاح الدولة.
فقال السلطان: ما هي؟ فقال: الحرب الأهلية تتهددنا، فإن أكثر من عشرين ألف مسلم ينتظرون أقل سبب ليخضبوا الأستانة بالدم إذا لم تجب مطالبهم.
فوقف السلطان عند هذا الكلام يرتجف غضبا وقد شد على السبحة بيده ففرطها، فتشاور الوزراء بألحاظهم وصمموا على الثبات. فقال رديف باشا: الشعب يطلب عزل الولاة المتصرفين والمأمورين المذكورة أسماؤهم في هذه اللائحة، ثم قام ورفعها إليه ...
فأخذها السلطان بعنف وألقى عليها نظرة غضب، فوجد فيها أسماء جميع المأمورين الذين نصبهم محمود باشا الصدر السابق، وكان السلطان واضعا ثقته فيهم، فلما فرغ من تلاوتها التفت إلى الوزراء وقال ساخرا: أهذا كل ما تريدون؟ فأجابوه: نعم.
فقال السلطان: أجيبوا إذن هذا الشعب أني لا أجيب طلبه هذه المرة وقد أجبت طلبه المرة الأولى فطمع؛ ولذا لا أجيز عزل أحد من هؤلاء المأمورين، وسأبقي هذه اللائحة في جيبي؛ لأني عرفت بها المأمورين المخلصين لي، والآن يريد الشعب أن أضحي له أخصائي ... لا وألف لا. قال هذا وانطرح على كرسيه يرتجف غضبا.
فمد حسين عوني باشا يده متوسلا قائلا: مولاي تلك إصلاحات واجبة لخير الأمة ... انظر حالة الدولة، الأعداء تحيط بنا من كل جانب، وعوضا عن أن نفكر بالدفاع عن أنفسنا والذود عن حوضنا نقضي أيامنا وساعتنا بالنزاع والخصام. فقال الصدر: نعم يا مولاي هذه الإصلاحات لازمة لفلاح الدولة ولإحياء همة الأمة، وسيكون تأثيرها حسنا في جميع الأنحاء.
فضحك السلطان وقال: إي حضرات الباشاوات، أما فرغتم بعد من إلقاء مواعظكم وإعطاء نصائحكم، والله لم يبق لي إلا أن أتلقى أوامركم وأسلمكم زمامي ...
فقال الصدر: نحن نتكلم من أجل صالح الدولة وباسم الأمة.
فصاح السلطان غاضبا: أنا الدولة وأنا الأمة، والحق لي وحدي في معرفة ما يوافقها، فأنتم؛ أنتم الذين زرعتم الخصام بيني وبين رعيتي توصلا إلى مراكزكم، وأنا في غنى عن البحث لمعرفة أسباب الهياج، فقد كشفت أطماعكم لي عنها النقاب تتخذون الشعب حجة فتقولون كل مرة الشعب يريد كيت وكيت ويطلب كذا وكذا، فأي متى كان سلطان آل عثمان يتلقى أوامره من عبيده؟
فأجابه الوزراء: ولكن قد مضت تلك السنون وأهلها، والآن المركز حرج.
فقال السلطان: نعم، المركز حرج لأني لم أفتح عيني جيدا، ولكن هذه اللائحة هي مفتاح الدسائس والمؤامرات، فأصدقاؤكم يرغبون في تجريدي من أصحابي ... لا، انزعوا هذه الأوهام من رءوسكم، وإني أعلمكم في الختام بأني سأعيد محمود باشا إلى الصدارة، فإنه على الأقل لا يخشى من انتقام الشعب وحنقه.
فوقف الوزراء وكادوا يتميزون. فوقف السلطان حينئذ هائجا مزبدا وصاح بهم: اخرجوا أيها الخونة، فإن تجاسرتم على المثول أمامي لأحزن رءوسكم حزا. فخرج الوزراء القهقرى وقلوبهم تتقد حنقا وغضبا.
الفصل الرابع عشر
مراد أفندي «ولي العهد»
وخرج الوزراء إلى الصدارة للاجتماع بزملائهم الذين كانوا بانتظارهم لمعرفة نتيجة مفاوضتهم مع السلطان، فلما علموا بما جرى، وبالإهانة التي لحقت بالصدر والوزراء أكبروا الأمر، وتذمروا من تجاوز السلطان الحد، وكانوا جميعهم قد فكروا منذ مدة بأن لا أمل بالإصلاح إلا بخلع السلطان، ولكن لم يكن الخلع عادة متبعة في تركيا، فلم يبق لديهم إلا القتل وهي الواسطة الوحيدة لتولي مراد أفندي عرض السلطنة على أنه لم يكن يتجاسر أحد من الوزراء على الاقتراع على قتل السلطان. فتفاوضوا مدة أربع ساعات، وقلبوا المسألة على وجوهها المختلفة، فقرروا بعد البحث والجدال باستفتاء شيخ الإسلام خير الله أفندي؛ إذ لا يخفى أنه لا يمكن خلع السلطان بغير تلك الفتوى الشرعية، فأنفذوا إليه مع ياورهم على ثقة من إخلاصه سؤالين مختومين من جميع الوزراء هما: (1)
ما قولكم دام فضلكم: إذا عجز سلطان عن القيام بشئون مملكته بسبب خلل في شعوره، أيجوز خلعه أم لا ...؟ أفيدوا ولكم الأجر والثواب. (2)
إذا أسرف سلطان في أموال الأمة وبددها على ملاذه الشخصية دون أن تعود بأدنى فائدة على الشعب. أيجوز خلعه أم لا ...؟ أفيدوا ولكم الأجر والثواب.
ولبث الوزراء بانتظار فتوى شيخ الإسلام كأنهم على مقالي الجمر، ولكن لم يطل اصطبارهم كثيرا حتى عاد إليهم الجواب في ذيل ذينك السؤالين، وهذا نصه:
بسم الله الرحمن الرحيم
بلى يجوز خلع السلطان إذا خرب بلاده بعناده وإسرافه؛ لأن السلطان هو أب لرعيته وليس بظالمهم، غفر الله له ولنا إنه الرحمن الرحيم.
الختم
خير الله
فلما وصلت هذه الفتوى الشرعية إلى الوزراء لم يبق عليهم إلا إجراء تنفيذها، على أن ذلك لم يكن من الهنات الهينات، كانوا يعرضون به حياتهم للهلاك، لكنهم قرروا أخيرا وجوب خلع السلطان في يوم «30 أيار» عند الظهيرة، وتولية ولي العهد مراد أفندي ابن أخيه بدلا منه.
وكان صلاح الدين بك منذ وفاة حبيبته قد استقال من وظيفته في سالونيك، وتعين رئيسا لأركان حرب المشير حسين عوني باشا، وكان هو رئيس العصابة المتآمرة على خلع السلطان يذوب حقدا، ويزداد رغبة في الانتقام، وقد ثقلت عليه الحياة منذ ذلك المصاب، فكان يسعى وراء كل غواية، ويبحث عن كل مهلكة أخذا بثأره، وكان حسين عوني باشا عالما بهذا كله، فكان يعهد إليه بالأمور الجسام فيقوم بها حق القيام حتى صار موضع سره، وركن اعتماده، وعليه قرر الوزراء أن يعهد إلى صلاح الدين بإيصال الخبر إلى ولي العهد بقرب توليه العرش، ولا يخفى أن تلك مهمة من أخطر المهمات وأوعرها طريقا وأصعبها مراسا، فطار صلاح الدين فرحا لما عرف ذلك، ولا غرابة فإنه كان قد مضى عليه سبع سنوات يعلل النفس بتلك الآمال ألا وهي الانتقام والأخذ بالثأر، ومن ثم تحرير العرش من ربقة الظلم والظالمين، وقد قربت تلك الساعة ودنا ذلك اليوم العظيم، فدبر أولا الحيلة للوصول إلى ولي العهد. فسار إلى محلة ألبيرا، وقصد خياط مراد أفندي، وسأله بكل هدوء وحزم عما إذا كان ثوب سمو مراد أفندي قد جهز.
فأجابه الخياط: كلا، فهو لم يفصل بعد؛ لأن سموه أمره بتفصيل غيره.
فقال صلاح الدين: لا بأس وهل ينجز نهار الجمعة؟
فأجابه: نعم، وقبل ذلك.
فقال صلاح الدين: إن سموه يرغب في الاطلاع على «مثل» الأجواخ الصيفية، فهل يمكنك إعطائي أحسن ما عندك منها مع بيان أثمانها ؟
فقام الخياط يسعى على العجل قائلا: سمعا وطاعة. ودبر له ما طلب، وقد وهم أنه من خدم ولي العهد. فبعد أن استلم صلاح الدين ما أراد سار إلى سراي جراغان حيث كان مراد أفندي مقيما في بناية صغيرة شادها له السلطان عبد العزيز؛ ليبقى دائما تحت سيطرته. •••
لا تخفى على القراء الكرام الشهرة التي نالها إسماعيل باشا خديوي مصر بعد افتتاح برزخ السويس وإعجاب أوروبا به، فهذه الشهرة كبرت مطامعه، وأكسبته صداقة السلطان وميل الباب العالي، فسعى وراء إلغاء وراثة العهد الإسلامية المبنية على أن يكون كبير العائلة وريثها وولي عهدها، مريدا بذلك الاقتداء بملوك أوروبا. فنجح وحصل على الفرمان الشهاني بأن يكون أبناؤه من بعده ورثاء عهده وحدهم، وهكذا حرم أخوه مصطفى فاضل باشا من حقوقه، وقد سر الأوروبيون من ذلك، وزاد إعجابهم بالخديوي، وعدوا عمله ضربا من الإصلاح واتباعا للتمدن الأوروبي. أما المسلمون في تركيا والبلاد الإسلامية فقد ساءهم خرق تلك العادة، ولا سيما لما علموا أن أمير المؤمنين وخليفة المسلمين لم يرض بخرقها في الخديوية المصرية فقط بل في السلطنة العثمانية أيضا؛ حيث أعلن أن ابنه يوسف عز الدين البالغ من عمره يومئذ عشر سنوات هو وريثه وولي عهده، مريدا بذلك حرمان ابن أخيه مراد أفندي وراثة العرش؛ فازداد لذلك ميل الناس إلى مراد أفندي، وصار موضوع حب الجميع ومحجة آمالهم.
كان السلطان عبد العزيز معطيا - والحق يقال - الحرية التامة لأولاد أخيه في أمر معيشتهم وتصرفهم إلى حين سفره إلى أوروبا حيث استصحبهم معه، فلما عاد أمر بحجزهم ومراقبتهم وخصوصا مراد أفندي، وكانت قد دبت في قلبه عقارب الحسد لما رأى احتفاء الملوك والأمراء به، وإعجابهم بذكائه، وعدم اكتراثهم بابنه يوسف عز الدين.
وكان لمراد أفندي مزرعة جميلة في جزيرة «برنكبو» تشبه بتنسيقها المزارع الأوروبية تماما، وكان يقضي فصل الصيف فيها بعيشة ساذجة، فيتزاور مع جيرانه، ويقطع أوقاته بالموسيقى أو باستقبال ضيوفه، وكان هؤلاء يعجبون من اللطف الغريب والإكرام العجيب اللذين كان يبذلها لهم ذلك الأمير الذي سيكون يوما ما سلطانا لمملكة آل عثمان.
فلما بدأ السلطان يفكر في نزع ولاية العهد منه، وتحويلها إلى نجله بدلا عنه، أصدر أمره بمنعه من الاصطياف في الجزيرة، ولم يسمح له أن يقيم في الصيف إلا في كشك صغير في «حيدر باشا»، ومنع الناس من زيارته إلا من كان هو على ثقة منهم. فأمر بتبديل خدمه وحشمه وخصيانه، وأقام الجواسيس يراقبون كل حركة من حركاته وأقل لفتة من لفتاته، وكان مراد أفندي كما قلنا ولوعا بفن الموسيقى يتلقاه عن أستاذ إيطالي، فأمر السلطان بطرد الأستاذ وحجز أوراق الموسيقى عن مراد، وضغط عليه بغير ذلك من أمور التضييق والمراقبة حتى ضاقت الدنيا في عينيه، وتغلبت عليه السويداء، وعرته السآمة والملل من كل شيء، فكان يشتهي كل يوم لو ولد فلاحا حرا لا أميرا من آل عثمان سجينا في قصره محروما من كل لذة في الحياة مقصيا عن الهيئة الاجتماعية، وازدادت المراقبة عليه والحجز على حريته لما هب حزب تركيا الفتاة يطالب بالإصلاح، فضاق صدره جدا حتى صار يقول لحاشيته: فليقتلوني وإلا اختلت شعوري ...
وفي صباح الاثنين الواقع في 29 أيار كان مراد أفندي جالسا تجاه أحد خصيانه يلاعبه بالنرد؛ ليضيع الوقت كعادته، وكان في ذلك النهار قلقا مضطربا على أنه لا يدري لذلك سببا، فكان يضرب الزهر بلا فكر، ثم سمع ضجة وجلبة في أحد غرف الخدم، وطرق أذنه صوت غريب، وجم منه خوفا، فقال لشيخين كانا جالسين في زاوية القاعة يدخنان، أن يذهب أحدهما لاستطلاع الخبر، فأجاب: ما لك ولهم خدم يتخاصمون. فتأفف مراد أفندي، وقال: لكن ألا يسوغ معرفة السبب وموجب تلك الجلبة؟!
فخرج أحدهما وعاد ووراءه رجل أرمني زري المنظر، فسلم على الحاضرين ببلاهة قبل أن يسلم على مراد أفندي، فضحك الجميع من بلاهته، فقال الخصي: هذا أمازجيان خياط سموك معه مثل (عينات) أجواخ. فقال مراد أفندي في نفسه سيرحمونني حتى اللباس؟ ثم قال للخصي: خذ منه المثل وقام عن الديوان وجلس، لكن الخياط هب عاجلا وقدمها بنفسه، ووقع نظر مراد أفندي عليه، فعرفه للحال أنه صلاح الدين بك، وأنه يريد بتخفيه إبلاغه أمرا مهما، فصمت وتمالك نفسه وتناول المثل وتفحصها قليلا، ثم قام إلى النافذة يظهر رغبته بفحص ألوانها على النور، فوجد بينها ورقة صغيرة مكتوب فيها بخط سري أنه سينادى به سلطانا في الغد؛ فجزع مراد أفندي لهذا النبأ الفجائي، وطار قلبه شعاعا، وخاف من مؤامرة وقتل، وأراد أن يخفي حاساته عن الجميع، فأشار إلى أحد الخدم أن يخرج مع الحاضرين فامتثلوا، وحينئذ رفع صلاح الدين طربوشه الذي كان مخفيا به سحنته، وانحنى إلى يدي ولي العهد يقبلهما، فقال له مراد أفندي: أي عزيزي صلاح الدين أأنت الذي عهدوا إليك بنقل هذا الخبر إلي؟ فإذن خلاصي قريب.
فأجابه: أي نعم يا مولاي، إن غدا ليوم عظيم ستهتز له تركيا طربا وسرورا، وإن غدا ليوم الانتقام.
فقال مراد: أي صديقي العزيز، قد بلغني خبر مصابك وتفاصيل شقائك لما منعوا عني جميع الأخبار السارة. فصمت صلاح الدين برهة لذلك التذكار، ثم قال: مولاي الفرصة أثمن من أن تضاع، لا تفكر بي؛ لأني لست بعد ذلك المصاب إلا آلة للانتقام والأخذ بالثأر، فعش سعيدا، وغدا نحطم قيود أسرك وسلاسل سجنك، وأسأل الله أن يمنحك عمرا طويلا وملكا سعيدا.
فأجابه مراد حزينا: لا تقل هذا يا صلاح الدين بك، فقد أنهكوا قواي، وإني شاعر باختلال شعوري، ثم قال: وماذا تفعلون بعمي عبد العزيز؟ فأجابه: يخلع ثم ينفى. فقاطعه مراد أفندي قائلا: لا، يجب ألا ينفى، واحرصوا على حياته خصوصا، وأستحلفكم بأغلظ الأيمان ألا تلطخوا العرش بالدم وألا تبللوه بالدمع، فإني صافح عما قاسيته منه، وأريد أن أعامله بالخير بدل الشر. وما عتم أن قال ذلك حتى دخل بعض الخصيان الجواسيس، فانحنى صلاح الدين بك قائلا: مولاي سينجز غدا كل شيء اتباعا لأمرك، فشكره مراد أفندي وصرفه. وخاف أن تخونه قواه فدخل إلى الحرم إخفاء لحاساته، وشكر الله على نجاته بعد أسر ست عشرة سنة.
الفصل الخامس عشر
ليلة 30 أيار 1876م
تلك ليلة من ليالي الدهر مشهورة، وستبقى في تاريخ آل عثمان إلى الأبد مسطورة، كان الجو فيها صافيا، والسكون تاما لا يتخلله إلا جري بعض الرسل الذين كانوا يذهبون ويجيئون من كل جانب.
ولما كان أهل الأستانة قد تعودوا رؤية مثل أولئك الرسل يتراكضون من جهة إلى أخرى امتثالا لأوامر الحرم والسراري؛ لم ينتبه أحد إليهم على أنهم كانوا ينقلون في ذلك المساء أخطر الأوامر وأشدها أهمية وهولا. ثم وصل أمر إلى بارجتين كبيرتين كانتا راسيتين في قرن الذهب بأن توقدا مراجلهما وتتأهبا للسفر، وسلم إلى الربان أمر مختوم لا يحق له فضه إلا على بعد عشرين ميلا في بحر مرمرا، وصدر أمر سري آخر من وزير الحربية إلى قومندان حرس السلطان الخاص أن يجيء بخيله ورجله وجميع معداته إلى الترسخانة، فامتثل وجاء بجنوده على عجل واهما أن ذلك أمر السلطان، فنقلوا جميعا إلى ظهر البارجتين.
وعند الساعة العاشرة رفع الجسر وخرجت البارجتان مقلتان أخلص الجنود والقواد للسلطان عبد العزيز، وارتاح الوزراء المتآمرون من شرهم، وأمنوا من إفشاء السر، وبدأت تباشير دسيستهم تبشر بالنجاح التام. وكان السلطان عبد العزيز في ذلك المساء متأثرا جدا مما حدث في الصباح بينه وبين وزرائه، وكانت والدته والسلطانة مهرى تشجعانه على الحزم والعزم وإلا جلب على نفسه الويل والشر. وأخيرا غلب على السلطانتين النعاس فرقدتا، وبقي السلطان وحده مسهدا قلقا مفكرا في الاحتياطات الصارمة التي كان عازما على اتخاذها في الغد، فقال: لا بد لي من أن أحذو حذو والدي، فقد ذبح في ليلة واحدة خمسمائة من زعماء الانكشارية، فارتاح وأراح البلاد من شرهم، وأنا لا بد لي من ذلك، فقد صدقت مهرى في قولها: إن الضعف مجلبة للهلاك. وما انتهى من هذا الفكر حتى سمع دوي مخر مراكب كبيرة تعج عجيجا شديدا. فقال في نفسه: ما هذه المراكب الخارجة الساعة؟ واشتد قلقه كثيرا؛ لأنه كان ممنوعا خروج المراكب ليلا مهما كان، فقام إلى النافذة وفتحها فوجد البارجتين خارجتين فدهش من ذلك؛ لحصوله بغير إذنه، وظن في الأمر دسيسة، فصاح والله يا حسين عوني لا أبقاني الله إذا بقيت إلى غد ونظرت مغيب شمسه. وخرج حنقا من غرفته إلى غرفة الياوران، وأمرهم على الفور أن يطيروا لاستدعاء وزير الحربية إليه، فطار رئيسهم على جواد كان مسروجا دائما لسرعة تنفيذ الأوامر، وطفق ينهب الأرض إلى السر عسكرية، وكان حسين عوني باشا مع اثنين من الوزراء يتآمرون والسرور طافح على وجوههم؛ لنجاح مسعاهم في إبعاد حرس السلطان الخاص. فلما وصل ياور السلطان انقلب سرورهم إلى رعب، وخافوا أن يكون أفشي السر وخان بعض المتآمرين، فقال حسين عوني باشا للياور: سر إلى السلطان وأخبره أني مقتف أثرك على عجل وأنفذ في الحال رسلا إلى بقية الوزراء يدعوهم للاجتماع به، فهرعوا إليه من كل جانب وقد ارتعشت قلوبهم وجلا، فقص عليهم حسين عوني باشا أن الياور أخبره بأن السلطان كان يكرر لشدة حنقه كلمات الخيانة والمؤامرة والدسيسة، وأخذوا يتشاورون فيما يعملون، وكاد الوقت يمضي وهم لم يجزموا بشيء فوقف أخيرا مدحت باشا خطيبا فيهم وقال: إن من الجنون التردد في العمل بعد الآن وإلا هلكنا جميعا في الغد بلا مشاحة، فلا يصح بعد ذلك احتمال أعمال هذا السلطان الجنونية؛ إذ لا بد من إنقاذ البلاد، وقد تم نصف ظفرنا ولا بد أن تتكلل مساعينا بالنجاح التام مع قليل من البسالة والإقدام.
فقالوا: ولكن ما الحيلة؟
قال: يجب التعجيل بخلع السلطان هذا المساء عوضا عن الغد، ويجب ألا تبزغ شمس غد إلا والسلطان عبد العزيز مخلوعا والسلطان مراد متسنما عرش آل عثمان.
فقال حسين عوني: قد قلت الحق ونطقت بالصواب، لكن ما الطريقة لذلك في هذا المساء ولسنا على أهبة تامة.
فأجابه مدحت باشا: نعم أنا عالم بخطورة المسألة، غير أن الوطن في خطر، وكل منا حامل على عاتقه قسما هائلا من المسئولية، ولا ينال العلى من لم يركب الخطر، فلا بد من إنقاذ تركيا من وهدة الهلاك، وعليه أرى أن يعهد إلى عوني باشا أن يذهب الساعة لإيقاظ ولي العهد ، واستحضاره إلى السر عسكرية، ونحن نستدعي شيخ الإسلام، ويذهب رديف باشا إلى ثكنة طلمه بغجه فيأمر بتوقيف الضباط والجنود الباقية فيها للحراسة، ويسلم قيادة الجنود التي اخترناها لمحاصرة السراي إلى صلاح بك، ويتخذ وزير البحرية مثل هذه الوسائل في الدوارع الراسية أمام طلمه بغجه، وبعد أن يتم كل شيء بالحذر والحكمة والجسارة والإقدام يذهب رديف باشا فيبلغ السلطان خبر خلعه ويخرجه من سرايه إلى السراي القديمة، ونجري نحن المبايعة للسلطان الجديد، وهكذا لا يبزغ فجر غد حتى تنتقل تركيا إلى طور جديد سعيد إن شاء الله.
فصادق الجميع على هذا الرأي، وعلى وجوب العمل به حالا.
وعند نصف الليل تماما خرج رديف باشا يصحبه صلاح الدين بك مع 30 ضابطا من المتآمرين كانوا معهما، وقصدوا ثكنة طلمه بغجه، فلما رأى الضباط والجنود الوزير خفوا للقائه والتسليم عليه، فأبرز رديف أمرا من السر عسكرية بتوقيف الضباط فأوقفهم بلا ممانعة، وعهد صلاح الدين إلى بقية الضباط الذين استصحبهم معه باستلام مراكزهم، واستلم هو القيادة الكبرى، فأمر الجنود أن تتهيأ للمسير بكامل معداتهم، فلم تمض عشر دقائق حتى تجمع الجنود في ساحة الثكنة مدهوشين من إيقاظهم في تلك الساعة، فتناول صلاح الدين مسدسه واستعرض كل نفر منهم فردا فردا؛ ليعرف إذا كان بينهم خائن أو جاسوس، فلما فرغ خاطب الجنود قائلا: الوطن في خطر، أترون هذا المسدس فكل من ينبس منكم ببنت شفة مات في الحال، وأمري الوحيد إليكم الصمت التام ... فلم يجب أحد بشيء، وحينئذ استل رديف باشا حسامه ومسدسه بيده، وسار والجنود تتبعه بقيادة صلاح الدين بك، وانحدروا حتى سراي طلمه بغجه، وكان يظهر أن الجمع هنالك نيام والسكوت تام والظلام دامس شديد الحلك، فتقدم رديف إلى الباب الحديدي، وقبل أن يسأل الحارس من القادم تقدم إليه ضابط مصوبا مسدسه إلى صدره فأعطاه كلمة التعارف، ثم أمر الضباط بتوقيف الحارس وإبداله بغيره، وظل يفعل مثل هذا مع كل حارس حتى فتحت جميع الأبواب، فدخلت الجنود وأحاطت بالسراي إحاطة السوار بالمعصم، وبقيت - والحق يقال - الجنود جاهلة السبب في هذا كله، وقد وهموا أنهم يعملون بأمر السلطان. فوزع صلاح الدين الضباط على المراكز، وأخذ على نفسه أخطرها؛ أي حراسة الباب الكبير، وهناك اتكأ على سيفه المسلول، ورفع رأسه إلى نوافذ السراي، وقال: أي سلطانة مهرى قد أزفت ساعة الانتقام.
فلما رأى رديف باشا أن جميع الاحتياطات قد أخذت من الخارج تقدم إلى السلم الكبرى فصعدها وثلاثة من الضباط تتبعه، وسار إلى قاعة الخصيان، فذعر هؤلاء لما شاهدوا أولئك الزوار في تلك الساعة، ولم يعرفوهم لأول وهلة، فصاحوا ماذا جاء بكم إلى هنا؟ ومن أين دخلتم؟ ومن أنتم؟ وماذا تريدون؟ فأجابهم رديف: لا ثرثرة ولا هذيان أنا رديف باشا أريد مقابلة السلطان لأمر مهم، فليذهب أحدكم وليخبر رئيس الخصيان أن يدخلني عليه الساعة بلا إبطاء. فقالوا: أفندم الجميع نيام في الحرم، فصاح به رديف اذهب وقل كما أمرتك.
فخاف الخصي وسار إلى رئيسه يخبره بما كان، فقام مهرولا وكان عبدا أسود طويل القامة هائل الجثة. فلما وصل قال غاضبا: أي رديف، ماذا أصابك حتى جئت توقظني في مثل هذه الساعة، ولو لم يخبرني هذا العبد بأن المسألة هامة لما جئت.
فأجابه رديف عابسا: قد أحسنت بمجيئك، وإلا لكنت ذهبت بنفسي وأيقظتك بحد هذا الحسام، والآن سر وأخبر مولاك أني أريد مقابلته الساعة بلا تأخر ولا إمهال.
فصاح الخصي: أي رديف، أجننت؟! أو أنت راغب في حز رأسك حتى تجاسر على هذا الكلام وإيقاظ جلالة السلطان؟! إذن هو نائم، نعم، قد رقد الساعة. - اعلم إذن أن تركيا بعد الآن قد تملصت من نير الحرم والخصيان، وهذه الليلة هي آخر ليالي الظلم والاستبداد، وإذا كنت في شك مما أقول فتقدم. ثم تناول الخصي من يده وسار به إلى شرفة، وقال له: انظر الجنود المحيقة بالسراي؛ فذعر الخصيان ورعبوا، وصاروا يولولون كالنساء.
فانتهرهم رديف قائلا: كل من يرفع صوته أخطف نفسه، فصمتوا للحال كأن على رءوسهم الطير، فقال رديف لرئيسهم وقد جمد الدم في عروقه من الخوف: اذهب وأخبر السلطان بما سمعت وشاهدت، وإني أريد مقابلته الساعة ...
فأجاب الخصي: «آمان أفندمز» لا أتجاسر على ذلك؛ لأنه يحز رأسي.
فقال له رديف: لا تخش شيئا خذ هذا القنديل وسر أمامي، فقال الخصي: ألست عازما على قتله على الأقل ...؟ فأجابه بازدراء: لست بسفاح. سر بنا. أين الطريق؟
فسار الخصي صاعدا السلم الرخامية يتبعه رديف وضباطه الثلاثة، فاجتازوا رواقات وقاعات كبيرة فارغة حتى وصلوا غرفة السلطان، ولم يتجاسر الخصي على فتح الباب، فوقف وأخذ يتوسل إلى رديف باشا بإعفائه من هذه المهمة فصوب رديف المسدس إلى صدره وقال: إذا لم تمتثل أخمد أنفاسك هذه الساعة. فطار قلب الخصي ذعرا وهلعا، وقال: انتظرني هنا على الأقل؛ لأن السلطان ليس وحده. فقال رديف: لا بأس فأنا بانتظاره.
وهكذا دخل الخصي وقام رديف باشا بكل رباطة جأش يشعل قناديل الغرفة وشموعها، ولم يكد يفرغ منها حتى أطل السلطان على عتبة باب غرفته، فتقدم إلى وزيره بوجه عابس، وقال له بصوت يرتجف غضبا: ماذا تريد الساعة مني حتى تجرأت على إيقاظي. فانحنى رديف باشا بكل احترام ووقار مسلما، وقال: أمرت جلالتك يا مولاي، باستدعاء السر عسكر ولما كان منهمكا في شئون الدولة والأمة لم يتمكن من الامتثال لأمرك الكريم. - أو هذا كل ما تريده؟ وهل جئت لتعتذر عن ذلك المجنون الذي تجاسر على إنفاذك إلي في مثل هذه الساعة؟ - لا يا صاحب الجلالة، لو كان الأمر كذلك فقط ما كنت أقلقت راحة جلالتك، وإنما هنالك أمر أهم وكل دقيقة تمر تزيده خطرا. - قل إذن ماذا تريد؟ أمن مؤامرة علي؟ - نعم، لقد أصبت.
فصاح السلطان: من وأين وكيف، وماذا جرى؟
فانحنى رديف باشا قائلا: هذا الكتاب المنفذ إليك من جلالة ابن أخيك ينبئك ما تريد؟
فتناول السلطان الكتاب وهو يظن نفسه في منام، ولم يكد يتصفح العبارة الأولى منه حتى امتقع لونه، وطار صوابه، وصاح أيها الخونة اللئام والأدنياء الطغام، أظننتموني أخشى وعيدكم أو يروعني تهديدكم، أتطلبون مني الرضوخ لسلطان جديد، فمن ذا الذي تجاسر على خلعي من عرشي؟
فأجابه رديف باشا بسكون جأش: الشعب والجند والعلماء والأئمة، وإذا كنت جلالتك في ريب من ذلك، فما عليك إلا أن تشرف من نوافذ قصرك فترى جند البر والبحر قد انصاعوا لأوامرنا، وأن ليس لك من مهرب أو مغيث، ولا لديك حيلة إلا التسليم للقضاء والطاعة للسلطان الجديد، فضج السلطان وصخب لما رأى الجنود محيقة به، وأخذ يصيح كذي جنة يا للخيانة يا للسفالة ... يا لقومي يا لجنودي ... فقال له رديف باشا: مولاي الفرصة أثمن من أن تضاعظن أرجوك ألا تعرض حياتك للخطر، فإن حراسك وقوادك موضع ثقتك وركن اعتمادك هم الآن على بعد عشرين ميلا في بحر مرمرا. فعرف السلطان حينئذ أن لا خلاص ولا مناص ولا حيلة إلا بالرضوخ والامتثال، فقال: العزل خير من تولي شعب خائن وجيش عاق.
وكانت السلطانة مهرى قد استطالت غيبة السلطان فقلقت، ثم سمعت الجلبة فضجت وأعولت، وأخذت تنادي بالويل والثبور وعظائم الأمور. فصاح بها السلطان أن تصمت فصمتت. وطفقت تبكي وتنوح، وتراءت لديها عمته السلطانة علية وميتتها، فازداد رعبها ونحيبها.
ووقف السلطان برهة يتأمل في تلك الساعة الهائلة، ثم التفت إلى الخصي، وأمره أن يأتيه بردائه فألقاه على كتفيه، وعهد إليه بالسلطانة مهرى خاصة، والتفت إلى وزيره قائلا: هيا بنا إلى أين المسير. فأجابه رديف: إن على الباب زورقا، وإذا بامرأة هجمت على الحاضرين، واعترضت خروج السلطان، وصاحت أيها الخونة اللئام إلى أين تسيرون بسلطانكم وولي نعمتكم؟ فقال لها السلطان: أي مهرى العزيزة، دعينا نسير على خيرة الله، ولا تزيدي قلقي ومصابي، ولا تعرضي حياتك وحياتي للخطر. سلمي أمرك لله كما سلمته أنا نفسي، فإنه ولا شك سيجازي الخونة على خيانتهم، وهو على كل شيء قدير.
فأجهشت مهرى بالبكاء قائلة: وهل أراك بعد الآن؟
فأجابها رديف: نعم بعد ساعة تجتمعين به فلا يفرقكما أحد بعد ذلك.
وانحدر السلطان يلعن وزراءه وضباطه وجنده، وخصوصا نجله يوسف عز الدين؛ لأنه كان رئيس حرسه، وكان في تلك الليلة نائما لم يعرف شيئا ...
وعادت مهرى تبكي وتنتحب وتندب سوء حظها. وإذا بصوت يقول: الوقت أثمن من أن يضاع بالبكاء والنحيب، فيجب أن نعلم بقية السلطانات والحرم بسرعة التأهب؛ لأنه يجب مفارقة السراي قبل بزوغ الفجر. فرفعت السلطانة نظرها ومسحت دموعها، وإذا القائل رئيس الخصيان، فصاحت به أو هذه تعزيتك لي الساعة؟ - مولاتي البكاء لا يرد الفائت، والحكمة تقضي بالنظر في المستقبل. - آه يا ليتني مت قبل الساعة، وكنت نسيا منسيا ... وبعد فهل تعرف إلى أين ساروا بالسلطان؟ - سمعت رديف لما ركب مع السلطان الزورق الذي أعدوه له يأمر البحارة بالاتجاه إلى أسكى سراي. - أو هذه هي السراي التي اختاروها منفى لسلطانهم في عاصمته نفسها، آه يا رباه ... صوب انتقامك إلي، وأوقفه عندي، فأنا وحدي المسيئة وأنا وحدي المذنبة.
وطاف الخصيان يوقظون الحرم والنساء، ويعلمونهم بالتأهب للخروج من السراي، فلما عرفن السبب أخذن يولولن ويصخبن، فيملأن جوانب السراي بكاء ونحيبا، وقد تأهبن للمسير فجمعن أثمن ما عندهن من المال والجواهر، وأخذ الخدم ينقلونهن إلى الزوارق. وهكذا أخلين تلك السراي في أقل من ساعة من الزمان.
وركبت والدة السلطان مع السلطانة مهرى، وبقية السلطانات وأولادهن في زورق خاص استلم صلاح الدين دفته بيده غير آذن لأحد باستلامه، فلما ابتعد الزورق عن السراي تنهدت مهرى من أعماق قلبها، فتبسم لها صلاح الدين ابتسامة خفيفة دلالة على الظفر، فأدارت مهرى وجهها كي لا تراه، وقضت السلطانات تلك المسافة بالبكاء والنحيب، واستمطار اللعنات على الخائنين، فلما وصلن إلى السراي التي خصصت للسلطان عبد العزيز عهد صلاح الدين بالدفة إلى أحد البحارة، وانحدر قبل الجميع يساعد السلطانات على الانحدار إلى الرصيف، ولكن السلطانات رفضن مساعدته، وفضلن عليها خطر السقوط في البحر، وقابلنه بالشتائم. وجاءت مهرى آخر الجميع متكئة على ذراع جاريتها، فزلت قدم الجارية فسقطت وكادت تجر السلطانة مهرى معها، فذعرت هذه وصاحت مستغيثة، وإذا بيد قوية نشلتها فأنجتها من السقوط، ووضعتها على الرصيف سالمة، فالتفتت إلى صلاح الدين، وقالت له: جزاك الله جزاء ما فعلت معي. ودخلت السراي التي انتقوها منفي لذلك السلطان العظيم الشأن. •••
ولم يبزغ فجر 30 أيار حتى بدأت المدافع تدوي في أرجاء الأستانة مبشرة بإبدال السلطان بغير إهراق نقطة من الدم أو حدوث أقل مناوشة أو خصام، الأمر الذي لم يسبق له مثيل في تاريخ آل عثمان منذ نشأتهم إلى يومنا هذا.
وقد أوجبت تلك الثورة السلمية التي لم تطل أكثر من ليلة دهشة العالم قاطبة، وأعجب بها الأوروبيون خاصة، وقابل الشعب خلع السلطان عبد العزيز وتولي ابن أخيه السلطان مراد الخامس بمزيد الفرح والسرور، وتوسموا في أميرهم الجديد طلائع الحرية والإصلاح، وهب السكان يريدون المظاهرة بفرحهم، فبلغهم أن السلطان الجديد خارج من السر عسكرية إلى سراي طلمه بغجه فامتلأت بهم الشوارع والطرق على اختلاف أجناسهم وأديانهم يهنئون بعضهم بعضا بذلك العهد الجديد.
وعند الساعة الثالثة من النهار ركب السلطان عربة فاخرة وحده، ولبس في يديه قفازا أبيض، وكانت تلك المرة الأولى التي لبس فيها سلطان القفاز في مثل تلك الساعة، فقابله الناس بالتهليل والدعاء، وطفق هو يحييهم مبتسما، وملامح الأنس واللطف بادية على محياه فاجتذب أفئدة الجميع. وكان الياوران يحيطون به من كل جانب تحت رئاسة صلاح الدين بك الذي كاد لا يصدق أن يرى ما يرى فاجتاز الموكب جسر قره قوى، ثم غلطه سراي حتى طلمه بغجه. وقبل أن تجتاز العربة الباب تقدم ضابط يعرفه السلطان، ورفع إليه كتابا مختوما، فتناول السلطان الكتاب بتلهف؛ لأنه عرف من حامله حسن بك أنه من عمه، وتشوق الناس لمعرفة فحوى الكتاب، وإذا بجرائد المساء صدرت ناشرة صورته، فعرف الناس حينئذ اعتراف السلطان المخلوع بتولي ابن أخيه، ورضوخه له، وتسليمه أمره إليه، وهذه صورة الكتاب:
شوكتلو عظمتلو أفندم
اسمح لأحقر رجل من رعيتك أن يكون في مقدمة المهنئين لك، سائلا الله المتعال أن يطيل ملكك، ويجعل لك مستقبلا سعيدا، ورجائي الوحيد إليك أن تحرص على حياتي، وأن تأذن لي بالإقامة مع عائلتي في القسم الذي بنيته لجلالتك في سراي جراغان.
وأسأل الله أن يلهمك بحكمته السامية ما فيه خير الأمة والدولة. وإذا كنت أتجاسر على تقديم رأيي فهو ألا تضع ثقتك في جيشك، فقد ضحيت كل شيء من أجله وهو الذي خانني. وفي الختام أسأل الله عز وجل أن يهبك عمرا طويلا وعيشا هنيئا.
هذا دعاء أخلص عبيدك وأشدهم لك احتراما.
عبد العزيز
وذكرت الجرائد بعد نشرها هذا الكتاب أن جلالة السلطان مراد أمر في الحال بإجابة طلب عمه.
وقد دهش الجميع من رضوخ ذلك السلطان الجبار وطاعته، وتفاءلوا خيرا وأمنوا على حياته؛ لأنه - كما قلنا - كانت العادة الجارية لذلك العهد قتل السلاطين لا خلعهم، كما أنهم كانوا يقتلون أولياء عهدهم لراحتهم.
ولما جاء المساء انجلت الأستانة كالعروس بزينتها البهية، وبالغت في ذلك حتى كانت كأنها شعلة نار، وكان السلطان مراد في القاعة الكبرى يقابل وفود المهنئين، وقد أمر بدخول جميع الناس عليه، وكانوا على اختلاف طبقاتهم يرون منه مزيد اللطف والإيناس.
الفصل السادس عشر
موت السلطان عبد العزيز
قلنا: إنه كان للكتاب الذي أنفذه السلطان عبد العزيز إلى السلطان مراد رنة عظيمة في محافل الأستانة ونواديها، وقد علق عليه حزبه القديم أهمية كبرى، وظنوا أنها حيلة لإخماد الضغائن، وتسكين الخواطر، وتدبير وسيلة للانتقام متى عاد فتغير الرأي العام. فلما نقل السلطان عبد العزيز إلى سراي جراغان، وأبدلوا له خدمه وحشمه وخصيانه جميعا بغيرهم ممن عرفوا بإخلاصهم للسلطان الجديد، أدرك أن لا أمل من العود إلى العرش، واستولى عليه اليأس والقنوط، فعرف حينئذ صعوبة السقوط وزوال النعمة. ولما كان لا نفس كبيرة في صدره تشجعه على احتمال الأرزاء ومصائب الدهر وتقلبات الأيام، كبر عليه مصابه، وتغلبت عليه طبيعته الفطرية، فتغيرت أطواره، وتبدلت أخلاقه، وصار يقضي ليله ونهاره بالسباب والشتائم، واستمطار اللعنات على جميع الناس يبكي عرشه المنثل، وينوح على عزه السابق ومجده القديم، وكانت والدته مع بقية نسائه وحرمه يحاولن عبثا تطييب خاطره وتهدئة باله، وهو يزداد حنقا وغضبا حتى خشي عليه من الانتحار؛ لعدم احتمال معيشة الأسر في إحدى زوايا قصره، وفي نفس عاصمته، ولا يخفى أن النفي يثقل جدا على الملوك فكيف السجن إذا كان على أبواب قصورهم، وخصوصا إذا كان السجين كالسلطان عبد العزيز معدودا في مقدمة ملوك المشرق في حب الأثرة والملك؛ ولذا ثقلت عليه هذه الحياة، ففارق عينيه الرقاد، واستولى عليه السهاد، وبقي خمسة أيام لا يلذ له طعام ولا شراب، وهو لم يذق غمضا، ولم تلامس جنبه أرضا ...
وبزغ فجر الأحد الأول من شهر حزيران والسلطان عبد العزيز جالس على ديوان ينظر بعين جامدة بهاء ذلك النهار، ووالدته إلى جانبه تنظر بعين حزينة إلى ما صار إليه ولدها بعد الإقبال والسؤدد، والسلطانة مهرى تصك أسنانها ملتحفة في فراشها ليس من البرد، بل من جراء نوبة عصبية كانت تثيرها عليها الهواجس والأحزان وسوء المآل.
ولما طلعت الشمس قام السلطان يتمشى في غرفته ذهابا وإيابا كالأسد السجين في قفصه الحديدي، وكانت أقدامه لا تكاد تقوى على حمل جسمه، ثم التفت إلى والدته فقال: أتتذكرين يا أماه أني لما أمرت ببناء هذا القسم قال المهندس: إن هذا المكان كان قبرا لأحد الدراويش من ذوي الكرامات، وإن ذلك يعود علينا بشر، أتتذكرين ذلك؟ فأجابته: نعم أتذكر، وأذكر كيف أن مهرى أيضا سخرت من نبوءته وألحت بوجوب إتمامه ...
فانتبهت مهرى لهذا الكلام قائلة: هذا قضاء وقدر. فلم يجب السلطان إلا بالتأوه والحسرات.
فقالت له والدته حينئذ: دع عنك يا ولداه هذه الأفكار السوداء، واحترس على صحتك وحياتك فقد أصبحت خيالا.
فأجابها: خففي عنك فإن الفرح قريب إن شاء الله، وهو سيرزقني قوة كافية للنجاة. فلم تفهم والدته ما يعني بقوله هذا، فأجابت: نعم، إنه الرحمن الرحيم، وهو لا شك سينتقم لك من الخونة، ويعيدك إلى عرشك.
فهز السلطان رأسه استخفافا وقال: هل سمعت أو رأيت ملكا عاد إلى عرشه بعد ائتمار شعبه عليه؟
فقالت له مهرى: كلا ليس شعبك هو الذي خانك، بل تلك إحدى الدسائس الجارية في الأستانة، وقد أخبرني حسن بك أن الدسائس هذه لا تزال على قدم وساق، وأن الذي يظن نفسه ثابتا في عرشه ... لا يلبث عليه طويلا. فصاح بها السلطان اصمتي يا مهرى ودعي هذا الكلام ... فلا أريد بعد الآن سماع ألفاظ المؤامرات والأصحاب والأعداء، ولا أريد معرفة شيء، ولا رغبة لي إلا في الراحة والسكينة ... فقد سئمت الحياة ... آه يا رباه قد قضي علي ألا أذوق طعم الراحة والعزلة، فلا يمكنني البقاء دقيقة إلا محتاطا بالجواسيس والخدم الخونة والنساء الكثيرات الهوس. فقالت له والدته ومهرى وقد خافتا أن يتكدر منهما: أتريد أن نبتعد عنك قليلا التماسا لراحتك؟ - نعم، دعوني أرتاح قليلا على هذا الديوان.
فنهضتا للحال وتأهبتا للخروج، وقالت له مهرى: إذا احتجت أمرا مر باستدعائي في الحال، وأرجوك أن تطرد عنك كل هذه الأفكار السوداء. فقال لها باسما: كوني براحة بال فإسماعيل بك في الغرفة المجاورة لمراقبتي ... وأرسلي لي مرآة ومقصا فإني أريد تسوية لحيتي. فخرجت مهرى ووالدته وقلبهما في اضطراب شديد؛ لشدة ما أحسا من القلق عليه، ودخلتا غرفة مجاورة؛ لتكونا على مقربة منه، وأرسلت له مهرى مع جارية المرآة والمقص.
وكانت مهرى ترسل بعض الجواري من حين إلى آخر لافتقاده، وكانت تطمئن لما كن يخبرنها بأنه جالس على الديوان أمام المرآة مهتم بتسوية لحيته، وأن إسماعيل بك في طرف الغرفة يتصفح الجرائد. فقالت مهرى: إذن ليس هو وحده فالحمد لله، وقالت والدته: وأنا قد أخفيت عنه جميع الأسلحة خوفا عليه من الانتحار، فقالت مهرى: ولكن لماذا أمر بإبعادنا عنه ...؟ فإني قلقة عليه، فأجابتها والدته: ما الحيلة الله كريم ... ولم تتم هذه الكلمة حتى سمعت ضجة وخصاما بين اثنين، فذعرتا وصاحتا يا الله ماذا جرى؟ هرولتا إلى غرفة السلطان، فوجدتا منظرا هائلا ترتجف منه الأبدان فصعقتا لهوله. كان السلطان عبد العزيز ملقى على الديوان مخضبا بدمه المتدفق من أرساغه ومعاصمه مكفهر الوجه وقد انحنى رأسه على كتفه، وإسماعيل بك يحاول عبثا الضغط على الجراح لمنع الدم من الانفجار، فصرخت السلطانتان وأعولتا، فتراكض إليهما جميع من في السراي من رجال ونساء، وانطرحت والدته والسلطانة مهرى تبكيانه وتكلمانه، وكسرت بقية النساء نوافذ الغرف وملأن الفضاء صراخا وعويلا يستغثن ولا من مجيب، ويستصرخن ولا من معين، وكان هدير البوسفور الجواب الوحيد، وإذا بالطبيب العسكري جاء يصحبه بعض الخصيان، فتقدم من السلطان مرتجفا وقد طوقته الأنظار، وتعلقت الآمال على شفتيه، فانحنى وأخذ يتفحص الجراح، ثم نهض وطلب الآلة التي كانت سبب الموت فأعطته مهرى المقص، وصاحت لقد مات من يدي وأغمي عليها، فلم يتمكن الطبيب إلا من تحقيق الموت، فأحاط الحاضرون بإسماعيل بك يتهددونه بتمزيق جسمه وقد اتهموه بقتل السلطان، وأخذ هو يحاول تبرئة نفسه ويقص عليهم ما جرى، وأنه لم ينتبه إلى عمل السلطان ومحاولته فتح شرايينه إلا بعد أن قضي الأمر، فهرع إليه حينئذ يحاول نزع المقص منه، ولكن السلطان كان قد سقط ميتا، فلم يصدقوه وهجموا عليه يضربونه، ولكنه تمكن أخيرا من النجاة من بين مخالبهم فأركن إلى الفرار.
وستبقى هذه المسألة العويصة لغزا غامضا في التاريخ؛ إذ لم يتمكن أحد حتى الآن الجزم فيما إذا كان السلطان عبد العزيز مات مقتولا أو منتحرا.
ولما بلغ السلطان مراد خبر وفاة عمه وتفصيل موته، استولى عليه عارض عصبي فأخذ يبكي وينوح، وقد خاف أن يتهمه الناس بأن له في مقتل عمه يدا، وكانت تلك الساعة بداية اختلال شعوره. ثم جاءوا باثني عشر طبيبا من إفرنج وأتراك ومعهم أطباء السفراء للكشف عن سبب القتل، فأصدروا تقريرا نشرته جرائد ذلك العهد من مقتضاه أن الجراح يمكن أن تكون مسببة عن الانتحار، وجرى دفن السلطان عبد العزيز في الغد بلا احتفال خوفا من مظاهرة الشعب؛ إذ كان لخبر وفاته تأثير عظيم عند جميع الناس حتى عند أعدائه وخصومه.
ونشرت الجرائد بعد مضي خمسة عشر يوما من وفاة السلطان الخبر الآتي:
انتقلت إلى رحمة ربها تعالى السلطانة مهرى وهي على أهبة الولادة، وذلك من شدة تأثرها على فقد زوجها العظيم الشأن، وقد اشتد عليها الحزن إلى درجة أن وقعت في مرض عضال عجزت عنه حيل الأطباء، فذهب بحياة تلك السلطانة البارعة الجمال، وسيحتفل غدا بدفنها في يكى جامع تغمدها الله برحمته ورضوانه.
وفي 20 يوليو «تموز» اجتمع السادة الأعلام والأئمة والمشايخ للاحتفال بمشهد السلطانة مهرى، فساروا أمامه يرتلون، وسار الناس وراء النعش، وكان مغطي بشال كشميري ثمين يتبعه بعض الباشاوات والوزراء، وكان الخصيان والأغاوات يتناوبون حمله اتباعا للعادة الشرقية في مآتمهم إلا ضابطا كان يحمل ويرفض إخلاء مركزه، وكان ذلك الضابط مرتديا بدلته العسكرية، فعرفه الناس إنه حسن بك شقيق المتوفاة، وكانت عيناه تتقدان نارا تطفئهما من آن إلى آخر دمعة أحر من الجمر، وكان يجيب كل من يطلب إليه الراحة: لم يبق لي إلا هذه اللحظة اليسيرة لحمل هذه الشقيقة العزيزة فلا تحرموني منها.
ولما وصل الناس إلى تربة السلطان أيوب وأروا الجثة في حفرة، وبعد أن أقاموا عليها الصلاة، وكرروا عبارات التعزية لشقيقها الحزين عاد كل إلى عمله، وبقي شقيقها وحده على القبر متكئا على جذع شجرة غائصا في بحار التأملات والأفكار، فلم يفق إلا وقد وجد نفسه وحيدا على ذلك الضريح، وقد خيمت عليه رهبة الموت وهيبة الأبدية، فتنهد من قلب مقروح، ثم صاح: أي مهرى العزيزة، لأقسمن بضريحك إني لأجعلن عظامك تهتز طربا عندما تشعر بمرور جثت أعدائك، فإذا سمعت تلاوة الصلوات والآيات تذكري شقيقك؛ لأنه لا يطيل عليك بعاده، فهو لاحق بك عن قريب، وهذا البدر لا يصير هلالا حتى تحفر حفرتي إلى جانبك ...
قال هذا ونهض وانتفض منتعش الفؤاد لذلك اليمين، وخرج من التربة صابرا، فدهش جميع من رآه، وأعجبوا من صبره واحتماله مصابه ...
الفصل السابع عشر
مجلس الوزراء
كانت وفاة السلطان عبد العزيز الضربة الأولى على عقل السلطان مراد كما قلنا، وقد بلغ منه التأثر حدا أعدمه لذة الرقاد وتناوبته الحمى، فأشار الأطباء بوجوب انقطاعه عن النظر في شئون الدولة واللهو بالتنزه والتسلية.
وهكذا تعذر على الوزراء الاجتماع في السراي، فصاروا يعقدون جلساتهم تارة في الباب العالي، وطورا في السر عسكرية، وأحيانا في دار مدحت باشا.
ثم شعر حسين عوني باشا بهياج بين الحزب العسكري القديم وبميل إلى نجل السلطان عبد العزيز، فعزم على نفي رؤسائه وفي مقدمتهم حسن بك زعيمهم، فرقاه أولا إلى رتبة قومندان الفيلق السادس المقيم في بغداد، ثم أصدر أمره إليه باتباع فيلقه، فأبى حسن بك الرضوخ، فأمر السر عسكر بسجنه، فبعد أن عقل أربعة أيام مسجونا تظاهر بالرضوخ والامتثال، فأخلوا سبيله بعد أن شرطوا عليه السفر في الغد، وهكذا خرج من سجنه فسار أولا إلى منزله فارتدى بدلته العسكرية، وأخفى تحتها مسدسين وخنجرا، واكترى زورقا، وسار إلى تربة السلطان أيوب فدخلها، وسار إلى قبر شقيقته فجثا وصلى، ثم عاد إلى زورقه قاصدا أسكى دار. ولا يخفى أن أعيان الأستانة وعظماءها قد اختاروا ذلك القسم الآسيوي من الأستانة مقاما لهم. وكان لحسين عوني باشا فيها دار جميلة فيممها حسن بك حتى وصلها، فأخبره الخدم أن الوزير قد سار إلى إستانبول لحضور مجلس الوزراء الذي سيعقد في ذلك المساء عند مدحت باشا، فعاد حسن على أعقابه حتى وصل بزورقه إلى أسكلة «سركجى» فانحدر إلى البر، وأخذ يسير في الطرق العوجاء الضيقة، وكانت الشمس قد غربت وأسدلت الظلماء نقابها الحالك، فقال حسن: ها قد بدأ الاجتماع وآذنت الساعة، فخف عاجلا حتى صار أمام الدار فوجد الخدم قد فرغوا من طعام المساء، وأخذوا يشربون القهوة ويدخنون بكل سرور وهناء، فلما عرفوا حسن بك خفوا للقائه والتسليم عليه، وصعد السلم فلم يعارضه أحد، وكان أحد الأغاوات جالسا في أعلاه ينتظر أوامر الوزراء، فلما رأى حسنا عرفه فتقدم إليه وسأله مدهوشا: أي حسن بك، أي حظ ساقك إلى هنا؟ - إني مسافر غدا؛ ولذا رغبت في مقابلة وزير الحربية لمفاوضته في أمر هام. - إن دولته في المجلس الآن، وأشار إلى القاعة حيث كان الوزراء مجتمعين، وقد أسدل على الباب ستار من حرير. - ولكن لا بد من مفاوضته الساعة. - أتريد إذن أن أعلم ياوره بذلك؟ - من هو الآن؟ - توفيق بك. - وأين صلاح الدين؟ - ذهب هذه الساعة إلى الباب العالي، وأرجوك أن تبتعد قليلا حتى أستدعي لك توفيق بك.
فتظاهر حسن بالامتثال وابتعد إلى النافذة، فانحدر الأغا يبحث عن ياور الوزير، ولم يكد يغيب عن الأنظار حتى تقدم حسن الهوينا مشيا على رءوس قدميه، ورفع ستار الباب بخفة فوجد الوزراء مجتمعين حول منضدة، وأوراق كثيرة مكدسة أمامهم وهم يتباحثون بصوت عال، فأدار لحظة قليلا متفحصا مراكزهم، وتناول المسدسين من جيبه وسقط عليهم كجلمود صخر حطه السيل من عل، فتقدم أولا إلى حسين عوني باشا مصوبا مسدسه إليه، وانتهره قائلا: حسين عوني إياك أن تتحرك خذها وأطلق عليه رصاصة أصابته في صدره، فتمكن رغما من ذلك من النهوض، ولكن حسنا عاجله بضربة خنجر جندله بها قتيلا فذعر الوزراء، وقاموا يطلبون النجاة إلا رشيد باشا، وكان ضعيف القلب والبنية، فأغمي عليه وبقي في كرسيه، وتمكن مدحت باشا مع بعض الوزراء من الفرار من باب سري يؤدي إلى الحريم، وحاول أحمد باشا مدة القبض على حسن، ولكن أصابته رصاصة في كتفه فتركه وفر هاربا، وأدار حسن لحظه في القاعة فلم يجد إلا حسين عوني قتيلا ورشيد باشا مغمى عليه في كرسيه، وكان لا يريد قتله، ولكن الغضب قد أعماه وبغير أن يدرك ما هو فاعل تقدم إليه وصوب بمسدسه إلى أم رأسه وأطلقه فمات لساعته منتقلا من غيبوبة الإغماء إلى الموت بدون ألم. ثم تراكض توفيق بك والخدم لما سمعوا إطلاق الرصاص وصراخ الوزراء، فوجدوا حسن بك وحده في الغرفة مع جثتي الوزيرين يحاول خلع باب الحريم الذي مر منه بقية الوزراء، فاستل توفيق بك حسامه وهجم على الشركسي وضربه ضربة انفجر بها دمه، ولكن حسنا التفت إليه، وقال: تعلم يا توفيق الضرب، وعاجله بضربة واحدة خر بها قتيلا لساعته وذعر الخدم، فلم يتجاسر أحد أن يتقدم إليه، وعاد هو يحاول خلع الباب والنساء يولولن من الداخل والخدم من الخارج، فتجمع الجند وهجموا عليه، وهو يدافع عن نفسه دفاع الأسود فقتل منهم اثنين، وأصيب هو بجراح كثيرة، فسال دمه وانحطت قواه. ورأى أحد الأغاوات ذلك، فقال: ضربة واحدة كافية للإجهاز عليه، وإذا بصوت هائل يصيح من الخارج: لا ... لا تقتلوه إنما القتل فخر للأبطال، فهو لا يستحق موت الحسام، بل الشنق بالحبال. فالتفت حسن إلى ذلك الصوت فرأى صلاح الدين هاجما عليه يريد اعتقاله وشد وثاقه، فصاح به حسن: ويك يا صلاح الدين ... إلى الوراء ... إياك أن تتقدم، وصوب مسدسه إليه، فصاح به صلاح الدين: خسئت من نذل مهان، وإذا برصاصة أصابت صلاح الدين في صدره فوقع يختبط بدمه، وكان قد احتال بعض الضباط في تلك البرهة على حسن، فشدوا وثاقه، وأخذوا يضربونه، فخرج مدحت باشا ومنعهم من قتله، وقال: دعوه حيا لمحاكمته.
وطار الخبر للحال في الأستانة فقامت لهذا النبأ وقعدت، وكانت تلك الحادثة الضربة القاضية على عقل السلطان مراد، فاختل شعوره تماما، وتخلى مضطرا عن العرش إلى أخيه عبد الحميد أفندي (السلطان الحالي).
الفصل الثامن عشر
الجزاء
وتجمع في غد ذلك النهار المشئوم خلق كثير من رجال ونساء في ساحة السر عسكرية حتى ضاقت بهم على رحبها، وذلك قبل أن تطلع الشمس، وخرجت الباعة والأولاد كأنه عيد رمضان، ثم رفع العلم ودقت الطبول، واصطفت الجنود، وفتح باب السجن، وظهر من ورائه عدد من الضباط يحيطون برجل بقميص أبيض، فقال الناس: ها هو ... وأخذوا يتساءلون لم هو على هذه الحالة، فكان يجيبهم بعض العارفين البعض قد حوكم مساء أمس فحكم عليه بالإعدام بعد تجريده من رتبته، ثم نقلوه إلى عربة، وخرجت من الساحة الداخلية إلى الفسحة الخارجية، ووقفت أمام الأشجار التي تظللها، فانحدر منها حسن الشركسي ضعيفا هزيلا متكئا على ذراعي اثنين من الشرطة، وساد الصمت على الناس كأن على رءوسهم الطير، ثم قرعت الطبول ثانية، وتقدم إمام فرقته، وتلا على مسامعه حكم الإعدام فلم يصغ حسن إليه، وكان قد علق حبل في أحد أغصان شجرة قديمة، فلما فرغ الإمام من تلاوة الحكم قرأ بعض آيات قرآنية، وقدم إليه المصحف فقبله، والناس مدهوشون كيف تمكن رجل بذلك الهزال من الإقدام على تلك الأعمال الغريبة، وأخيرا تقدم وهو ساكن الجأش، فوضعوا عقدة الحبل في عنقه، ورفعوا الكرسي من تحت قدميه، فتدلى جسده، وبدأت رقبته تمتد، والناس متأثرون من كيفية نزاع ذلك البطل. فلما خمدت أنفاسه تقدم واحد وعلق على صدره صورة الحكم، وقد كتبوا عليها:
ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب ، وتركوه طول ذلك النهار معلقا. •••
ومرت في تلك الساعة عربة قادمة من أسكى قبور، وفيها شيخ هرم معه تابوت من خشب السرو، وكان ذلك الشيخ أحمد خادم عائشة الذي لبث سبع سنوات في سجنه جزاء أمانته لمولاته ... وكانت جثة صلاح الدين في ذلك التابوت ينقلها ذلك الشيخ إلى سالونيك؛ ليدفنها قرب عائشة حبيبته عملا بوصيته، وكأننا بهما وقد تعذر عليهما الاقتران في الحياة كانا يودان ألا يحرمانه بعد الممات، ثم أطل ذلك الشيخ رأسه من نافذة العربة، وتأمل في جثة حسن معلقة والناس من حولها وقوف يتأملون، فتنهد وقال: اللهم قد سبق عدلك جزاك ... فأنت العادل وأنت الرحمن الرحيم.
انتهت «وكان الفراغ من تسويد هذه الرواية في باريس مساء 30 أيار سنة 1897م.»
أمين أرسلان
Unknown page