Asrar Qusur
أسرار القصور: سياسية، تاريخية، غرامية، أدبية
Genres
مقدمة الطبعة الأولى
مقدمة الطبعة الرابعة
1 - هدية رمضان
2 - حمام الطوبخانة
3 - فطور ملوكي
4 - بعد مضي 16 سنة
5 - بطل المستقبل
6 - عائشة هانم
7 - صيرورة السرية سلطانة
8 - وصول الإمبراطورة أوجيني إلى الأستانة
Unknown page
9 - حمامتان
10 - سراي جراغان
11 - عرس صلاح الدين
12 - تعيين محمود باشا خلفا لعالي باشا
13 - مقدمة الثورة
14 - مراد أفندي «ولي العهد»
15 - ليلة 30 أيار 1876م
16 - موت السلطان عبد العزيز
17 - مجلس الوزراء
18 - الجزاء
Unknown page
مقدمة الطبعة الأولى
مقدمة الطبعة الرابعة
1 - هدية رمضان
2 - حمام الطوبخانة
3 - فطور ملوكي
4 - بعد مضي 16 سنة
5 - بطل المستقبل
6 - عائشة هانم
7 - صيرورة السرية سلطانة
8 - وصول الإمبراطورة أوجيني إلى الأستانة
Unknown page
9 - حمامتان
10 - سراي جراغان
11 - عرس صلاح الدين
12 - تعيين محمود باشا خلفا لعالي باشا
13 - مقدمة الثورة
14 - مراد أفندي «ولي العهد»
15 - ليلة 30 أيار 1876م
16 - موت السلطان عبد العزيز
17 - مجلس الوزراء
18 - الجزاء
Unknown page
أسرار القصور
أسرار القصور
سياسية، تاريخية، غرامية، أدبية
تأليف
أمين أرسلان
مقدمة الطبعة الأولى
كثر في الشرق الميل إلى مطالعة الروايات الأدبية، وكثر المشتغلون في كتابتها بين معرب ومصنف، لكن أكثر هؤلاء الكتبة اختار منها النوع الغرامي المحض الذي لا شيء فيه سوى الفكاهة، ولم يشتغل منهم بالروايات التاريخية إلا أفراد قلائل يعدون على الأصابع، في حين أن الروايات التاريخية تمتاز عما سواها بما تجمعه من لذة الفكاهة وفائدة التاريخ.
ولما كان أعظم ما يهمنا من التاريخ ما تعلق بنا وقرب عهده منا، وكان له مساس حسي في أحوالنا الحاضرة ولا سيما السياسي منها، رأيت أن أقدم لقراء العربية عموما وللعثمانيين خصوصا هذه الرواية التي اشتملت على ملخص تاريخ السلاطين العثمانيين الثلاثة سلفاء جلالة السلطان الحالي، وهم: عبد المجيد وعبد العزيز ومراد، وأن أودعها أنباء كثيرة من أميالهم الشخصية ومذاهبهم السياسية، ولمعا كافية عن كبار رجال السلطنة في عهدهم، وقد دعوتها «أسرار القصور»؛ لأنها حوت كثيرا من الأسرار غير المعلومة إلا لأفراد قليلين، وأملي كبير أنها ستحوز رضاء قرائها الكرام.
من باريس في الثلاثين من شهر أيار سنة 1897م.
أمين أرسلان
Unknown page
مقدمة الطبعة الرابعة
لما نشبت الحرب بين دولتنا العلية والدولة الإيطالية، وأجمعت الجالية العثمانية في الديار الأرخنتينية على وجوب تعزيز بحريتنا بابتناء غواصة باسم جاليتنا المحبوبة تضم إلى أسطولنا، فكرت طويلا بطريقة أعضد بها هذا المشروع الوطني الجليل، فعن لي ساعتئذ أن أعيد طبع هذه الرواية التي صادفت ما صادفته من استحسان القوم، وأن أضيف ريعها إلى تعزيز ذلك المشروع.
وقد أجهدت نفسي طويلا في هذه الأيام الأخيرة للحصول على نسخة من إحدى الطبعات الثلاث، فأعياني البحث ولم أظفر بواحدة منها إلا بعد طول التساؤل، مما دلني على أن اهتمام القوم بالكتاب كان متواليا حتى نفدت كل طبعاته مما لم يسبق له مثيل في تاريخ الروايات الشرقية على ما أظن.
وبالطبع إن الذي ساعد كثيرا على نشر الرواية هذا الانتشار الغريب هو السلطان المخلوع عبد الحميد الذي لما بلغه رنينها قام لها وقعد، ولشدة جبنه حسب قوائم عرشه تهتز لدى حقائقها التاريخية وهو في إبان صولته وعلى منصة مجده. فأوفد من قبله الوفود، وبث العيون والأرصاد، وظل مقتفيا آثارها حتى عثر أخيرا على أكثر نسخها، فاستحضرت إلى الأستانة، وهنالك أمر بحرقها - قيل على مشهد منه - ووهم حينئذ أنه قد طمس ذكرها ... وكأنما فاته أن أحب شيء إلى الإنسان ما منعا، وبعد زمن عاد الناس يلهجون بذكر الرواية، وتضاعفت رغبة الجمهور إلى مطالعتها، فاندفع بعضهم رغبة بالكسب فأعادوا طبعها مرتين دون علم مني.
هذا، وأحسبني بإقدامي على إعادة نشرها للمرة الرابعة أخدم كل ذي فكر حر، وأجيب رغبة الكثيرين ممن فاتهم درس الكتاب، واستيعاب حوادثه التاريخية التي ستكون بمثابة مثال أورده إلى القراء الكرام عن تقييد الأفكار والأقلام في الدور الحميدي المشئوم، وعن هلع ذلك السلطان لدى أقل تلميح إلى الحرية والإصلاح، ولدى نشر أية الحقائق على أبسط علاتها.
فإلى العالم العربي أزف هذه الرواية رافلة بثوبها القديم، ومتشحة بالحلة التي ألبستها إياها منذ أربع عشرة سنة، وأنا مقصي عن بلادي في إحدى زوايا عاصمة الفرنسيس، آملا أن تروق لقرائها اليوم كما راقت لهم بالأمس.
والله ولي الصادق الأمين.
عن بونس أيرس في 20 تشرين الثاني سنة 1911م.
أمين أرسلان
الفصل الأول
Unknown page
هدية رمضان
كان ابتداء قصتنا يوم عيد رمضان المبارك من عام 1268 للهجرة، وكان قد انقضى شهر ذلك الصوم المجيد في فصل الشتاء، فاحتفل به أهل الأستانة كثيرا، وأطلقت المدافع برا وبحرا إجلالا وتبشيرا، وزينت البوارج والدوارع الراسية في البوسفور، ورفعت الأعلام العثمانية تخفق فوق رءوس المآذن الشاهقة العديدة.
وكان الجو في ذلك اليوم أدكن، والسحائب سوداء، والمطر يتدفق كمن أفواه القرب، ولكن هذا كله لم يحل دون ازدحام الطرق والشوارع، وقد زادها ازدحاما تكاثر الحمالين الناقلين على رءوسهم الأغنام المذبوحة والخدمة الحاملة أطباق الحلوى المغطاة بالشفوف الحريرية الوردية اللون.
وانقضى ذلك العيد في مبادلة التهاني، وتزاور العائلات بين رجال وسيدات، فكانت النساء تبسطن بعضهن لبعض هدايا أزواجهن في ذلك العيد من الحلي والجواهر والجواري يتحدثن ويتفاخرن بكرم مواليهن وسادتهن، وقد أكثرن جميعهن من أكل الحلوى والتدخين، وشارك الفقير الغني في أفراح ذلك العيد. ذلك من فضل تلك العادة القديمة التي هي أن يذبح كل غني أو وجيه عددا معينا من الأغنام أمام عتبة داره ويفرقها على الفقراء تبريكا وإحسانا. •••
وكان في أعلى محلة «الطوبخانة» بيت خشبي حقير تعصف ريح الشتاء في جوانبه، ويشعر الناظر إليه بأن أفراح ذلك العيد لم تطرقه، وكان في الغرفة الكبيرة منه شيخ هرم قد جلس مع امرأة عجوز حول مصطلى للنار يصطليان، وليس فيه إلا الرماد، وكان الصمت سائدا بين العجوزين، فلما أطلقت مدافع الغروب، وصعد المؤذنون يدعون المؤمنين إلى الصلاة صاح الشيخ بامرأته قائلا: أي فاطمة من كان يقول إنا سنصل يوما إلى هذا الحد من الشقاء والفقر المدقع؟ ها قد دخلنا في اليوم الثاني، ونحن بلا طعام نغتذي به، ولا نار نصطلي حرارتها. لم منعتني هذا الصباح من الذهاب إلى دار رشيد باشا؟ فلو تركتني لمكنتك الساعة من الاقتيات بقليل من اللحم، ولكن آه من النفوس إذا كانت كبارا، أنسيت أن الشبيبة قد فارقتنا، وأن الدهر قد حط بنا؟ فوالله ليشق علي أن أراك في هذه الحال ضئيلة هزيلة صفراء اللون ... فقاطعته امرأته الكلام قائلة: خفض عنك يا عثمان، فإن الموت خير لدي من أن أراك تمد يدك للسؤال والاستعطاء ... لا وألف لا؛ إن كريمة يوسف باشا لا تأكل خبز التسول، وزوجها لا يطرق أبواب الناس ينتظر كالكلاب قطعة من اللحم. فتنهد الشيخ من قلب مقروح، وقال بصوت منخفض: آه من الجنون. نعم، إن الحب جنون ... نعم، هذا الشقاء كله إنما هو ثمرة الحب:
الحب كالكأس قد طابت أوائله
لكنه ربما مجت أواخره
ثم صاح آه يا ربي لم عرفتني بها؟ كانت غادة غنية سعيدة هنية تركت كل شيء، وتبعتني وأنا لا أملك من حطام الدنيا إلا قلبا محبا كان لها مهرا ... والآن هي تموت جوعا، ولا يمكنني أن أغذيها. فصاحت به العجوز: ما هذا القول يا عثمان؟ أتجدف علي اسم الخالق؛ لأنه جمعنا سويا ...؟ أي ذنب عليك؟ لو لم يحط بنا الدهر لكنا في أحسن حال وأنعم بال، ولكن هذا كله قضاء وقدر ... أخذ أولادنا وفلاذ أكبادنا، وأضاع أموالنا، ولا يحق لنا مع هذا إلا حمده على كل حال في السراء وفي الضراء، والمحن إذا تناهت انتهت، والرزايا إذا توالت تولت، ولا بد أن يجعل بعد العسر يسرا، فدع عنك هذه الأوهام وقم بنا للصلاة، فها مدافع الغروب قد أطلقت وقد مضى النهار، فلم يذكرنا صديق ولا جاءنا أنيس مباركا. هذه سنة الله في أرضه، والذي نرجو رحمته ورضاه ...
قالت العجوز هذا ونهضت للحال، فتوضأت بالماء البارد رغما عن البرد القارس، والتفت بمنديلها، وبسطت سجادتها، وشرعت تصلي بحرارة وخشوع، واقتفى زوجها أثرها وصلى بعدها. فلما فرغا عادا إلى حول مصطلى النار يصطليان، وأخذت العجوز تحرك الرماد لعلها تجد فيه جذوة نار، فلم تجد إلا رمادا برماد، وجاء الليل بظلامه الدامس، ولم يكن عندهما نور فبقيا تحت جنح الظلام، وأخذت الشفقة الشيخ على امرأته فنزع فروته وألقاها على منكبيها وقاية لها من البرد، وساد الصمت مرة ثانية، وغاص كل في أفكاره يتأمل شقاء حاله ...
وكانت تلك الليلة عاصفة والرعود قاصفة فتلمع سيوف البرق على صفحات الأفق فتنيرهم من آن إلى آخر. وكانت الموسيقى العسكرية تعزف بألحانها الشجية في الثكنة القريبة منهما فتثير أشجانهما، وتزيد في قلبيهما الحسرات، وبينما هما على تلك الحالة وإذ طرق الباب بعنف شديد، فذعرت العجوز وقالت: أسمعت طرق الباب؟ قم مسرعا يا عثمان وانظر من الطارق، فقام الشيخ يتحسس في الظلام حتى اهتدى إلى زلاج الباب ففتحه فلم يجد أحدا، والتفت في الطريق ذات اليمين وذات الشمال، فلم يلق فيه عابرا أو زائرا، وكانت امرأته قد تبعته فسألته: ما هذا؟ - لا أعلم، فإني لم أجد أحدا.
Unknown page
ثم حدق بعينيه فوجد شيئا كبيرا ملقى أمام الباب، وأبرقت السماء حينئذ فرأى طبقا كبيرا مغطى بشف وردي، فصاح: هذه «هدية رمضان»، وخال له ولامرأته في الوهلة الأولى أن الحمال قد غلط عن الطريق وأضاع العنوان؛ لأنها كانت هدية رجل كبير، وهما لا يعرفان أحدا من كبار القوم، أو أن لصا قد اختطف تلك الهدية وخاف أن يكتشف فألقاها أمام بابهما، ولما رفع عثمان الشف وجد ورقة مطوية فقال: لا بد من معرفة المهدي والمهدى إليه، ثم التفت إلى امرأته، وقال: ألا يوجد عندك شمع؟ - بلى فيما أظن. - أسرعي بعود.
فأسرعت وعادت فأشعلت واحدا، وفض الشيخ الورقة وقرأها فكان فيها ما نصه: «رمضان مبارك على فاطمة هانم الفاضلة. يصلك كل عيد في رمضان مثل هذه الهدية إذا اعتنيت بالشيء الثمين الذي أودعه إلى عنايتك، وأسلمه إلى مروءتك، ولا حاجة إلى التوصية بإفراغ الجهد حرصا عليه.»
ورفع الشيخ المنديل الحريري عن الطبق، وإذا به يرى فيه طفلا صغيرا ابن أمسه على صدره كيس مملوء ذهبا، فعرت الدهشة العجوزين، وأخذا يتساءلان ما يكون من وراء هذا السر، ولكن الجوع كان آخذا من الطفل فطفق يبكي، فقالت العجوز: وا حيرتاه! كيف أغذيه هذا المساء؟ ثم فكرت قليلا وصاحت: إن جارتنا قد ولدت منذ عهد قريب فسأذهب إليها وأرجوها المعونة، والتفتت إلى زوجها فقالت له: أما أنت فاذهب إلى السوق قبل أن يقفل، واشتر لنا ما نحتاج إليه من الطعام والنور والتدفئة.
وهكذا في أقل من ساعة من الزمن تبدلت حالة ذلك البيت وسكانه إلى حال أخرى، واتصل الخبر سريعا بمسامع الجيران، فتقاطروا يهنئونهم بتلك الهدية، ويتلطفون عناية بذلك الطفل الرضيع، وجلس الشيخ في السلاملك (قاعة الاستقبال) مع جيرانه، وكل يدعي صداقته، وهو يفكر في تقلبات الدهر، ويقول:
والليالي من الزمان حبالى
مثقلات يلدن كل عجيبه
وإذا بامرأته أطلت من دائرة الحرم، وقالت له: قد نسيت الحلوى يا عثمان، فاذهب وابتع لنا شيئا وافرا منها إكراما لضيوفنا، فخرج عثمان للحال ملبيا الطلب، وفيما هو عائد إلى البيت إذا به يسمع وقع حوافر خيل، ثم أبرقت السماء فرأى خصيا من خصيان السراي السلطانية ممتطيا جوادا عربيا كريما، ومعه عبد أسود من سياس القصر، فمرا من أمام عثمان، وتفقدا ما هو حامل بيده، وأخذا يبحثان ويتلفتان كمن أضاع في التراب خاتمه، ثم صاح الخصي بالخادم قائلا: قد أضعت أثره «يا أحمد»، ويستحيل أن يكون قد جاء إلى هذا الزقاق، ثم أعمل المهماز في شاكلة الجواد، وخرج من الزقاق والعبد يعدو وراءه كالكلب. فعرف الشيخ للحال أن البحث جار عن الطفل، وأدرك خطورة الأمر؛ لأن البحث كان من السراي، فلما وصل البيت طلب من الجلاس الصمت، وأسدل السجوف خشية أن يستلفت أنظار المارة، وكان كلما سمع حركة أو همسا ظن أنهم جاءوا يطالبونه بالطفل، ويذيقونه ألوان العذاب جزاء ذنب لم يرتكبه، وندم على إطلاع جيرانه على سره، وعرف فساد رأيه وأن أقل وشاية كافية لهلاكه، فأسرع في وضع الخوان ودعا ضيوفه إلى الطعام، ثم قدم القهوة والتبغ، وجلس يفكر في هذا الحادث، وهو يحاول عبثا إزالة علامة ارتباكه، وقد لحظ أحد الجلاس عليه ذلك فقال له: ما لك مفكرا كأن ليس العيد عيدك؟ - قد مضت علي مدة لم أذق بها طعم التبغ فأتلذذ به الآن، فضلا عن أن أيام الشبيبة قد مضت.
ثم تربص ريثما فرغت امرأته من إقراء ضيوفها فصرفهم جميعا، ولم يبق منهم إلا التي أرضعت الطفل ، فساومتها امرأته أجرتها عن سنة واتخذتها للحال ظئرا له، ولكن تلك الهدية في تلك الحالة قد أدهشتهم إلى حد أن أذهلتهم عن معرفة الطفل إذا كان ذكرا أو أنثى، فقالت العجوز: سأعطيها اسم ابنتي عائشة، ما قولك يا عثمان؟ - بالحق نطقت عسى تكون سلوى مصابنا.
والآن أرجو القارئ الكريم أن يعود بي إلى ذكر حادثة جرت قبل ستة أشهر من هذا العهد.
الفصل الثاني
Unknown page
حمام الطوبخانة
لا يخفى أن يوم الذهاب إلى الحمام عند النساء التركيات من الأيام المعدودة عندهن للنزهة والسلوى؛ ولذا يغتنمن أقل فرصة للتملص من ربقة الاحتجاب، فيأخذن منذ الصباح بالتهيؤ والاستعداد فيحضرون المناشف المعطرة والثياب الحريرية الملونة، ويجلين الطاسات الفضية، ويشترين الأثمار اللذيذة والحلويات العديدة، ويعتنين خصوصا بالسجائر التركية؛ لأنها سلوتهن الوحيدة في مقاصيرهن، وما تكون ترى سلوى الطيور في أقفاصها، فيلبسن بعد الغداء «فراجياتهن»،
1
وينتشرن في الأسواق أزواجا وفرادى، ويقفن أمام كل واجهة من مخازن الحلي والأقمشة؛ لمشاهدة السلع كالأولاد الصغار، وقد اشتهر منذ عشرين سنة بين حمامات الأستانة العديدة حمام اسمه «الطوبخانة» حتى كاد يزاحم حمام «غلطه سراي» بشهرته، وما ذلك إلا لشهرة غسالاته اللائي كن يكثرن من وصف الأدوية المختلفة للحمل وأمراض العقل والبدن، وعبثا كان الإنسان يحاول إقناع النساء بخرافة ما يسمعن وأضرار ما تصف لهن الغسالات من الأدوية، فإنه كان كمن يضرب في حديد بارد، وكان هذا الحمام فخيم البناء على الهندسة العربية له باب عظيم من الرخام الجميل.
فحدث أن في غرة جمادى الأولى من تلك السنة؛ أي قبل ستة أشهر من عيد رمضان، اكتظ ذلك الحمام على اتساعه بالمستحمات، وكان بين غسالاته امرأة عجوز اسمها فاطمة لا ينظر إليها أحد بعين الاهتمام؛ لفقرها المدقع أولا ولأنفة نفسها خصوصا، فبقيت ذلك النهار بلا عمل على الرغم من كثرة الزائرات، فجلست تنظر بعين الحسد إلى زميلاتها وهن منهمكات وهي مكتوفة اليدين، وإذ رفع ستار الباب ودخلت جارية زنجية تحمل صرة ثياب وراءها امرأة في مقتبل العمر جميلة الصورة معتدلة القوام على سذاجة في الملابس، فظن الحاضرات أنها زوجة «أفندي عادي»، ولا سيما لأنها لم تكن مصحوبة إلا بجارية واحدة، والنساء التركيات يفاخرن بكثرة الجواري والعبيد والخصيان. فقامت فاطمة للقائها مؤملة أن تلقى منها التفاتا وإقبالا وقالت لها: هانم أفندي قد أخذت جميع المحلات في هذا الطابق، فهل تريدين الصعود إلى الطابق الأعلى؟ - لا بأس.
فتقدمتها فاطمة تدلها، وأدخلتها إلى مخدع جميل، وبسطت فيه سجادة عجمية، وساعدتها على نزع «فراجيتها»، ثم سألتها أتريدين غسالة أو تنوب الجارية منابها؟ - بل أريد غسالة ... وأريد أيضا أدوية ... وصبغ الحياء وجهها ...
فقالت فاطمة العجوز في نفسها ... وأي دواء تريد هذه المرأة الجميلة ذات البنية القوية؟ ثم قادتها إلى صحن الحمام الذي ينحصر فيه البخار، فدهشت المستحمات من جمال تلك الزائرة الجديدة، واعتدال قوامها، وبياض بشرتها الناصع، وقد سدلت شعرها الحالك على منكبيها فأزعجها تصويب الأنظار إليها، وطلبت غرفة مستقلة، فقادتها الغسالة إلى مخدع جميل وأجلستها على مقعد من رخام، وشرعت تسعى في تهيئة ما يلزم لها، وأما الجارية فبقيت في الطابق الأعلى تحرس ثياب سيدتها، فجلست المرأة، ثم تنهدت الصعداء من قلب مقروح، ووضعت رأسها بين يديها مفكرة وقد كبر الهم عليها.
فلما رأت الغسالة حالة تلك السيدة، رأت من باب الملاطفة أن تسألها عن حالها، فقالت لها: هانم أفندي ما لك حزينة كئيبة؟ هل ينقص هذا الجمال الفتان شيء من السعادة والهناء؟ - وا حسرتاه، أي سعادة وأي هناء! إني أشقى خلق الله، كأني من عبر عنه الشاعر بقوله:
ولو كان هم واحد لاحتملته
ولكنه هم وثان وثالث
Unknown page
فأجابتها العجوز: لو تعلمين شقائي لعرفت أنك سعيدة، وأن في الدنيا من هو أشقى منك بكثير. - أحقا أنت تعيسة نظيري، أخبريني مصابك، فإني أشعر بميل وانعطاف إلى كل مسكين.
فشرعت العجوز تغسلها وتدلك بدنها، وتقص عليها ما أصابها في حياتها من الشقاء، وكيف أن الدهر قد أخنى عليها إلى حد أن اضطرت أن تكون غسالة في الحمامات بعد أن كان عندها العبيد والجواري. فلما فرغت من حديثها قالت المرأة: أحقا قد احتملت كل هذا الشقاء، وأصابك كل هذه المصائب؟ نعم، إنه لمصاب عظيم أن تسقط امرأة شريفة نظيرك إلى هذا الحد من الفقر والمسكنة، ثم تبسمت وقالت: نحن في يد العناية كحبات الرمال إذ تتلاعب بها ريح السموم.
ولما فرغت من الاستحمام وقفت، وارتدت ملابسها الحريرية، وسارت إلى غرفة الاستراحة تطفئ ظمأها بشرب المثلجات والمبردات والتدخين، وأمرت بمثل ذلك إلى العجوز، ثم جلست وقد عاودها الهم وبدا على وجهها الاضطراب، وأرادت أن تطلب الدواء فمنعها الحياء، ولكن ما عتمت أن استأنست من العجوز لطفا، فتغلبت على حيائها، وأمسكت بيد العجوز، وقربت فمها من أذنها، وقالت لها همسا بعد أن صبغ الحياء وجهها: يقولون إنك ماهرة في وصف الأدوية ... فأرجوك أن تصفي لي دواء ... ولم تجسر أن تسميه أو تعنيه.
فقالت العجوز وقد فهمت ما تريد: لا أشير عليك بأخذه؛ لأنه يعرضك لخطر الموت، وأنا الوحيدة في هذا المكان التي تعارض هذه العادة السيئة.
فخجلت الهانم من هذا الكلام، وغطت وجهها بيديها حياء، وطفقت تبكي. - لا أريد هانم أفندي توبيخك، وقد عرفت سبب حيائك وخوفك، فتلك إرادة الله لا يحق لأحد معارضتها.
فأجابتها هذه باكية: قد قلت الحق، ولكن لا بد لي من شرب ذلك الدواء؛ لأني هالكة على الحالين، فإذا ما هيأته لا أدري إذا كان عندي جرأة كافية لتجرعه. قالت هذا وضجت بالبكاء والنحيب. - ما معنى هذا البكاء ... عفوا على جرأتي مولاتي ... وإنما أريد مشاطرتك مصابك، فقلبي منعطف بكليته إليك. - إن من الفؤاد إلى الفؤاد سبيلا، أنا شقية، ولا أجسر أن أبوح بشقائي لأحد في العالمين على أنه:
فلا بد من شكوى إلى ذي مروءة
يؤاسيك أو يسليك أو يتوجع
وقد عيل اصطباري وطفح كيل همومي، ثم صمتت هنيهة، وقالت: أعيريني سمعك ... إني مذنبة لدى مولاتي، ثم تداركت قولها فقالت: لدى الهانم أفندي وأنا مدينة لها بكل شيء، ولكن النصيب قد قدر فكان ... فالباشا متغيب الآن، ولا يمكنه أن يحول دون انتقام الهانم مني، وقد عرفت هي ذنبي، وتروم مني إخفاءه ... قبل رجوع زوجها. وهل للهانم أولاد؟ - لا، وهذا مما زاد في حنقها.
ففكرت العجوز قليلا، وعضت على شفتها السفلى مفكرة.
Unknown page
فقالت لها الهانم: حاولت عبثا إخفاء إثمي والتكفير عن ذنبي، ولكن هذا ذنب لا يمحى إلا بالإثم، نحن وا أسفاه البنات الشركسيات يتركنا آباؤنا منذ نعومة أظفارنا، فيلتقطنا الغرباء لجمالنا، فنقضي حياتنا وليس لنا أهل ولا ولد، فإذا شعرنا بمولود في أحشائنا كان ذلك عزاءنا الوحيد، وموضوع حبنا، وكعبة آمالنا، ندافع عنه بأزواجنا، ولكن وا حسرتاه هو كالزهرة لا تكاد تفتح حتى تقطف، وكالغصن لا يثمر حتى يقصف، وأنا مع شقائي أشعر بلذة بما أنا فيه.
فاغرورقت عينا العجوز أسفا لحالة المرأة. - آه، قد رق قلبك لحالي ورثيت لمصابي ... جزيت عني خيرا ... هذه هي المرة الأولى التي شعرت فيها بحي يشاركني في عواطفي ... والآن أرجوك أن تقنعيني بالعدول عن عزمي والإقلاع عن جرأتي ... آه إني مدفوعة إلى هذا الطلب ... مرغمة عليه ... آه قد وهنت قواي وحلت عزائمي. قالت هذا وانطرحت بين ذراعي العجوز تجهش بالبكاء.
فأخذت العجوز تقبلها وتهدئ روعها تخفيفا لمصابها، ثم قالت: لا يحق لي أن أعلم بأكثر مما علمت، ولا أن أعرف اسم سيدك، وأصرح لك بامتناعي عن أن أمد يدا لصنع ذلك الدواء المخالف لذمتي ولمشيئة الخالق - سبحانه وتعالى - فتشجعي يا بنية، واعتصمي بالصبر الجميل؛ فالله القادر على كل شيء ينجيك، ويمكنك التخلص من انتقام الهانم إذا تظاهرت بالخضوع لها والامتثال لأمرها. أما أنا فمقيمة في محلة الطوبخانة في بيت خشبي حقير في الزقاق المعروف «بالشبوقجي»، ومهما كان بيتي صغيرا حقيرا فهو يسعك وولدك، والبيت الضيق يسع ألف صديق، فثقي بإخلاصي وصفاء نيتي، واعلمي أن لك في قلبي محلا رحيبا. - جزيت خيرا يا فاطمة، وأخذت يد العجوزة فقبلتها اتباعا للعادة التركية، ثم قالت سأذكرك ما دمت حية، وسأتبع نصائحك، وأسأل الله أن يباركك؛ لأنك لم تخيبي رجاء «إقبال» المسكينة.
ثم لبست ثيابها، وخرجت مطمئنة الفؤاد قليلا، فتقدمت الجارية، وقالت للعجوز: هل لك أن تخبري «أحمد» أن يتقدم بالعربة، فخرجت العجوز إلى باب الحمام وصاحت يا أحمد، فتقدم عبد أسود كبير؛ فقالت له: أخبر الحوذي أن يتقدم بعربة الهانم، فأشار إلى الحوذي. ولما دنت العربة من أمام الباب رأت العجوز الطغراء العثمانية منقوشة على العدة، فأخذتها الدهشة لما عرفت أن تلك المرأة ليست جارية لأحد الباشاوات، بل إنها من الحرم السلطاني ثم تقدمت الهانم «إقبال» بردائها البسيط، ونقدت العجوز دينارا عثمانيا، وشكرتها كثيرا، وركبت فسارت بها الخيل تنهب الأرض نهبا.
وفي المساء عادت العجوز إلى بيتها، وأخبرت زوجها بما رأت من أمر تلك الفتاة التركية، وأخذ العجوزان يتساءلان من تكون هذه؟ وما هو شأنها؟
ثم مضت الأيام والأسابيع والشهور على تلك الحادثة فنسياها تماما، وذهب الصيف والخريف وجاء الشتاء بقره حتى كان ما كان من أمر عيد رمضان والهدية. فلما أخبرها زوجها بالتقائه بخصي السراي، وما سمعه لما نادى الخادم «أحمد» فكرت بهذا الاسم لما نادته هي في الحمام كما تقدم.
فتأكدت حينئذ أن الطفلة هي ابنة إقبال بعينها، وأنها قد حفظت وصيتها، ورأت هي وزوجها من باب الحكمة والصواب أن يهجرا محلة «الطوبخانة» خوفا من بث العيون والأرصاد أو من وشاية الجواسيس والحساد، فذهبا مختبئين في قرية في أعالي البوسفور يقال لها بايكوس في ناحية أسكي دار، وأفرغت المرأة جهدها اعتناء بالطفلة.
ومما زاد العجوز اقتناعا بأن الطفلة هي ابنة إقبال أن وجدت في طاقيتها خاتما ذهبيا مرصعا بحجر كريم من الزمرد رأته في خنصر إقبال لما جاءت مستحمة، ودرءا للشبهة ومنعا لاقتفاء الأثر أشاع الشيخ في محلته أنه عازم على الإقامة في إستامبول في محلة «شيخ زاده باشي» ولم يصحبه معه إلا الظئر التي رضيت أن تكون للطفلة مقام أمها.
وشرعت فاطمة من ذلك العهد تفرغ الجهد سعيا وراء معرفة مقر إقبال في القصر السلطاني؛ لتخبرها عن مقامها الجديد، ولكن قد كان دون ذلك أهوال؛ إذ كيف يتسنى لها معرفتها بين مئات من السراري والجواري في ذلك القصر العظيم. ففكر زوجها الشيخ طويلا، فرأى أن أحسن وسيلة هي أن يذهب كل يوم إلى نواحي القصر السلطاني متنزها يترقب خروج الخدم والخصيان ورجوعهم؛ حتى يعثر بالخصي أو الخادم (أحمد) الذي لقيهما أثناء رجوعه إلى البيت مساء عيد رمضان، فتزيا بلباس بائع حلويات، واشترى علبة نقالة، وملأها من أنواع الحلوى المختلفة، وصار يتأبطها كل صباح، فيعبر البوسفور قاصدا سراي «طلمه بغجه» التي كان يفضلها السلطان عبد المجيد على جميع قصوره.
وكان الخدم والخصيان يكثرون من الترداد إلى ميدان السراي، فيجيء عثمان بعلبته ويقف في الطريق المؤدية إلى شارع «بشكطاش إلى أورطه كي»، فلم يلبث طويلا حتى أصبح جميع خدم السراي وحشمها من معارفه ومعامليه، وكان هو يتفحصهم واحدا بعد واحد، فتحقق أخيرا أن الخصي وأحمد ليسا بينهم، وكانت صورتهما قد رسخت في ذهنه، ولئن كان لم يشاهدهما إلا لحظة واحدة لما برقت السماء، ولكي يبالغ في التأكيد ادعى يوما أن خصيا اشترى منه حلوى بالأمس بثلاثين بارة لم ينقده إياها، فجاء الخصيان بعضهم بالبعض وهو يتفحصهم جيدا، فتأكد أن الخصي الذي يطلبه ليس بينهم، فعزم حينئذ على الانتقال إلى سراي أخرى، وظل على هذا المنوال من البحث والتنقيب مدة ثلاثة أسابيع يجتاز البوسفور كل صباح، ويقف على قارعة الطرق تحت المطر الوابل في ذلك الشتاء القارس؛ حتى عثر أخيرا على ضالته المنشودة، فرجع ذات يوم إلى قريته فرحا مسرورا، وألقى علبته في زاوية البيت، وقال لامرأته: من تأنى نال ما تمنى، وكل من سار على الدرب وصل، لا حاجة لي بهذه العلبة بعد الآن، فقد عرفت السراي، ولقيت الباب، وجاء دورك، وعليك تدبير حيلة نسائية للوصول إلى إقبال. أما الحيلة فهين تدبيرها؛ فعند أي هانم هي؟ - عند السلطانة علية هانم عمة مولانا السلطان وقرينة محمود باشا داماد. - يا رباه ... أهي عند تلك السلطانة الظالمة ... أقسى امرأة خلقها الله في آل عثمان؟!
Unknown page
ثم قالت: عسى أن تكون الأيام والسنون قد دمثت شيئا من أخلاقها، ولكن مهما يكن من أمرها فلا بد من الوصول إلى إقبال وعلى الله الاتكال . - إن شاء الله.
الفصل الثالث
فطور ملوكي
إذا سرح الناظر طرفه في مباني الأستانة ومناظرها وجد أن من أبدع قصورها وسراياها جمالا؛ القصر الكائن على شاطئ البوسفور عند مدخل الأستانة المعروف باسم «صالح بازار» تطل إحدى وجهاته على الطريق المؤدية إلى «طلمه بغجه» وتشرف الأخرى على بحر مرمرا، فيرى الناظر منه الأستانة بمبانيها وقبب جوامعها ومآذنها، ويرى أمامه الزوارق العديدة ماخرة بين شاطئي أوروبا وآسيا، هذا هو قصر السلطانة علية هانم.
ففي مساء ليلة من شهر صفر كانت السلطانة المشار إليها جالسة في غرفتها مفكرة في أمر مهم تقلب بيدها سبحة من حب العنبر، والجواري من حولها واقفات صامتات مكتوفات الأيدي خاشعات البصر ينتظرن أقل إشارة تبدو من سموها ليتسابقن إلى امتثالها. وكانت الريح عاصفة والرعود قاصفة، وأمواج البوسفور تتلاطم فيتضاعف دويها في ذلك الليل البهيم، والسلطانة معيرة أذنها كأنها تنتظر أمرا كبيرا.
ثم دقت الساعة الرابعة من الليل، فرأت السلطانة أن قد طال السهر، فأشارت إلى الجواري والسراري بالانصراف، فانصرفن وقد مشين القهقرى، ولكن تقدمت سرية شركسية الأصل بارعة الجمال طويلة القوام وتجاسرت بأن سألت السلطانة إذا كانت تأمر بمساعدتها على نزع ثيابها. - لا يا إقبال هانم لا أريد أحدا. انصرفي حالا؛ لأني أروم انتظار الباشا وحدي هذا المساء.
فامتثلت إقبال الأمر، وخرجت منكسة الرأس، وقد طار قلبها هلعا، وعادت السلطانة فغاصت في بحار التأملات، وكانت قد كبرت وشاخت، وذهب ما كانت عليه في أيام صباها من الجمال القليل، على أنها كانت مع ذلك تتزين وتتبرج كأنها تريد أن تعود إلى أيام الصبا، ولكن هيهات؛ فلا يصلح العطار ما أفسد الدهر.
فلما ابتعدت الجواري رفع ستار باب مجاور، وبرز منه خصي لم تشعر به حتى صار أمامها فسألته: ما وراءك يا علي؟ - لقد صدق مولاتي الباشا بقوله؛ فهو مدعو هذا المساء للطعام عند الصدر الأعظم. - ثم. - قد أفرغت الجهد امتثالا لأمر سموك في البحث عن الأمر الذي يهمك، ولكني لم أقف له على أثر، وأرى من العبث إتمام البحث . - أتظنني واهمة أو مخدوعة؟ - كلا مولاتي، ولكن أخصامنا أو بالحري أخصام سموك يخفون عنك الحقيقة إلا إذا بحثت عنها من صاحبها ... - أمجنون أنت؟ أتظن أن ليس عندي جرأة كافية على الانتقام ممن يمس شرفي أيا كان؟ - لم أرد هذا بقولي مولاتي.
ثم تقدم خطوتين إلى أمامها، وقال لها خافضا صوته: يتعذر، لا بل يستحيل معرفة الحقيقة من إقبال، وقد جربت فوجدت أن الوعد والوعيد لم يفيدا شيئا، ولا يمكنك بعد هذه الساعة الوقوف على الحقيقة إلا من دولة الباشا نفسه.
أما السلطانة فاكتفت بهز رأسها استخفافا. فقال لها الخصي: لا أجهل يا مولاتي أنه متى كان صاحيا من سكره لا يقر بشيء؛ لأنه شديد الميل إلى إقبال، ولكن متى لعبت الخمرة برأسه سهل عليك الوقوف على أسراره، وسيرجع هذا المساء مترنحا ...
Unknown page
فقاطعته الكلام، وقد انتبهت إلى قوله فصاحت به: أصبت ... وحزرت ... سر حالا إلى الحرم، ولا تدع أحدا من السراري أو الجواري أن يقلق راحتي بعد هذه الساعة، وبلغ أمري إلى أغا دولته أن يخبر مولاه بأني في انتظاره، وأني آمرة له بالدخول علي في أية ساعة رجع.
فانحنى الخصي ممتثلا للأمر الكريم، وخرج فرحا مسرورا.
ولا شك أن القارئ قد عرف أن هذا الخصي هو الذي ذهب إلى محلة الطوبخانة مع أحمد للبحث عن الطفلة مساء عيد رمضان.
ولم تمض ساعة من الزمن على ذلك الانتظار حتى سمعت السلطانة وقع حوافر الخيل في صحن الدار، فعرفت أنها عربة الباشا زوجها، أما هو فلم ينحدر منها حتى تقدم إليه الأغا، وبلغه أمر السلطانة، فعلا وجهه الاضطراب، وخاف وقلق، وظن سوءا، ولكنه تجلد وصعد إلى غرفة السلطانة، وهو يكاد لا يقف على قدميه من السكر، فلما دخل عليها ووجدها باسمة زال عنه القلق، وسرت هي لما رأته في تلك الحالة، فتقدم إليها مسلما كما يسلم العبد على مولاه، أما هي فأعطته يدها فقبلها مرارا، ثم قالت له: تفضل باشا أفندي حضرتلري. - أمرت سموك الأغا أن يبلغني أمرك السامي بشرف المثول بين يديك أية ساعة رجعت، فأقلقني هذا الأمر خوفا من أن يكون قد أصاب صحتك الثمينة انحراف. - أي عزيزي محمد، ألا تظن سببا لرؤيتك إلا المرض، فهل تكرهني إلى هذا الحد؟
فأندى جبين الباشا من العرق، ولم يفهم حرفا من هذا السؤال؛ فتقدمت إليه ومسكت بيده متلطفة قائلة: لقد أخطأت نحوك وأذنبت لديك؛ فها قد مضى ستة أشهر وأنا حردة عليك، ولقد أسأت الظن بك، وندمت الساعة فأبعدت الجواري لألتمس منك عفوا عن قساوتي الماضية وظلمي ... ثم لصقت بجانبه وسألته قائلة: أفي قلبك بعد أثر من الحب لي؟ - مولاتي قد غمرتني لطفا، أتلتمسين مني العفو وأنا المذنب المسيء؟ - إذن تعترف بأنك مذنب أيضا، لقد زدت في عيني اعتبارا وفي قلبي حبا بهذا الإقرار، وتعترف أيضا أني لست بمذنبة ... أي محمد، ألا ترى بكائي؟! ومسحت دموعا كاذبة.
أما الباشا فكان قد أعماه السكر، وظن نفسه في منام؛ لأن السلطانة لم تعوده منذ اقترن بها هذا اللطف، ولم تسمعه من قبل مثل هذا الكلام.
وغلب عليه السكر والنعاس فقال لها: خففي عنك مولاتي لقد كنت مصيبة في غيرتك وحنقك ... وأنا وحدي المذنب لديك وأنت الملاك الكريم.
فتجلدت السلطانة، وأخفت غيظها، ثم تنهدت، وقالت: أعفو عنك على شرط أن تقر بالحقيقة كلها، وألا تخفي علي شيئا، ومدت يدها إلى الباشا فقبلها مرارا. - لم أخف الحقيقة عنك، وإنما عنفوانك حال دون إبلاغك الحقيقة، ولقد كنت تناسيت تلك الحادثة لو لم تأخذني الشفقة على تلك المسكينة ...
فانتفضت السلطانة حنقا من هذا الكلام كما ينتفض العصفور بلله القطر، ولكنها تجلدت رغبة منها في معرفة السر المكنون، فاتكأت على كتف زوجها، وقالت له باسمة: إلى أين أرسلت هدية رمضان؟ لم لم تكل إلي تربية المولود ... فقد كنت بذلت جهدي اعتناء به، ولا سيما لأني لم أرزق ولدا.
فحدق الباشا بها، وظن نفسه في منام أو ما يسمعه أضغاث أحلام، فسألها مبهوتا حائرا: كيف ... أنت ... تتنازلين ... إلى تربيته، من أخبرك؟ - عرفت كل شيء، ولم تخفني خافية، ولهذا أسامحك لأني عرفت أن الخوف من انتقامي حال دون إقرارك بالحقيقة، ولهذا السبب وضعت المولود بمساعدة إقبال في طبق العيد، وأرسلته إلى محلة الطوبخانة ...
Unknown page
فأشار الباشا برأسه مصادقا على قولها، ثم تلجلج لسانه، وقال: صحيح سلمه أحمد ... ورأت السلطانة أن النعاس قد استولى عليه وغلبه السكر فلم يعد يحتمل النطق، فأخذت تهزه وتقول له: أفق قليلا ... تذكر إلى من سلمه أحمد. - لا أذكر ... شيئا ... وأقسم لك إني ... لا أعرف ... إلا اسم العجوز ...
ودمدم كلمة لم تفهمها السلطانة، وانقلب على المقعد، وبدأ يغط غارقا في سبات عميق.
وعند ذلك بلغ هياج السلطانة حده، فدفعت باب الغرفة التي كان الخصي بانتظارها فيها وصاحت به: لقد أصبت فيما ظننت، ثم جلست وقد زفرت زفرة شديدة من الغضب، وتلجلجت شفتاها، واصطكت أسنانها، وجحظت عيناها، وانتفخت أوداجها؛ فقال لها الخصي: خير إن شاء الله. - قل شر؛ لقد اعترف الباشا بكل شيء في سكره وقد سخرت إقبال بي، فهي لم تشرب الدواء الذي أمرتها بشربه يوم أرسلتها إلى حمام الطوبخانة، ولكن سترى عاقبة مخالفة أمري، ثم ضحكت ضحك الحنق المغتاظ، وصاحت: أي نعم هي الولود وأنا العقيم ... فسألها الخصي: وأين المولود؟ - هو في المكان الذي ذكرت. نقله أحمد يوم العيد مع هدايا رمضان، ويظهر أن السعد قد خدم تلك الشقية؛ لأنها قد وضعت حملها يوم العيد أثناء تغيبي في السراي الهمايونية، فأرسلوا الولد إلى الطوبخانة قبل رجوعي. - خففي عنك مولاتي، فلا بد من وجود المولود، ويمكنك الانتقام. - نعم، أريد انتقاما هائلا، أنكون سلطانات ويكون لنا ضرائر؟ إذا ترمل أزواجنا فلا يحق لهم من بعدنا الزيجة، ومتى رفعنا رجلا إلى شرف حبنا لا يحق له أن يلتفت إلى سوانا أحياء كنا أو أمواتا ... ثم التفتت إلى الغرفة التي كان راقدا زوجها فيها، وصاحت: والله سأنتقمن يا محمد وأي انتقام ...
وأفاق محمد باشا في الغد عند الظهيرة غير واع شيئا من حديث الأمس، ولا غرابة فكلام الليل يمحوه النهار. وكان قد ازدحم الزوار عند بابه، وفي قاعة استقباله، وجلهم من كبار المأمورين وطلاب الوظائف؛ لأن السلطان عبد المجيد كان في ذلك العهد مريضا قليل العناية بشئون دولته، وكان محمد باشا صهره من المقربين إليه النافذين لديه، والناس في الشرق قد اعتادوا أن يدوروا مع الزمان كيفما دار. فخرج يقتبل زواره بالبشاشة التركية، وصرفهم جميعا مطيبا خواطرهم بالجواب التركي المشهور الذي ذهب مثلا وهو «بقالم»؛ أي سنرى.
ثم دخل عليه الخصي، وعرض أن عجوزا في الباب تريد التشرف بناديه.
قل لها أن تنتظرني في دائرة الحرم، وأعد لي الطعام، فقد استولى علي الخوار، ولا أؤجلن طعاما من أجل أحد، فكيف من أجل عجوز ...
فعاد الخصي على أعقابه، وقاد العجوز إلى دائرة الحرم، وأمرها بانتظاره، وقد عرف القارئ لا شك أنها «فاطمة» بعينها، فسألت الخصي: أسمو السلطانة في السراي؟ - كلا قد خرجت في هذا الصباح. - ألا يمكني مقابلة أحد من الجواري أو السراري؟ - قد رافقنها جميعهن. - أجميعهن ...؟ - نعم ... جميعهن.
فتفاءلت العجوز من هذا الجواب، وقالت عساه خيرا، ثم جلست تنتظر المثول بين يدي الباشا قلقة، وقد وطدت عزيمتها على إطلاعه على كل شيء، فلم تلبث طويلا حتى دخل الباشا عليها، وسألها قائلا: هانم أفندي ماذا تريدين مني؟ - باشا أفندي حضرتلري ربما لا يجهل دولته اسمي ... أنا فاطمة ابنة يوسف باشا المصري وقرينة عثمان باشا الحلبي.
فحدق الباشا بنظره إليها مستفهما. فقالت: ربما خفي عليك هذا الاسم ... أنا التي كنت مقيمة في الطوبخانة لما وصلني في مساء عيد رمضان ... فقاطعها الباشا متخوفا، وصاح بالله عليك لا تنبسي ببنت شفة. أتجهلين أنك في دائرة الحرم وهو موضوع سوء الظن والتجسس، ثم خفض صوته، وقال لها: ماذا جاء بك إلى هنا؟ أخفي عليك أنك تعرضين «إقبالا» إلى الهلاك؟ - لا تخش أمرا مولاي، فقد كنت دبرت حيلة من غير أن تبعث أحدا إلى سوء الظن، ولكن لم تجد شيئا؛ لأن سمو السلطانة قد خرجت هذا الصباح. - فصاح بها الباشا مستفهما: أخرجت؟ وإلى أين؟ - لا أعلم، فهكذا أخبرني الخدم والخصيان، وأخشى أن يكون من وراء ذلك شر .
فقلق الباشا وهب لساعته يطوف في السراي يستدعي الخدم، فيسألهم عن سبب خروج السلطانة، فأجابوه جميعا بأنها سارت إلى السراي الهمايوني منذ الصباح مصحوبة بجميع جواريها وسراريها. فعاد إلى الغرفة وقد غلب عليه الاضطراب، وعلت على وجهه أمارات الاكتئاب. ثم جلس مفكرا وقد عاد إلى ذهنه ما كان منها في المساء، ثم قال لها: لا شك أنها خدعتني، واحتالت علي حتى عرفت موضع سري. - وهل أطلعتها عليه وعرفت بولادة عائشة ومقرها؟ - نعم ... وا أسفاه. - كيف كان ذلك ...؟ وماذا قلت لها مولاي؟
Unknown page
تبا للسكر تبا للخمرة، ولعنة الله عليها وعلى شاربيها، هي السبب ... نعم هي كل السبب ... كنت مدعوا بالأمس إلى العشاء عند الصدر الأعظم فشربنا منها كثيرا، ولما عدت، وكان قد دب دبيبها في رأسي، استدعتني السلطانة، وأخذت تتملقني وتلاطفني حتى خدعت فاعترفت بذنبي، وأظنني صرحت باسمك أيضا ... وهي كانت عالمة بمقرك. - يا للمصاب ... يا للداهية الدهماء ... الله أعلم أية مكيدة تكيد لي ولها ... - نعم، الله أعلم ... وبظلمها أدري وقلقي شديد؛ لأنها قد استصحبت «إقبالا» معها، ثم صمت قليلا، وقال: هانم أفندي، أرجوك الرحيل من هذا المكان ريثما يتسنى لإقبال الذهاب لرؤية طفلتها. - قرب لله ذلك اليوم مولاي ... وشفعنا برحمته. - اتكلي على الله وثقي بي ... سأكون لك ولها سندا وعضدا ... وبالمناسبة ماذا سميت الطفلة؟ - عائشة يا مولاي؛ على اسم ابنتي المفقودة، فإذا كنت تريد أن أدعوها باسم آخر، فلك الأمر وعلي الامتثال. - لا يهمني الاسم كثيرا ... سأذكر عائشة، وأفضالك عليها، وعنايتك بها.
وإذا بالخادم دخل يدعو مولاه إلى الغذاء، وأرادت العجوز أن تطيل الحديث معه، ولكن لما رأته قلقا مضطربا، قالت له: أفندم، قد انتقلنا الآن إلى قرية بايكوس لا يعرف مقرنا إلا الله أمام جامع «أينكيار أسكه مني» فإذا رأيت من الصواب الرحيل والابتعاد إلى مدينة أخرى فأنا رهينة الإشارة، فأية مدينة تراها بمعزل عن شك السلطانة وانتقامها. - أرمينيا أفضل الولايات لدي من هذا القبيل؛ فهي بعيدة الشقة كثيرة المشقة عسرة الاتصال، فإذا أقمت في قرية بجوار أرضروم مثلا كنت في مأمن من كل غدر وخيانة. - الأمر أمرك مولاي، فسأرحل من غد.
ثم انحنت مسلمة، وعادت على أعقابها إلى قريتها تتهيأ للسفر.
وقام الباشا إلى مائدة الطعام، فجاء خادم بصدر فضي كبير، ووضعه على «اسكملة» منقوشة أحسن نقش، وجاء خادم آخر بطست بهي المنظر وصابونة عطرية، فغسل الباشا يديه ونشفهما وجلس أمام الصدر. وإذا برئيس الخصيان قد دخل وعليه أمارات الاضطراب، فسأله الباشا: ألا تعلم سبب سفر زوجتي الهانم؟ - تريد لا شك أن تقول سمو السلطانة ...؟ قد دعتها والدتها للذهاب إلى السراي الهمايوني؛ فلم تر وجوبا لإعلامك، ولم تأذن لي بإخبارك بالسبب. - إذن تعرف السبب وتريد إخفاءه عني؟ - نعم، على أسف مني.
فكاد الباشا يتميز غيظا لهذا الجواب المهين، وقال: حتى الخصيان صاروا يحتقرونني، فصمت. ثم انتهره قائلا: جئني بالطعام حالا.
فخرج الخصي، وعاد حاملا صحفة كبيرة مغطاة بقبة فضية منقوشة نقشا بديعا، فوضعها الخصي على الصدر أمام الباشا، وقال: هذه الصحفة تخبر دولتك عن سبب سفر سموها ... ثم ابتعد، ولم يرفع الغطاء الفضي اتباعا للعادة. فحملق الباشا فيه وكاد لا يصدق أذنيه، ثم مد يديه وهي ترتجف حنقا، ورفع الغطاء بحده، ثم طرحه وصاح مذعورا صيحة دوت لها جوانب السراي، وتراكض من أجلها جميع الخدم والخصيان، وقد جمد الدم في عروقهم لما وجدوا رأس «إقبال» غائصا بدمها الطري موضوعا في تلك الصحفة الفضية، وعينيها النجلاوين مفتوحتين قليلا، وهي باسمة الفم دلالة على أن رأسها قد حز غيلة، وشعرها الطويل يكلل ذلك الوجه الجميل. ولبث الباشا يصرخ ويصيح وا غوثاه! فلا من سميع ولا من مغيث. وأخيرا تقدم إليه أحمد العبد ورفعه من منكبيه، وأدخله إلى غرفة ثانية، وهناك أجهش الباشا بالبكاء والنحيب متمثلا في صورة تلك الغادة الهيفاء، وهو يقول: وا حسرتاه عليك يا إقبال! مسكينة أنت ... ذهبت غيلة وظلما! ثم فتح ذراعيه إلى السماء، وقال: أسألك اللهم أن تنجي طفلتها من الهلاك ... أنت القدير على كل شيء ...
الفصل الرابع
بعد مضي 16 سنة
وحدث بعد ذلك العهد؛ أي بعد انقضاء 16 سنة، أمور كثيرة كانت الأحوال قد تبدلت فيها تبدلا كليا، فكان السلطان عبد المجيد قد انتقل إلى رحمة ربه منذ ست سنوات، وجاء أخوه ولي العهد عبد العزيز أفندي، فحقق آمال العثمانيين به، وكان هذا السلطان كل أيام ولاية عهده حتى يوم تسنم عرش أجداده منقطعا عن الأمور السياسية معتزلا الأشغال العمومية مقيما في مزرعة «جفتلك» بجوار قرية بايكوس عائشا عيشة الفلاحين البسيطة مصوبا عنايته إلى الفلاحة والزراعة، فأحبه الجميع لحسن أخلاقه وأحوال معيشته.
وبينما كانت السراي السلطانية الهمايونية مكتظة بالجواري الحسان والسراري الشركسيات المجلوبة من جميع أطراف المملكة رغما عن عجز السلطان عبد المجيد ومرضه، كان ولي العهد عبد العزيز أفندي في مقتبل الشباب وعنفوان العمر مكتفيا بسرية واحدة شركسية الأصل بديعة الجمال اختارها قرينة لنفسه، فلم تعرف لها ضرة. وبينما كان السلطان عبد المجيد يرقد إلى الظهر ولا يقابل وزراءه في الشهر مرة، كان عبد العزيز ينهض مع الشمس لمراقبة مزرعته، وقد جاء بمهندس زراعي بارع من سويسرا، وجلب منها ثيرانا كبيرة وتقاوي جيدة من جميع الحبوب حتى صار يضرب المثل بجودة ذلك الحقل، وصار أنموذجا في البلاد العثمانية، وتعاظم ميل الناس إليه، وغدا مدحه أنشودة كل شفة ولسان.
Unknown page
ولما تسنم عبد العزيز عرش آل عثمان طفحت قلوب العثمانيين فرحا وسرورا، وتفاءلوا به خيرا، وجاءت السنون الأولى من ملكه محققة للآمال، مصدقة لذلك التفاؤل، مبشرة بحسن مستقبل الأيام ونهضة الدولة من حضيض الانحطاط.
وكانت فاتحة أعماله أن أخذ يرأس مجلس الوزراء كل مرة بنفسه في السر عسكرية فيقضي ليله ساهرا معهم على النظر في شئون المملكة الدقيقة، مهتما براحة رعاياه، الأمر الذي لم يسبقه إليه أحد من أسلافه.
وكانت العادة قد جرت في السراي كما لا يخفى أن تقدم والدة السلطان كل عام في أول شهر رمضان سرية إلى جلالة ابنها، فرغب السلطان عبد العزيز إلغاء تلك العادة، وإبدالها بتقديم جارية إلى امرأته السلطانة، ثم صوب اعتناءه إلى افتتاح المدارس المجانية لجميع الملل والنحل بقطع النظر عن الأديان والأجناس، وساعد كثيرا على انتشار العلوم والمعارف من ماله الخاص، وشاد المستشفيات الطبية والجمعيات الخيرية وغيرها من الأعمال المفيدة.
وخصه الله بمعرفة قدر الرجال، فانتقى من بين وزرائه اثنين هيهات أن يأتي الزمان بمثلهما، امتازا في دولة آل عثمان بالذكاء ودقة الفهم وشدة الوطنية والبراعة في السياسة، أعني بهما عالي باشا وفؤاد باشا؛ اللذين شهدت لهما رجال الغرب بالسبق والفضل، فساعدا السلطان كثيرا على إنهاض المملكة.
وكانت الملابس التركية باقية إلى ذاك العهد على زيها القديم، فأبدلها السلطان بالزي الأوروبي الحديث بعد أن نقحه كما يليق؛ إلا النساء، فقد بقين محافظات على «اليمشق والفراجية»، وإنما خففن كثيرا من كثافة المنديل، فصار شفافا يزيد الوجه حسنا وجمالا. واقتنى الوزراء والكبراء العربات الأوروبية، وجاءوا من عواصم أوروبا بالرياش الفاخرة والأمتعة الثمينة، وحدث بجملة القول في ذلك العهد ثورة تقليدية عظيمة للمعيشة الأوروبية، الأمر الذي سر كثيرين ممن كانوا قد تلقوا العلوم واللغات الأوروبية، وكانوا من دعاة الحرية والمدنية. وقد بلغ الفرح والسرور منهم حده لما تحققوا أن السلطان قد عزم على نسخ العادة القديمة وهي عادة التقيد ضمن حدود ملكه، وأنه عازم على تفقد البلاد المصرية أولا ترويحا للنفس، ثم على زيارة العواصم الأوروبية متفرجا ومستكشفا سر التقدم الأوروبي، ومستطلعا أسباب رقي الشعوب. فخيل لهم حينئذ أن تركيا قد بلغت أوج التمدن والفلاح، ووهموا أنه سيعود من السياحة في تلك البلدان منبع الثروة والفنون حاملا من المدنية لآلئ يقلد بها جيد عرشه، وناشرا أعلام الرقي والحضارة في كافة أرجاء مملكته المترامية الأطراف. وقد استصحب السلطان معه في تلك الرحلة وزير خارجيته فؤاد باشا المشهور وولدي أخيه مراد أفندي؛ ولي العهد وشقيقه عبد الحميد (السلطان المخلوع)، وسر الشعب من ذلك، وعدوه برهانا جديدا على دقة أفكار السلطان وسمو مبادئه، حيث قد جرت العادة أن يقصي السلطان أولياء العهد في قصور بعيدة يملؤها من النساء والسراري الحسان بعيدين عن جميع الناس جاهلين أحوال المملكة التي ستلقى مقاليدها إليهم . فكان استصحاب عبد العزيز لولدي أخيه دليلا على أنه يريد إفادتهما من مدنية أوروبا كي يحذوا حذوه بترقية المملكة العثمانية في معارج التقدم والفلاح من بعده، ولذا كان يوم سفره إلى باريس يوما حافلا مشهودا.
وقد أناب عنه في إدارة شئون المملكة الصدر الأعظم عالي باشا، وأطلق له حرية العمل في تدبيرها أثناء غيابه كما ترتئي حكمته، وكان مركز الدولة يومئذ حرجا؛ إذ ظهر فرقة من المشايخ الذين أعماهم التعصب، وانضم إليهم المعزولون من رجال السلطان عبد المجيد، فألفوا حزبا قويا لمعاكسة الحزب الجديد الذي سر من هذه الحركة المدنية الجديدة، ومن اندفاع السلطان إليها، وهذا الحزب هو الذي عرف باسم «تركيا الفتاة»، وقد خال للجميع يومئذ أن الظفر سيبقى لهذا الحزب (حزب الإصلاح) لو لم تمد النساء أيديهن الضعيفة القوية آخذا بناصر الحزب القديم الذي كان مبدؤه وشعاره «بقاء القديم على قدمه»، وللنساء في تركيا - كما في جميع أنحاء المعمور - نفوذ شديد، إلا أنهن في الشرق وراء الحجاب لا يمكن الوصول إليهن، ولكن قد أخطأ من قال إن لا نفوذ للنساء في الشرق.
ولما تقرر سفر السلطان في جلسة الوزراء رسميا قدم بعض كبار المشايخ استعفاءاتهم، فقبلها السلطان حالا، فاتخذ الحزب الديني ذلك إهانة لهم، وأما العظماء وغيرهم من نجباء الأمة فقد سروا من عزم السلطان، وعدوه أمرا سياسيا مهما، ولكن المشايخ كانوا بالعكس، فثاروا وحاولوا إحباط ذلك المسعى، فأقنعوا السلطانة والدته أن مصير ابنها إلى الهلاك إذا ظل صاغيا إلى حزب «تركيا الفتاة».
وحاولت والدته إقناعه بالعدول، فذهبت أتعابها أدراج الرياح، وإنما وعدها السلطان وعدا شافيا ألا يطيل تغيبه عن عاصمته أكثر من شهر. •••
ففي اليوم الرابع والعشرين من شهر تموز (يوليو) لعام 1284 للهجرة ورد نبأ برقي من فارنا إلى فخامة الصدر الأعظم مبشرا بقدوم جلالة السلطان على يخته صباح غد عائدا من رحلته الأوروبية.
ولم ينشر هذا النبأ في أنحاء الأستانة حتى هب سكانها على اختلاف أجناسهم وأديانهم يستعدون للزينة والاحتفال برجوع مليكهم المحبوب، ولما نشر ضوء الصباح في الأفق سرادقه ركب الوزراء والعلماء والكبراء والقواد بواخر الشركة الخيرية، وساروا إلى لقاء جلالة السلطان عند فم البحر الأسود. وركبت والدة جلالته والسلطانة قرينته يختا ملوكيا مصحوبة بجميع الأميرات والسراري لاستقبال جلالته أيضا.
Unknown page
وكانت شمس تموز لامعة الضياء، والجو صافيا والهواء عليلا، فلم تطل الباخرة المقلة جلالته حتى بدأت حصون الأستانة ومعاقلها في جميع أطرافها بإطلاق المدافع تبشيرا بقدوم البادشاه، وكان الهتاف «بادشاهم جوق يشا» (فليعش سلطاننا كثيرا) يدوي بين شاطئ القارتين آسيا وأوروبا، ويعجز القلم عن وصف عظمة ذلك الاحتفال وبهائه، فإنه كان مشهدا بالغا حد الأبهة والجلال أثر بجلالة السلطان كثيرا؛ إذ استدل منه على تعلق الشعب به وآماله فيه.
ووقف يخت السلطان قليلا ريثما صعد إليه المستقبلون، ثم أكمل مسيره بعظمة وبهاء يختال في مشيه كأنه عالم بعظمة من يقل، ويتبعه عشرون باخرة، وبعد أن استقبل السلطان حرمه المصون عاد إلى ظهر المركب؛ حيث كان عالي باشا بانتظار جلالته، وكل منهما متشوق لرؤية الآخر؛ هذا للسؤال عن أحوال مملكته، وذاك لمعرفة التأثير الذي كان لتلك الرحلة في أفكار مولاه، فبعد أن سأله السلطان قليلا عن أحوال المملكة عموما تجاسر عالي باشا فقال له: عسى أن يكون قد سر مولاي من هذه الرحلة. - نعم، سررت جدا، إنما أشكر الله تعالى أني لست بمليك أوروبي تابعا لديانة مخالفة تماما لديانتنا. - هل أتجاسر على سؤال مولاي، أي شيء أثر في جلالته من أخلاق الأوروبيين وعوائدهم، وأي شيء أعجبه في المدن التي شرفها بسياحته؟ - لا مشاحة في أن المدن الأوروبية جميلة المباني، وإنما مراكزها لا تساعدها على الحسن كمنظر الأستانة مثلا؛ فضلا عن أن الإنسان يشعر فيها للحال أن تلك الحركة الشديدة هي من أجل السعي وراء المال، وهي الغاية الوحيدة التي تطمح إليها أنظار الأوروبيين ... أما النساء فحدث عنهن ولا حرج، يخرجن إلى المراقص متلعات الأعناق مكشوفات الأكتاف مفتوحات الصدور مشدودات الخصور، يلففن أذرعهن بقحة غريبة بأذرع الرجال على مرأى من أزواجهن الذين ينظرون إليهن بدون أقل غيرة أو اكتراث. - نعم، قد أصبت مولاي، للتمدن الأوروبي عادات لا تنطبق على عاداتنا، ومخالفة للدين المحمدي الشريف، ولكن رغما من تلك الحرية الظاهرة فإنهن على الغالب أمهات شقيقات، وزوجات محصنات، والتربية تساعدهن كثيرا على هذا. - ولكن ما هذه المدنية إذا كان الفقر والجوع يميت في مدينة كعاصمة لندره مثلا ألوفا من الخلق في العام ... فهل قرأت إحصاءات الجرائم والمسجونين في تلك البلاد الصناعية؟ - نعم قرأتها، وإنما يجازون في أوروبا جميع الجرائم بلا استثناء، أما في الأستانة فالعدالة غير تامة، فإن المجرم ينجو كثيرا من العقاب. - ولكنه لا ينجو من عقاب الله. - أرى أن جلالتك لم تسر كثيرا من رحلتك الأوروبية. - بلى سررت، خصوصا لإقدامي عليها، لكني لا أخفي عليك أني كنت أستعد للرجوع إلى الأستانة، فإن تلك العيشة المملوءة من الحركة الدائمة لا تروق لي؛ لأن الملك نفسه هناك كتلميذ مدرسة ليس له ساعة فراغ، فهو عبد الشعب مع أن الشعوب خلقت لتكون عبيدنا.
فالتفت عالي باشا إلى من حوله خوفا من أن يكون قد سمع أحد ذلك الكلام من فم السلطان الذي أتم كلامه فقال: إن الشعوب الأوروبية كثيرة الاهتمام بالأمور التافهة كالفنون والصناعة والزراعة والتجارة والسياسة، ويغفلون عن أهم شيء في هذه الدنيا ألا وهو الحرص على السلامة.
فتنفس عالي باشا الصعداء لهذا الكلام، وعرف أن السلطان لم ينظر إلا لحال الضعف في الأوروبيين، وأنه لم يستفد شيئا جليلا من رحلته هذه فقال: ولكن لا بد قد أعجبتك المتاحف والمشاهد، وخصوصا لتضافر الأفراد على رفع منار بلادهم. - لا، وإنما أشد شيء أثر بي قباحة وجوه الأميرات الملوكيات، فلم أر فيهن امرأة جميلة إلا الإمبراطورة أوجيني والإمبراطورة اليصابات، مع أني أرى أن الملك إذا تزوج يجب أن يختار أجمل امرأة في مملكته، أما هم فبالعكس يكتفي الواحد منهم بأن تكون المرأة من عائلة ملوكية، ولا يهمه قبحها أو جمالها مع أن هذا هو الحمق بعينه.
ومر اليخت السلطاني أمام سراي «أميرجيان» الخاصة بإسماعيل باشا خديوي مصر، فصوب جلالته منظاره إليها، واغتنم عالي باشا تلك الفرصة فأرسل نظره باحثا عن فؤاد باشا فوجده يتحدث مع مراد أفندي ولي العهد، فقال السلطان ساخرا: حديقة إسماعيل باشا جميلة، فهي على الطراز الأوروبي، ويريد أن يتقلدنا. - كلا مولاي؛ هو ولوع بتقليد الأوروبيين. - تريد أن تقول المسيحيين. - لا، ولكن لا تنكر جلالتك على إسماعيل باشا الذكاء. - هذه كل بضاعته. - هي كافية مولاي. - أتعرف أني لما زرت مصر وجدت لباس جنوده أحسن من لباس جنودي؟ - ليس الجندي بلباسه بل بقواده. - تعال غدا بعد السلاملك لأطلعك على مشروع الإصلاح الذي وضعته. - الأمر أمرك أطال الله عمرك. - اصحب معك فؤاد. - هذا جل متمناي.
وجاء أحد الخصيان فعرض على جلالته أن والدته بانتظاره، فقام السلطان عاجلا، وبقي عالي باشا وحده على ظهر الباخرة، وقد غلب عليه الأسف واليأس؛ لأن أحوال كريت كانت على أهبة الثورة والعصيان، فلما رأى فؤاد باشا الصدر الأعظم وحده تقدم إليه لمصافحته، فتبادلا التحية، ثم سأله بلهفة: كيف أحوال كريت؟ - تلك مسألة كنت أحب سماعها من السلطان.
فتقدم إليه فؤاد وقبض على يده، وهمس في أذنه قائلا: تريد أن تقول السلطنة ... الويل يا عالي لتركيا يوم نسقط. - إذن أنت مقتنع بأن السلطان عبد العزيز كأسلافه. - نعم، لا يزيد ولا ينقص عنهم بشيء. - وهل سمعت حكمه على أوروبا؟ - سمعت أكثر من ذلك، فقد قال لي إنه أكثر مدنية من الفرنسيين والإنجليز والبروسيانيين، وقال أرى نفسي في غنى عنهم وعن مدنيتهم، ولم يعجبني في فرنسا شيء، ثم رفس الأرض برجله، وقال: أقسم بالله العلي العظيم لا أكون سلطانا إذا كنت لا أجد امرأة شبيهة بالإمبراطورة أوجيني، وإذا كنت لا أشيد في إنجلترا نفسها أسطولا أمنع من أسطولهم. - وهل هذه كانت نتيجة رحلته؟ - نعم وا حسرتاه على تركيا، وقد بدأت أقتنع بأن لا بد من ظهور نجم جديد في أفق السياسة يستلفت إليه أنظار تركيا الفتاة. - وأي هو؟
فالتفت فؤاد إلى مؤخر الباخرة حيث كان يوجد حلقة من كبار رجال الدولة ووزرائها، وقال انظر إلى أبسطهم هيئة وأكثرهم بشرا. - من أمراد أفندي؟ - نعم هو بعينه، وأتنبأ لك أنه سيكون سبب سقوط السلطان عبد العزيز. - تريد أن تقول سبب وفاته؛ إذ لا تسقط السلاطين إلا بوفاتها.
وحينئذ سمعا صوتا من ورائهما يقول: تتغير العادات بتغير السنين والأيام، فالتفتا إلى ما ورائهما مذعورين خوفا من أن يكون قد سمع حديثهما أحد، وإذا بهما رأيا شيخا مهابا بشوشا قد تقدم إلى عالي باشا، ومد إليه يده وقال: صافحني بالأكف كي أقول إني جئت بعادة جديدة من جيراننا، وكان ذلك القادم شيخ السلطان خير الله أفندي، وقد اشتهر بحدة الذكاء وحرية الفكر وحب الإصلاح والمدنية.
فقابله عالي باشا بمزيد الترحاب، وهنأه بسلامة الوصول، ثم سأله قائلا: ماذا تريد بعبارتك: تتغير العادات بتغير الأيام؟ - تلك فاتحة عملي بمصافحتي إياك بالأكف.
Unknown page
فقال له فؤاد: وهل تعلق كبير أمر على تلك المصافحة؟ - نعم؛ لأني نسخت بها عادة ثلاثين سنة، وهذه المصافحة الأوروبية هي العربون الذي يجب أن يكون بين تركيا والدول المتحابة، وهكذا برهنت لكما أني من رأيكما بوجوب الاتفاق من أجل سلامة المملكة ونجاحها؛ إذن إن العادات تتغير بتغير السنين والأيام، فأجابه فؤاد: لا تتغير لسوء الحظ إلا السنون. - لا شيء يرضيك باشا أفندي حضرتلري. - لا غرابة فقد صرت كهلا ...
ثم صعد السلطان إلى ظهر يخته يتبعه أركان حربه وكبار حاشيته، وكان الربان قد أوقف اليخت أمام سراي طلمه بغجه، وانحدر السلطان منه إلى زورقه المذهب البديع حتى أسفل سلم السراي، وكان العلماء والوزراء والكبراء قد احتشدوا من مدخل القصر حتى القاعة الكبرى؛ لتقديم واجبات التهنئة لجلالة السلطان بالعود المجيد من تلك الرحلة الأوروبية الجديدة في تاريخ آل عثمان.
الفصل الخامس
بطل المستقبل
بينما كان السلطان عبد العزيز يستقبل وفود المهنئين أرجو القارئ الكريم أن يتبع فارسين قد أعمل كل منهما المهماز في شاكلة جواده وهما ينهبان الأرض نهبا مسرعين نحو محلة «أورطه كي» أحدهما: شاب في الثانية والعشرين من عمره أسمر اللون خفيف العارضين اسمه «صلاح الدين بك» من ياوران جلالة السلطان ونجل أحد قواد الدولة المتقاعدين، والثاني: شاب يافع شركسي الأصل اسمه «حسن» لا يعرف له أصل ولا نسب ولا أهل إلا شقيقة فتاة ربتها والدة السلطان في حرمها، وقد ارتبط هذا مع صلاح الدين بك بمودة شديدة، وكان والده مقيما على هضبة بالقرب من قرية «أورطه كي» في بيت بسيط تحيط به حديقة فيها كثير من أشجار الفاكهة المختلفة.
فلما وصلا البيت قفز صلاح الدين عن جواده كالغزال، وأول سؤال وجهه إلى خادمه كان عن صحة والده الشيخ الجليل، ثم سار إلى السلاملك يصحبه صديقه حسن، فضمه والده حميد باشا إلى صدره وعانقه شديدا، ثم أمره بالدخول إلى الحرم لتقبيل يدي والدته نعمت هانم، وكانت جالسة مع السراري تنتقي زهر الورد لطبخه بالسكر، وكانت منذ سمعت إطلاق المدافع تبشيرا بقدوم السلطان تنتظر وصول ابنها بذاهب الصبر، فكانت ترسل كل هنيهة إحدى جواريها تتفقد وصوله، وكان صلاح الدين هذا وحيدا لوالديه، وموضوع حبهما، قد تلقى علومه في كلية فينا الكبرى، وانتقل منها إلى فرنسا حيث أكمل دروسه الحربية في مدرسة «سان سير»، فأخذ عن الفرنسيين ما اشتهر عنهم من الظرف واللطف ورقة المعاشرة، ولم تطمح أنظاره إلا لخدمة وطنه وأمته، فانخرط في سلك دعاة الحرية والمصلحين، وكان ورعا من غير تعصب جريء القلب بطلا مقداما، وقد سر جدا لما عرف أن جلالة السلطان قد انتقاه ليكون من ياورانه ورفيقا له في رحلته الأوروبية، وقد علق على هذه الرحلة كبير أمل من التأثير على أفكار السلطان؛ ليدفعه إلى الصعود في معراج التمدن والحرية. فلما دخل الحرم أخذ يدي والدته يقبلهما بشوق، وقامت الجواري والسراري فرحات مسرورات يقبلن طرف ثوبه، وأكثرهن كن يعددن لرجوعه الأيام والساعات، وقد أملن جميعا أنهن يحظين بالتفات منه، أما هو فاستقبلهن بلطف، ثم تحول عنهن، وانطرح على الديوان بالقرب من والدته يقص عليها أخبار رحلة السلطان.
ولبث ساعتين يروي ظمأ اشتياقه، وإذا بجارية دخلت وأبلغته أن والده الباشا قد اضطر للخروج من أجل رد بعض زيارات، وأن صديقه حسن باق وحده في السلاملك.
فهب صلاح الدين حالا إليه يعتذر عن قصوره، فوجده واقفا بالقرب من النافذة ينقر زجاجها بأصابعه تسلية وإضاعة للوقت، فتقدم إليه صلاح الدين وقال: أرجوك العذر لقلة أدبي ... ولكن من غاب عن والدته شهرا كان الشهر عنده دهرا. - أصبت ... ثم تنهد، وقال: طوبى لمن له عائلة ... أما أنا فإني يتيم وحيد أشعر بثقلي أين ذهبت وكيف اتجهت؟ - ما هذا القول يا حسن ...؟ أتجهل محبة أصدقائك، واعتبارهم لك؟ والأصدقاء الصادقون هم كالأهل، بل خير منهم؛ إذ الإنسان له فيهم خيار الانتقاء.
إذا كان يحق للإنسان انتقاء أخ فأنت أخي الوحيد. - عزيز علي يا حسن ألا يكون عندي شقيقة تثبت لك صدق قولك، ولكن أنت تعلم أني وحيد لوالدي. - وأما أنا فلي شقيقة يا صلاح الدين أحبها حبا شديدا، اجتزت وإياها منذ خمس سنوات بلادنا الشركسية يوم قادونا كالأغنام للبيع في الأستانة، فقدر النصيب أن اشترت والدة السلطان شقيقتي - مهرى - ووضعتها في حرمها ... وهكذا حرمت من مشاهدتها كل حين، ولا يسعدني الحظ بذلك إلا متى انتقل الحرم السلطاني إلى المصيف. - ولكن سمعت اليوم من رئيس الخصيان أن جميع السراري قد ذهبن للاستحمام في البحر عند قصر «بكلربك» الذي هو قبالتنا. - فأبرقت أسرة حسن فرحا، وقال: أحقيقي ما تقول؟ وكيف يمكننا تحقيق ذلك؟ - أمر سهل لا يكلفنا كبير عناء ... تعال نكتري زورقا، ونذهب لتحقيق ذلك، فنسأل رئيس الخصيان إذا كانت شقيقتك بين السراري أو إذا كانت بقيت في السراي الهمايوني، وكيفما كان الحال نكون قد قضينا نزهة لطيفة. - ما أكرم أخلاقك وألطف طباعك ...! هيا بنا. - هذا من واجباتي؛ فقد تركتك وحدك منذ ساعتين وأنا أتنعم بلذة مشاهدة والدتي، فوجب علي الآن التعويض، واكتريا زورقا للحال واجتازا البوسفور، فوصلا في أثناء عشر دقائق إلى شاطئ آسيا إلى بيكلربك، وهي القرية التي بنى السلطان فيها قصرا على شاطئ البحر في غاية من الظرف، فصعد الصديقان إلى باب السراي، فلما رأى الخدم والحشم صلاح الدين عرفوا من ملابسه أنه من ياوران جلالة السلطان، فسأل حسن أحد الخصيان عن مهرى هانم فأجابه أنها في السراي وأنه يمكنه مشاهدتها؛ فسر كثيرا، ثم التفت إلى صديقه صلاح الدين، وقد أخذته الحيرة بوجوده، وقال: ما العمل؟ - خفض عنك، فإني سأتمشى على هذه الطريق المحاذية لحديقة السراي حتى تشماليجة، ثم أعود إلى هذه الساحة أنتظرك في قهوتها فلا تضيع وقتك، واعلم أني أكون مسرورا إذا كنت سهلت عليك هذا الاجتماع، وسأنتظرك بسرور مهما طال اجتماعك، ثم مد يده فصافحه، وتبع حسن الخصي وعاد صلاح الدين وحده متجها نحو الطريق التي سار إليها، فلما صعد إلى أعلى الهضبة وقف أمام بستان السراي يحيط به شجر الجوز الكبير وحائط رفيع لا يرى منه إلا رءوس الأشجار، فوقف يسرح الطرف في ذلك المشهد البديع، وإذا به يسمع صوتا رخيما مناديا. - مهرى هانم ... مهرى هانم ... تعالي التقطي الخوخ ...
وسمع في الوقت نفسه هز شجرة صوت الثمار تتساقط على العشب الأخضر، فرمى بنظره إلى الشجرة فرأى غادة تركية قد تسلقتها كالسنجاب وقد تطاير منديلها الشفاف عن رأسها، فأبان وجها صبوحا وعينين نجلاوين وشعرا حالكا مسترسلا على أكتافها غدائر، وكانت أوراق الشجرة وأغصانها الملتفة حجابها الوحيد، ويظهر أن السبب في مناداتها لرفيقتها بصوت عال كان استلفاتا منها لنظر صلاح الدين الذي لما سمع الصوت ورأى الغادة وقف مبهوتا ذاهلا من جمالها الفتان، وهي لما رأت مركزها الحرج حاولت عبثا الاختباء وراء الأغصان والأوراق، ثم سمع صوتا من أرومة الشجرة يقول: عائشة هانم لم لا تلقين الخوخ؟ - لم يبق ثمر في الشجرة. - إليك هذا الغصن المدلى على الطريق، فقد رزح من كثرة الثمر، فمدت عائشة يدها اللطيفة إلى الغصن فهزته بعنف وتساقط الخوخ على الطريق أمام صلاح الدين، فهم بالتقاطه، وفي الحال فتح باب صغير للحديقة، وخرجت منه فتاة تركية مسرعة لالتقاطه أيضا، فلما رأت صلاح الدين أمامها صاحت مذعورة، وهرولت ناكصة على أعقابها تاركة الأثمار غنيمة باردة له، واغتنمت عائشة فرصة انحناء الرجل لالتقاط الثمر فانحدرت عن الشجرة بعجل، ولم يكد صلاح الدين يتم التقاط الثمر حتى مر به خصي، فنظر إليه نظرة المرتاب، وأراد الدخول إلى البستان، فوجد الباب موصدا، ولم يفتح له حتى عرف بنفسه فقال بصوت عال: مهرى هانم جاء أخوك حسن إلى السراي يريد مشاهدتك. - ها أنذا ... ها أنذا حاضرة.
Unknown page
فابتعد صلاح الدين قليلا احتراما، وإذا بالباب قد فتح، وخرجت منه مهرى يتبعها الخصي ثم أقفل على مهل ريثما تمكن صلاح الدين من النظر إلى عائشة قليلا، ووقفت هي تبسم له ابتسامة الممازحة، فتظاهر هو بأنه عابر طريق، فأخذ في مسيره قليلا، ولكنه عوض أن ينحدر إلى القرية كما كان عزمه صعد إلى الأكمة ثانية، ومنعا للريبة عرج إلى طريق ضيقة محاذية لسياج البستان، ولما ابتعد عن الطريق العامة تسلق شجرة توت كبيرة ملتفة الأغصان، فجعلها مرصدا له يترقب من خلالها الشارد والوارد في الداخل والخارج.
والحب أول ما يكون مجانة
فإذا تمكن صار شغلا شاغلا
دفعت الرغبة صلاح الدين إلى معرفة تلك الغادة الفتانة التي جذبت فؤاده من أول نظرة «وما الحب إلا نظرة بعد نظرة»، وقد أحس في الحال بشعور غريب وعاطفة جديدة لم يلامسا بعد قلبه الخالي.
ولما صار في أعلى الشجرة رأى أن عائشة ليست وحدها في البستان، بل يصحبها أربع من رفيقاتها السراري، وقد جلسن جميعا أمام جدول ماء نمير تحف به أشجار بديعة الائتلاف والاصطفاف مكللة بآلاف من الفاكهة المتنوعة الأصناف، والنهر بفرط صفائه ورقة مائه ينم عما بأسفله من رمله وحصبائه، وكلهن يدخن التبغ اللذيذ، ويأكلن أنواع الفاكهة النادرة، ورأى في آخر الحديقة بيتا خشبيا صغيرا قد أخفته الأشجار الملتفة.
فرأى صلاح الدين من مرصده أن الغادة التي جذبت قلبه واختلبت لبه كانت تقف من حين إلى آخر على طرفي قدميها، فترمي بنظرها إلى الطريق الصاعدة أو تتطلع من خلال السياج كأنها تنتظر مرور شخص، ثم تعود فتجلس مقطبة الوجه، فعرف صلاح الدين أنه هو الشخص المنتظر، وكان يسر كلما رآها جلست عابسة الوجه مقطبة الجبين، ثم تولتها السآمة فقامت وتركت رفيقاتها لتجمع باقة زهر ، وبدأت تتوغل في البستان تقتطف أنواع الزهور حتى وصلت إلى أسفل الشجرة التي كان مختبئا فيها صلاح الدين، فأخذ للحال أثمار الخوخ التي التقطها من الطريق، ورمى بها أمام عائشة، فدهشت لما رأت أن التوت قد أثمر خوخا يتساقط على قدميها، فرفعت نظرها إلى الشجرة، فذعرت مبهوتة لما رأت صلاح الدين جاثما كالطير في أغصان الشجرة، وصاحت صوتا يتخلله الخوف والفرح اهتز له قلب صلاح الدين طربا، فقفز من أعلى الشجرة، وصار في أقل من لمح البصر أمام قدميها، فصاحت به الفتاة: ما هذه الجسارة بك أفندي؟
ثم أخذت منديلها ولفت وجهها الجميل، ثم قالت: أمن أجل ابتسامة تقتحم حدائق الناس وتتسلق الأشجار ...؟ ابتعد حالا وإلا ناديت والدتي ... تأديبا لك. - مهلا هانم أفندي ... إني أعجب كيف يخرج هذا الكلام القاسي من هذا الفم الجميل ... وليس مولاتي الذنب ذنبي؛ فإن جمالك الفتان هو الذي دفعني إلى هذه الجسارة، وإذا كان في وسعك منعي من العود إلى هذا المكان فليس في طاقتك منع قلبي من أن يهواك، وأن يكون بكليته لك. - لا أفهم ما تقول ... ولكن أرى أنك واهم ... لست بجارية لأرضى بمثل هذا الحب. - أصبت فيما قلت، وإنما أرجوك المعذرة؛ لأن جمالك قد أضاع صوابي، واسمحي لي أن أعرفك بنفسي ... إنني أدعى صلاح الدين، وحميد باشا المقيم في «أورطه كي» والدي، وشقيق مهرى هانم صديقتك يخبرك عني طويلا إذا رغبت المزيد، وأعلل النفس برؤيتك مرة أخرى.
فلم تجب الفتاة ببنت شفة، ولكن لمح صلاح الدين أن عينيها تضحكان سرا ... فحياها التحية التركية قائلا: أي والله هانم أفندي. - أي والله.
ثم تسلق الحاجز وقفز إلى الطريق وهو يقول: لله درها ما أفتن جمالها! وأكملت عائشة مسيرها تقول في نفسها لله دره ما أنضر شبابه وأرشق عبارته!
وعاد صلاح الدين عند ذلك إلى القهوة فوجد صديقه حسنا بانتظاره، فلما رآه ابتسم له قائلا: قد رأتك شقيقتي الساعة. - وكيف عرفتني؟ - كنت أريتها رسمك؟ وقلت لها: انظري هذا الأخ اللطيف الذي لي، وقد أعجبها جمالك وشبابك. - هذا ولا شك لطف منها. - وأنت هل رأيتها؟ - كلا لم أتجاسر على رفع نظري إليها؛ فضلا عن أنها كانت محجبة بيشمق كثيف. - نعم، هذه إرادة السلطانة؟ إذ لا يخفاك أنها معاكسة للأفكار الجديدة. - وهي أفكار السلطان أيضا، فإنه عاد من رحلته الأوروبية أكثر تعصبا من ذي قبل، وأشد استبدادا.
Unknown page
فلم يجب حسن على هذا الكلام؛ لأنه كان من حزب تركيا القديم الكاره للأفكار الجديدة والإصلاحات الأوروبية.
وكان السلطان عبد العزيز يفضل سراي بيكلر بك على جميع قصوره بعد سراي «طلمه بغجه»، فكان ينتقل إليها مدة فصل الصيف تاركا شئون الدولة ملقيا مهام المملكة على عاتق الصدر الأعظم عالي باشا الذي كان صارفا جل اهتمامه في إخماد ثورة كريت.
وبينما كان السلطان محتجبا في قصره معتزلا أشغال الدولة التي كان مصوبا إليها أولا جل اهتمامه كان هوبار باشا محاصرا سيرا بالأسطول العثماني، وفؤاد باشا يقدح زناد فكره آناء الليل وأطراف النهار في سبيل مرضاة سفراء الدول في الأستانة، وكان مدحت باشا واليا لولاية الطونة، فاستدعي إلى الأستانة، وقلد رئاسة شورى الدولة.
ولا يختلف اثنان في أنه لو سلمت مقاليد الدولة في ذلك العهد إلى هؤلاء الوزراء الثلاثة لسلمت من العطب، وأمنت العثار، واستغنت عن السلطان عبد العزيز الذي كان قد بدأ فيه حب الأثرة والاستبداد، وصرح بأن ما أظهره قبلا من الميل إلى الحرية والإصلاحات ليس إلا سياسة منه اكتسابا للأميال وتهدئة للأفكار الثائرة.
ففي صباح شهر سبتمبر 1867م (الواقع في 4 شعبان) أمر السلطان أن يسرج له جواد عربي يخرج عليه للنزهة، فسار وحده بين البساتين والحدائق صعدا، يتبعه من بعيد أحد يورانه حتى وصل إلى أعلى الأكمة، فوقف في المكان الذي وقف فيه قبله صلاح الدين منذ شهرين يسرح الطرف في ذلك المنظر الجميل، وإذا به يسمع حديثا همسيا داخل البستان، فدفعته الرغبة والريبة إلى معرفة المتحدثين ورؤيتهم، فدخل البستان من الباب الصغير. •••
وكانت عائشة جالسة على العشب الأخضر متكئة على صدر رفيقة لها شركسية جميلة الوجه بهية المنظر، وأمامها امرأة عجوز راقدة في ظل شجرة.
فتنهدت الشركسية، ثم أكملت حديثها قائلة: نعم إني أحب السلطان، ولا أتجاسر على رفع نظري إليه، فإذا نظرته ارتجفت أعضائي ... ثم أخذت يد رفيقتها، وقالت لها: ضعي يدك على قلبي فتسمعي دقات اختلاجه ... ثم قالت: ما الذي جاء به إلى هنا يا ترى هذا الصباح ...؟ وهو كسول لا ينهض من رقاده حتى الظهر. - لعله عرف بمجيئك إلى هنا، ويحتمل أن يكون قد جاء يبحث عنك. - كفاك هزءا وسخرية ... أنت سعيدة بحبك لألطف شاب في تركيا فهنيئا لك، أما أنا فقد تطاولت في حبي إلى ما وراء الآمال، وبنيت قصورا شاهقة لأوهامي. - لا ... ألست بربة الجمال ...؟ وأنت في حرم والدة السلطان، تتسنى لك رؤية السلطان كل يوم. - نعم، فإني كل يوم «أشاهد معنى حسنه فيلذ لي»، ولكن نحن السراري والجواري نعد هنا بالعشرات والمئات وكلنا جميلات، وهو مع ذلك قليل الاكتراث بنا جميعا وخصوصا بي، مع أن نظري لا يقع عليه مرة حتى أنتفض «كما انتفض العصفور بلله القطر». - ما أشد حبك وأعظم تعلقك مهرى ...! بمثل هذا الحب تعلقت بصلاح الدين بك منذ شهرين، واشتد بك الوجد والهيام إلى درجة أن دبت في قلبي عقارب الغيرة، ثم صرت هائمة بحب السلطان، وسنرى إذا كان لهذا الحب دوام. - ما الحيلة يا عزيزة ... وقد حكم علينا الدهر بهذه المعيشة؛ فلا بد أن يتعلق قلبنا بشيء سواء كان أهلا له أو لم يكن ... تذكرين القصة التي قصتها فاطمة قادين على مسامعنا ... أتظنين أن تلك المسكينة أحبت ذلك الباشا السمين الغليظ الكبد الذي مات متخوما؟ - فأجابت عائشة: وا حسرتاه ... لقد كانت ولادتي سببا لورودها حتفها، وهذا سيكون شؤما علي كل أيام حياتي، ولم تتم عائشة هذا الكلام حتى صاحت مهرى هانم مذعورة؛ لأنها لمحت عيني رجل ينظر إليهن من خلال سياج الورد كأنه يتلصص لسماع حديثهن، وانذعرت القادين من رقادها الهني، فقامت تنظر من ذا الذي تجاسر أن يرسل نظره إلى الحرم السلطاني. •••
وكان صلاح الدين يمر كل يوم من ذلك المكان، فيلقي من فوق السياج باقة من الزهر الجميل إلى عائشة مليكة قلبه، وكانت العجوز جاهلة أو متجاهلة حادثة الخوخ حتى كتمتها عن الجميع، ولم تخبر بها إلا رفيقتها مهرى هانم الشركسية.
أما صلاح الدين فكان قد أباح بسره إلى والدته نعمت هانم، وكشف لها عن لواعج غرامه، وكانت تعرف جميع عائلات الأستانة الكبيرة، فأخذت تسعى منذ ذاك العهد وراء معرفة أصل عائشة هانم التي هام ابنها بحبها، فقصدت جميع العائلات، فلم يهدها أحد إلى خبرها، فسارت إلى الحمامات، وهي - كما لا يخفى في الشرق - جرائد المدينة يقف الإنسان فيها على جميع الحوادث المحلية، وغاسلاتها يعرفن جميلات البلاد أصلا وفصلا، لكنها لم تستفد شيئا. فكلف صلاح الدين صديقه حسنا بأن يستعلم شقيقته مهرى هانم، فتجاهلت ولم تخبره أمرا، وأخيرا عزمت والدته على أن تقصد العجوز فاطمة قادين والدة الفتاة.
فقامت ذات يوم قاصدة سراي «بيكلر بك» متخذة حجة بسيطة، وسألت مقابلة الباش قادين؛ أي رئيسة الحرم، وكانت من أعز صديقاتها، فاقتبلتها بمزيد الأنس والترحاب، فكشف لها نعمت هانم غمتها، والتمست منها أن تسمح لمهرى هانم بمرافقتها إلى بيت عائشة هانم، فأجابتها الصديقة: ابقي هنا إلى ما بعد صلاة الظهر، حيث نتناول الطعام معا، وسنخرج اليوم جميعا إلى البستان، وهناك ربما يتسنى لك معرفة ما تريدين من مهرى، أو أننا نخرج بحجة النزهة إلى كرم العنب، فتذهبين إلى بيت عائشة وهي كما لا يخفاك جارتنا؛ فقبلت نعمت هانم هذه الدعوة بمزيد الشكر والامتنان.
Unknown page