79

قالت له: «حسن، من الأفضل أن تجدوها؛ فهذه مهمتكم.» كانت تعمل ممرضة بالمستشفى. قالت فرانسيس: «إنها إما مطلقة وإما لم تتزوج من قبل قط. الفرد في خدمة الكل والكل في خدمة الفرد؛ ذلك هو مبدؤها.» •••

كان زوج مورين يناديها، فأسرعت إلى الغرفة المشمسة. بعد السكتة الدماغية التي أصيب بها منذ عامين وهو في التاسعة والستين من عمره، ترك مهنة المحاماة، لكنه ما زال منكبا على بعض الرسائل التي يتعين عليه كتابتها، وبعض الأعمال المعلقة لوكلاء قدامى لم يعتادوا التعامل مع محام غيره. طبعت مورين كل مراسلاته، ومدت له يد المساعدة كل يوم فيما سماه مهامه.

سألها: «ماذا تفعلين هناك؟» كانت كلماته تخرج منه أحيانا بلا وضوح؛ لذا كان يتعين عليها ملازمته لتفسر كلامه لمن لا يعرفونه جيدا. وكلما اختلى بها، لم يكن يبذل جهدا كبيرا لتنقيح ألفاظه، وكانت نبرته متبرمة وفيها نزق.

أجابته مورين: «كنت أتكلم مع فرانسيس.» «عم تتكلمان؟»

قالت: «موضوعات عامة.» «حسن.»

أطال مقاطع الكلمة بكآبة وهو ينطقها وكأنه يقول إنه على دراية بمضمون حوارهما، وإنه لا يعبأ به؛ النميمة والشائعات، والاستمتاع دون مبالاة بما تحدثه كوارث الآخرين من إثارة. لم ينخرط في حوارات ممتدة، سواء في هذه المرحلة أم عندما كان باستطاعته أن يتحدث بطلاقة ، حتى تعنيفه كان مقتضبا؛ حيث يعول على نبرة صوته وتلميحاته. بدا وكأنه يدعو إلى مجموعة من المبادئ والقواعد المعلومة لكل المحترمين من الناس، بل ربما للناس جميعا أيضا، والمعروفة حتى للذين عاشوا حياتهم في حالة من القصور. بدا أنه يألم نوعا ما، وينتابه شعور بالحرج بعض الشيء لكل المعنيين بالأمر كلما اضطرته الظروف أن يتحدث عن الآخرين، وبدا مهيبا أيضا. وكانت توبيخاته فعالة على نحو مذهل.

كان الناس في كارستيرز يتحللون تدريجيا من عادة دعوة المحامين بالمحامي فلان الفلاني، تماما كما ننادي الأطباء بألقابهم. لم يعد أحد في المدينة ينادي محاميا بلقبه المهني، لكنهم دوما يشيرون إلى زوج مورين بالمحامي ستيفنز، والأدهى أن مورين نفسها كانت تفكر فيه من هذا المنطلق أيضا، ولو أنها كانت تدعوه «ألفين». كان يرتدي كل يوم نفس ملابس الخروج التي اعتاد أن يرتديها عند الذهاب إلى مكتبه - بذلة رمادية أو بنية اللون من ثلاث قطع - وبدا أن ملابسه، على الرغم من تكلفتها الباهظة، لا تناسبه تماما، أو تمتد بحيث تغطي جسمه الطويل المترهل، وبدا أنها لم تكن تخلو قط من آثار ولو طفيفة لرماد السجائر وفتات الطعام، بل ربما حتى شذرات من الجلد المنسلخ أيضا. وكان رأسه محنيا لأسفل، وشحومه متدلية من فرط استغراقه وانهماكه، وتعبيرات وجهه تنم عن الدهاء وشرود الذهن - لا يسع أحد أن يجزم أيهما الغالب على محياه. وراق ذلك للناس؛ فهم يحبون هيئته الرثة بعض الشيء، وشروده الذي يخرج بغتة منه بتفصيلة مخيفة. إنه ضليع بالقانون - هكذا يقولون - ولا يحتاج إلى الرجوع إلى كتاب قانون للاطلاع على مسألة معينة؛ فكل كتب القانون مطبوعة في ذاكرته. لم تهز سكتته الدماغية ثقتهم به، ولم تغير من مظهره أو سلوكه كثيرا؛ جل ما في الأمر أنها عززت من تلك الصفات.

آمن الجميع بأنه كان من الممكن أن يصبح قاضيا لو كان قد استغل الفرص التي سنحت له. كان يمكن أن يصبح عضوا بمجلس الشيوخ، لكنه كان أشرف من ذلك بكثير؛ لم يكن يعرف كيف يتزلف. كان رجلا فريدا من نوعه.

جلست مورين على مسند القدم على مقربة منه لتكتب بطريقة الاختزال. كان اسمها بالنسبة إليه، في المكتب، «الجوهرة»؛ لأنها كانت فطنة ويعول عليها، والواقع أنها كانت بارعة في وضع مسودات للمستندات وكتابة الرسائل بمفردها. وحتى في البيت، كانت زوجته وأبناؤه هيلينا وجوردون ينادونها بالاسم نفسه. وما زالت هيلينا وجوردون يستخدمان الاسم نفسه ولو أنهما شبا عن الطوق ويعيشان بعيدا الآن. هيلينا كانت تستخدمه بعطف واستفزاز، وأما جوردون فبلطف مشوب بالوقار والإطراء. كانت هيلينا عزباء مضطربة نادرا ما تزور البيت، وكثيرا ما تدخل في مجادلات كلما جاءت، أما جوردون فكان معلما بكلية عسكرية، وكان يطيب له اصطحاب زوجته وأولاده لزيارة كارستيرز مستعرضا المكان وأباه ومورين وفضائلهم الراسخة.

ما زال بإمكان مورين أن تستمتع بكونها «الجوهرة»، أو على الأقل وجدت تلك المكانة مريحة لها. بعض أفكارها كانت تشرد من تلقاء نفسها. كانت الآن تفكر في الطريقة التي بدأت بها المغامرة الليلية الطويلة بالمعسكر في ظل غطيط الآنسة جونستون المروع، والغاية منها مغالبة النوم حتى الفجر، وفي كل الاستراتيجيات والفقرات الترفيهية التي كان يعول عليها لتحقيق هذه الغاية، ولو أنها لم تسمع قط أنها آتت ثمارها.

Unknown page