73

بينما دلفت إلى المكتبة، أدركت أن ثمة رجلا يقف على مقربة من الباب يتطلع في النافذة وينظر إلى الشارع في آن واحد، ثم يرمقني بعينيه. كان رجلا قصير القامة يرتدي معطفا مضادا للمطر ويعتمر قبعة رجالية. وصلني انطباع بأنه متنكر. لكنه تنكر مازح. تحرك باتجاهي ووضع يده على كتفي، فصحت كأنني تلقيت صدمة حياتي كلها. وهو ما حدث بالفعل؛ لأن هذا الرجل كان نيلسون حقا؛ جاء ليطالب بي أو على الأقل ليتودد إلي ويرى كيف ستسير الأمور.

كنا في منتهى السعادة.

كثيرا ما كنت أشعر بالوحدة الشديدة.

ثمة شيء جديد دوما في هذه الحياة يمكننا اكتشافه.

مرت الأيام والسنون مرور الكرام وكأن على أبصارنا غشاوة.

في المجمل أنا راضية.

عندما كانت لوتار بصدد مغادرة ساحة بيت الأسقف، كانت متشحة بعباءة طويلة أعطوها إياها؛ ربما لستر ملابسها الرثة أو لاحتواء رائحتها الكريهة. خاطبها خادم القنصل بالإنجليزية شارحا لها إلى أين هما يتجهان. كانت تفهمه، لكنها عجزت عن الرد. لم يكن الظلام قد حل بالكامل. ما زال بإمكانها رؤية الأشكال الباهتة للزهور والبرتقال في حديقة الأسقف.

كان خادم الأسقف ممسكا بالبوابة كي لا توصد.

لم تر الأسقف قط، ولم تر القس الفرنسيسكاني منذ أن تبع خادم الأسقف إلى داخل البيت. نادته الآن بينما كانت تهم بالرحيل. لم تكن تعرف له اسما لتناديه به، فصاحت قائلة: «زوتي! زوتي! زوتي!» وهي كلمة تعني «قائد» أو «سيد» بلغة الجيج، لكنها لم تتلق جوابا، ولوح خادم القنصل بمشكاته بنفاد صبر مشيرا إلى الطريق الذي يجب أن تسلكه. ومصادفة وقع ضوء المشكاة على الفرنسيسكاني واقفا يستتر نصف جسده وراء شجرة. كانت شجرة برتقال صغيرة تلك التي وقف خلفها. تطلع إلينا بوجهه الشاحب - الذي كان شاحب اللون شأنه شأن البرتقال في ضوء المشكاة - من بين الفروع وقد ذهبت عنه سمرته بالكامل. لقد كان وجها واهنا معلقا في الشجرة، وتعبيراته الحزينة محايدة وقنوعة شأنها شأن التعبيرات التي يمكن أن نراها على محيا حواري تقي، ولكن معتد بنفسه في نافذة كنيسة ما. وبعدها اختفى وجهه، فاحتبست أنفاسها حيث أدركت غيابه بعد فوات الأوان. •••

أخذت تناديه مرارا وتكرارا، وعندما رسا القارب في الميناء بمدينة تريستي، كان بانتظارها على رصيف الميناء.

Unknown page