22

كانت ذلك ضروريا، فلا بد أن تكون لديه سيارة جديدة يقودها، لا بد أن يقود سيارة جديدة، ولا بد أن تلتحق بي بالمدرسة، ولا بد أن تحصل السيدة فير على أحدث الأجهزة، ولا بد من طلاء الزخارف التي يزدان بها البيت بطلاء جديد أبيض بياض ثلوج الكريسماس. إن لم يحدث ذلك، فإنهم سيخسرون احترام الناس لهم، وثقتهم بأنفسهم، كما أنهم سيشرعون في التساؤل إن كانت ظروفهم تتدهور وحالهم يسوء. كان بالإمكان تأمين كل هذه الاحتياجات؛ بشيء من الحظ يمكن تأمينها كلها.

شعر آرثر لسنوات طويلة عقب وفاة والده بأنه إنسان مدع، ولم يخالجه هذا الشعور طوال الوقت، بل بين الحين والآخر. الآن تبدد هذا الشعور ... كان بإمكانه الجلوس هنا والإحساس بأن هذا الشعور قد تبدد. •••

كان في مكتبه حين وقع الحادث، يتشاور مع مندوب مبيعات يروج لقشرة الخشب. تناهى إلى مسامعه تغير في الضوضاء الصادرة من المصنع، لكن التغير كان زيادة في حدة الضوضاء وليس سكونا. لم يكن مثل هذا التغير استنفارا له - كل ما في الأمر أنه أزعجه بعض الشيء. ونظرا لأن الحادث وقع في مصنع نشر الخشب، لم يعلم به أحد على الفور في الورش أو في أفران تجفيف الخشب أو في المخازن، واستمر العمل في بعض الأماكن دون انقطاع لعدة دقائق. حقيقة الأمر هي أن آرثر الذي كان منكبا على عينات قشرة الخشب الموضوعة على مكتبه، ربما كان من بين آخر من أدركوا أن ثمة انقطاعا في العمل. طرح على مندوب المبيعات سؤالا، فلم يجبه الأخير. نظر آرثر لأعلى ليجد الرجل وقد فغر فاهه، وارتسمت علامات الهلع على وجهه، وتبددت رباطة جأشه تماما.

وبعدها سمع من ينادي اسمه - سواء «السيد دود» كالمعتاد، أو «آرثر! آرثر!» على لسان الرجال الأكبر سنا الذين عرفوه طفلا - وسمع أيضا كلمات متناثرة مثل: «منشار»، و«رأس»، و«يا إلهي، يا إلهي!»

ربما تمنى آرثر لو ساد شيء من الصمت، وانحسرت الأصوات والأشياء بتلك الطريقة المرعبة والمريحة في آن واحد، ليفسح له المجال. لكن ما حدث كان خلاف ذلك؛ ثمة صراخ وتحقيقات وأناس يهرعون في كل مكان، وهو في خضم ذلك كله مدفوع نحو مصنع نشر الخشب. ثمة رجل أغشي عليه وسقط بطريقة كان من شأنها أن تودي بحياته لولا أنهم فصلوا الكهرباء عن المنشار قبل لحظة واحدة. كان جسده ملقى على الأرض، لكن هذا الجسد كان كاملا بحيث إن آرثر لم يستمر طويلا في الخلط بينه وبين جثة الضحية. أوه، لا، لا! لقد واصلوا دفعه للأمام. تحولت نشارة الخشب إلى اللون القرمزي؛ كانت مخضبة بالدماء. تناثرت الدماء على كومة الخشب هنا، وكذلك شفرات المناشير. كانت هناك كومة من ملابس العمل أغرقتها الدماء ملقاة في نشارة الخشب، وأدرك آرثر أن هذه هي الجثة التي لم تكن سوى جذع الرجل وأطرافه فحسب. شلال من الدماء تدفق لدرجة أنه أمسى من الصعب تمييز شكل الجثة لأول وهلة، حيث غير الدم من هيئتها فأصبحت أشبه بحلوى البودينج.

أول ما خطر على باله أن يغطي الجثة، فخلع سترته، وبادر بتغطيتها. كان عليه أن يدنو منها حتى إن حذاءه أصدر صوتا وهو يغوص في الدماء. ولعل سبب عدم إقدام سواه على هذا الفعل أن العمال ببساطة لا يرتدون سترات.

كان أحدهم يصرخ: «هل ذهب أحد لاستدعاء الطبيب؟» قال رجل على مقربة من آرثر متعجبا: «نذهب لاستدعاء الطبيب! الطبيب لن يستطيع أن يخيط رأسه في جذعه، أليس كذلك؟»

لكن آرثر أصدر أوامره باستدعاء الطبيب، حيث كان يرى أن ذلك أمر ضروري، فلا يجوز أن تقع حالة وفاة ولا يستدعى طبيب. استنفرت أوامره بقية الرجال، فسعوا لإحضار الطبيب والحانوتي والتابوت والأزهار والواعظ. بدءوا في تنفيذ ما كلفهم به، فأزالوا نشارة الخشب، ونظفوا المنشار، وذهب من كانوا على مقربة من الحادث ليغتسلوا بحسب أوامره. وحمل الرجل الذي أغشي عليه إلى المطعم. سأل آرثر عن حال هذا الرجل وطلب من عاملة المكتب أن تصنع له قدحا من الشاي.

كان الأمر يدعو إلى احتساء رشفات من الكونياك أو الويسكي، لكن كانت لديه قاعدة تحظر احتساء هذه الكحوليات بين جنبات المصنع.

ما زال ثمة شيء مفقود وهو الرأس. أين كان الرأس؟ قالوا إنه هناك، هناك. سمع آرثر صوت تقيؤ على مقربة منه. حسن، إما أن يرفع الرأس بنفسه وإما أن يطلب إلى أحدهم أن يرفعه، لكن صوت تقيؤ بعض من حوله من شدة الخوف حسم الأمر وشجعه، ومنحه شيئا من قوة الإرادة كي يتقدم هو بنفسه. رفع الرأس عن الأرض، وحمله برفق وبحرص وكأنه يحمل إبريقا ثمينا يحتاج إلى عناية شديدة في حمله. أزاح الوجه عن ناظر الآخرين، وكأنه يطمئنه، وضمه إلى صدره. تسرب الدم عبر قميصه، والتصق بجلده. كان الدم دافئا؛ شعر وكأنه رجل مصاب. كان يعلم أنهم يراقبونه، وكان يشعر بنفسه وكأنه ممثل أو كاهن. ماذا سيفعل بالرأس الآن بعد أن ضمه إلى صدره؟ خطرت له إجابة هذا السؤال أيضا؛ يضع هذا الرأس على الأرض ويعيده إلى مكانه الطبيعي، ولكن بالطبع بلا إحكام، فلا يمكنه أن يلحم الرأس بالجسد ويعيده كما كان تماما؛ فقط سيضعه في مكانه تقريبا، ويرفع السترة ويجره إلى موضع جديد.

Unknown page