وبعد قليل، أخذ الأمراء والمقدمون يهتمون بجمع الغنائم إلى ما بين أيدي المتمهدي، فأمر خلفاءه أن يأخذوا خمسها له، ويفرقوا ما بقي على الأمراء والمقدمين حسب المعتاد، وكان في تلك الحملة من الغنائم ما لا يحصى عدده من الثياب والدراهم والأسلحة والمدافع. أما الأسلحة والمدافع فسيقت على حدة لبيت المال.
وبعد الاستراحة، عاد الجميع غانمين فائزين قاصدين الأبيض، وقد غادروا جثث هؤلاء المنكودي الحظ ملقاة على الرمال وبين الأشجار تتخاطفها الغربان. فسبحان من جعل لكل نفس أجلا، ولكل أجل سببا!
فلما وصلت الحملة إلى الأبيض، ضربت لهم المدافع مائة ضربة وضربة احتفالا بالنصر، ودخلوا الأبيض باحتفال عظيم.
الفصل الثاني والخمسون
متى يا كرام الحي عيني تراكم؟
ومكث شفيق في الأبيض بعد ذلك مدة يترقب فرصة ليعود إلى الخرطوم، ولكنه لم يكن يستطيع الفرار بنفسه؛ لأنه لا يعرف الطريق، فضلا عن أنه لا يأمن غائلة أنصار المتمهدي إذا استطلعوا أمره، فلبث يترقب الفرص وقلبه لا ينفك مشتغلا بوالديه وحبيبته، وقد أوجس عليها خوفا من أن تيأس من مجيئه فتقع في القنوط، ويقودها ذلك إلى السقام والضعف، فكان كلما فكر في ذلك يخرج صورة فدوى في خلوة ويتأملها، ويطلق لدموعه العنان حتى يشفي غليله، ثم يعود ويفكر في وسيلة لنجاته من تلك الأصقاع، والعود إلى الديار المصرية، أو على الأقل لإرسال كتاب يبشر أهله ببقائه في قيد الحياة، غير أن كل هذه كانت من غير الممكنات لديه؛ لأنه وحيد ولا معين لديه إلا حسن، الذي كان يجتمع به أحيانا فيتحادثان في شئون كثيرة أخصها تدبير الوسائل للخروج من ذلك السجن، فكان شفيق لا يظهر مللا من تلك الحال خيفة أن ينسب إليه الجبن أو ضعف العزيمة، ولكن قلبه كثيرا ما حدثه بالفرار، ولولا الخوف على حياته ما صبر عنه يوما.
وكان يترقب ورود جواسيس المتمهدي ليطلع منهم على حركات الحكومة المصرية ومقاصدها تلقاء هذا المتمهدي، عسى أن يسمع خبرا مؤذنا بقرب نجاته من تلك المعيشة، والاقتراب من منى فؤاده، ولم يكن له معز إلا صورة فدوى، فإذا اشتد به الغرام يخرجها ويتأملها ويقبلها، ويندب سوء حظه، ويندم على ما قاده إليه العلى من المخاطرة التي كان يخشى ألا تكون محمودة العواقب، ولا سيما عندما كان يسمع باتساع سلطة المتمهدي، وانتشار نفوذه في الأقطار السودانية، فلم يمض بعض سنة 1884 حتى أصبح معظم السودان على دعوته؛ يقومون لقيامه، ويقعدون لقعوده، فسلمت له مديريات دارفور وكردوفان وبربر وبحر الغزال وغيرها، ولم يبق من السودان في حوزة الحكومة إلا بعض المدن التي فيها الحامية المصرية؛ كالخرطوم، وسنار، وكسلا، وسواكن، وبعض المدن في خط الاستواء، على أن تلك الحصون لم يكن يرجى لها الفوز. ومما زاد اضطراب شفيق أنه سمع من أخبار الجواسيس أن الحكومة الإنكليزية أشارت على الحكومة المصرية أن تخلي السودان، وتسحب حاميتها منها، فتيقن اليأس من العود إلى مصر؛ لأن الحكومة إذا فازت باسترجاع جنودها، فلا تصل يدها إلى الأبيض لعدم وجود الحامية فيها، فأخذ يندب سوء حظه، ويأسف على ما ساقه إلى تلك الحالة وقد كان في غنى عنها.
ففي صباح يوم من أيام سنة 1884، رأى في منامه فدوى وقد شفها السقام على بعده حتى أشرفت على الموت، فاستيقظ باكيا نائحا، فتناول الصورة من جيبه، وأخذ يقبلها ويبكي بكاء مرا حتى كاد يغمى عليه وهو يشعر بما تحملته تلك المسكينة من الهموم والأحزان من أجله، ولم يكن يستطيع التمادي في إظهار ما تكنه عواطفه خوفا من انكشاف أمره، فاشتد به الحزن في ذلك الصباح حتى خاف على نفسه ، فضم الصورة إلى صدره وجعل يندبها، ويودع الحياة والآمال والقلب حتى بلل ثيابه بالدموع، وفيما هو في ذلك سمع وقع أقدام خارج الحجرة، فذعر وحاول إخفاء الصورة وكظم ما به، والتفت إلى الباب فإذا بصديقه حسن قادم إليه وعلى وجهه أمارات السرور، فاستبشر به وبادر إليه صارخا: ما وراءك يا حسن؟ قال: أبشر بقرب الفرج يا عزيزي. وأنت ما بالك في هذه الحال من الكدر؟
فأخذ شفيق يلفق له أسبابا إخفاء لحبه فدوى، فقال: إني مفارق في القاهرة أهلي وصحبي، وأنا أعلم أنهم يئسوا من حياتي، وأعلم أيضا أن ذلك اليأس قد يقودهم إلى ما لا تحمد عقباه، ثم تجددت أحزانه وخنقته العبرات، فأخذ يبكي وينتحب، فقال له حسن: خفف عنك يا عزيزي؛ فإن الفرج قد قرب، بإذن الله.
الفصل الثالث والخمسون
Unknown page