بسم الله الرحمن الرحيم
أخبرنا الشيخ أبو طاهر محمد بن علي بن محمد بن عبد الله البيع في ما أذن لنا أن نرويه عنه، قال أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن المظفر ابن كنداج البزاز قراءة عليه، قال أخبرنا أبو محمد عبد الله بن جعفر بن درستويه النحوي قراءة عليه، قال قال أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِدِينِهِ الْمُرْتَضَى، وَأَكْرَمَنَا بِنَبِيِّهِ الْمُصْطَفَى وَجَعَلَنَا خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ إِيمَانًا بِالْغَيْبِ وَتَصْدِيقًا بِالْوَعْدِ وَشَفَقًا مِنَ الْوَعِيدِ، وَإِخْلَاصًا لِلتَّوْحِيدِ، وَأَعْطَانَا بِالصَّغِيرِ الْكَبِيرَ وَبِالْيَسِيرِ الْكَثِيرَ، وَبِالْحَقِيرِ الْخَطِيرَ، وبالطاعة فِي الْأَيَّامِ الْمَعْدُودَةِ الْخُلُودَ فِي النعيم، وَرَضِيَ مِنَّا بِعَفْوِ الطَّاعَةِ وَفَسَحَ لَنَا فِي التَّوْبَةِ وَجَعَلَ مِنْ وَرَاءِ الصَّغِيرِ الْمَغْفِرَةَ، وَمِنْ وَرَاءِ الكبير الشفاعة،
1 / 117
فلم يهلك عليها لا من نِفَارَ الظَّلِيمِ وَشَرَدَ شِرَادَ الْبَعِيرِ، وَأَوْسَعَ لَنَا مِنْ طَيِّبِ الرِّزْقِ وَحَرَّمَ عَلَيْنَا الْخَبَائِثَ وَلَمْ يَجْعَلْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ وَلَا حظر بالاستعباد إِلَّا مَا جَعَلَ مِنْهُ الْخَلَفَ الْأَطْيَبَ وَالْبَذْلَ الْأَوْفَرَ، رَحْمَةً مِنْهُ وَبِرًّا وَلُطْفًا وَعَطْفًا.
فَحَرَّمَ عَلَيْنَا بِالْكِتَابِ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَبِالسُّنَّةِ سِبَاعَ الْوَحْشِ وَالطَّيْرِ وَعَوَّضَنَا من ذلك بهيمة الأنعام الثَّمَانِيَةِ الْأَزْوَاجِ وَسَائِرَ الْوَحْشِ وَصُنُوفَ الطَّيْرِ، وَحَرَّمَ عَلَيْنَا بِالْكِتَابِ الْمَيْسِرَ وَبِالسُّنَّةِ الْقُمَارَ، وَعَوَّضَنَا مِنْ ذَلِكَ اللهو بالرهان والنضال،
1 / 118
وَحَرَّمَ عَلَيْنَا الرِّبَا وَأَحَلَّ الْبَيْعَ، وَحَرَّمَ السِّفَاحَ وَأَحَلَّ النِّكَاحَ، وَحَرَّمَ بِالسُّنَّةِ الدِّيبَاجَ وَالْحَرِيرَ، وَعَوَّضَنَا الْخَزَّ والوشي والعقم والرقم
1 / 119
وَحَرَّمَ بِالْكِتَابِ الْخَمْرَ وَبِالسُّنَّةِ الْمُسْكِرَ، وَعَوَّضَنَا مِنْهُمَا صُنُوفَ الشَّرَابِ مِنَ اللبن والعسل وحلال النبيذ.
1 / 120
الِاخْتِلَافُ فِي الْأَشْرِبَةِ
وَلَيْسَ فِيمَا عازنا مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي وَقَعَ فيها الحظر والإطلاق شيء اختلفت فِيهِ النَّاسُ اخْتِلَافَهُمْ فِي الْأَشْرِبَةِ وكيفية ما يحمل مِنْهَا وَمَا يَحْرُمُ عَلَى قَدِيمِ الْأَيَّامِ، مَعَ قُرْبِ الْعَهْدِ بِالرَّسُولِ ﷺ وَتَوَافُرِ الصَّحَابَةِ وَكَثْرَةِ الْعُلَمَاءِ الْمَأْخُوذِ عَنْهُمْ الْمُقْتَدَى بِهِمْ، حَتَّى يَحْتَاجَ ابْنُ سِيرِينَ مَعَ ثَاقِبِ عِلْمِهِ وَبَارِعِ فَهْمِهِ إِلَى أَنْ يَسْأَلَ عُبَيْدَةَ السَّلْمَانِيَّ عَنِ النَّبِيذِ، وَحَتَّى يَقُولَ لَهُ عُبَيْدَةُ وَقَدْ لَحِقَ خِيَارَ الصَّحَابَةِ وَعُلَمَاءَهُمْ مِنْهُمْ علي وابن مسعود اختلف علما فِي النَّبِيذِ وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أخذت النَّاسُ أَشْرِبَةً كَثِيرَةً فَمَا لِي شَرَابٌ مُنْذُ عِشْرِينَ سَنَةً إِلَّا مِنْ لَبَنٍ أَوْ مَاءٍ أَوْ عسل.
1 / 121
وَإِنَّ شَيْئًا وَقَعَ فِيهِ الِاخْتِلَافُ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ بَيْنَ أُولَئِكَ الأئمة لحري أنَّ يشطل عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ وَتَخْتَلِفَ فِيهِ آرَاؤُهُمْ، وَيَكْثُرَ فِيهِ تَنَازُعُهُمْ، وَقَدْ بَيَّنْتُ مِنْ مَذَاهِبِ النَّاسِ فِيهِ وَحُجَّةَ كُلِّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ لِمَذْهَبِهِ وَمَوْضِعِ الِاخْتِيَارِ مِنْ ذَلِكَ بِالسَّبَبِ الَّذِي أَوْجَبَهُ وَالْعِلَّةِ الَّتِي دَلَّتْ عَلَيْهِ مَا حَضَرَنِي مِنْ بَالِغِ العلم والمقدار الطَّاقَةِ، لَعَلَّ اللَّهَ يَهْدِي بِهِ مُسْتَرْشِدًا، وَيَكْشِفُ مِنْ غُمَّةٍ، وَيُنْقِذُ مِنْ حَيْرَةٍ، وَيَعْصِمُ شَارِبًا مَا دَخَلَ عَلَى الْفَاسِدِ مِنَ التَّأْوِيلِ وَالضَّعِيفِ مِنَ الْحُجَّةِ وَيَرْدَعُ طَاعِنًا في خِيَارِ السَّلَفِ بِشُرْبِ الْحَرَامِ، وَأُؤَمِّلُ بِحُسْنِ النِّيَّةِ فِي ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ حُسْنَ الْمَعُونَةِ، وَالتَّغَمُّدَ لِلزَّلَّةِ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بالله.
قد أجمع الناس عَلَى تَحْرِيمِ الْخَمْرِ بِكِتَابِ اللَّهِ إِلَّا قَوْمًا مِنْ مُجَّانِ أَصْحَابِ الْكَلَامِ وَفُسَّاقِهِمْ لَا يَعْبَأُ اللَّهُ بِهِمْ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: لَيْسَتِ الْخَمْرُ مُحَرَّمَةً وَإِنَّمَا نَهَى اللَّهُ عَنْ شُرْبِهَا تَأْدِيبًا كَمَا أَنَّهُ أَمَرَ فِي الْكِتَابِ بِأَشْيَاءَ وَنَهَى فِيهِ عَنْ أَشْيَاءَ عَلَى جِهَةِ التَّأْدِيبِ وَلَيْسَ مِنْهَا فَرْضٌ كَقَوْلِهِ فِي
1 / 122
الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ) فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فيهم خيرا (وقوله في النساء) فاهجروهن في المضاجع واضربوهن (وَكَقَوْلِهِ) وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط (وَقَالُوا لَوْ أَرَادَ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ لَقَالَ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْخَمْرُ كَمَا قَالَ) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ (وَلَيْسَ لِلشُّغْلِ بِهَؤُلَاءِ وَجْهٌ وَلَا لِتَشْقِيقِ الْكَلَامِ بِالْحُجَجِ عَلَيْهِمْ مَعْنًى إِذْ كَانُوا مِمَّنْ لَا يَجْعَلُ حجة في إِجْمَاعٍ وَإِذْ كَانَ مَا ذَهَبُوا إليه لا يختل على عاقل ولا جاهل وَأَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى أَنَّ مَا غلا وقذف بالزبد مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَمَسَّهُ النَّارُ خَمْرٌ وَأَنَّهُ لَا يَزَالُ خَمْرًا حَتَّى يَصِيرَ خلا.
واختلفوا فِي الْحَالِ الَّتِي يَخْرُجُ بِهَا مِنْ مَنْزِلَةِ الْخَمْرِ إِلَى مَنْزِلَةِ الْخَلِّ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ أَنْ يَتَنَاهَى فِي الْحُمُوضَةِ حَتَّى لَا يبقى فيها مستزاد
1 / 123
وَقَالَ آخَرُونَ هُوَ أَنْ تَغْلِبَ عَلَيْهَا الْحُمُوضَةُ وَتُفَارِقَهَا النَّشْوَةُ وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ لِأَنَّ الْخَمْرَ لَيْسَتْ مُحَرَّمَةَ الْعَيْنِ كَمَا حُرِّمَ عَيْنُ الخنازير وَإِنَّمَا حُرِّمَتْ بِعَرَضٍ دَخَلَهَا فَإِذَا زَايَلَهَا ذَلِكَ الْعَرَضُ عَادَتْ حَلَالًا كَمَا كَانَتْ قَبْلَ الْغَلَيَانِ حَلَالًا.
وما أَكْثَرَ مَنْ يَذْهَبُ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ إِلَى أَنَّ الْخَمْرَ إِذَا انقلبت عن عصير
1 / 124
والخل إذ انْقَلَبَ عَنْ خَمْرٍ أنَّ عَيْنَ كُلِّ وَاحِدٍ غَيْرُ عَيْنِ الآخَرِ وهذا الْقَوْلِ مَا لَيْسَ بِهِ خَفَاءٌ عَلَى مَنْ تَدَبَّرَهُ وَأَنْصَفَ مِنْ نفسه وكيف يكون ههنا عَيْنَانِ وَالْجِسْمُ وَاحِدٌ لَمْ يَخْرُجْ مِنَ الْوِعَاءِ وَلَمْ يُبَدَّلْ وَإِنَّمَا انْتَقَلَتْ أَعْرَاضُهُ تَارَةً مِنْ حَلَاوَةٍ إِلَى مَرَارَةٍ وَتَارَةً مِنْ مَرَارَةٍ إِلَى حُمُوضَةٍ وَلَمْ يَذْهَبِ الْعَرَضُ الأول جملة واحدة وَلَا أَتَى الْعَرَضُ الثَّانِي جُمْلَةً وَإِنَّمَا زَالَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ شَيْءٌ بَعْدَ شَيْءٍ كَمَا يَنْتَقِلُ طَعْمُ الثَّمَرَةِ وَهِيَ غَضَّةٌ مِنَ الْحُمُوضَةِ إِلَى الْحَلَاوَةِ وَهِيَ يَانِعَةٌ وَالْعَيْنُ قَائِمَةٌ وَكَمَا يَأْجِنُ الْمَاءُ بول الْمُكْثِ فَيَتَغَيَّرُ طَعْمُهُ وَرِيحُهُ وَالْعَيْنُ قَائِمَةٌ وَكَمَا يَرُوبُ اللَّبَنُ بَعْدَ أَنْ كَانَ صَرِيفًا فَيَتَغَيَّرُ رِيحُهُ وَطَعْمُهُ وَالْعَيْنُ قَائِمَةٌ ومِثْلُ الْخَمْرِ مِمَّا حَلَّ بِعَرَضٍ وَحَرُمَ بِعَرَضٍ المسك كان دما عبيظا حَرَامًا ثُمَّ جَفَّ وَحَدَثَتْ رَائِحَتُهُ فيه فصار طيبا حلالا.
وأما النَّبِيذُ فَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَاهُ فَقَالَ قَوْمٌ هُوَ مَاءُ الزَّبِيبِ وَمَاءُ التَّمْرِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُغْلَيَا فَإِذَا اشْتَدَّ ذَلِكَ وَصَلُبَ فَهُوَ خَمْرٌ وَقَالُوا إِنَّمَا كَانَ الْأَوَّلوُنَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ يَشْرَبُونَ ذَلِكَ يَتَّخِذُونَهُ فِي صَدْرِ نَهَارِهِمْ وَيَشْرَبُونَهُ فِي آخِرِهِ وَيَتَّخِذُونَهُ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ وَيَشْرَبُونَهُ عَلَى غَدَائِهِمْ وَعَشَائِهِمْ
1 / 125
وَقَالُوا سُمِّيَ نَبِيذًا لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَأْخُذُونَ الْقَبْضَةَ مِنَ التَّمْرِ أَوِ الزَّبِيبِ فَيَنْبِذُونَهَا فِي السِّقَاءِ أَيْ يقلونها فِيهِ وَقَالَ آخَرُونَ النَّبِيذُ مَا اتُّخِذَ مِنَ الزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْمُسْتَخْرَجِ بِالْمَاءِ أَوْ تُرِكَ حَتَّى يَغْلِيَ وَحَتَّى يَسْكُنَ وَلَا سمى نَبِيذًا حَتَّى يَنْتَقِلَ عَنْ حَالِهِ الْأُولَى كَمَا لَا يُسَمَّى الْعَصِيرُ خَمْرًا حَتَّى يَنْتَقِلَ عَنْ حَلَاوَتِهِ وَلَا يُسَمَّى الْخَمْرُ خَلًّا حَتَّى تَنْتَقِلَ عَنْ مَرَارَتِهَا وَنَشْوَتِهَا وَإِنَّمَا سُمِّيَ نَبِيذًا لِأَنَّهُ كَانَ يُتَّخَذُ وَيُنْبَذُ أَيْ يُتْرَكُ وَيُعْرَضُ عَنْهُ حَتَّى يَبْلُغَ وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ لِأَنَّ النَّبِيذَ لَوْ كَانَ مَاءَ الزَّبِيبِ لَمَا وَقَعَ فِيهِ الِاخْتِلَافُ وَلَأَجْمَعَ النَّاسُ جَمِيعًا عَلَى أَنَّهُ حَلَالٌ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَغْلِيَ
1 / 126
فَفِيمَ اخْتَلَفَ الْمُخْتَلِفُونَ وَعَمَّ سَأَلَ السَّائِلُونَ؟ قَالَ الشَّاعِرُ:
نَبِيذٌ إِذَا مَرَّ الذُّبَابُ بِدَنِّهِ ... تَفَطَّرَ أَوْ خَرَّ الذُّبَابُ وَقِيذَا
وَقَالَ ابْنُ شيرمة:
وَنَبِيذُ الزَّبِيبِ مَا اشْتَدَّ مِنْهُ ... فَهُوَ لِلْخَمْرِ وَالطِّلَاءِ نَسِيبُ
وَقَالَ الآخر:
تَرَكْتُ النَّبِيذَ وَشُرَّابَهَ ... وَصِرْتُ حَدِيثًا لِمَنْ عَابَهُ
شَرَابًا يُضِلُّ سَبِيلَ الرَّشَادِ ... وَيَفْتَحُ لِلشَّرِّ أَبْوَابَهُ
فَسَمَّاهُ نَبِيذًا وَهُوَ يَفْعَلُ هَذَا الْفِعْلَ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ مَاءَ الزَّبِيبِ وَلَا مَاءَ التَّمْرِ قَبْلَ أَنَ يُغْلَيَا.
وَرَوَى الْوَاقِدِيُّ عن أخيه سلمة بْنِ عُمَرَ عَنْ عُمَرَ بْنِ شيبة
1 / 127
ابن أبي كبير الْأَشْجَعِيِّ عَنْ أَبِيهِ أَنّ رَسُولَ الله ﵌ قَالَ: خِدْرُ الْوَجْهِ مِنَ النَّبِيذِ تَتَنَاثَرُ مِنْهُ الْحَسَنَاتُ وَمَاءُ الزَّبِيبِ لَا يُخْدَرُ مِنْهُ الْوَجْهُ وَلَا تَتَنَاثَرُ مِنْهُ الْحَسَنَاتُ. وَرَوَى شَرِيكٌ عن أبي اسحق عَنْ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ قَالَ: سَقَانِي ابْنُ مَسْعُودٍ نَبِيذًا شَدِيدًا من جر أخضر
1 / 128
وحدثني سبابة بن عمرو بن حميد عن كبير بْنِ سُلَيْمٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَصْحَابُ أَنَسٍ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَشْرَبُ النَّبِيذَ الصُّلْبَ الَّذِي يَكُونُ فِي الْخَوَابِي وَمَا جَاءَ فِي مِثْلِ هَذَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النبيذ ما غلا وأسكر كثيرا وفرق بين النبيذ الزَّبِيبِ وَنَبِيذِ التَّمْرِ وَلَا أَعْلَمُ بينهما فرقا فيكره واحد ويسحب آخَرُ لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا مُسْكِرَانِ أَنْشَدَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ:
أَلَا يَا أَيُّهَا الْمُهْدِي ... إِلَيْنَا الْآسَ مِنْ شَهْرِ
دع الآس ولا تغفل ...
1 / 129
إِذَا جِئْتَ عَنِ التَّمْرِ
فإنَّ الآس لا يسكر ... واللذة فِي السُّكْرِ
حُجَجُ الْمُحَرِّمِينَ لِجَمِيعِ مَا أَسْكَرَ
وَأَمَّا الْمُسْكِرُ فإنَّ فَرِيقًا يَذْهَبُونَ إِلَى أَنَّ كُلَّ شيء أسكر كثيرا كَائِنًا مَا كَانَ وَلَوْ بَلَغَ فَرَقًا فَقَلِيلُهُ كَائِنًا مَا كَانَ وَلَوْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ حَرَامٌ، فَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ ابْنِ ثَلَاثِ لَيَالٍ مِنْ نَبِيذِ التمر إذا غلا، وَبَيْنَ ابْنِ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ مِنْ عتيق المسكر وَعَتِيقِ الْخَمْرِ، وَلَا فَرَّقُوا فِي ذَلِكَ بَيْنَ مُنْفَرِدٍ وَخَلِيطَيْنِ، وَلَا بَيْنَ شَدِيدٍ وَسَهْلٍ وَلَا بَيْنَ مَا اسْتُخْرِجَ بِالْمَاءِ وَمَا اسْتُخْرِجَ بِالنَّارِ، وَقَضَوْا عَلَيْهِ كُلِّهِ بَأَنَّهُ حَرَامٌ وَبِأَنَّهُ خَمْرٌ، وَذَهَبُوا مِنَ الْأَثَرِ إِلَى حَدِيثٍ حَدَّثَنِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدِ بْنِ خِدَاشٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ عن أيوب عن نافع عن عُمَرَ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﵌ قَالَ: كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وكل مسكر حرام، وحديث
1 / 130
حَدَّثَنِيهِ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ عَنِ الْمُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ مَهْدِيِّ بْنِ مَيْمُونٍ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ الأنصاري عَنْ عَائِشَةَ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهَا أنَّ ﵌ قَالَ: كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ وَمَا أَسْكَرَ الْفَرَقُ فَالْحَسْوَةُ مِنْهُ حَرَامٌ، وَحَدِيثٍ حَدَّثَنِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ
1 / 131
عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﵌ قَالَ: كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ، مَعَ أَشْبَاهٍ لِهَذَا مِنَ الْحَدِيثِ يَطُولُ الْكِتَابُ بِاسْتِقْصَائِهَا وفي ما ذَكَرْنَا مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ غِنًى عن ذكر جَمِيعِهَا لِأَنَّهَا أَغْلَظُهَا فِي التَّحْرِيمِ وَأَشَدُّهَا إِفْصَاحًا بِهِ، وَأَبْعَدُهَا مِنْ حِيلَةِ الْمُتَأَوِّلِ.
وَقَالُوا وَالشَّاهِدُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ النَّظَرِ أَنَّ الْخَمْرَ إِنَّمَا حُرِّمَتْ لِإِسْكَارِهَا وَجَرَائِرِهَا عَلَى شَارِبِهَا، وَلِأَنَّهَا رِجْسٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَجَلَّ مِنْ قَائِلٍ:) إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ الله وعن الصلاة فهل أنتهم منتهون. (وَقَدْ كَانَ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولَ اللَّهِ ﵌ حَرَّمُوا الْخَمْرَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لِعِلْمِهِمْ بِسُوءِ مَصْرَعِهَا وكثرة جناياتها،
1 / 132
قالت عائشة رحمة الله عليها مَا شَرِبَ أَبُو بَكْرٍ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ خَمْرًا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ. وَقَالَ عُثْمَانُ رَحْمَةُ الله عليه ما تغنيت ولا تفتيت وَلَا شَرِبْتُ خَمْرًا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ، وَلَا مَسَسْتُ فَرْجِي بِيَمِينِي مُنْذُ بَايَعْتُ بِهَا رَسُولَ الله ﵌ وَكَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ تَرَكَ شُرْبَهَا وَقَالَ فِيهَا بَيْتًا:
رَأَيْتُ الْخَمْرَ شَارِبَهَا مُعَنَّى ... بِرَجْعِ الْقَوْلِ أَوْ فَصْلِ الْخِطَابِ
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو ابن دينار عن يحيى بن جعد قَالَ قَالَ عُثْمَانُ: إِيَّاكُمْ وَالْخَمْرَ فإنها مفتاح كل شر.
1 / 133
أُتِيَ بِرَجُلٍ فَقِيلَ لَهُ إِمَّا أَنْ تُخَرِّقَ هَذَا الْكِتَابَ وَإِمَّا أَنْ تَقْتُلَ هَذَا الصَّبِيَّ، وَإِمَّا أَنْ تَسْجُدَ لِهَذَا الْوَثَنِ، وَإِمَّا أَنْ تَشْرَبَ هَذِهِ الْكَأْسَ، وَإِمَّا أَنْ تَقَعَ عَلَى هَذِهِ الْمَرْأَةِ، فَلَمْ يَرَ شَيْئًا أَهْوَنَ عَلَيْهِ مِنْ شُرْبِ الْكَأْسِ فَشَرِبَ، فَوَقَعَ عَلَى الْمَرْأَةِ وَقَتَلَ الصَّبِيَّ، وَخَرَّقَ الْكِتَابَ وَسَجَدَ لِلصَّلِيبِ.
وَقِيلَ لِلْعَبَّاسِ بن مرداس في الجاهلية لِمَ لَا تَشْرَبُ الْخَمْرَ فَإِنَّهَا تَزِيدُ فِي جُرْأَتِكَ فَقَالَ: مَا أَنَا بِآخِذٍ جَهْلِي بِيَدِي فَأُدْخِلَهُ فِي جَوْفِي وَأُصْبِحُ سَيِّدَ قَوْمِي وأمسي سفيههم. وقيل له بعد ما آمن وَأَسْلَمَ: قَدْ كَبِرَتْ سِنُّكَ، وَدَقَّ عظمك، فلو أخذت هَذَا النَّبِيذِ شَيْئًا يُقَوِّيكَ، فَقَالَ: أُصْبِحُ سَيِّدَ قَوْمِي وَأُمْسِي سَفِيهَهُمْ، وآليت أن لا يَدْخُلَ رَأْسِي مَا يَحُولُ بَيْنِي وَبَيْنَ عَقْلِي.
وَكَانَ قَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ يَأْتِيهِ فِي جَاهِلِيَّتِهِ تَاجِرُ خمر فيبتاع منه
1 / 134
وَلَا يَزَالُ الْخَمَّارُ فِي جِوَارِهِ حتى ينفذ مَا عِنْدَهُ، فَشَرِبَ قَيْسٌ ذَاتَ يَوْمٍ فَسكِرَ سُكْرًا قَبِيحًا فَجَذَبَ ابْنَتَهُ وَتَنَاوَلَ ثَوْبَهَا، وَرَأَى الْقَمَرَ فَتَكَلَّمَ بِشَيْءٍ، ثُمَّ أَنْهَبَ مَالَهُ وَمَالَ الْخَمَّارِ، وَأَنْشَأَ يَقُولُ وَهُوَ يَضْرِبُهُ.
مِنْ تَاجِرٍ فَاجِرٍ جَاءَ الْإِلَهُ بِهِ ... كَأَنَّ لِحْيَتَهُ أَذْنَابُ أَجْمَالِ
جَاءَ الْخَبِيثُ بِبَيْسَانِيَّةٍ تَرَكَتْ ... صَحْبِي وَأَهْلِي بِلَا عَقْلٍ وَلَا مَالِ
فَلَمَّا صَحَا خَبَّرَتْهُ ابْنَتُهُ بِمَا صَنَعَ وَمَا قَالَ فَآلَى لَا يَذُوقُ الْخَمْرَ أَبَدًا وَقَالَ:
رأيت الحمر صَالِحَةً وَفِيهَا ... خِصَالٌ تُفْسِدُ الرَّجُلَ الْحَلِيمَا
فَلَا وَاللَّهِ أَشْرَبُهَا صَحِيحًا ... ولا أُشْفَى بِهَا أَبَدًا سَقِيمَا
وَلَا أعطي بها ثمنا حياتي ... ولا أَدْعُو لَهَا أَبَدًا نَدِيمَا
وَكَانَ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ حَرَّمَ الْخَمْرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَقَالَ: لَا أَشْرَبُ شَرَابًا يَذْهَبُ بِعَقْلِي وَيُضْحِكُ بِي مَنْ هُوَ أَدْنَى مِنِّي وَأُزَوِّجُ كَرِيمَتِي مَنْ لَا أُرِيدُ. فَبَيْنَمَا هُوَ بِالْعَوَالِي إِذْ أَتَاهُ آتٍ فَقَالَ: أَشَعَرْتَ أَنَّ الْخَمْرَ حُرِّمَتْ وَتَلَا عَلَيْهِ الْآيَةَ فِي الْمَائِدَةِ فَقَالَ: تَبًّا لَهَا لَقَدْ كَانَ بصري فيها نافذا.
1 / 135
قِيلَ لِأَعْرَابِيٍّ أَتَشْرَبُ النَّبِيذَ: فَقَالَ لَا أَشْرَبُ مَا يَشْرَبُ عَقْلِي. وَدَعَا يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ نُصَيْبًا أَوْ كُثَيِّرًا إِلَى نَدَامَتِهِ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنِّي لَمْ أَصِرْ إِلَى هَذِهِ الْمَنْزِلَةِ بِمَالٍ وَلَا دِينٍ وَإِنَّمَا وَصَلْتُ بلساني وعقلي فإنَّ رأيت أن لا تَحُولَ بَيْنِي وَبَيْنَهُمَا فَافْعَلْ وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ:
وَمَنْ تَقْرَعِ الْكَأْسُ الذَّمِيمَةُ سِنَّهُ ... فَلَا بُدَّ يَوْمًا أَنْ يُرِيبَ وَيَجْهَلَا
فَلَمْ أَرَ مشروبا أخس غنيمة ... وأوضع للأشراف منها وأخملا
وأجد أن تلقى بغيها ... ويشربها حتى يخر مجدلا
وقال الآخر:
وَلَسْتُ بِلَاحٍ لِي نَدِيمًا بِزَلَّةٍ ... وَلَا هَفْوَةٍ كَانَتْ وَنَحْنُ عَلَى الخمر
عركت بجبيني قول خدني وصاحبي ... ونحن عَلَى صَهْبَاءَ طَيِّبَةَ النَّشْرِ
وَأَيْقَنْتُ أَنَّ السُّكْرَ طَارَ بِلُبِّهِ ... فَأَغْرَقَ في شتيمتي وقال وما يدري
1 / 136