1 - عيون الخطب العربية
2 - عيون الخطب الإفرنجية
1 - عيون الخطب العربية
2 - عيون الخطب الإفرنجية
أشهر الخطب ومشاهير الخطباء
أشهر الخطب ومشاهير الخطباء
تأليف
سلامة موسى
المقدمة
بقلم سلامة موسى
ربما كانت الخطابة أقدم الفنون الأدبية، فالهمج والمتمدينون سواء في الحاجة إلى الخطيب يناشد فيهم حميتهم ووطنيتهم لذود العدو الجائح أو للغارة على جار مستضعف أو لاسترداد حق مسلوب أو اغتصاب ملك جديد.
والخطيب الملهم يخاطب العواطف وقل أن يأبه للعقل؛ لأن الناس إذا اجتمعوا شملهم إدراك آخر غير إدراكهم الشخصي، فهم يفكرون أو بالأحرى يحسون جماعة، فينزلون عندئذ من سماء العقل والمنطق إلى حضيض العواطف والشعور فتحركهم اللفظة المبهرجة وتستفزهم المعاني التافهة المنمقة. وهذا هو السبب في أن الأقدمين لا يقلون عنا شأوا في الخطابة وفي أن أحسن الخطب عند الاستماع وسط الحشد يفقد شيئا كبيرا من تأثيره وفعله في النفس إذا قرأه قارئ على انفراد. وذلك لما أشرنا إليه من أن الناس إذا اجتمعوا تغلبت عواطفهم على عقولهم وشمل نفوسهم شيء من التقزز يستثير فيهم الحزن أو السرور أو الحماسة لشئون لا يتحرك منها العقل. ولعل هذا هو السبب الذي جعل المؤرخ الإنجليزي فرود يسمي الخطابة بغي الفنون.
لهذا كانت عيون الخطب التي حفظها التاريخ قليلة معدودة؛ لأن الخطبة ينطق بها الخطيب أمام الحشد ويعيرها فيضا من شخصيته من حيث انطلاق اللسان ورشاقة الحركة وجهارة الصوت تفقد هذه الميزات إذا عرض لها المؤرخ وهو منفرد جالس في هدوء مكتبته؛ لأنه وهو في هذه الحال يسلط عقله على إنشاء لم يقصد به مواجهة العقل فيرى بهرجا ما كان يظنه المجتمعون وهم في نشوة عواطفهم جوهرا خالصا.
وقد جمعنا في هذا المجلد غرر الخطب وعيونها التي رضيها المؤرخون واحتملت تمحيصهم فدونوها وأبقوا عليها. وقد قسمناه جزأين؛ الأول: يحتوي على خطب العرب، والثاني: يحتوي على خطب الأوروبيين قديمهم وحديثهم. ومهدنا لكل خطبة بترجمة مختصرة عن الخطيب الذي فاه بها.
ولا بد لنا من الإشارة إلى أننا أوردنا هذه الخطب بنصوصها الأصلية ونحن نعرف ما في بعضها من المخالفة لروح العصر الحاضر وإنما أثبتناها لقيمتها التاريخية.
الفصل الأول
عيون الخطب العربية
(1) نبذة في تاريخ الخطابة العربية
ليس يؤثر عن العرب في الجاهلية سوى خطب الكهان. ولا شك أن الخطابة كانت فنا معروفا في ذلك الوقت يمارسها الرؤساء وذوو الرأي في القبائل للاستنفار والمناشدة. ولكن آداب الجاهلية من شعر وخطابة عفى آثارها الإسلام لما كانت تحويه من إشارات وثنية ونخوة جاهلية، والإسلام يكره الاثنتين لتعصبه للتوحيد ولرغبته في المساواة بين المسلمين. ثم كان الإسلام فخطب النبي كما خطب الخلفاء الراشدون، وصارت «خطبة الجمعة» سنة وركنا من أركان الدين. وكانت الخطب في هذا الدور دينية محضة إلا ما كان ينطق به القواد أمثال خالد بن الوليد في ميادين القتال للحض على منازلة الأعداء.
ثم جاءت الدولة الأموية فظهرت الخطب السياسية وصار للخطابة شأن وفن يمارس. ولعل القارئ يدرك خطر الخطابة في ذلك الوقت من اهتمام جميع المؤرخين بما فعله الوليد بن عبد الملك إذ كان يخطب وهو قاعد.
أما في الدولة العباسية - وهي في اعتقادنا سبب انحطاط شأن العرب لنزوع الخلفاء نزعة دينية محضة - فإن الخطابة فقدت في عصرها صفة الارتجال وملاءمة الخطبة للظرف المحيط بالخطيب. وصارت الخطب تنسخ نسخا وتحفظ حفظا، فيفيض سجعها غثاثة ويشبه أولها آخرها في قلة المعنى واتساق النباهة.
ثم اجتاح المغول الدول العربية ومحوها من الوجود إلا صورة أبقوها في الخلافة العباسية، وما كان أغناهم عن ذلك لأن الخلفاء العباسيين كانوا أنفسهم من حيث الدم مغولا في ذلك الوقت.
وحكم المغول من كرد وترك وأفغان وسائر الآسيويين الذين تسلطوا على البلاد العربية لم يتقلص ظله في الواقع إلا منذ نحو مائة سنة حين نهض العرب في مصر وسوريا. وكانت مصر هي البادئة المتبوعة فظهر فيها خطباء، وكان أول ظهورهم في الثورة العرابية.
رأي أديب عربي في الخطابة
كان إبراهيم بن جبلة يعلم فتيان العرب الخطابة فمر به بشر بن المعتمد فوقف يستمع، فظن إبراهيم أنه إنما وقف ليستفيد. فقال بشر: «اضربوا عما قال صفحا، واطووا عنه كشحا!» ثم دفع إليهم صحيفة من تنميقه وتحبيره يصح أن نعتبر ما جاء فيها أساسا لما جرى عليه بعض العرب في تأليف الخطب.
قال بشر في هذه الصحيفة: «خذ من نفسك ساعة نشاطك وفراغ بالك وإجابتها إياك، فإن نفسك تلك الساعة أكرم جوهرا وأشرف حسبا وأحسن في الاستماع وأحلى في الصدور وأسلم من فاحش الخطأ. وأجلب لكل عين من لفظ شريف ومعنى بديع، واعلم أن ذلك أجدى عليك مما يعطيك يومك الأطول بالكد والمطاولة، والمجاهدة بالتكليف والمعاودة، ومهما أخطأك لم يخطئك أن يكون مقبولا قصدا، وخفيفا على اللسان سهلا، كما خرج من ينبوعه ونجم من معدنه. وإياك والتوعر فإن التوعر يسلمك إلى التعقيد، والتعقيد هو الذي يستهلك معانيك ويشين ألفاظك. ومن أذاع معنى كريما فليلتمس له لفظا كريما؛ فإن حق المعنى الشريف اللفظ الشريف، ومن حقهما أن يصونهما عما يفسدهما ويهجنهما وعما تعود من أجله إلى أن تكون أسوأ حالا منك قبل أن تلتمس إظهارهما وترهن نفسك بملابستهما وقضاء حقهما. فكن في ثلاثة منازل:
فأول ذلك أن يكون لفظك رشيقا عذبا أو فخما سهلا، ويكون معناك ظاهرا مكشوفا وقريبا معروفا. إما عند الخاصة إن كنت للخاصة قصدت وإما عند العامة إن كنت للعامة أردت. والمعنى ليس يتضح أن يكون من معاني العامة، وإنما مدار الأمر على الشرف مع الصواب وإحراز المنفعة مع موافقة الحال وما يجب لكل مقام من المقال. وكذلك اللفظ العامي والخاصي. فإن أمكنك أن تبلغ من بيان لسانك وبلاغة لفظك ولطف مداخلك وقدرك في نفسك على أن تفهم العامة معاني الخاصة وتكسوها الألفاظ المتوسطة التي لا تلطف على الدهماء ولا تجفو عن الأكفاء فأنت البليغ التام.»
وقد عاش بشر في أيام الرشيد وكانت وفاته في سنة 183ه (800م) وكان معتزلي المذهب وانفرد بمسائل فصار رئيس طائفة يقال لها البشرية. (2) خطبة لقس بن ساعدة
كان قس خطيبا في جاهلية العرب وأدركه النبي فقال فيه: «يرحم الله قسا إني لأرجو يوم القيامة أن يبعث أمة وحده.» وينسب إليه أنه أول من قال: «أما بعد.» خطب في سوق عكاظ فقال:
أيها الناس اسمعوا وعوا، من عاش مات ومن مات فات، وكل ما هو آت آت. ليل داج ونهار ساج وسماء ذات أبراج. ونجوم تزهر، وبحار تزخر، وجبال مرساة، وأرض مدحاة، وأنهار مجراه. إن في السماء لخبرا. وإن في الأرض لعبرا. ما بال الناس يذهبون ولا يرجعون؟! أرضوا فأقاموا أم تركوا فناموا؟ يقسم قس بالله قسما لا إثم فيه، إن لله دينا هو أرضى لكم وأفضل من دينكم الذي أنتم عليه. إنكم لتأتون من الأمر منكرا.
في الذاهبين الأولين
من القرون لنا بصائر
لما رأيت مواردا
للموت ليس لها مصادر
ورأيت قومي نحوها
تمضي الأكابر والأصاغر
لا يرجع الماضي إلي
ولا من الباقين غابر
أيقنت أني لا محا
لة حيث صار القوم صائر (3) خطبة للنبي
قال الإسكندري: «كان رسول الله ليس بالطويل ولا بالقصير، ضخم الرأس كث اللحية، عظيم الكفين والقدمين ومفاصل العظام. أبيض مشربا بحمرة، أدعج العينين سبط الشعر، سهل الخدين أقنى الأنف أشمه. في مقدم لحيته ومفرق رأسه شعرات بيض. وكان أرجح الناس عقلا وأفضلهم رأيا، قليل المزاح واللغو، مطيل الصمت دائم البشر منتقدا لأصحابه متواضعا. يخصف نعله ويرقع ثوبه. وخرج من الدنيا ولم يشبع من خبز الشعير زهدا فيها.» قال في خطبة:
أيها الناس إن لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم. وإن لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم. إن المؤمن بين مخافتين: بين عاجل قد مضى لا يدري ما الله صانع فيه. وبين آجل قد بقي لا يدري ما الله قاض فيه. فليأخذ العبد من نفسه لنفسه، ومن دنياه لآخرته، ومن الشبيبة قبل الكبر، ومن الحياة قبل الموت. فوالذي نفس محمد بيده ما بعد الموت من مستعتب. (4) خطبة لأبي بكر
كان أبو بكر أول الخلفاء الراشدين وقد ولي الخلافة من سنة 632 إلى 634م وعندما بويع بالخلافة فاه بالخطبة التالية:
أيها الناس إني قد وليت عليكم ولست بخيركم. والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ الحق له، والقوي منكم الضعيف عندي حتى آخذ الحق منه. لا يدع أحد منكم الجهاد في سبيل الله؛ فإنه لا يدعه قوم إلا ضربهم الله بالذل. ولا تشيع الفاحشة في قوم إلا عمهم الله بالبلاء. وإنما أنا متبع ولست بمبتدع، فإن استقمت فتابعوني وإن زغت فقوموني. وإنكم تردون وتروحون في أجل قد غيب عنكم علمه. فإن استطعتم ألا يمضي هذا الأجل إلا وأنتم في عمل صالح فافعلوا. وإن الله لا يقبل من الأعمال إلا ما أريد به وجهه. فأريدوه بأعمالكم. وإن ما أخلصتم لله من أعمالكم فطاعة أتيتموها ... وضرائب أديتموها وسلف قدمتموه من أيام فانية لأخرى باقية لحين فقركم وحاجتكم. اعتبروا عباد الله بمن مات منكم وتفكروا في من كان قبلكم أين كانوا أمس وأين هم اليوم. أين الجبارون؟ أين الذين كان لهم ذكر القتال والغلبة في مواطن الحروب؟ قد تضعضع بهم الدهر وصاروا رميما. قد تركت عليهم القالات الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات. وأين الملوك الذين أثاروا الأرض وعمروها؟ قد بعدوا وأنسي ذكرهم وصاروا كلا شيء.
ألا وقد أبقى الله عليهم التبعات وقطع عنهم الشهوات. ومضوا والأعمال أعمالهم والدنيا دنيا غيرهم. وبقينا خلفا بعدهم، فإن نحن اعتبرنا بهم نجونا وإن اغتررنا كنا مثلهم. أين الوضاء الحسنة وجوههم المعجبون بشبابهم؟ صاروا ترابا وصار ما فرطوا فيه حسرة عليهم. أين الذين بنوا المدائن وحصنوها بالحوائط وجعلوا فيها الأعاجيب؟ قد تركوها لمن خلفهم، فتلك مساكنهم خاوية وهم في ظلمات القبور. هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا؟ أين من تعرفون من أبنائكم وإخوانكم؟ قد انتهت بهم آجالهم، فوردوا على ما قدموا فحلوا عليه وأقاموا للشقوة والسعادة بعد الموت. ألا إن الله ليس بينه وبين أحد من خلقه سبب يعطيه به خيرا ولا يصرف به عنه سوءا إلا بطاعته واتباع أمره. واعلموا أنكم عبيد مدينون وأن ما عنده لا يدرك إلا بطاعته ... (5) خطبة لعمر بن الخطاب
لما ولي عمر الخلافة (من 634 إلى 644م) بعد أبي بكر صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
يا أيها الناس إني داع فأمنوا: اللهم إني غليظ فليني لأهل طاعتك بموافقة الحق ابتغاء وجهك والدار الآخرة، وارزقني الغلظة والشدة على أعدائك وأهل الدعارة والنفاق من غير ظلم مني لهم ولا اعتداء عليهم. اللهم إني شحيح فسخني في نوائب المعروف قصدا من غير سرف ولا تبذير ولا رياء ولا سمعة، واجعلني أبتغي بذلك وجهك والدار الآخرة. اللهم ارزقني خفض الجناح ولين الجانب للمؤمنين. اللهم إني كثير الغفلة والنسيان فألهمني ذكرك على كل حال وذكر الموت في كل حين. اللهم إني ضعيف عند العمل لطاعتك فارزقني النشاط فيها والقوة عليها بالنية الحسنة التي لا تكون إلا بعزتك وتوفيقك. اللهم ثبتني باليقين والبر والتقوى وذكر المقام بين يديك والحياء منك، وارزقني الخشوع في ما يرضيك عني والمحاسبة لنفسي وإصلاح الساعات والحذر من الشبهات. اللهم ارزقني التفكر والتدبر لما يتلوه لساني من كتابك والفهم له والمعرفة بمعانيه والنظر في عجائبه والعمل بذلك ما بقيت. إنك على كل شيء قدير. (6) خطبة لعلي بن أبي طالب
تولى علي الخلافة بين سنة 657 وسنة 661م بعد عثمان. وقد نسبت إليه عدة خطب ورسائل هي من آيات البلاغة الخالدة. وفيما يلي إحدى خطبه. حمد الله وأثنى عليه ثم قال:
أوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله ولزوم طاعته وتقديم العمل وترك الأمل. فإنه من فرط في عمله لم ينتفع بشيء من أمله. أين التعب بالليل والنهار المقتحم للجج البحار، ومفاوز القفار، يسير من وراء الجبال وعالج الرمال، يصل الغدو بالرواح والمساء بالصباح في طلب محقرات الأرباح، هجمت عليه منيته، فعظمت بنفسه رزيته؛ فصار ما جمع بورا، وما اكتسب غرورا، ووافى القيامة محسورا؟ أيها اللاهي الغار بنفسه، كأني بك وقد أتاك رسول ربك لا يقرع لك بابا ولا يهاب لك حجابا، ولا يقبل منك بديلا ولا يأخذ منك كفيلا، ولا يرحم لك صغيرا ولا يوقر فيك كبيرا حتى يؤديك إلى قعر مظلمة أرجاؤها موحشة، كفعله بالأمم الخالية والقرون الماضية. أين من سعى واجتهد وجمع وعدد، وبنى وشيد وزخرف ونجد، وبالقليل لم يقنع وبالكثير لم يمتع ؟ أين من قاد الجنود ونشر البنود؟ أضحوا رفاتا تحت الثرى أمواتا. وأنتم بكأسهم شاربون، ولسبيلهم سالكون! عباد الله فاتقوا الله وراقبوه واعملوا لليوم الذي تسير فيه الجبال، وتنشق السماء بالغمام، وتتطاير الكتب عن الأيمان والشمائل.
خطبة أخرى لعلي بن أبي طالب
لما أغار سفيان بن عوف الأسدي بجيش من جيوش معاوية على الأنبار وقتل عامل علي عليها حسان البكري خرج علي حتى جلس على باب السدة، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
أما بعد، فإن الجهاد باب من أبواب الجنة، فمن تركه ألبسه الله ثوب الذل وأشمله البلاء وألزمه الصغار وسامه الخسف، ومنعه النصف. ألا وإني دعوتكم إلى قتال هؤلاء القوم ليلا ونهارا وسرا وإعلانا، وقلت لكم: اغزوهم قبل أن يغزوكم، فوالله ما غزي قوم قط في عقر دارهم إلا ذلوا. فتواكلتم وتخاذلتم وثقل عليكم قولي، فاتخذتموه وراءكم ظهريا حتى شنت عليكم الغارات. هذا أخو عامد قد بلغت خيله الأنبار وقتل حسان البكري. وأزال خيلكم عن مسارحها وقتل منكم رجالا صالحين. ثم انصرفوا وافرين ما كلم رجل منهم. فلو أن رجلا مسلما مات من بعد هذا أسفا ما كان عندي ملوما بل كان به عندي جديرا. فوا عجبا من جد هؤلاء في باطلهم وفشلكم عن حقكم. فقبحا لكم وترحا حين صرتم غرضا يرمى، يغار عليكم ولا تغيرون، وتغزون ولا تغزون، ويعصى الله وترضون! فإذا أمرتم بالمسير إليهم في أيام الحر قلتم: «حمارة القيظ! أمهلنا حتى يسبخ عنا الحر.» وإذا أمرتم بالمسير إليهم ضحى في الشتاء قلتم: «أمهلنا حتى ينسلخ عنا هذا القر.» فأنتم والله من السيف أفر. يا أشباه الرجال ولا رجال، ويا أحلام أطفال وعقول ربات الحجال. وددت أن الله أخرجني من بين أظهركم وقبضني إلى رحمته من بينكم وأني لم أركم ولم أعرفكم معرفة. ولله حرت وهنا، ووريتم والله صدري غيظا. وجرعتموني الموت أنفاسا، وأفسدتم علي رأيي بالعصيان والخذلان حتى قالت قريش إن ابن أبي طالب شجاع ولكن لا علم له بالحرب. لله أبوهم! وهل منهم أحد أشد لها مراسا وأطول تجربة مني؟! لقد مارستها وأنا ابن عشرين، فها أنا ذا قد نيفت على الستين ولكن لا رأي لمن لا يطاع.
خطبة أخرى لعلي بن أبي طالب
الحمد لله الذي استخلص الحمد لنفسه واستوجبه على جميع خلقه، الذي ناصية كل شيء بيده ومصير كل شيء إليه، والقوي في سلطانه اللطيف في جبروته. لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع. خالق الخلائق بقدرته ومسخرهم بمشيئته. وفي العهد صادق الوعد، شديد العقاب جزيل الثواب. أحمده وأستعينه على ما أنعم به مما لا يعرف كنهه غيره. وأتوكل عليه توكل المستسلم لقدرته، المتبري من الحول والقوة إليه. وأشهد شهادة لا يشوبها شك أنه لا إله إلا هو وحده لا شريك له إلها واحدا صمدا، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، ولم يكن له شريك في الملك وهو على كل شيء قدير. قطع ادعاء المدعي بقوله - عز وجل:
وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون . وأشهد أن محمدا
صلى الله عليه وسلم
صفوته من خلقه وأمينه على وحيه، أرسله بالمعروف آمرا وعن المنكر ناهيا وإلى الحق داعيا، على حين فترة من الرسل، وضلالة من الناس واختلاف من الأمور، وتنازع من الألسن، حتى تمم به الوحي وأنذر به أهل الأرض. أوصيكم عباد الله بتقوى الله، فإنها العصمة من كل ضلال والسبيل إلى كل نجاة. فكأنكم بالجثث قد زايلتها أرواحها وتضمنتها أجداثها. فلن يستقبل معمر منكم يوما من عمره إلا بانتقاص آخر من أجله. وإنما دنياكم كفيء الظل أو زاد الراكب. وأحذركم دعاء العزيز الجبار عبده، يوم تعفى آثاره ويوحش منه دياره ويؤتم صغاره، ثم يصير إلى حفير من الأرض متعفرا على خده، غير موسد ولا ممهد. أسأل الذي وعدنا على طاعته جنته أن يقينا سخطه ويجنبنا نقمته ويهب لنا رحمته. إن أبلغ الحديث كتاب الله.
خطبة أخرى لعلي بن أبي طالب
استفز علي أهل الكوفة لحرب الجمل فأقبلوا إليه مع ابنه الحسن فقام فيهم خطيبا، فقال:
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وآخر المرسلين.
أما بعد، فإن الله بعث محمدا عليه الصلاة والسلام إلى الثقلين كافة والناس في اختلاف والعرب بشر المنازل ... فرأب الله به الثأي ولأم به الصدع، ورتق به الفتق، وأمن به السبل، وحقن به الدماء، وقطع به العداوة الواغرة في القلوب، والضغائن المخشنة للصدور. ثم قبضه الله عز وجل مشكورا سعيه، مرضيا عمله، مغفورا ذنبه، كريما عند ربه نزله. فيا لها مصيبة عمت المسلمين، وخصت الأقربين! وولي أبو بكر فسار بسيرة رضيها المسلمون. ثم ولي عمر فسار بسيرة أبي بكر رضي الله عنهما. ثم ولي عثمان فنال منكم ونلتم منه حتى إذا ما كان من أمره ما كان أتيتموه فقتلتموه. ثم أتيتموني فقلتم لي: بايعنا. فقلت لكم: لا أفعل. وقبضت يدي فبسطتموها. ونازعتم كفي فجذبتموها، وقلتم: لا نرضى إلا بك، ولا نجتمع إلا عليك. وتداككتم علي تداك الإبل الهيم على حياضها يوم ورودها، حتى ظننت أنكم قاتلي وأن بعضكم قاتل بعض. فبايعتموني وبايعني طلحة والزبير، ثم ما لبثا أن استأذناني للعمرة فسارا إلى البصرة فقتلا بها المسلمين، وفعلا الأفاعيل. وهما يعلمان والله أني لست بدون واحد ممن مضى. ولو أشاء أن أقول لقلت: اللهم إنهما قطعا قرابتي، ونكثا بيعتي وألبا علي عدوي. اللهم فلا تحكم لهما ما أبرما، وأرهما المساءة عملا وأملا. (7) خطبة لمعاوية بن أبي سفيان
كان معاوية أول خلفاء الدولة الأموية وقد توفي سنة 60ه، الموافقة لسنة 680م. وكان «مربي دول وسائس أمم وراعي ممالك» ويحكى أنه لما حضرته الوفاة جمع أهله فقال: ألستم أهلي؟ قالوا: بلى فداك أنت بنا! قال: فهذه نفسي قد خرجت من قدمي فردوها علي إن استطعتم. فبكوا وقالوا: ما لنا إلى هذا سبيل. فرفع صوته بالبكاء ثم قال: فلا تغركم الدنيا بعدي.
قال القحذمي: لما قدم معاوية المدينة عام الجماعة تلقاه رجال قريش، فقالوا: الحمد لله الذي أعز نصرك وأعلى كعبك. قال: فوالله ما رد عليهم شيئا حتى صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
فإني والله ما وليتها بمحبة علمتها منكم ولا مسرة بولايتي ولكني جالدتكم بسيفي هذا مجالدة. ولقد رضت لكم نفسي على عمل ابن أبي قحافة وأردتها على عمل عمر فنفرت من ذلك نفارا شديدا. وأردتها على ثنيات عثمان فأبت علي. فسلكت بها طريقا لي ولكم فيه منفعة: مؤاكلة حسنة ومشاربة جميلة. فإن لم تجدوني خيركم فإني خير لكم ولاية. والله لا أحمل السيف على من لا سيف له، وإن لم يكن منكم إلا ما يستشفى به القائل بلسانه فقد جعلت ذلك له دبر أذني وتحت قدمي. وإن لم تجدوني أقوم بحقكم كله فاقبلوا مني بعضه فإن أتاكم مني خير فاقبلوه، فإن السيل إذا جاء ينزي، وإن قل أغنى. وإياكم والفتنة فإنها تفسد المعيشة وتكدر النعمة.
خطبة أخرى لمعاوية
صعد منبر المدينة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
يا أهل المدينة، إني لست أحب أن تكونوا خلقا كخلق العراق يعيبون الشيء وهم فيه، كل امرئ منهم شيعة نفسه. فاقبلونا بما فينا فإن ما وراءنا شر لكم، وإن معروف زماننا هذا منكر زمان قد مضى، ومنكر زماننا معروف زمان لم يأت، ولو قد أتى فالرتق خير من الفتق. وفي كل بلاغ. ولا مقام على الرزية.
خطبة أخرى لمعاوية
لما مرض معاوية مرض وفاته قال لمولى له: من بالباب؟ قال: نفر من قريش يتباشرون بموتك. قال: ويحك لم؟ فوالله ما لهم بعدي إلا الذي يسوءهم. وأذن للناس فدخلوا. فحمد الله وأثنى عليه وأوجز، ثم قال:
أيها الناس. إنا قد أصبحنا في دهر عتود وزمن شديد، يعد فيه المحسن مسيئا ويزداد الظالم فيه عتوا، لا ننتفع بما علمنا، ولا نسأل عما جهلنا ولا نتخوف قارعة حتى تحل بنا. فالناس على أربعة أصناف؛ منهم من لا يمنعه من الفساد في الأرض إلا مهانة نفسه، وكلال حده ونضيض وفره. ومنهم المصلت لسيفه المجلب برجله المعلن بسره، وقد أشرط نفسه وأوبق دينه، لحطام ينتهزه أو مقت يقوده ... ولبئس المتجر أن تراهما لنفسك ثمنا وبما لك عند الله عوضا. ومنهم من يطلب الدنيا بعمل الآخرة ولا يطلب الآخرة بعمل الدنيا، قد طامن من شخصه وقارب من خطوه، وشمر عن ثوبه وزخرف نفسه للأمانة، واتخذ ستر الله ذريعة إلى المعصية. ومنهم من أقعده عن طلب الملك ضئولة نفسه وانقطاع سببه، فقصرت به الحال عن حاله، فتحلى باسم القناعة وتزيا بلباس الزهادة. وليس ذلك في مراح ولا مغدى. وبقي رجال أغض أبصارهم ذكر المرجع، وأراق دموعهم خوف المضجع. فهم بين شريد باد وبين خائف منقمع وساكت مكعوم، وداع مخلص وموجع ثكلان قد أخملتهم التقية، وشملتهم الذلة. فهم في بحر أجاج أفواههم ضامرة وقلوبهم قرحة. قد وعظوا حتى ملوا، وقهروا حتى ذلوا، وقتلوا حتى قلوا. فلتكن الدنيا في أعينكم أصغر من حثالة القرظ وقرادة الحلم. واتعظوا بمن كان قبلكم قبل أن يتعظ بكم من بعدكم. وارفضوها ذميمة فقد رفضت من كان أشفق بها منكم. (8) خطبة لزياد بن أبيه
كان زياد داهية من دهاة العرب ولم يكن يعرف له أب فاستلحقه معاوية بن أبي سفيان بأسرته وادعى أنه أخوه وولاه الولايات، فأخلص له الخدمة وفتك بشيعة علي وجعل يتعقبهم في أنحاء ولايته. وقد مات سنة 53ه (674م). قيل إن معاوية ولاه البصرة وخراسان وسجستان، والفسق بالبصرة ظاهر فاش. فخطب خطبة بتراء لم يحمد الله فيها، قال فيها:
أما بعد، فإن الجهالة الجهلاء والضلالة العمياء والعمى الموفي بأهله على النار ما فيه سفهاؤكم وتشتمل عليه حلماؤكم من الأمور العظام، ينبت فيها الصغير ولا يتحاشى عنها الكبير. كأنكم لم تقرءوا كتاب الله، ولم تسمعوا لما أعد الله من الثواب الكريم لأهل طاعته، والعذاب العظيم لأهل معصيته في الزمن السرمدي الذي لا يزول! أتكونون كمن طرفت عينه الدنيا، وسدت مسامعه الشهوات، واختار الفانية على الباقية، ولا تذكرون أنكم أحدثتم في الإسلام الحدث الذي لم تسبقوا إليه من ترككم هذه المواخير المنصوبة، والصفقة المسلوبة في النهار المبصر، والعدد غير قليل؟ ألم يكن منكم نهاة تمنع الغواة عن دلج الليل وغارة النهار ... كل امرئ منكم يذب عن سفيهه؛ صنيع من لا يخاف عاقبة ولا يرجو معادا ؟ ما أنتم بالحلماء ولقد اتبعتم السفهاء، فلم يزل بكم من قيامكم دونهم حتى انتهكوا حرم الإسلام ...
حرام علي الطعام والشراب حتى أسويها بالأرض هدما وإحراقا. إني رأيت آخر هذا الأمر لا يصلح إلا بما صلح به أوله: لين في غير ضعف وشدة في غير عنف. وإني أقسم بالله لآخذن الولي بالمولى والمقيم بالظاعن والمقبل بالمدبر والصحيح بالسقيم حتى يلقى الرجل منكم أخاه فيقول: انج سعيد فقد هلك سعد! أو تستقيم لي قناتكم. إن كذبة الأمير تلفى مشهورة. فإذا تعلقتم علي بكذبة فقد حلت لكم معصيتي.
من نقب منكم عليه فأنا ضامن لما ذهب له. فإياي ودلج الليل فإني لا أوتي بمدلج إلا سفكت دمه. وقد أجلتكم في ذلك بقدر ما يأتي الخبر الكوفة ويرجع إليكم. وإياي ودعوى الجاهلية! فإني لا أجد أحدا دعا بها إلا قطعت لسانه. وقد أحدثتم أحداثا لم تكن، وقد أحدثنا لكل ذنب عقوبة؛ فمن أغرق قوما أغرقناه، ومن أحرق قوما أحرقناه، ومن نقب بيتا نقبنا عن قلبه، ومن نبش قبرا دفناه فيه حيا. فكفوا عني ألسنتكم وأيديكم أكف عنكم يدي ولساني. ولا يظهرن من أحد منكم ريبة بخلاف ما عليه عامتكم إلا ضربت عنقه. وقد كانت بيني وبين قوم إحن فجعلت ذلك دبر أذني وتحت قدمي، فمن كان محسنا فليزدد في إحسانه، ومن كان مسيئا فلينزع عن إساءته. إني وإن علمت أن أحدكم قد قتله السل من بغضي لم أكشف له قناعا ولم أهتك له سترا حتى يبدي لي صفحته، فإن فعل لم أناظره. فاستأنفوا أموركم وأعينوا على أنفسكم، فرب مبتئس بقدومنا سيسر ومسرور بقدومنا سيبتئس.
أيها الناس إنا أصبحنا لكم ساسة وعنكم زادة نسوسكم بسلطان الله الذي أعطانا ونذود عنكم بفيء الله الذي خولنا. فلنا عليكم السمع والطاعة في ما أحببنا ولكم علينا العدل في ما ولينا. فاستوجبوا عدلنا وفيئنا بمناصحتكم لنا. واعلموا أني مهما أقصر فيه فلن أقصر عن ثلاث: لست محتجبا عن طالب حاجة ولو أتاني طارقا بليل، ولا حابسا عطاء ولا رزقا ... ولا مجمرا لكم بعثا.
فادعوا الله بالصلاح لأئمتكم فإنهم ساستكم المؤدبون لكم وكهفكم الذي إليه تأوون، ومتى يصلحوا تصلحوا. ولا تشربوا قلوبكم بغضهم فيشتد لذلك أسفكم، ويطول له حربكم ولا تدركوا حاجتكم، مع أنه لو استجيب لكم فيهم لكان شرا لكم. اسأل الله أن يعين كلا على كل. وإذا رأيتموني أنفذ فيكم أمرا فانفذوه على إدلاله. وايم الله إن لي فيكم لصرعى كثيرة فليحذر كل امرئ منكم أن يكون من صرعاي! (مختصرة). (9) خطبة ليزيد بن معاوية
بويع ليزيد بالخلافة يوم مات أبوه معاوية وتوفي سنة 64ه الموافقة لسنة 683م. وقد «تعلم الفصاحة ونظم الشعر في بادية بني كلب.»
خطب بعد موت أبيه فقال:
الحمد لله الذي ما شاء صنع، من شاء أعطى ومن شاء منع، ومن شاء خفض ومن شاء رفع. إن أمير المؤمنين كان حبلا من حبال الله مده ما شاء أن يمده. ثم قطعة حين أراد أن يقطعه. وكان دون من قبله، وخيرا ممن يأتي بعده، ولا أزكيه عند ربه وقد صار إليه. فإن يعف عنه فبرحمته، وإن يعاقبه فبذنبه. وقد وليت بعده الأمر، ولست أعتذر من جهل، ولا آسى على طلب علم. (10) خطبة لخالد بن الوليد
كان خالد بن الوليد من المشهورين بالشجاعة والشرف والرياسة. سماه النبي «سيف الله» وحارب مسيلمة الكذاب وهدم العزى، وله آثار مشهورة في قتال الروم والفرس. وكانت وفاته في خلافة عمر سنة 21ه الموافقة لسنة 643، وقد خطب الخطبة التالية بين جيوشه يحضهم على القتال في أجنادين إحدى نواحي فلسطين في معركة بين الروم والعرب، قال:
يا معاشر الناس انصروا الله ينصركم، وقاتلوا في سبيل الله واحتسبوا أنفسكم في سبيل الله وأصروا على قتال أعدائكم. وقاتلوا عن حريمكم وأولادكم ودينكم. وليس لكم ملجأ تلجئون إليه ومكمن تكمنون فيه، فاقرنوا المناكب وقدموا المضارب، ولا تحملوا حتى آمركم بالحملة. ولتكن السهام مجتمعة إذا خرجت من القسي كأنها تخرج من كبد قوس واحد؛ فإنه إذا تلاحقت السهام رشقا كالجراد لم يخل أن يكون فيها سهم صائب. واصبروا وصابروا واتقوا الله لعلكم تفلحون. واعلموا أنكم لا تلقون عدوا مثل هذه الفئة حماتهم وأبطالهم وملوكهم. (11) خطبة لطارق بن زياد
كان طارق بن زياد مولى موسى بن نصير عامل الوليد بن عبد الملك الخليفة الأموي في أفريقية، وكان منزله القيروان. وحدث أن يوليان أحد رجال الدين في إسبانيا كان حاقدا على الملك، فوضع حقده فوق وطنه، وأرسل إلى موسى فاستنجد به. فأرسل إليه موسى طارقا فعبر بحر العدوة والتقى بالملك رودريق فتحاربا أياما وقتل الملك، وصارت الأندلس للعرب. وسمع موسى بخبر الفتح وحسد طارقا فعبر البحر في عشرة آلاف فتلقاه طارق وترضاه فرضي عنه. وسار موسى بن نصير إلى فرنسا وقطع جبال برينيه وبلغ كركسونا. ثم استرجعه الخليفة الوليد إلى دمشق ونكبه ونفاه إلى مكة فتوفي بها في سنة 97ه الموافقة لسنة 718م. وكان فتح طارق للأندلس في سنة 711م وكان خروج المسلمين من الأندلس سنة 1492م.
لما بلغ طارقا دنو رودريق قام في أصحابه فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم حث المسلمين على الجهاد ورغبهم، ثم قال:
أيها الناس أين المفر؟ البحر من ورائكم والعدو أمامكم وليس لكم والله إلا الصدق والصبر. واعلموا أنكم في هذه الجزيرة أضيع من الأيتام في مأدبة اللئام. وقد استقبلكم عدوكم بجيشه، وأسلحته وأقواته موفورة، وأنتم لا وزر لكم إلا سيوفكم، ولا أقوات إلا ما تستخلصونه من أيدي عدوكم. وإن امتدت بكم الأيام على افتقاركم ولم تنجزوا لكم أمرا ذهب ريحكم وتعوضت القلوب من رعبها عنكم الجرأة عليكم. فادفعوا عن أنفسكم خذلان هذه العاقبة من أمركم بمناجزة هذا الطاغية، فقد ألقت به إليكم مدينته الحصينة وإن انتهاز الفرصة فيه لممكن إن سمحتم لأنفسكم بالموت. وإني لم أحذركم أمرا أنا عنه بنجوة ولا حملتكم على خطة أرخص متاع فيها النفوس إلا وأنا أبدأ بنفسي. واعلموا أنكم إن صبرتم على الأشق قليلا استمتعتم بالأرفه الألذ طويلا. فلا ترغبوا بأنفسكم عن نفسي فما حظكم فيه بأوفر من حظي. وقد بلغكم ما أنشأت هذه الجزيرة من الخيرات العميمة. وقد انتخبكم الوليد بن عبد الملك أمير المؤمنين من الأبطال عربانا، ورضيكم لملوك هذه الجزيرة أصهارا وأختانا؛ ثقة منه بارتياحكم للطعان. واستماحكم بمجالدة الأبطال والفرسان ليكون حظه منكم ثواب الله على إعلاء كلمته وإظهار دينه بهذه الجزيرة، ولتكون بغنمها خالصة لكم من دونه ومن دون المؤمنين سواكم. والله تعالى ولي أنجادكم على ما يكون لكم ذكرا في الدارين. واعلموا إني أول مجيب إلى ما دعوتكم إليه، وأني عند ملتقى الجمعين حامل بنفسي على طاغية القوم لذريق فقاتله إن شاء الله تعالى. فاحملوا معي، فإن هلكت بعده فقد كفيتم أمره ولم يعوزكم بطل عاقل تسندون أموركم إليه. وإن هلكت قبل وصولي إليه فاخلفوني في عزيمتي هذه واحملوا بأنفسكم عليه، واكتفوا الهم من فتح هذه الجزيرة بقتله. (12) خطبة لعمر بن عبد العزيز
كان عمر بن عبد العزيز أحد خلفاء بني أمية وكان عفيفا زاهدا يميل إلى النسك والاعتكاف وكان يتحرى سيرة الخلفاء الراشدين وهو أول من فرض لأبناء السبيل وأبطل في الخطب سب علي بن أبي طالب. وكانت خلافته من سنة 717 إلى سنة 720م. وقيل إنه مات مسموما، دس له الأمويون سما خشية أن يعيد الخلافة شورى بين المسلمين فتخرج من أيديهم. ومن خطبه هذه الخطبة التي ألقاها في خاصرة:
أيها الناس، إنكم لم تخلقوا عبثا ولم تتركوا سدى. وإن لكم معادا يحكم الله بينكم فيه، فخاب وخسر من خرج من رحمة الله التي وسعت كل شيء وحرم جنة عرضها السموات والأرض. واعلموا أن الأمان غدا لمن يخاف اليوم وباع قليلا بكثير وفانيا بباق. ألا ترون أنكم في أصلاب الهالكين، وسيخلفها من بعدكم الباقون حتى يردوا إلى خير الوارثين. إنكم في كل يوم تشيعون غاديا ورائحا إلى الله قد قضى نحبه وبلغ أجله. ثم تغيبونه في صدع من الأرض. ثم تدعونه غير موسد ولا ممهد، قد خلع الأسباب وفارق الأحباب، وواجه الحساب. غنيا عما ترك فقيرا إلى ما قدم. وايم الله إني لأقول لكم هذه المقالة وما أعلم عند أحد منكم أكثر مما عندي. وأستغفر الله لي ولكم. وما تبلغنا حاجة يتسع لها ما عندنا إلا سددناها. ولا أحد منكم إلا وددت أن يده مع يدي ولحمتي الذين يلونني حتى يستوي عيشنا وعيشكم. وايم الله إني لو أردت غير هذا من عيش أو غضارة لكان اللسان به ناطقا ذلولا عالما بأسبابه. ولكنه مضى من الله سنة عادلة دل فيها على طاعته ونهى عن معصيته. (13) خطبة لقطري بن الفجاءة
كان قطري أحد رءوس الخوارج الذين كانوا يعدون خلفاء بني أمية وعلي بن أبي طالب مغتصبين للخلافة فلم تكن عليهم لهم طاعة. وكانوا يولون خلفاءهم بأنفسهم، فكان قطري أحد خلفائهم. وكان يجمع بين الشجاعة والبلاغة. وكان الحجاج بن يوسف الثقفي يسير إليه جيشا بعد جيش فيعود بالهزيمة. ولم تزل الحال كذلك حتى توجه إليه سفيان بن الأبرد فظهر عليه وقتله سنة 78ه الموافقة لسنة 698م.
وهذه الخطبة ينسبها جامع «نهج البلاغة» إلى علي بن أبي طالب كما هي عادته في نسبة كل ما يستجيده من الخطب والكلام البارع إليه حتى بلغ به الشطط أن نسب أكثر الحكم اليونانية المشهورة إليه.
قال قطري:
أما بعد، فإني أحذركم الدنيا فإنها حلوة خضرة حفت بالشهوات وراقت بالقليل، وتجلببت بالعاجل وغمرت بالآمال. وتحلت بالأماني وزينت بالغرور. لا تدوم زهرتها ولا تؤمن فجعتها. غرارة ضرارة، وحائلة زائلة، ونافدة بائدة. لا تعدو إذا تناهت إلى أمنية أهل الرغبة فيها والرضا بها أن تكون كما قيل: كماء أنزلناه فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما. مع أن امرأ لم يكن منها في حبرة إلا أعقبته بعدها عبرة، ولم يلق من سرائها بطنا، إلا منحته من ضرائها ظهرا. ولم تطله منها ديمة رخاء، إلا هطلت عليه مزنة بلاء. وحري إذا أصبحت له منتصرة أن تمسي له خاذلة متنكرة. وإن جانب منها اعذوذب واحلولى أمر عليه منها جانب فأوبا. وإن لبس امرؤ من غضارتها ورفاهيتها نعما أرهقته من نوائبها غما. ولم يمس امرؤ منها في جناح أمن إلا أصبح منها في قوادم خوف. غرارة غرور ما فيها باقية. فان ما عليها . لا خير في شيء من زادها إلا التقوى. من أقل منها استكثر مما يؤمنه، ومن استكثر منها لم يدم له وزال عما قليل عنه ... كم واثق بها قد فجعته وذي طمأنينة إليها قد صرعته! وكم من مختال بها قد خدعته، وكم ذي أبهة فيها قد صيرته حقيرا وذي نخوة فيها قد ردته ذليلا، وذي تاج قد كبته لليدين والفم! سلطانها دول، وعيشها رنق، وعذبها أجاج، وحلوها مر، وغذاؤها سمام، وأسبابها زحام، وقطافها سلع. حيها بعرض موت وصحيحها بعرض سقم، ومنيعها بعرض اهتضام. مليكها مسلوب، وعزيزها مغلوب، وسليمها منكوب، وجارها وجامعها محروب. مع أن من وراء ذلك سكرات الموت وزفراته وهول المطلع والوقوف بين يدي الحكم العدل؛ ليجزي الذين أساءوا بما عملوا، ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى. ألستم في مساكن من كان منكم أطول أعمارا وأوضح آثارا وأعد عديدا وأكثف جنودا وأعتد عتادا وأطول عمادا؟ تعبدوا الدنيا أي تعبد، وآثروها أي إيثار، وظعنوا عنها بالكره والصغار. فهل بلغكم أن الدنيا سمحت لهم نفسا بفدية ... بل أرهقتهم بالفوادح وضعضعتهم بالنوائب، وعفرتهم للمناخر، وأعانت عليهم ريب المنون وأرهقتهم بالمصائب. وقد رأيتم تنكرها لمن دان لها وآثرها وأخلد إليها، حتى ظعنوا عنها لفراق الأبد إلى آخر الأمد. هل زودتهم إلا الشقاء وأحلتهم إلا الضنك، أو نورت لهم إلا الظلمة، وأعقبتهم إلا الندامة؟ أفهذه تؤثرون، أو على هذه تحرصون، أو إليها تطمئنون؟ فبئست الدار لمن لم يتهمها ولم يكن فيها على وجل منها! اعلموا - وأنتم تعلمون - أنكم تاركوها الأبد. فإنما هي لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد. فاتعظوا فيها بالذين يبنون بكل ريع آية تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون، وبالذين قالوا: من أشد منا قوة. واتعظوا بمن رأيتم من إخوانكم كيف حملوا إلى قبورهم فلا يدعون ركبانا، وأنزلوا فلا يدعون ضيفانا. وجعل لهم من الضريح أكنان، ومن التراب أكفان، ومن الرفات جيران. فهم جيرة لا يجيبون داعيا ولا يمنعون ضيما. إن أخصبوا لم يفرحوا وإن قحطوا لم يقنطوا. جمع وهم آحاد. جيرة وهم أبعاد. متناءون وهم يزارون ولا يستزيرون. حلماء قد ذهبت أضغانهم. وجهلاء قد ماتت أحقادهم. لا يخشى فجعهم، ولا يرجى دمعهم. وهم كمن لم يكن. استبدلوا بظهر الأرض بطنا وبالسعة ضيقا وبالآل غربة وبالنور ظلمة. فجاءوها حفاة عراة فرادى غير أن ظعنوا بأعمالهم إلى الحياة الدائمة. إلى خلود الأبد فاحذروا ما حذركم الله وانتفعوا بمواعظه واعتصموا بحبله. عصمنا الله وإياكم بطاعته ورزقنا وإياكم أداء حقه. (14) خطبة للحجاج
كان الحجاج بن يوسف الثقفي عامل الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان على العراق وخراسان، وتوفي سنة 97ه الموافقة لسنة 716م. وكان شرس الطبع سفاكا للدماء، ولم يكن يخجل من الجهر بأن أكبر لذاته سفك الدماء. وهو الذي بنى مدينة واسط وينسب إليه وضع علامات للحروف المشتبهة في الخط العربي حتى لا يقع تصحيف في القرآن. ولولاه لاستفحل أمر الخوارج فهو الذي خضد شوكتهم بما أرسله عليهم من الجيوش تلو الجيوش.
ومما يحكى عنه أنه قال في إحدى خطبه: «سوطي سيفي ونجاده في عنقي وقائمه في يدي وذبابه قلادة لمن اغتر بي.» وكان الحسن حاضرا فقال: «بؤسا لهذا ما أغره بالله!»
خطب بين أهل العراق فقال:
يا أهل العراق إن الشيطان قد استبطنكم فخالط اللحم والدم والعصب والمسامع والأطراف والأعضاد والشغاف، ثم مضى إلى الأمخاخ والأصماخ، ثم ارتفع فعشش ثم باض وفرخ. فحشاكم شقاقا ونفاقا ... اتخذتموه دليلا تتبعونه وقائدا تطيعونه ومؤمرا تستشيرونه، وكيف تنفعكم تجربة أو تعضكم وقعة أو يحجزكم إسلام أو يردكم إيمان. ألستم أصحابي بالأهواز، حيث رمتم المكر وسعيتم بالغدر واستجمعتم للكفر، وظننتم أن الله يخذل دينه وخلافته. وأنا أرميكم بطرفي وأنتم تتسللون لواذا وتهزمون سراعا. يوم الزاوية وما يوم الزاوية! بها كان فشلكم وتنازعكم وتخاذلكم وبراءة الله منكم ونكوص وليه عنكم إذ وليتم كالإبل الشوارد إلى أوطانها، النوازع إلى أعطانها، لا يسأل المرء منكم عن أخيه، ولا يلوي الشيخ على بنيه، حتى عضكم السلاح وقصمتكم الرماح. يوم دير الجماجم وما دير الجماجم! إنها كانت المعارك والملاحم، بضرب يزيل الهام عن مقيله، ويذهل الخليل عن خليله. يا أهل العراق والكفرات الفجرات والغدرات بعد الخترات والثورة بعد الثورات ... هل استخفكم ناكث واستغواكم غاو واستفزكم عاص واستصرخكم ظالم واستعضدكم خالع إلا وثقتموه وآويتموه وغررتموه ونصرتموه ورضيتموه؟! يا أهل العراق، هل شغب شاغب أو نعب ناعب أو نعق ناعق أو زفر زافر إلا كنتم أتباعه وأنصاره؟! يا أهل العراق، ألم تنهكم المواعظ؟ ألم تزجركم الوقائع؟
خطبة أخرى للحجاج
خطب بالبصرة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
إن الله كفانا مئونة الدنيا وأمرنا بطلب الآخرة، فليته كفانا مئونة الآخرة وأمرنا بطلب الدنيا. ما لي أرى علماءكم يذهبون وجهالكم لا يتعلمون وشراركم لا يتوبون؟ ما لي أراكم تحرصون على ما كفيتم وتضيعون ما به أمرتم؟ إن العلم يوشك أن يرفع، ورفعه ذهاب العلماء. ألا وإني أعلم بشراركم من البيطار بالفرس، الذين لا يقرءون القرآن إلا هجرا، ولا يأتون الصلاة إلا دبرا. ألا وإن الدنيا عرض حاضر يأكل منها البر والفاجر. ألا وإن الآخرة أجل مستأخر يحكم فيها ملك قادر. ألا فاعملوا وأنتم من الله على حذر واعلموا أنكم ملاقوه ليجزي الذين أساءوا بما عملوا، ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى. ألا وإن الخير كله بحذافيره في الجنة. ألا وإن الشر كله بحذافيره في النار. ألا وإن من يعمل مثقال ذرة خيرا يره. ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره. وأستغفر الله لي ولكم.
خطبة أخرى للحجاج
خرج الحجاج يريد العراق واليا عليها في اثني عشر راكبا على النجائب حتى دخل الكوفة حين انتشر النهار. وقد كان فشا أمر الخوارج وتفاقم، وتثاقل الناس عن اللحاق بالمهلب الذي كان يناجزهم. فصعد المنبر وهو ملثم بعمامة حمراء، فقال: علي بالناس، فحسبوه وأصحابه خوارج فهموا به، حتى إذا اجتمع الناس قام ثم كشف عن وجهه وقال:
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا
متى أضع العمامة تعرفوني
صليب العود من سلفي نزارا
كنصل السيف وضاح الجبين
وماذا تبتغي الشعراء مني
وقد جاوزت حد الأربعين
أخو خمسين مجتمع أشدي
وتنجدني مداورة الشئون .. أما والله إني لأحمل الشر بحمله وأحذوه بنعله وأجزيه بمثله. وإني لأرى رءوسا قد أينعت وحان قطافها، وإني لصاحبها. وإني لأنظر الدماء بين العمائم واللحى تترقرق:
قد شمرت عن ساقها فشمري
هذا أوان الحرب فاشتدي زيم
قد لفها الليل بسواق حطم
ليس براعي إبل ولا غنم
ولا بجزار على ظهر وضم
قد لفها الليل بعصلبي
أروع جراح من الدوى
مهاجر ليس بأعرابي
قد شمرت عن ساقها فشدوا
ما علتي وأنا شيخ أد
والقوس فيها وتر عرد
مثل ذراع البكر أو أشد
إني والله يا أهل العراق ومعدن الشقاق والنفاق ومساوئ الأخلاق، لا يغمز جانبي كتغماز التنين، ولا يقعقع لي بالشنان. ولقد فررت عن ذكاء، وفتشت عن تجربة، وأجريت مع الغاية. وإن أمير المؤمنين نثر كنانته ثم عجم عيدانها، فوجدني أمرها عودا وأشدها مكسرا، فوجهني إليكم ورماكم بي. فإنه قد طالما أوضعتم في الفتن، وسننتم سنن الغي. وايم الله لألحونكم لحو العصا، ولأقرعنكم قرع المروة، ولأعصبنكم عصب السلمة، ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل. أما والله لا أعد إلا وفيت، ولا أخلف إلا فريت. وإياي وهذه الزرافات والجماعات، وقال وقيل، وما يقولون وفيم أنتم. والله لتستقيمن على طريق الحق أو لأدعن لكل رجل منكم شغلا في جسده. من وجدته بعد ثالثة من بعث المهلب سفكت دمه وانتهبت ماله وهدمت منزله. (15) خطب لأبي حمزة
في أواخر الدولة الأموية خرج عبد الله بن يحيى وكان من حضرموت فأنكر طاعة خلفاء بني أمية؛ «لأنه رأى جورا ظاهرا وعسفا شديدا وسيرة في الناس قبيحة.» فدعا الناس إلى مبايعته، فبايعوه. وكان من أشد أنصاره رجل يدعى أبا حمزة. فجيش الجيوش وفتح مكة والمدينة. وفتح أبو حمزة المدينة في سنة 130ه، وخطب أهلها الخطبة التالية:
يا أهل المدينة سألناكم عن ولاتكم هؤلاء، فأسأتم - لعمر الله - فيهم القول. وسألناكم: هل يقتلون بالظن؟ فقلتم: نعم. وسألناكم: هل يستحلون المال الحرام والفرج الحرام؟ فقلتم: نعم. فقلنا لكم: تعالوا نحن وأنتم، فنناشدهم الله أن يتنحوا عنا وعنكم ليختار المسلمون لأنفسهم، فقلتم: لا تفعلون. فقلنا لكم: تعالوا نحن وأنتم نلقاهم، فإن نظهر نحن وأنتم نأت بمن يقيم فينا كتاب الله وسنة نبيه وإن نظفر نعدل في أحكامكم ونحملكم على سنة نبيكم، ونقسم فيئكم بينكم. فإن أبيتم وقاتلتمونا دونهم قاتلناكم. فأبعدكم الله وأسحقكم يا أهل المدينة! مررت بكم في أزمان الأحول هشام بن عبد الملك وقد أصابتكم عاهة في ثماركم فركبتم إليه تسألونه أن يضع خراجكم عنكم، فكتب بوضعها عنكم؛ فزاد الغني غنى وزاد الفقير فقرا. فقلتم: جزاكم الله خيرا. فلا جزاه الله خيرا ولا جزاكم.
خطبة أخرى لأبي حمزة
خطب هذه الخطبة في أهل المدينة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
أتعلمون يا أهل المدينة أنا لم نخرج من ديارنا وأموالنا أشرا ولا بطرا ولا عبثا ولا لهوا، ولا لدولة ملك نريد أن نخوض فيه، ولا ثأر قديم نيل منا. ولكنا لما رأينا مصابيح الحق قد عطلت، وعنف القائل بالحق، وقتل القائم بالقسط، ضاقت علينا الأرض بما رحبت. وسمعنا داعيا يدعو إلى طاعة الرحمن وحكم القرآن، فأجبنا داعي الله، ومن لا يجيب داعي الله فليس بمعجز في الأرض، فأقبلنا من قبائل شتى، النفر منا على بعير واحد عليه زادهم وأنفسهم، يتعاورون لحافا واحدا، قليلون مستضعفون في الأرض، فآوانا الله وأيدنا بنصره، وأصبحنا والله بنعمته إخوانا، ثم لقينا رجالكم بقديد، فدعوناهم إلى طاعة الرحمن وحكم القرآن، ودعونا إلى طاعة الشيطان وحكم مروان وآل مروان. شتان لعمر الله ما بين الغي والرشد، ثم أقبلوا يهرعون ويزفون، قد ضرب الشيطان فيهم بجرانه وغلت بدمائهم مراجله، وصدق عليهم ظنه. وأقبل أنصار الله عصائب وكتائب، بكل مهند ذي رونق، فدارت رحانا واستدارت رحاهم بضرب يرتاب منه المبطلون، وأنتم يا أهل المدينة إن تنصروا مروان وآل مروان يسحقكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا ويشف صدور قوم مؤمنين. يا أهل المدينة إن أولكم خير أول وآخركم شر آخر. يا أهل المدينة، الناس منا ونحن منهم إلا مشركا عابد وثن، أو كافرا من أهل الكتاب، أو إماما جائرا. يا أهل المدينة، من زعم أن الله تعالى كلف نفسا فوق طاقتها، أو سألها عما لم يؤتها، فهو لله عدو ولنا حرب ... يا أهل المدينة بلغني أنكم تنتقصون أصحابي، قلتم هم شباب أحداث وأعراب جفاة، ويحكم يا أهل المدينة، وهل كان أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
إلا شبابا أحداثا؟ شبابا والله، مكهلون في شبابهم، غضيضة عن الشر أعينهم، ثقيلة عن الباطل أقدامهم، قد باعوا أنفسا تموت غدا، بأنفس لا تموت أبدا ... منحنية أصلابهم على أجزاء القرآن، كلما مروا بآية خوف شهقوا خوفا من النار، وإذا مروا بآية شوق شهقوا شوقا إلى الجنة. فلما نظروا إلى السيوف قد انتضيت وإلى الرماح قد أشرعت وإلى السهام قد فوقت، وأرعدت الكتيبة بصواعق الموت، استخفوا وعيد الكتيبة عند وعيد الله، ولم يستخفوا وعيد الله عند وعيد الكتيبة، فطوبى لهم وحسن مآب! فكم من عين في منقار طائر طالما بكى بها صاحبها من خشية الله! وكم من يد قد أبينت عن ساعدها طالما اعتمد عليها صاحبها راكعا وساجدا! أقول قولي هذا وأستغفر الله من تقصيرنا، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب. (16) خطبة المنصور الخليفة العباسي
كان الخلفاء العباسيون يمتازون على خلفاء بني أمية بقرابتهم من النبي، وكانت هذه القرابة سببا في نعرة دينية يتباهون بها على سائر المسلمين، فكانوا يتكلمون بلهجة باباوات رومية في القرون الوسطى، وكانوا يتمادون في الأتوقراطية لا يعرفون معنى للشورى أو الدستور. وخطبة المنصور تدل القارئ على مبلغ عتو هذه الدولة وغرور خلفائها بنفوسهم، كما هي أيضا علامة من علامات الزمن آذنت بانحطاط الدول العربية التي رضيت باستبداد خلفائها.
وقد بويع المنصور في سنة 136ه الموافقة لسنة 754م وتوفي في سنة 775م، وهو قاتل أبي مسلم الخراساني مؤسس الدولة العباسية وباني مدينة بغداد.
خطب في مكة فقال:
أيها الناس إنما أنا سلطان الله في أرضه أسوسكم بتوفيقه وتسديده وتأييده، وحارسه على ماله، أعمل فيه بمشيئته وإرادته وأعطيه بإذنه، فقد جعلني الله عليه قفلا، إن شاء أن يفتحني فتحني لإعطائكم وقسم أرزاقكم، فإن شاء أن يقفلني عليها أقفلني. فارغبوا إلى الله وسلوه في هذا اليوم الشريف الذي وهب لكم من فضله ما أعلمكم به في كتابه إذ يقول:
اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا
أن يوفقني للرشاد والصواب، وأن يلهمني الرأفة بكم والإحسان إليكم. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. (17) خطبة الخليفة المهدي
لما توفي المنصور بويع لابنه المهدي، وكان المهدي «شديدا على أهل الإلحاد والزندقة لا تؤخره في إهلاكهم لومة لائم.» وقد حكم من سنة 775 إلى 785م، والخطبة التالية أشهر ما يؤثر عنه.
الحمد لله الذي ارتضى الحمد لنفسه ورضي به من خلقه، وأحمده على آلائه وأمجده لبلائه ... وأستعينه وأؤمن به وأتوكل عليه توكل راض بقضائه وصابر لبلائه. أوصيكم عباد الله بتقوى الله فإن الاقتصار عليها سلامة، والترك لها ندامة، وأحثكم على إجلال عظمته وتوقير كبريائه وقدرته، والانتهاء إلى ما يقرب من رحمته، وينجي من سخطه، وينال به ما لديه من كريم الثواب، وجزيل المآب. فاجتنبوا ما خوفكم الله من شديد العقاب، وأليم العذاب، ووعيد الحساب. يوم توقفون بين يدي الجبار، وتعرضون فيه على النار. يوم لا تتكلم نفس إلا بإذنه، فمنهم شقي وسعيد. يوم يفر المرء من أخيه وأمه وبنيه، لكل امرئ يومئذ شأن يغنيه. يوم لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصرون. يوم لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا. إن وعد الله حق، فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور، فإن الدنيا دار غرور وبلاء وشرور، واضمحلال وزوال، وتقلب وانتقال. قد أفنت من كان قبلكم وهي عائدة عليكم وعلى من بعدكم. من ركن إليها صرعته ومن وثق بها خانته، ومن أملها كذبته، ومن رجاها خذلته. عزها ذل، وغناها فقر، والسعيد من تركها والشقي من آثرها، والمغبون فيها من باع حظه من دار آخرته بها. فالله الله، عباد الله، والتوبة مقبولة والرحمة مبسوطة، وبادروا بالأعمال الزكية في هذه الأيام الخالية قبل أن يؤخذ بالكظم وتندموا فلا تنالون الندم يوم حسرة وتأسف، وكآبة وتلهف، يوم ليس كالأيام، وموقف ضنك المقام. (18) خطبة لهارون الرشيد
كان هارون الرشيد خامس الخلفاء العباسيين وكان «يبكي على نفسه وعلى إسرافه وذنوبه» و «له مناقب لا تحصى ومحاسن لا تستقصى وله أخبار في اللهو واللذات، سامحه الله.»
قال النهرواني: «اعلم أن مما يتحققه العاقل أن الدنيا دار الأكدار وأن أخف الخلق بلاء وألما الفقراء، وأعظم الناس تعبا وهما وغما هم الملوك والأمراء ... إن هارون الرشيد من أعقل الخلفاء العباسيين وأكملهم رأيا وتدبيرا وفطنة وقوة واتساع مملكة وكثرة خزائن بحيث كان يقول للسحابة: أمطري حيث شئت فإن خراج الأرض التي تمطرين فيها يجيء إلي، وكان مع ذلك أتعبهم خاطرا وأشغلهم قلبا.»
ولي الرشيد سنة 170 وتوفي سنة 193ه (786-809م).
وهذه إحدى خطبه:
الحمد لله الذي نحمده على نعمه، ونستعينه على طاعته، ونستنصره على أعدائه، ونؤمن به حقا ونتوكل عليه مفوضين إليه. أوصيكم عباد الله بتقوى الله، فإن في التقوى تكفير السيئات، وتضعيف الحسنات، وفوزا بالجنة ونجاة من النار. وأحذركم يوما تشخص فيه الأبصار، وتبلى فيه الأسرار، يوم البعث ويوم التغابن ويوم التلاقي ويوم التنادي، يوم لا يستعتب من سيئة ولا يزداد في حسنة. يوم الآزفة، إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين، ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع، يعلم خافية الأعين وما تخفي الصدور ... فاتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله، ثم توفى كل نفس ما كسبت. حصنوا أيمانكم بالأمانة ودينكم بالورع وصلاتكم بالزكاة ... وإياكم والأماني فقد غرت وأوردت وأوبقت كثيرا حتى أكذبتهم مناياهم، فتناوشوا التوبة من مكان بعيد، وحيل بينهم وبين ما يشتهون، فرغب ربكم عن الأمثال والوعد وقدم إليكم الوعيد، وقد رأيتم وقائعه بالقرون الخوالي جيلا فجيلا، وعهدتم الآباء والأبناء والأحبة والعشائر باختطاف الموت إياهم من بيوتكم ومن بين أظهركم لا تدفعون عنهم ولا تحولون دونهم، فزالت عنهم الدنيا وانقطعت بهم الأسباب فأسلمتهم إلى أعمالهم عند المواقف والحساب، ليجزي الذين أساءوا بما عملوا والذين أحسنوا بالحسنى. (19) خطبة للمأمون
قال القاضي صاعد بن أحمد الأندلسي: «... ثم لما أفضت الخلافة فيهم إلى الخليفة السابع عبد الله المأمون بن هارون الرشيد تمم ما بدأ به جده المنصور، فأقبل على طلب العلم في مواضعه، وداخل ملوك الروم صلته بما لديهم من كتب الفلسفة، فبعثوا إليه منها ما حضرهم، فاستجاد لها مهرة التراجمة وكلفهم أحكام ترجمتها، فترجمت له على غاية ما أمكن. ثم حرض الناس على قراءتها ورغبهم في تعليمها، فكان يخلو بالحكماء ويأنس بمناظرتهم ويلتذ بمذاكرتهم، علما منه أن أهل العلم هم صفوة الله من خلقه ونخبته من عباده.»
بويع له بالخلافة في سنة 198ه وتوفي في بعض غزواته 218ه (813-833م).
وهذه إحدى خطبه ألقاها في الفطر: ... ألا وإن يومكم هذا يوم عيد وسنة وابتهال ورغبة، يوم ختم به الله صيام شهر رمضان وافتتح به حج بيته الحرام، فجعله أول أيام شهور الحج وجعله معقبا لمفروض صيامكم ومتقبل قيامكم. فاطلبوا إلى الله حوائجكم واستغفروه لتفريطكم، فإنه يقال: لا كثير مع ندم واستغفار، ولا قليل مع تماد وإصرار ... اتقوا الله عباد الله وبادروا الأمر الذي لم يحضر الشك فيه أحدا منكم، وهو الموت المكتوب عليكم، فإنه لا يستقال بعده عثرة ولا تحظر قبله توبة. واعلموا أنه لا شيء بعده إلا فوقه ولا يعين على جرعه وعكره وكربه وعلى القبر وظلمته ووحشته وضيقه وهول مطلعه ومسألة ملكيه إلا العمل الصالح الذي أمر الله به. فمن زلت عند الموت قدمه فقد ظهرت ندامته، وفاتته استقامته، ودعا من الرجعة ما لا يجاب إليه وبذل من الفدية ما لا يقبل منه. فالله الله عباد الله! كونوا قوما سألوا الرجعة فأعطوها إذ منعها الذين طلبوها، فإنه ليس يتمنى المتقدمون قبلكم إلا هذا الأجل المبسوط لكم. فاحذروا ما حذركم الله منه، واتقوا اليوم الذي يجمعكم الله فيه، لوضع موازينكم ونشر صحفكم الحافظة لأعمالكم، فلينظر عبد ما يضع في ميزانه مما يثقل به ومما يملى في صحيفته الحافظة لما عليه ... ولست أنهاكم عن الدنيا بأكثر مما نهتكم به الدنيا عن نفسها، فإن كل ما بها يحذر منها وينهى عنها، وكل ما فيها يدعو إلى غيرها . وأعظم ما رأته أعينكم من فجائعها وزوالها ذم الله لها والنهي عنها، فإنه يقول تبارك وتعالى: فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور، وقال: إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد. فانتفعوا بمعرفتكم بها وبإخبار الله عنها، واعلموا أن قوما من عباد الله أدركتهم عصمة الله، فحذروا مصارعها وجانبوا خدائعها، وآثروا طاعة الله فيها وأدركوا الجنة بما يتركون منها. (20) خطبة فخر الدين بن لقمان
لما بويع بالخلافة للمستنصر بالله الخليفة العباسي المولود سنة 588 والمتوفى سنة 640ه (1193-1242م) صعد فخر الدين بن لقمان رئيس الكتاب منبرا فقرأ على الملك الظاهر تقليده السلطاني، وكان هذا التقليد من إنشائه.
ومن هذا التقليد يرى القارئ أن الخلافة صارت وظيفة دينية، فكان الظاهر يمثل الحكومة والمستنصر يمثل الخلافة. وإذا كان الظاهر قد حصل على سند شرعي لحكومته من المستنصر فإن هذا أيضا قد حصل على القوة التي يدعم بها خلافته من الظاهر. وقد كانت الخلافة العباسية أوشكت على الزوال فأحياها الظاهر واستقدم الخليفة إليه في مصر. ويكاد الإنسان يلمح ارتباكا من الخطيب في تمييزه بينهما ومعرفة التابع والمتبوع منهما. وفخر الدين هذا هو الذي اعتقل في بيته في المنصورة ملك الفرنسيين لويس التاسع، قال ابن لقمان:
الحمد لله الذي أضفى على الإسلام ملابس الشرف، وأظهر بهجة دره وكانت خافية بما استحكم عليها من الصدف، وشيد ما وهى من علائه حتى أنسى به ذكر من سلف، وقيض لنصره ملوكا اتفق عليهم من اختلف. أحمده على نعمه التي وقعت الأعين منها في الروض الأنف، وألطافه التي وقف الشاكر عليها فليس له عنها منصرف.
وبعد، فإن أولى الأولياء بتقديم ذكره، وأحقهم أن يصبح القلم راكعا وساجدا لتسطير مناقبه وبره، من سعى فأضحى سعيه للحمد متقدما، ودعا إلى طاعته فأجاب من كان منجدا ومتهما، وما بدت يد في المكرمات إلا كان لها زندا ومعصما، ولا استباح بسيفه حمى وغى، إلا أضرم منه نارا وأجرى دما. ولما كانت هذه المناقب الشريفة مختصة بالمقام العالي المولوي السلطاني الملكي الظاهري الركني شرفه الله وأعلاه، ذكره الديوان العزيز المستنصري - أعز الله سلطانه - تنويها بشريف قدره، واعترافا بصنيعه الذي تنفد العبارة المسهبة ولا تقوم بشكره. وكيف لا وقد أقام الدولة العباسية بعد أن أقعدتها زمانة الزمان. وأذهبت ما كان لها من محاسن وإحسان، وعتب دهرها المسيء لها فأعتب، وأرضى عنها زمنها وقد كان صال عليها صولة مغضب، فأعاد لها سلما بعد أن كان عليها حربا، وصرف إليها اهتمامه فرجع كل متضايق من أمورها واسعا رحبا. ومنح أمير المؤمنين عند القدوم عليه حنوا وعطفا، وأظهر من الولاء رغبة في ثواب الله ما لا يخفى، وأبدى من الاهتمام بأمر الشريعة والبيعة أمرا لو رامه غيره لامتنع عليه، ولو تمسك بحبله متمسك لانقطع به قبل وصوله إليه، ولكن الله ادخر هذه الحسنة ليثقل بها ميزان ثوابه، ويخفف بها يوم القيامة حسابه. والسعيد من خفف من حسابه. فهذه منقبة أبى الله إلا أن يخلدها في صحيفة صنعه، ومكرمة تضمنت لهذا البيت الشريف لجمعه، بعد أن حصل الإياس من جمعه. وأمير المؤمنين يشكر لك هذه الصنائع، ويعترف أنه لولا اهتمامك لاتسع الخرق على الراقع. وقد قلدك الديار المصرية والبلاد الشامية، والديار البكرية والحجازية واليمنية والفراتية، وما يتجدد من الفتوحات غورا ونجدا، وفوض أمر جندها ورعاياها إليك حتى أصبحت بالمكارم فردا، ولا جعل منها بلدا من البلاد ولا حصنا من الحصون يستثنى، ولا جهة من الجهات تعد في الأعلى ولا في الأدنى. فلاحظ أمور الأمة فقد أصبحت لها حاملا، وخلص نفسك من التبعات اليوم ففي غد تكون مسئولا لا سائلا، ودع الاغترار بأمر الدنيا فما نال أحد منها طائلا، وما رآها أحد بعين الحق إلا رآها حائلا زائلا، فالسعيد من قطع منها آماله الموصولة، وقدم لنفسه زاد التقوى فتقدمة غير التقوى مردودة لا مقبولة. وابسط يدك بالإحسان والعدل فقد أمر الله بالعدل وحث على الإحسان، وكفر به عن المرء ذنوبا كتبت عليه وآثاما، وجعل يوما واحدا منها كعبادة العابد ستين عاما، وما سلك أحد سبيل العدل إلا واجتنى ثماره من الأفنان، ورجع الأمر بعد تداعي أركانه وهو مشيد الأركان، وتحصن به حوادث زمانه، والسعيد من تحصن من حوادث الزمان، وكانت أيامه في الأيام أبهى من الأعياد، وأحلى من العقود إذا حلى بها عاطل الأجياد، وهذه الأقاليم المنوطة بك تحتاج إلى نواب وحكام، وأصحاب رأي من أصحاب السيوف والأقلام، فإذا استعنت بأحد منهم في أمورك فنقب عليه تنقيبا، واسأل عن أحواله ففي يوم القيامة تكون عنه مسئولا وبما اجترم مطلوبا، ولا تول منهم إلا من تكون مساعيه حسنات لك لا ذنوبا، وأمرهم بالأناة في الأمور والرفق، ومخالفة الهوى إذا ظهرت أدلة الحق، وأن يقابلوا الضعفاء في حوائجهم بالثغر الباسم والوجه الطلق، وألا يعاملوا أحدا على الإحسان والإساءة إلا بما يستحق، وأن يكونوا لمن تحت أيديهم من الرعايا إخوانا، وأن يوسعوهم برا وإحسانا، وأن لا يستحلوا حرماتهم إذا استحل الزمان لهم حرمانا، فالمسلم أخو المسلم ولو كان أميرا عليه وسلطانا. والسعيد من نسج ولاته في الخير على منواله، واستسنوا بسنته في تصرفاته وأحواله، وتحملوا عنه ما تعجز قدرته عن حمل أثقاله. ومما يؤمر به أن يمحو ما أحدث من سيئ السنن، وجدد من المظالم التي هي من أعظم المحن، وأن يشتري بأبطالها المحامد رخيصة بأغلى ثمن، ومهما جبي بها من الأموال فإنما هي باقية في الذمم حاصلة، وأجياد الخزائن وإن أضحت بها خالية فإنما هي على الحقيقة منها عاطلة. وهل أشقى ممن احتقب إثما، واكتسب بالمساعي الذميمة ذما، وجعل السواد الأعظم له يوم القيامة خصما، وتحمل ظلم الناس في ما صدر عنه من أعماله وقد خاب من حمل ظلما؟! وحقيق بالمقام الشريف المولوي السلطاني الملكي الظاهري الركني أن تكون ظلامات الأنام مردودة بعدله، وعزائمه تخفف ثقلا لا طاقة له بحمله، فقد أضحى على الإحسان قائدا ، وصنعت له الأيام ما لم تصنعه لغيره ممن تقدم من الملوك إن جاء آخرا، فاحمد الله على أن وصل إلى جانبك إمام هدى أوجب لك مزية التعظيم، ونبه الخلائق على ما أفضل الله به من هذا الفضل العظيم، وهذه أمور يجب أن تلاحظ وترعى، وأن يوالى عليها حمد الله، فإن الحمد يجب عليها عقلا وشرعا، وقد تبين أنك صرت في الأمور أصلا وصار غيرك فرعا. ومما يجب أيضا تقديم ذكره أمر الجهاد الذي أضحى على الأمة فرضا، وهو العمل الذي يرجع به مسود الصحائف مبيضا، وقد وعد الله المجاهدين بالأجر العظيم، وأعد لهم عنده المقام الكريم. وبك صان الله حمى الإسلام من أن يبتذل، وبعزمك حفظ على المسلمين نظام هذه الدول، وسيفك أثر في قلوب الكافرين قروحا لا تندمل، وبك يرجى أن يرجع من الخلافة ما كان عليه في الأيام الأول، فأيقظ لنصرة الإسلام جفنا ما كان غافيا ولا هاجعا. وكن في مجاهدة أعداء الله إماما متبوعا لا تابعا. هداك الله إلى مناهج الحق وما زلت مهتديا إليها وألزمك المراشد ولا تحتاج إلى تنبيه عليها، والله ممدك بأسباب نصره، ويوزعك شكر نعمه، فإن النعمة تستتم بشكره. (21) خطبة ابن الزكي
لما فتح صلاح الدين الأيوبي بيت المقدس في سنة 583ه (1189م) وكان قد مضى عليها نحو قرن وهي في أيدي الأوروبيين اهتز العالم الإسلامي بأجمعه، ورحل كثير من العلماء وذوي الوجاهة في البلاد الإسلامية لرؤية الاحتفال بفتحها ودخولها في طاعة صلاح الدين.
واختار صلاح الدين لخطبة يوم الجمعة الأول من فتح المدينة القاضي محيي الدين محمد بن علي المعروف بابن الزكي فارتقى المنبر وألقى هذه الخطبة التاريخية بين حشد من مسلمي جميع الأقطار العربية (وكانت ولادته في 550 ووفاته في 598ه بدمشق). ونحن ننشر هذه الخطبة على غلو صاحبها في التعصب لكي يدرك القارئ منها ذهنية الناس في ذلك العهد وكيف كانوا يتطاحنون من أجل الدين - والدين لا يدعو إلا إلى التسامح - قال:
الحمد لله معز الإسلام بنصره، ومذل الشرك بقهره، ومصرف الأمور بأمره، ومديم النعم بشكره، ومستدرج الكفار بمكره، الذي قدر الأيام دولا بعدله، وجعل العاقبة بفضله، وأفاء على عباده من ظله، وأظهر دينه على الدين كله، القاهر فوق عباده فلا يمانع، والظاهر على خليقته فلا ينازع ، والآمر بما يشاء فلا يراجع، والحاكم بما يريد فما يدافع. أحمده على إظفاره وإظهاره وإعزازه لأوليائه، ونصره لأنصاره، وتطهير بيته المقدس من أدناس الشرك وأوضاره، حمد من استشعر الحمد باطن سره وظاهر جهاره. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، لا شريك له الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، شهادة من طهر بالتوحيد قلبه، وأرضى به ربه. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، رافع الشك ومدحض الشرك وماحق الإفك، الذي أسرى به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وعرج به منه إلى السموات العلى إلى سدرة المنتهى، عندها جنة المأوى ما زاغ البصر وما طغى. صلى الله عليه وعلى خليفته أبي بكر الصديق السابق إلى الإيمان، وعلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أول من رفع عن هذا البيت شعار الصلبان، وعلى أمير المؤمنين عثمان بن عفان ذي النورين جامع القرآن، وعلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب مزلزل الشرك ومكسر الأوثان وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان. أيها الناس، أبشروا برضوان الله الذي هو الغاية القصوى والدرجة العليا لما يسره الله على أيديكم من استرداد هذه الضالة من الأمة الضالة، وردها إلى مقرها من الإسلام، بعد ابتذالها في أيدي المشركين قريبا من مائة عام، وتطهير هذا البيت الذي أذن الله أن يرفع ويذكر فيه اسمه، وإماطة الشرك عن طرفه، بعد أن امتد عليها رواقه واستقر فيها رسمه، ورفع قواعده بالتوحيد، فإنه بنى عليه وشيد بنيانه بالتمجيد، فإنه أسس على التقوى من خلفه ومن بين يديه، فهو موطن أبيكم إبراهيم، ومعراج نبيكم محمد عليه السلام وقبلتكم التي كنتم تصلون إليها في ابتداء الإسلام، وهو مقر الأنبياء ومقصد الأولياء ومدفن الرسل ومهبط الوحي، ومنزل به ينزل الأمر والنهي، وهو في أرض المحشر وصعيد المنشر، وهو في الأرض المقدسة التي ذكرها الله في كتابه المبين، وهو المسجد الذي صلى فيه رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بالملائكة المقربين، وهو البلد الذي بعث إليه الله عبده ورسوله وكلمته التي ألقاها إلى مريم، وروحه عيسى الذي كرمه برسالته، وشرفه بنبوته ولم يزحزحه عن رتبة عبوديته، فقال تعالى
لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون . كذب العادلون بالله وضلوا ضلالا بعيدا، ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذن لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض، سبحان الله عما يصفون، لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم (إلى آخر الآيات من المائدة). وهو أول القبلتين وثاني المسجدين وثالث الحرمين، لا تشد الرحال بعد المسجدين إلا إليه، ولا تعقد الخناصر بعد الموطنين إلا عليه، فلولا أنكم ممن اختاره الله من عباده، واصطفاه من سكان بلاده، لما خصكم بهذه الفضيلة التي لا يجاريكم فيها مجار، ولا يباريكم في شرفها مبار، فطوبى لكم من جيش ظهرت على أيديكم من المعجزات النبوية والوقعات البدرية والعزمات الصديقية والفتوحات العمرية والجيوش العثمانية والفتكات العلوية ما جددتم به للإسلام أيام القادسية والملاحم اليرموكية والمنازلات الخيبرية والهجمات الخالدية، فجزاكم الله عن نبيه محمد
صلى الله عليه وسلم
أفضل الجزاء، وشكر لكم ما بذلتموه من مهجكم في مقارعة الأعداء، وتقبل منكم ما تقربتم به إليه من إهراق الدماء، وأثابكم الجنة فهي دار السعداء، فاقدروا رحمكم الله هذه النعمة حق قدرها، وقوموا لله تعالى بواجب شكرها فله المنة عليكم بتخصيصكم لهذه النعمة وترشيحكم لهذه الخدمة، فهذا هو الفتح الذي فتحت له أبواب السماء، وتبلجت بأنواره وجوه الظلماء، وابتهج به الملائكة المقربون، وقرت به عيون الأنبياء والمرسلين، فمن عليكم من النعمة بأن جعلكم الجيش الذي يفتح على يديه بيت المقدس في آخر الزمان، والجند الذي يقوم بسيوفهم بعد فترة من النبوة أعلام الإيمان، فيوشك أن يفتح الله على أيديكم أمثاله، وأن تكون التهاني لأهل الخضراء أكثر من التهاني لأهل الغبراء. أليس هو البيت الذي ذكره الله في كتابه، ونص عليه في محكم خطابه، فقال تعالى
سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ؟ أليس هو البيت الذي عظمته الملل، وأثنت عليه الرسل، وتليت فيه الكتب الأربعة المنزلة من الله عز وجل؟ أليس هو البيت الذي أمسك الله تعالى لأجله الشمس على يوشع أن تغرب، وباعد بين خطواتها ليتيسر فتحه ويقرب، أليس هو البيت الذي أمر الله عز وجل موسى أن يأمر قومه باستنقاذه، فلم يجبه إلا رجلان، وغضب الله عليهم لأجله فألقاهم في التيه عقوبة للعصيان، فاحمدوا الله الذي أمضى عزائمكم لما نكلت عنه بنو إسرائيل، وقد فضلت على العاملين، ووفقكم لما خذل فيه أمم كانت قبلكم من الأمم الماضين، وجمع لأجله كلمتكم وكانت شتى، وأغناكم بما أمضته كان وقد عن سوف وحتى، فليهنكم أن الله قد ذكركم به فيمن عنده، وجعلكم بعد أن كنتم جنودا لأهويتكم جنده. وشكر لكم الملائكة المنزلون على ما أهديتم لهذا البيت من طيب التوحيد ونشر التقديس والتمجيد، وما أمطتم عن طرقهم فيه من أذى الشرك والتثليث والاعتقاد الفاجر الخبيث. فالآن تستغفر لكم أملاك السموات، وتصلي عليكم الصلوات المباركات. فاحفظوا رحمكم الله هذه الموهبة فيكم، واحرسوا هذه النعمة عندكم، بتقوى الله التي من تمسك بها سلم، ومن اعتصم بعروتها نجا وعصم، واحذروا من اتباع الهوى ومواقعة الردى، ورجوع القهقرى والنكول عن العدا. وخذوا في انتهاز الفرصة وإزالة ما بقى من الغصة، وجاهدوا في الله حق جهاده، وبيعوا عباد الله أنفسكم في رضاه؛ إذ جعلكم من خير عباده. وإياكم أن يستزلكم الشيطان، أو يتداخلكم الطغيان فيخيل لكم أن هذا النصر بسيوفكم الحداد وخيولكم الجياد وبجلادكم في مواطن الجلاد، لا والله ما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم، فاحذروا عباد الله بعد أن شرفكم بهذا الفتح الجليل والمنح الجزيل، وخصكم بنصره المبين، وأعلق أيديكم بحبله المتين، أن تقترفوا كبيرا من مناهيه وأن تأتوا عظيما من معاصيه، فتكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا، وكالذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها، فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين. والجهاد، الجهاد، فهو من أفضل عباداتكم وأشرف عاداتكم، انصروا الله ينصركم، احفظوا الله يحفظكم، اذكروا الله يذكركم، اشكروا الله يزدكم ويشكركم، جدوا في حسم الداء وقلع شأفة الأعداء، وطهروا بقية الأرض من هذه الأنجاس التي أغضبت الله ورسوله، واقطعوا فروع الكفر واجتثوا أصوله، فقد نادت الأيام بالثارات الإسلامية والملة المحمدية، الله أكبر، فتح الله ونصر، غلب الله وقهر، أذل الله من كفر. واعلموا رحمكم الله أن هذه فرصة فانتهزوها، وفريسة فناجزوها، وغنيمة فحوزوها، ومهمة فاخرجوا لها هممكم وأبرزوها وسيروا إليها سرايا عزماتكم وجهزوها، فالأمور بأواخرها، والمكاسب بذخائرها، فقد أظفركم الله بهذا العدو المخذول، وهم مثلكم أو يزيدون، فكيف وقد أضحى قبالة الواحد منهم منكم عشرون؟ وقد قال الله تعالى
إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون . أعاننا الله وإياكم على اتباع أوامره والازدجار بزواجره، وأيدنا معاشر المسلمين بنصر من عنده، إن ينصركم الله فلا غالب لكم، وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده. إن أشرف مقال يقال في مقام، وأنفذ سهام تمرق عن قسي الكلام، وأمضى قول تجل به الأفهام، كلام الواحد الفرد العزيز العلام، قال الله تعالى:
وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون (ثم قرأ سورة الحشر)، ثم قال:
اللهم وأدم سلطان عبدك الخاضع لهيبتك، الشاكر لنعمتك، المعترف بموهبتك، سيفك القاطع وشهابك اللامع، والمحامي عن دينك المدافع، والذاب عن حرمك الممانع، السيد الأجل الملك الناصر، جامع كلمة الإيمان، وقامع عبدة الصلبان، صلاح الدنيا والدين، سلطان الإسلام والمسلمين، مطهر البيت المقدس، أبي المظفر يوسف بن أيوب محيي دولة أمير المؤمنين. اللهم عم بدولته البسيطة، واجعل ملائكتك براياته محيطة، وأحسن عن الدين الحنيفي جزاءه، واشكر عن الملة المحمدية عزمه ومضاءه. اللهم أبق الإسلام مهجته، وق للإيمان حوزته، وانشر في المشارق والمغارب دعوته، اللهم كما فتحت على يديه البيت المقدس ، بعد أن ظنت الظنون وابتلي المؤمنون، فافتح على يديه داني الأرض وقاصيها، وملكه صياصي الكفر ونواصيها، فلا تلقاه منهم كتيبة إلا مزقها، ولا جماعة إلا فرقها، ولا طائفة بعد طائفة إلا ألحقها بمن سبقتها.
اللهم اشكر عن محمد
صلى الله عليه وسلم
سعيه، وأنفذ في المشارق والمغارب أمره ونهيه، اللهم وأصلح به أوساط الناس وأطرافها وأرجاء المملكة وأكنافها. اللهم ذلل به معاطس الكفار، وأرغم به أنوف الفجار، وانشر ذوائب ملكه على الأمصار، وأثبت سرايا جنوده في سبل الأقطار. اللهم أثبت الملك فيه وفي عقبه إلى يوم الدين، واحفظه في بنيه وبني أبيه الملوك الميامين، واشدد عضده ببقائهم، واقض بإعزاز أوليائه وأوليائهم. اللهم كما أجريت على يده في الإسلام هذه الحسنة، التي تبقى على الأيام، وتتخلد على مر الشهور والأعوام، فارزقه الملك الأبدي الذي لا ينفد في دار المتقين، وأجب دعاءه في قوله:
رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين . ا.ه. (22) خطبة لأديب إسحاق
ولد أديب إسحاق في سنة 1856 وتوفي في سنة 1885 فلم يكد يبلغ الثلاثين من العمر، «ومن أحبته الآلهة مات صغيرا.» ومن يقرأ مخلفاته الأدبية يجد أنه لم يكن يعيش ببطء وإنما كان يسرع في العيش كأنه كان يحس بقصر عمره فكان يقتني من التجارب الذهنية - وهي كل ثروة الأديب - في العام الواحد ما لا يستطيع غيره أن يقتنيه في أعوام.
قال عنه الشيخ إسكندر إلعازار صديقه يصفه أنه كان «راية في علم اللسان وآية في صناعة البيان وغاية في حب الإنسان، وكان فتى لا كالفتيان، جريئا في الحق ما أخذته فيه لومة لائم وما رهب فيه وعيدا ... عاش حر الضمير فكرا وقولا وعملا، ومات حر الضمير فكرا وقولا وعملا، نشأ وطنيا خالصا صحيحا وعاش جنديا لأشرف الأصول وأسمى الغايات، وأنفق في خدمتها من روحه ما كان ينفخ في القلم من الروح ... كان زهرة الأدب في الشام وريحانة العرب في مصر، وكان للوطنية نصيرا وبالإنسانية بشيرا ولأعدائها نذيرا.»
وقد ألقى الخطبة التالية في جمعية زهرة الآداب وموضوعها التعصب والتساهل، قال:
لقد جرى لفظ التعصب على ألسنة أهل الإنشاء العربي بمعنى الغلو في الدين والرأي إلى حد التحامل على من خالفهما بشيء فيما يدين وما يرى، وأجريت ها هنا لفظ التساهل بمعنى الاعتدال في المذهب والمعتقد على ضد ذلك الغلو متابعة للإفرنج في لفظهم المعبر عن هذا القصد (توليرانس).
ولا أجهل أن هذين الحرفين - لفظ التعصب ولفظ التساهل - غير وافيين بالمراد منهما اصطلاحا وأن في إيلاء الأول معنى الغلو في الدين والرأي توسعا عظيما، وفي إشراب الثاني ضد ذلك المعنى خروجا عن الحد اللغوي. ولكن للاصطلاح حكما نافذا يسوق الألفاظ إلى المعنى الغريب فتنقاد، فإذا مرت عليها الأيام، وصقلتها الألسنة والأقلام، جاءت منطبقة عليه بلا إلهام ولا إيهام.
وحد التعصب عند أهل الحكمة العصرية غلو المرء في اعتقاد الصحة بما يراه، وإغراقه في استنكار ما يكون على ضد ذلك الرأي حتى يحمله الإغراق والغلو على اقتياد الناس لرأيه بقوة ومنعهم من إظهار ما يعتقدون ذهابا مع الهوى في ادعاء الكمال لنفسه وإثبات النقص لمخالفيه من سائر الخلق.
وحد التساهل عندهم رضا المرء برأيه اعتقاد الصحة فيه واحترامه لرأي الغير كائنا ما كان رجوعا إلى معاملة الناس بما يريد أن يعاملوه فهو على إثباته الصواب لما يراه لا يقطع بلزوم الخطأ في رأي سواه، وعلى رغبته في تطرق رأيه للأذهان، لا يمنع الناس من إظهار ما يعتقدون.
فمن تبين هذين الحدين وكان بصيرا سليم العقل طليق الذهن من إسار الوهم حار لا شك في كثرة ما يراه من أهل التعصب على قلة من يمر به من المتساهلين. وعجب وحق له العجب من بني نوعه كيف يداخلهم التعصب فيما يعتقدون وما يرون، وقد عجزت أفهامهم عن إدراك الكثير من أسرار هذا الوجود، وقام لهم في كل حركة وكل سكنة من أفكارهم دليل على امتناع الكمال على الإنسان وكان لهم في تعصب الأولين عبرة لو كانوا يعتبرون!
ألم يروا كيف تعاقبت المذاهب وتوالت الآراء، وتتابعت قضايا العلوم الإنسانية معدودة في عصورها من الحقائق وفيما يلي تلك العصور من الأوهام. ولا أذكر العقائد الدينية متسلسلة من بوذا إلى زرادشت إلى كونفوشيوس إلى سائر دعاة الدين كراهة أن يتوهم في قصدها بالذات، بل حسبي الإشارة إلى تعاقب الوهم والحقيقة والخطأ والصواب في قضايا العلم عبرة للمتعصبين.
ألم يكن القول بسكون هاته الأرض قضية مسلمة، وبدوران الشمس من حولها حقيقة معلومة، وبانقسام البسيطة سبعة أقاليم علما يقينا؟ أولم يكن طب أبقراط إلهاما، وفلسفة أرستطاليس كشفا، وتعبير ابن سيرين حقا؟ فماذا تقول عن الذين تعصبوا لهاته الأوهام على من كان في ريب منها فألزموه الصمت والخسف، وعاملوه بالشدة والعنف؛ حرصا على ما يتوهمون من الحق والحق بريء منهم لو يعلمون؟
ولقد رجعت إلى المحفوظ من أخبار الأمم حتى بلغت الحد الذي يدخل التاريخ منه في ظلمات الريب والخفاء، فما مر بي جيل من الناس، ولا حقبة من الزمان، إلا رأيت من آثار التعصب في الدين والرأي ما ينقبض له الصدر استنكافا، وتثور منه النفس استنكارا، ثم عدت إلى الفطرة الإنسانية لاستكشاف العواطف الطبيعية، فرأيت فيها من السذاجة والسلامة ما ينطبق على حكم التساهل من كل الوجوه، فعلمت أن التعصب على قدم وجوده حادث طارئ على الإنسان، تولد عن مفاسد الرياسة في الجماعات، وتأصل بالعادة والتقليد حتى صار في النفوس من الملكات، يظهر ذلك لمن تدبر قدم التعصب في جنب خروجه عن الطباع، ويعلمه من تأمل أحوال الرياسة في صدور هيئات الاجتماع.
ولعلي أوجزت وأجملت والأمر محتاج إلى الإيضاح والتفصيل، فأقول:
قد اجتمعت آراء المفكرين على أن الرياسة قد حصلت بدأة بدء للمتمولين أو الأقوياء، وفي الحالين لم يأمن الرؤساء على سطوتهم أن تزول بفقد الثروة أو انحطاط القوة، فالتمس النبهاء منهم تأييدها بما لا تؤثر فيه النوازل ولا يضعفه كرور الأيام، فوضعوا للجماعات أحكاما، كل رئيس وما توهم فيه المصلحة أو ما رأى ميل قومه إليه، فرضي كل أناس مشربهم، وقالوا هذا هو الحق الذي لا ريب فيه، وقال غيرهم من الأقوال: بل الحق ما نحن عليه فأنتم في ضلال مبين، فوقعت بينهم الإحن، وشبت أعقابهم على العداوات، حتى قويت روابط الأوهام، فتقطعت صلات الأرحام، فصار من الفضيلة أن يقتل الإنسان أخاه إن خالفه فيما يراه. وامتلأت رءوس الخلق عنادا، فملئوا الأرض فسادا، فعدت المظالم عدلا وسميت المذابح جهادا.
ولا أحاول استيعاب المفاسد والنوائب التي نشأت عن التعصب في الدين والرأي، فذلك تاريخ الحروب والفتن والغارات والمهاجرات من صدر الاجتماع الإنساني إلى الماية السالفة في بلاد الغرب وإلى هذه الأيام في بلاد الشرق. بل الغرب على انتشار العلوم فيه وحصول الحرية لأكثر ساكنيه لم يخل إلى الآن من آثار ذلك الداء العياء.
نعم، لا نرى فيه الآن أفرادا وجماعات من الناس يذوقون ألوان العذاب ثم يقتلون صبرا شهداء ما يعبدون كما وقع لأهل النصرانية في دولة الرومان، ولا نجد ألوفا من السكان المستأمنين يخرجون من أرضهم بالقوة أو تهدر دماؤهم لاستمساكهم بما كان يعبد آباؤهم كما جرى لليهود في إسبانيا، ولا نبصر ديوان عقاب ونقمة يحكم بالتشهير والحرق والتعذيب والموت على من اتهم بالشك في رواية المجاذيب عن بعض النساء عن بعض الأطفال كما كان ديوان التفتيش في كثير من ممالك الإفرنج، ولا نلقى مئات ألوف من نبهاء الخلق الأمناء الصادقين يبيتون في منازلهم ويؤخذون بالسيف تقتيلا لمجرد أنهم يفهمون من آي الكتاب خلاف ما يفهم غيرهم من الناس كما حل بالبروتستانت عام 1572 في بلاد الفرنسيس، ولا نجد أيضا جماعات من الخلق لا يستطيعون النطق بما يعتقدون ولا الظهور بما يعبدون، ولا أفرادا من الجماعة يعاقبون بالسجن أو التبعيد لأنهم يأكلون ألبان حيوانهم، في زوايا أكواخهم، يوم يأكل ساداتهم ألوان الأسماك الشهية، ويشربون معتقة الخمور في غرف القصور.
نعم، لا نرى كل ذلك في الغرب الآن ولا نكاد نبصره في الكثير من أقطاره مأخوذا بما أوضح من رأيه وما أشاع من مذهبه وإن خالف رأي الأكثرين. ولكن هذا التساهل في الهيئات، أرسخ منه في الأفراد إلا الذين تطهروا من أدران التقليد وسلموا من علل الأوهام، وغالبوا الملكات الحاصلة عن العادات وترفعوا إلى مقام السذاجة الأعلى وقليل من هم.
وإلا فما هذا الذي نراه من التحامل على بقايا آل إسرائيل في بلاد الروس والألمان؟ وما ذلك الذي مر بنا من مظاهر الإحن بين الكاثوليك وغيرهم في تلك البلاد؟ وماذا الذي نسمع به الآن من الخلاف والشقاق بين الشيع المتباينة في فرنسا وإيطاليا وبلجيكا وغيرها من أعرق البلاد في التساهل والحرية؟
ألا أقص عليكم إخواني شيئا مما تبين من محاكمة المتهمين بالفتنة التي جرت منذ شهرين في بلدة منسوليمين بوطن الفرنسيس: تبين من تلك المحاكمة أن أصحاب المعدن في تلك البلدة (والبلدة عبارة عن المعدن والعاملين فيه) كانوا إذا رأوا من أحد الفعلة فتورا في العبادة، أو ضعفا في العقيدة التي يعتقدون، ضربوا عليه الغرامة أجرة يوم أو يومين وما فوق، وإذا ظهر عليه انحلال العقيدة طردوه من المعمل رأسا؛ أي حكموا عليه بالفاقة وعلى عياله بالجوع، وإذا مات ذلك المنحل العقيدة فشيعه صاحب له من رفقاء أتعابه إلى القبر، عاقبوا المشيع بمثل هذا العقاب وهم هم في البلد الذي افتدى أهله بدمائهم حرية السعي وحرية الرأي وحرية القول، فما الظن بغيرهم من أهل سائر الأقطار؟ وما الظن بنا نحن الذين كان من نعم الله علينا أن وجدت بلادنا المقدسة مهبطا للوحي ومقاما للعقائد الدينية من عهد موسى صلوات الله عليه إلى هذه الأيام؟
بل ما الظن بنا ونحن أحرص الناس على تعاليم السلف الكرام فيما لا يمس جانب النفع الأدبي ولا يتصل بطرف الفائدة الحسية، حتى إن معارف علمائنا في هذه الحقبة لتشاكل بالحرف معارف آبائهم من ثلاثمائة عام وتنحط بالضعف عما كانت عليه معارفهم من ألف عام؟ وما الظن بنا ومثلي متكلما بهذا الموضوع في مثل هاته الجمعية الزاهرة، يخاف معاذ الله ألا يجد لديكم استحسانا؟ لا جرم أنا أسعد خلق الله في أسعد بلاد الله، فالحمد لله ثم الحمد لله.
وقد سبق القول في حد التساهل أنه رضا المرء برأيه اعتقاد الصحة فيه مع احترامه لرأي سواه، وهذا وإن كان من الواجبات البديهية، والقضايا المسلمة عند ذوي العرفان، إلا أنه لسوء الحظ كغيره من سائر الواجبات ترشد الحكمة إليه ، ولكن تغلب الشهوة عليه، حتى لا يكاد يوجد في الإنسان إلا عند العجز عن مجاوزة حده، لمجاوزة ضده، فهو كالحرية يشتاقها الإنسان مرءوسا، وينكرها رئيسا، وكالزهادة يقبلها سقيما وينبذها معافى سليما، فلا يثبت على تغير الأحوال إلا عند ذوي النفوس الكريمة والطباع القويمة وما هم بكثير.
فلكم رأينا من فئة مستضعفين يطلبون التساهل ويدعون إليه بكل لسان يثبتون له الوجود من كل الوجوه، فلما أن قامت دولتهم، وقويت شوكتهم، وصار إليهم الأمر والقوة، كانوا من الغلاة المتعصبين. وهذه تواريخ العقائد الدينية والمذاهب الفلسفية والطرائق السياسية فيما تعاقب عليها من القوة والضعف والقبول والرفض شاهدة بصحة ما أقول، لا يقف النظر على صفحة منها إلا رأى المتساهل في ضعفه، متعصبا يوم قوته، والمتلاين في حال خسفه، متشددا في دولته؛ ولذلك لم يرض الحكماء من التساهل بأن يكون صادرا من اللسان مراعاة لأحكام الضرورة أو من عاطفة القلب ميلا إلى المعاملة بالإحسان، بل أوجبوا فيه الاعتقاد بتحتمه على الإنسان علما منهم بأنه يكون في الحالة الأولى متعلق الوجود ببقاء تلك الضرورة، والضرورات قابلة الزوال، وفي الحالة الثانية يتوقف البقاء على وجود تلك العاطفة والعواطف لا تستقر على حال. ومثل هذا الواجب الأدبي الحق لا ينبغي أن يناط بهاته الأسباب الواهية، وتلك العرى القريبة الانحلال، وإنما اللازم فيه تقييده بمبدأ متين من الحق، وتأييده بعماد مكين من اليقين، بحيث يعلم مع مخالفيه فيما يظهرون من آرائهم، وما يعلنون من مذاهبهم، أنه لا يفعل ذلك رهبة منهم إن كانوا أقوياء، ولا شفقة عليهم إن كانوا ضعفاء، ولكن قياما بواجب من العدل والحق.
قال أحد كتاب الفرنسيس في هذا الموضوع ما معناه: «وجب التساهل على الإنسان من ثلاث جهات: من جهة نفسه، ومن جهة أبناء جنسه، ومن جهة الحقيقة - والحقيقة هي الله.»
فأما من جهة النفس فلأنه من واجباتنا الأدبية التماس العلم والحكمة في أي وعاء خرجا، وإصلاح ما عسانا أن نكون عليه من الخطأ. وكيف يحصل لنا ذلك إن سددنا أفواه الناطقين ظلما واستبدادا ، ولم نسمع ما يقولون لننظر في أقوالهم، فنتم آراءنا بآرائهم؟ قال فيكتور هيكو:
كل إنسان كتاب
يكتب الله سطوره
ويقول العاجز:
وكذا البحث زناد
قادح للحق نوره
كيف لا وفي أقوال أحقر الناس وآراء أصغر الخلق عبرة وفائدة وعلم جديد للمتأملين!
وأما وجوب التساهل على الإنسان من جهة حق الناس عليه فلأن العدل الموجب للتكافؤ يلزمه بقبول ما يريد أن يقبله الناس منه سواء، ولما كان أول واجباته الأدبية التماس الحق والصواب، وثانيها إيضاح ذلك الحق بالأقوال والأعمال كان من الظلم القبيح أن يمنع غيره من إبداء ما يظنه ذلك الغير صحيحا، ومن العسف المنكر أن يشوش عليه ما يلتمس من الحق بالاغتصاب أو الإرهاب المانعين من التفكير.
وأما وجوب التساهل من الجهة الثالثة جهة الحقيقة الخالصة، فقد أثبته العقل ولم تنفه نصوص الأديان بل أيدته في مواضع لا تعد، قال ترتليانوس الكلامي: «ليس من البر ولا التقوى أن تسلب حرية الناس في أمور الدين، فإن الله - سبحانه وتعالى - منزه عن أن يريد أن يعبد اضطرارا.»
وقال يوستنيانوس القديس: «أشد ما يخالف الدين نكرا أن يحمل الناس عليه قهرا.»
وفي:
لكم دينكم ولي دين
وفي:
وجادلهم بالتي هي أحسن
بلاغ للمتبصرين.
فالذين يلتمسون الزلفى إلى الله بالوعيد والتهويل، والذين لا يريدون أن يعبد إلا كما يريدون، والذين يحاولون رسم آرائهم في القلوب والجباه بالحديد والنار، كل هؤلاء يغضبون الله ويكفرون بالحق ولا يشعرون؛ فإن الحقيقة ليست بأجنبية ولا بعدوة لتلقى على كاهل المرء إلزاما، وإنما نحن ضيوفها بالطبع فهي تقبل علينا وتقف لدينا لنطلبها عن رضا راغبين.
وقال شيشرون خطيب الرومان: «إنما نكون عبيد القانون لنصير بالقانون أحرارا.»
وفي الحديث المأثور: «كن للحق عبدا فعبد الحق حر.» وقول ذلك الخطيب الروماني ينطبق على ما نحن بصدده، فيقال فيه: يجب أن نكون أحرارا لنخدم الحق كما يجب والحق هو الله.
وهذا دعاء المتساهلين نجعله للمقام ختاما: يا بديع الصفات، إله جميع الموجودات، ما عرفناك حق معرفتك، ولا اهتدينا بضيائك لحكمتك، ألهمنا في أمورنا رشدا، واسلك بنا سبيل الهدى، لنتعاون على احتمال النوائب الكثيرة، في هاته الحياة القصيرة، ونعلم أن الخلاف الذي بين وقاء أجسامنا الضعيفة، وبين لغاتنا المعاصرة، وبين عاداتنا السخيفة، وبين أحكامنا الناقصة وبين أحوالنا المتباينة، في ما نراه على استوائها لديك، إن جميع هاته المميزات بين هاته الذرات، لا تكون من أسباب الإحن والعداوات، فتستوي عبادتك برطانة من لسان قديم مهجور، وبغيرها من لسان جديد مشهور، ولا يميز بين من يوقد الشمع نهارا لدعائك، ومن يكتفي فيه بضياء سماءك، وبين من يلبس لذلك الذهب والحرير، ومن يستقبل سمائك بأطمار الفقير، ويكون الذين ملكت أيمانهم قطعا مدورة من بعض المعادن متمتعين بلا تيه بما يسمونه نعيما، والذين استولوا على نتفة حقيرة من متعة صغيرة منتفعين بلا كبر بما يحسبون ملكا مقيما، ويكون سائر الناس راضين بالموجود، غير حاسدين على المفقود، ويذكر أبناء الإنسان أنهم في الإنسانية إخوان، فلا يمزق بعضهم بعضا عنادا، ولا يملئون الأرض فسادا، تجليلا لك عما يقول الجاهلون، وتنزيها لك عما يزعم المتعصبون، أنك أعظم من أن تغضب، وأعز من أن ترضى، وأكرم من أن تعفو، وأكبر من أن تسر، وأجل من أن تساد، تماثلت لديك الذوات وتساوت عندك الأشياء، وأنت في الكل وللكل سواء. وقنا العثرة مع المتعصبين، واحشرنا في زمرة المتساهلين، آمين. (23) خطبة لمصطفي كامل
لما خمدت الحركة العرابية وخنق أنفاسها الإنجليز سادت البلاد المصرية فترة من الخمول السياسي حتى قيضت الأقدار لمصطفى كامل أن ينبه الأمة، فاستخدم لسانه وقلمه وماله في سبيل إيقاظ الأمة، فكان خطيبا وصحفيا ومؤلفا ومؤسسا للمدارس. ومات في شبابه لأنه لم يضن بهذا الشباب في خدمة مصر.
وكانت حياته موزعة بين جهدين: تحريك المصريين إلى مناهضة الإنجليز المحتلين لوطنهم والمطالبة بالاستقلال، وتحريك الأمم الأجنبية إلى إدراك مقدار العسف الذي ينزله الإنجليز ببلاد مصر.
فكان يخطب في القاهرة وباريس، وله رسائل تنشر في الإسكندرية وبرلين، وكان له صحف تدافع عن قضيتنا بالعربية وأخرى تحاول إيقاظ ضمير الأمة المحتلة بالإنكليزية.
فلئن فخرت إيطاليا بغريبالدي وتباهت المجر بكوشوت فلنزهو نحن بمصطفى كامل.
خطب في الإسكندرية في سنة 1897 فقال:
سادتي وأبناء وطني الأعزاء
إني بفؤاد ملؤه الفرح والسرور أقف الليلة أمامكم متكلما عن شئون الوطن المحبوب ومصالحه، وإني لأقابل انعطافكم نحو أضعف خدمة البلاد بمزيد الحمد والشكران، وأستميحكم العفو إذا قصرت في أداء هذا الواجب، فإني إنما أسر بهذا الانعطاف وبهذه المظاهرات، لا لأنها موجهة لشخصي الضعيف؛ بل لأنها أكبر دليل علني على حياة الشعب المصري، وأقوى حجة تكذب دعوى القائلين بأن مصر وطن لا وجود للوطنية فيه، وأن أبناء وادي النيل يقدمون بأنفسهم إلى ألد أعدائهم وطنهم وأقدس ميراث لآبائهم وأجدادهم.
أجل، أيها السادة، إنكم باجتماعكم اليوم هذا الاجتماع الوطني ترفعون كثيرا من مقام الوطنية المصرية وتخففون من آلام مصر العزيزة التي قاست وتقاسي أشد العذاب على مشهد منكم يا أعز بنيها ويا نخبة أنجابها، فكل اجتماع وطني تذكر فيه مصر ويطالب بحقوقها ويعلن أبناؤها إخلاصهم لها هو في الحقيقة مرهم لجراحها ودواء لدائها، فاذكروها ما استطعتم، فإن في ذكراها ذكرى آلامها، وذكرى الآلام يجر حتما إلى ذكر عوامل الشفاء. اذكروها كما يذكر الولد الحنون أمه الشفيقة وهي على سرير المرض والعناء، اذكروها بآلامها وإن كان غيركم يذكر بلاده بمجدها ورفعة شأنها. اذكروها فإنكم ما دمتم مقدرين لمصائبها عارفين بحقيقة آلامها دام الأمل وطيدا في سلامتها ودام الرجاء. اذكروها فمن المستحيل أن يرى العاقل النار في داره والداء في شخص أمه ويهمل النار ويهمل الداء. ومن المستحيل كذلك أن يكون الوطن في خطر ونحن نيام، وأن يعمل الأجنبي لامتلاك بلادنا وسلب حياتنا بل لاستعبادنا واسترقاقنا ونحن جامدون لا عمل ولا حراك.
ألقوا أيها السادة بأنظاركم قليلا إلى الأمم الحرة تجدوا كل فرد فيها يدافع عن وطنه ويذود عن حوض بلاده أكثر من دفاعه عن أبيه وأمه، بل هو يرضاهما ضحية للوطن ويرضى نفسه قبلهما قربانا يقدمها لإعلاء شأن بلاده، ويعد الموت لأجل الوطن حياة دونها الحياة البشرية ووجودا دونه كل وجود. فلم لا يكون المصري على هذا الطراز ووطنه أجمل الأوطان وأحقها بمثل هذه المحبة الشريفة الطاهرة؟
اسألوا التاريخ أيها السادة ما واجب أمة دخل الإنجليز ديارها خدعة وعملوا لامتلاكها وسلبها كل سلطة وكل قوة، يجبكم التاريخ إن واجب أمة هذا شأنها أن تعمل بكل ما في استطاعتها ضد مغتصبها وأن تبذل في سبيل خلاص وطنها كل ما تمتلك من مال ورجال.
أجل، كل احتلال أجنبي هو عار على الوطن وبنيه، والعار واجب أن يزول. ولست أقصد بهذا الكلام أن أسألكم باسم الوطن إعلان ثورة دموية ضد محتل البلاد، كلا ثم كلا، إن أقل الناس إدراكا لمصلحة مصر يعلم علم اليقين أنها منافية لكل ثورة وكل هيجان، وإنما أسألكم أن تعملوا بكل الوسائل السلمية على استرداد الحقوق المسلوبة منكم وأن تعملوا لأن تحكم البلاد بأبناء البلاد. نعم إني أعلم أن الاحتلال قوي السلطة عظيم الرهبة شديد العقاب، وأن العمل ضده موجب للعذاب مسبب للفقر والفاقة، ولكن في الرضا بالاحتلال الخيانة والعار، وفي العمل ضد الاحتلال الشرف والفخار.
فيا ذوي النفوس الأبية ويا ذوي الضمائر الحية، اطلبوا الشرف ولو مع الفقر، اخدموا الوطن ولو أسقطت على رءوسكم الصواعق، كونوا مع مصر إن سعيدة فسعداء وإن تعيسة فتعساء، قولوا لعدوها في وجهه: أنت عدو لنا، ولصديقها: أنت صديق لنا، لا تحبوا من يرميها بنبال الموت بل امنعوه عنها إن قدرتم، ثم ردوها في صدر راميها إن استطعتم، وإن لم تستطيعوا فكونوا معها لا مع المعتدين.
وإن لمصر غير المحتلين أعداء آخرين هم آلات الاحتلال، آلات الفساد، فإن ذكرتم الأعداء فاذكروا الخونة فهم ألد الأعداء، وأي الأعداء هم، أولئك الذين أنكروا الوطن والوطنية، وائتمنوا على مصالح الأمة فعرضوا بها للدمار، أولئك الذين أبرتهم مصر فقابلوا برها بالسوء وصاروا اليوم في أيدي المحتلين ضد الوطن العزيز، آلات الدمار، آلات الخراب، أولئك الذين كلما صعدوا درجا من درجات المناصب نزلت نفوسهم دركا وفقدوا نصيبا من الشرف وسمو الإحساس، أولئك الذين يبيعون الوطن على مشهد من الأمم ويسيرون بين الناس حاملين لواء الخيانة والعار، أولئك الذين إذا مد إليهم الوطن يد الاستغاثة مدوا إليه سيوفا ليقطعوا بها يده الشريفة.
هؤلاء هم الخونة وهم أشد الأعداء ضررا، ويعلم الله أن الدم الذي يجري في عروقهم هو دم فاسد ليس بالدم المصري الصادق، وإنهم مهما ذاقوا من لذة الحياة الظاهرية فسينالهم العقاب أقسى العقاب ولو من أنفسهم متى حاسبوا ضمائرهم. نعم سيعاقب الخائنون على خيانتهم، فكم رأينا في التاريخ رجالا خانوا أوطانهم وساعدوا الأعداء على امتلاك بلادهم، فعوقبوا على خيانتهم لا من أبناء وطنهم فقط بل من نفس الأعداء الذين خدموهم وساعدوهم، هذه سنة الله في خلقه، يقتل القاتل عقابا على عمله، فكيف بمن يعتدي على أمة بأسرها بالخيانة ويعتدي عليها بالسلاح الذي سلمته إياه ليدافع به عنها؟
نعم، سيعاقب الخائنون وسيحمل أبناؤهم من بعدهم علم الخيانة على رءوسهم وسيبقون في التاريخ مثلا كبيرا للأبناء والأعقاب.
وإن ذكرتم الأعداء فاذكروا المنافقين، فهم خونة تفننوا في أساليب الخيانة يظهرون أمامكم بمظهر المخلصين وهم يدبرون مع الأعداء المكايد والدسائس، فهم ذوو وجهين وذوو لسانين فحاذروهم وأعلنوا أمرهم ليخيب مسعاهم وتحبط أعمالهم.
أيها السادة، أعداء الوطن عديدون، ومصائب الوطن عديدة، وبديهي أن ازدياد الأعداء يزيد من واجبات الوطنيين المخلصين لبلادهم، فلا تظهر الوطنية الحقة إلا في أوقات الخطر ولا تعرف الهمم العالية إلا عند المصائب، وغني عن البيان أن الأمة بأسرها كارهة للاحتلال، راغبة في الجلاء والحرية وقد أظهرت هذه الرغبة في ظروف عديدة وجاهرت بها حينا بعد حين، إلا أنها كسائر الأمم في حاجة لأن يرشدها أبناؤها المتعلمون ورجالها الخبيرون، ويسرني كما يسر كل مصري صادق أن الناشئة المصرية عارفة بواجباتها نحو الوطن العزيز، فهم أبناء الوطن وهم رجال المستقبل وبهم تحيا البلاد وبهم تقوم.
ولكن هناك فئة من المصريين لا أنكر إخلاص رجالها للوطن العزيز، ولكن أنكر عليهم اليأس الذي يتظاهرون به في كل وقت وفي كل مكان، فهم ما عملوا ولا يعملون للبلاد عملا نافعا ولكنهم جعلوا اليأس علة عدم العمل وعلة الكسل، فإن سألتهم: لم لا تقومون بعمل عمومي نافع للبلاد؟ أجابوك: نحن يائسون من مستقبل الوطن معتقدون بظلمة الأيام الآتية.
فبالله كيف يستطيع طبيب أن يحكم على عليل بعدم الشفاء قبل أن يفحص داءه ويعطيه الدواء؟! على أننا نرى الكثير من الأطباء لا ييأس أبدا من شفاء المريض حتى في آخر لحظة من حياته، فكيف ييأس رجال من بني مصر من مستقبل البلاد؟ وهم وإن كانوا قد خبروا داء مصر فيعلم الله ويعلم الناس أنهم إلى اليوم ما قدموا لها الدواء، كيف نيأس من المستقبل والمستقبل بيد الله وحده وكثيرا ما تأتي الحوادث بخلاف المنتظر وبغير حساب؟ ألم يكن الكثير من المصريين ومن غير المصريين في يأس من مستقبل الدولة العلية ويعتقدون أنها على مقربة من الموت، فها هي اليوم قد ساعدتها الحوادث التي ساقها الأعداء مؤملين البطش بها، فظهرت بمظهر القوة والحياة، وأصبحتم جميعا فرحين بسلامتها معتقدين حسن مستقبلها.
كيف نيأس من المستقبل وقد أرانا التاريخ أمما حكمها الأجانب قرونا طويلة ثم قامت بعد الذل والاسترقاق مطالبة بحقوقها وأخرجت الأعداء من ديارها واستردت حقوقها وحريتها.
هي النفوس الصغيرة التي يخلق عندها الأمل بكلمة أو بتلغراف، ثم يستولي عليها اليأس بكلمة أو بتلغراف. أما النفوس العالية الكبيرة فيدوم الأمل ما دام الدم في العروق وما دامت الحياة.
وأي حياة ترضاها النفوس الشريفة مع اليأس، أيجمع المرء في جسم واحد الموت والحياة؛ إذ اليأس موت حقيقي وأي موت؟!
كيف نيأس ونحن جميعا عالمون بأن ما يظهر طويلا في حياة الأفراد هو قصير في حياة الشعوب؟ فعشر من السنوات في حياة الإنسان طويلة حقا ولكنها في حياة الأمة قصيرة جدا. على أنه إذا كان اليائسون معتقدين صحة أفكارهم فعار عليهم أن يقوموا في الأمة بوظيفة تثبيط همم الآملين. والآملون في البلاد كثيرون بل الأمة كلها مؤملة خيرا في المستقبل، وإن لم تظهر إلى الآن أعمال الآملين فستظهر بعد قليل وسترى الأمة المصرية وأمم العالم أجمع أن للوطن المصري أبناء مخلصين يقدرون الوطنية قدرها ويعرفون لمصر حقوقها ولا يخافون الاحتلال وقوته بل يجاهدون في سبل خلاص البلاد منه أشد الجهاد وأحسنه. ولا غرو فإن سبيل خدم الوطن عديدة وإن أهمها إعلان الحقيقة في كل بلد وفي كل زمان، فالحرية بنت الحقيقة وما انتشرت الحقيقة في أمة إلا وارتفعت كلمتها وعلا شأنها، فالحقيقة نور ساطع إذا انتشر اختفى الظلم والظلمة وانتشرت الحرية والعدل، فكما أن الأفراد لا تسلب حقوقهم ولا يعتدي اللصوص على أمتعتهم إلا في ظلام الليل الحالك، فكذلك شأن الأمم لا تسلب حقوقها ولا يعتدي العدو على أملاكها إلا إذا كانت الحقيقة مجهولة فيها وكانت هي عائشة في الجهل والظلام.
فيا أيها المصريون المخلصون لمصر، انشروا الحقيقة في أمتكم وفي الأمم الأخرى، قولوا للمصري إنه إنسان من بني الإنسان له حقوق الإنسان تروه رجلا كرجال الأمم الحرة يحمل لواء الوطن بكل قوة وإقدام. قولوا للفلاح المصري إنه خلق إنسانا ككل إنسان وإن الله أعطاه في الحياة حقوق أكبر الأفراد، وإن له صوتا لو رفعه سمع في الملأ الأعلى، وإنه ما خلق لأن يعمل لغيره بل ليعمل لوطنه ولنفسه تروه عندئذ أشد الناس دفاعا عن حقوق الأمة والوطن. قولوا للأمة المصرية إنها أمة كسائر الأمم من أقدس حقوقها أن تحكم نفسها بنفسها وألا تنفذ رغائب غيرها وأن تكون في بلادها عالية الكلمة قوية السلطة لا يرد لها رأي ولا يخالف لها أمر؛ هنالك تجدون الأمة حية والشعب قويا ولا ترون أولئك الذين يهزءون برغبة الشعب ورغبة نوابه ويسخرون من رغائب الأمة ومن مطالبها.
انشروا الحقيقة عن مسألة مصر في كل بلد وفي كل ناد، فليس المصريون وحدهم هم أصحاب الحقوق في مسألة مصر ضد المحتلين، بل معهم أمم كثيرة من أمم أوروبا لها في مصر مصالح توافق مصالحهم ولا توافق مصالح المحتلين، وخير ما يعمل لمصلحة مصر هو أن تنضم الأمم الأوروبية إلى الأمة المصرية ضد الاحتلال الإنجليزي؛ ففي ذلك الخلاص وفي ذلك السلام.
ولسنا أيها السادة بأنصار دولة دون دولة بل نحن أنصار الوطن المصري وطن الآباء والأجداد وموطن الأبناء والأعقاب، فإن ظهرت دولة من الدول بمظهر المحبة لمصر والميل لمساعدتها كنا أكبر أصدقائها وأعظم أنصارها، فمصلحة وطننا قبل كل مصلحة، وهي هي المصلحة الوطنية التي تفرض علينا أن نشكر من صميم فؤادنا الذين رفضوا من سياسيي أوروبا العمل مع الإنجليز ضد مصر والذين أوقفوا الإنجليز عند حد الاحتلال في البلاد. وهي هي المصلحة الوطنية التي تفرض علينا أن نشكر كل رجل من أي أمة كان يدافع عن حقوق وطننا ويساعدنا على استرداد حريتنا وحقوقنا الشرعية.
وإذا كان بعض الرجال المخلصين للوطن العزيز يخافون الظهور أمام قوة الاحتلال بمظهر المجاهرين ضده ولا يستطيعون أن يقوموا أمام الأمم مدافعين عن بلادهم مناضلين عن حقوق شعبهم، فعليهم في مصر نفسها واجبات وطنية يضيق المقام عن عدها، ولكني أقف قليلا وأذكر منها بنوع خاص واجب تربية الأمة وتعليمها.
نعم، إن هذا الواجب أكبر واجب وطني والبلاد مطالبة بالقيام به، فقد أصبحت المدارس على خلاف رغائب الشعب وآماله، وأصبحت الأمة في حاجة إلى مدارس أهلية ترشدها إلى مصلحة البلاد الحقيقة وتعلمها ما للأمة من الحقوق وما عليها نحو الوطن من الواجبات.
لم لا يقوم كبراء مصر ووزراؤها السالفون بأمر تأسيس المدارس الأهلية وتربية الأمة، لم لا يعقدون الشركات لهذه الغاية ويخصصون أيامهم الأخيرة لهذا العمل الشريف؟ رأينا عظيما منهم قام بمسألة الإعانة العسكرية وأجهد نفسه في هذا الأمر وله من الأمة والوطن جزيل الشكر والثناء، فلم لا نراه يقوم مع الكبراء الآخرين بمسألة إعانة عمومية لتأسيس مدارس أهلية والبلاد في أشد حاجة إليها؟ يا أيها الكبراء ويا أيها العظماء ويا أيها الأغنياء، ما الفخار بالرتب والألقاب ولا بسكنى القصور العالية والتحدث بما كان وما ربما سيكون، بل الفخار كل الفخار في العمل آناء الليل وأطراف النهار لخدمة البلاد وإعلاء شأنها، فما الحياة بأيام تمر وسنين تكر بل بالعمل وبالخدمة الوطنية:
وما الحياة بأنفاس نرددها
إن الحياة حياة الفكر والعمل
وإذا كان رجل ضعيف الصوت مثلي يسأل السادة الأمراء والسادة الأغنياء العمل في الشيخوخة والقيام في آخر العمر بتتويج خدمتهم الوطنية؛ فذلك لأني أعتقد أن الكثير منهم قضى حياة شريفة وخدم البلاد بصدق وإخلاص، فهي هي البلاد بنفسها تسأل خيرة رجالها على لسان أضعف أبنائها أن يبقوا مثلا طيبا للشبيبة والناشئين، وأن ينشروا في الأمة نور التربية ونور الحقيقة وأن يبثوا فيها روح الوطنية وروح الرجاء.
نرى الكثيرين من الأغنياء يهتمون بأمر توظف أبنائهم ولا يرون الشرف إلا في الوظائف، فمتى يسمعون أنين الوطن وشكايته من هذا الداء العضال؛ داء السعي وراء الوظائف.
اتركوا الأبناء معشر الآباء في الحياة الحرة، اتركوهم يخدموا الوطن ويخدموا أنفسهم في غير دائرة الوظائف، اتركوهم أحرارا غير مقيدين بقيود الرواتب، ابعثوا بهم إلى الخارج ليدرسوا التجارة والصناعة ويؤسسوا في البلاد المعامل والمصانع تزدادوا بذلك شرفا وفخرا وتزدادوا أمام الله وأمام الوطن مثوبة وأجرا، وإلا فإن أهملت تربية الأمة وبقي الكبراء منعكفين في إدارة شئونهم الخاصة واستمر الآباء يلقون بالأبناء إلى مهاوي التوظف في الوظائف وبقيت التجارة والصناعة في كساد ودامت الأمة في حاجة إلى استجلاب لوازمها الضرورية من غير بلادها، دام الانحطاط ودام التأخر ودام الخطر، (انتهت باختصار). (24) خطبة لسعد زغلول باشا
ليس في مصر اسم أجرى على اللسان تعرفه المرأة في خدرها ويهتف به الطفل ويشيد به الشباب من اسم سعد زغلول، فهو الآن بطل الوطنية المصرية غير مدافع، صلب العود قوي الشكيمة. عجمه الإنجليز فاستخشنوه فلفظوه إلى أقاصي أفريقيا في جزيرة سيشل، فعاد أخشن ما كان موفور الكرامة مرفوع الرأس.
عدت على جسمه عوادي الشيخوخة فأحنى ظهره عبء سبعة عقود، ولكنه اغتصب من هذه الشيخوخة العادية تاجا من الشعر الأبيض زاده جلالا وجمالا في عين الأمة.
له عزائم الشباب لأن في قلبه فتوة الشباب، يفكر تفكير الفيلسوف لأن الطبيعة حابته برأس كبير كما حاباه الدهر بتجارب لا عداد لها، فكان محررا وكان ثائرا وكان محاميا وكان قاضيا وكان وزيرا.
قال في سنة 1921 في فندق ماجستك بالإسكندرية:
يا سمو الأمير ، إخواني، أبنائي
اعذروني إذا أنا لم أقدر أن أخاطبكم كما أريد لأني تعب، أضناني التعب من هذه الاحتفالات الساهرة، تلك المظاهر الساحرة، هذا الاستقبال الذي لا نظير له، وإني بكل قوتي أحتج على قول حضرات أبنائي بأني أنا وحدي الذي فعلت هذا الذي تمدحونني عليه، أحتج بكل قوتي لأني لست وحدي فيه، بل للأمة جمعاء أثر فيه.
أريد في وسط هذه المظاهر الهاتفة أن أوجه شكري وثنائي إلى الذين اشتركوا في تأسيس مجدنا وتوفير سعادتنا وإنعاش آمالنا.
أتوجه والخشوع يملأ جوارحي إلى تلك الأرواح الطاهرة أرواح أولئك الأبطال الذين نادوا بالحق والحق منكر، ففاضت أرواحهم وألسنتهم تردد ذلك النداء، فاضت وقد شرفونا بإقدامهم وألزموا الكل باحترام مصر واسمها وبيضوا وجوهنا، والآن فليناموا هادئين فقد انبلج فجر الاستقلال مضمخا بدمائهم، وخلفوا من بعدهم من يستحق ذلك الفداء، بيض الله برحمته أجداثهم وأسكنهم جنات العلا وأرضى عن أعمالنا أرواحهم وأراحهم بتحقيق آمالنا.
لله در الشبيبة ما فعلت، فإنها قد فتحت ما ضمت صدورها من كنوز الفتوة، وملأت قلب البلاد عزة وحماسة وملأت رءوسها حكمة وملأت حركاتها نظاما، تلك الشبيبة التي هي عماد الحركة الحاضرة ومبعث أنوارها الساطعة، أشكرها شكرا جزيلا، وأرتاح جدا لأن المستقبل سيكون بيدها وهي يد ماهرة.
وأشكر العلماء والقسس الذين باتحادهم أبطلوا حجة في يد الخصوم طالما اتخذوها سلاحا قاطعا، أزالوا الفوارق وأثبتوا أن الديانات واحدة تأمر بالدفاع عن الوطن، وأنه ليس لها تأثير إلا في عبادة الخالق جل وعلا، أما في الوطن فالكل سواء.
وأشكر أيضا الأمراء الذين حملهم ما ورثوه عن آبائهم من المجد والفخار أن ينزلوا إلى صفوفنا وينضموا إلى التاجر والصانع والزارع والعامل وكل من يخفي تحت تلك الثياب الزرقاء والبيضاء نفسا كريمة وقلبا أبيا، انضموا إلى هذه الصفوف لأجل أن يستحقوا بعنوان آخر ذلك المجد الذي ورثوه عن الآباء.
فشكرا لهم ثم شكرا، والحق إن كل إنسان من المصريين قد قام بالواجب عليه، وكل نافس أخاه في القيام بهذا الواجب وزاد عليه ليكون ممتازا على أقرانه بشيء في خدمة الوطن العزيز، فكلكم شاكر وكلكم مشكور. ومن مجموع هذه المساعي سارت قضيتنا إلى هذه النقطة الحاضرة، فإننا لما قلنا إن الحماية لاغية أعلنوا اليوم هم أنها ليست باقية وأظهروا استعدادهم لاستبدالها بعلاقة أخرى راضية. والفضل في هذا الفرق العظيم لسعيكم لا لسعيي والتمسك بالمبادئ السامية، فاهنئوا بما نلتم واثبتوا حتى تفوزوا بالأماني الباقية.
خطبة أخرى لسعد زغلول باشا
ألقاها في كلية الأزهر بالقاهرة بين الطلبة في أبريل سنة 1921.
جئت اليوم لأؤدي في هذا المكان الشريف فرض صلاة الجمعة، ولأقدم واجبات الاحترام لمكان نشأت فيه وكان له فضل كبير في النهضة الحاضرة، تلقيت فيه مبدأ الاستقلال لأن طريقته في التعليم تربي ملكة في النفوس، فالتلميذ يختار شيخه والأستاذ يتأهل للتدريس بشهادة من التلاميذ الذين كانوا يلتفون حول كل نابغ فيه ومتأهل له يوجه كل منهم إليه الأسئلة التي يراها، فإن أجاب الأستاذ وخرج ناجحا من هذا الامتحان كان أهلا لأن يجلس مجلس التدريس، وهذه الطريقة من الاستقلال التي تسمى الآن خللا في النظام جعلتني أتحول من مالكي إلى شافعي حيث وجدت علماء الشافعية في ذلك الوقت أكفأ من غيرهم. ولقد كان للأزهريين في الحركة الحاضرة فضل كبير بما ألقوه من الخطب وما بثوا من الأفكار والمبادئ النافعة.
الفصل الثاني
عيون الخطب الإفرنجية
(1) خطبة برقليس
كان برقليس (495-429 ق.م.) من خطباء أثينا وأحد رجالاتها المعدودين المحبوبين عند جمهور السكان، وهذه الخطبة ألقاها في السنة الأولى من الحرب البلوبونيزية رثاء للجنود الذين ماتوا في هذه الحرب سنة 431 ق.م.
إننا سعداء بنظام حكومي لسنا نحتاج به إلى أن نحسد جيراننا لما عندهم من القوانين لأنه نموذج يحتذي به الآخرون بينما هو أصيل في أثينا، وهذا النظام الموكل تنفيذه إلى جميع الأمة وليس إلى عدد قليل منها يسمى الديمقراطية، فمهما اختلف كل فرد منا عن الآخر في شئونه الخاصة فنحن سواء في التمتع بمزايا قوانيننا ونزداد مزايا بمقدار تفوقنا. وشرف الإعجاب ليس مقصورا على أسرة واحدة بل للجميع أن يحصلوا عليه باستحقاقهم الشخصي، ولا يقعد الفقر بأحد يبغي خدمة بلاده ويستطيع هذه الخدمة فينال الشهرة بعد الخمول، فلكل منا الحق في دخول وظائف الحكومة دون أن تعترضه عقبة، ولنا أن نعيش حياتنا الشخصية في تبادل الحب دون أن تنالنا شبهة، ولسنا نغضب من جارنا إذا اتبع ميوله ولسنا نستاء منه ذلك الاستياء الذي وإن لم ينزل به عقابا فإنه يحدث له ألما، فنحن أحرار في حياتنا الشخصية ولكننا لا نجرأ مهما كانت البواعث على مغاضبة الجمهور لما نحمل في صدورنا من احترام الحكام والقوانين، وبخاصة تلك القوانين المدونة التي يقصد منها التفريج عن المظلوم، وتلك التي لم تدون والتي تعود مخالفتها بالعار والفضيحة على من يخالفها.
وقد هيأت لنا قوانيننا أوقات فراغ نمتع فيها عقولنا برؤية الملاهي العمومية ومشاهد التضحية طول العام. وهي تؤدى بأبهة ورشاقة لا تبقيان في قلوب الناظرين محلا للهم أو الغم. وقد صارت عظمة أثينا مدينتنا هذه سببا في جلب جميع حاصلات الأرض بأجمعها إليها، فنحن نتمتع بأطايب بلادنا كما نتمتع بأطايب سائر بلاد العالم.
ولسنا في حاجة إلى شواهد تثبت أننا نستحق هذه المكانة؛ فإن لنا حججا قوية واضحة على ذلك وهي موضع إعجاب العصور الحاضرة والمستقبلة، فلسنا في حاجة إلى شاعر مثل هوميروس لكي يتغنى بمديحنا كما أننا لسنا في حاجة إلى شاعر آخر لكي يزين تاريخنا بعقود القريض؛ لأن الرأي في مآثرنا لا يكون عندئذ رأيا صحيحا نزيها، فقد فتحت أساطيلنا كافة البحار وقد اخترقت جيوشنا جميع الأرضين وتركت وراءها آثارا أبدية لعداوتنا أو صداقتنا.
هذه هي الدولة التي دافع عنها هؤلاء الجنود الذين قضت عليهم بسالتهم والذين استهانوا بحياتهم فقاتلوا قتال الشجعان وماتوا موت البسالة. وإني مقتنع بأن الذين لم يقتلوا على قدم الاستعداد متأهبون لأن يبذلوا نفوسهم في هذا السبيل. ولهذا السبب تبسطت في بيان المزايا الوطنية لكي أبرهن لكم بأوضح ما يمكن أننا في حربنا الراهنة نخاطر بأكثر مما تخاطر به أمة ليس لها هذه المزايا الوطنية الثمينة، ولكي أبين لكم مقدار ما يستحقه هؤلاء الجنود من الشكر والحمد اللذين قدمناهما لهم. وهذا الاحتفال الذي تحتفل به الدولة وتعلن فيه ثناءها وحمدها إنما مرجعه إلى بسالة هؤلاء الجنود ومن يماثلهم من الرجال، وهذا الثناء قد يمكن أن نعده مبالغا فيه إذا نحن أغدقناه على غير هؤلاء الجنود من الأثينيين، فهذا الموت الذي قد انتهوا إليه أكبر شاهد على جدارتهم، وعلينا دين يجب أن نوفيه بتكريم الرجال الذين أرصدوا حياتهم للقتال عن أوطانهم مهما كانوا أحط من غيرهم في مضمار الفضائل ما داموا قد حصلوا على فضيلة البسالة فإن مأثرتهم الأخيرة تمحو جميع مساوئهم السالفة؛ لأنها تشمل جمهور الأمة، بينما المساوئ لا تعدو العدد القليل. ولسنا نجهل أنه لم يحجم أحد من هؤلاء عن الخطر مؤثرا الملاذ التي تجتنى من عيشة السلام الوفيرة، كما أنه لم يضن أحد بحياته غرورا بالأمل بأن الفاقة الراهنة قد تزول ويأتي مكانها الرخاء والسعة. كلا، إنما كانت تستعر في قلوبهم شهوة واحدة؛ ألا وهي الانتقام من أعدائهم. لقد فروا من لومة الجبن وتصدروا لصدمة المعركة ثم حملوا وهم لا يروعهم روع وقد عقدت آمالهم النصر لهم فوقعوا، وهكذا أدوا الواجب الذي يدين به كل شجاع لبلاده.
وأما أنتم الذين لم تقتلوا فشأنكم أن تصلوا إلى الآلهة لكي يكون حظكم خيرا من حظ هؤلاء، ولكن عليكم أن تحتفظوا بهذه الروح وتلك الحماسة اللتين تقاتلون بهما عدوكم. ولست أحتاج إلى بيان فائدة هذا في خطبة مثل هذه فإن أي إنسان يتلهى بالألفاظ يستطيع أن يقول لكم ما تعرفونه أنتم من قواعد مجاهدة العدو. ولكني أدعوكم إلى أن تجعلوا عظمة أمتكم قبلة أفكاركم، فإذا أدركتم هذه العظمة فاذكروا أنها نيلت بالأبطال الشجعان، برجال عرفوا واجبهم واستحوا من العار وكانوا إذا ما أخفقت جهودهم خافوا الفضيحة على بلادهم فلم يضنوا بشيء من شجاعتهم. إنهم أهدوا حياتهم إلى الجمهور ونالوا منه الحمد الذي لا يبلى، ولكل منهم ضريح عظيم، ولا أعني ذلك الضريح الذي يضم رفاتهم الرميمة؛ وإنما أعني ذلك الذي يضم شهرتهم وذكرهم، وهو ضريح يذكر كلما ذكر الشرف، فهذه الأرض بأجمعها ضريح عظماء الرجال. (2) خطبة الديموستينيس
كان ديموستينيس (382-322 ق.م.) خطيب أثينا بل زعيم خطبائها، وكان قبل أن عرفه جمهور أثينا رجلا خاملا ضعيف البنية خائر الصوت ليست لحركته لباقة ولا في لسانه طلاقة الخطيب، فلما اعتزم الخطابة «أخذ يقوي رئتيه وصوته بالصياح وهو يصعد في الجبال الوعرة، أو كان يقف على شاطئ البحر فيرفع صوته فوق صخب الأمواج. وتغلب على عاهة النطق بأن كان يمارس الكلام وفي فيه حصى، وتعلم أصول اللباقة ورشاقة الحركة بأن كان يقف أمام مرآة وهو يخطب.»
قال عنه فنيلون: «إننا لا نفكر في كلماته بل نفكر في الأشياء التي يقولها، فهو يبرق وهو يرعد بل هو سيل يجرف كل ما أمامه، فلا نستطيع أن ننتقده أو نعجب به لأننا قد فقدنا حكمنا على مشاعرنا.»
وقد كانت مهمة ديموستينيس التي عاش من أجلها ومات في سبيلها إيقاظ ضمير الأمة الإغريقية وتنبيهها إلى الخطر الذي يحيق بها من فيلبس والد الإسكندر المقدوني الذي كان ينوي ضم بلاد الإغريق إلى مملكته، وكان قد رشا خطباء أثينا لكيلا ينددوا بأغراضه فسكتوا وأبى ديموستينيس أن يرتشي ويخون وطنه. وقضى حياته وهو يحرض الأثينيين على مقاتلة فيلبس حتى دس له هذا الملك من يطارده، ففر إلى أحد المعابد، وهناك تناول السم بيده ومات.
قال يحرض الأثينيين على قتال فيلبس:
إن بينكم أيها الأثينيون من يعتقد أنه يمكنه أن يربك الخطيب بقوله: «فماذا نفعل إذن؟» وعلى هذا السؤال أجيب: «لا تفعلوا شيئا مما تفعلونه الآن، وافعلوا كل شيء لم تفعلوه.» وإنه لجواب حق وصدق، ولكني سأزيدكم إيضاحا، ولعل أولئك الذين يسارعون إلى السؤال يسارعون أيضا إلى العمل، فاذكروا أيها الأثينيون أولا أنه من الحقائق التي لا مراء فيها أن فيلبس قد نكث عهودكم وأعلن الحرب عليكم، فدعونا إذن من التثالب عن هذا الموضوع. ثم اذكروا أنه عدو أثينا الألد، عدوها الذي يكره أرضها وأسوارها، بل يكره أولئك الذين يغتبطون منكم بأنهم قد نالوا حظوة عنده.
فإن أخشى ما يخشاه فيلبس وأمقت ما يمقته هو حريتنا، هو نظامنا الديمقراطي، فلكي يقضي على هذه الحرية وهذا النظام يهيئ فيلبس جميع شراكه ويدبر جميع تدابيره. أوليس يجري على مبدأ واحد في كل أعماله هذه؟ إنه يعرف تمام المعرفة أنه لو أخضع بلاد الإغريق كافة وعمها بفتوحاته فإنه يظل غير آمن عليها ما دامت ديمقراطيتكم صحيحة لم تمس. وهو يعرف أنه لو أصابته هزيمة من تلك الهزائم التي تقدرها الأقدار لبني الإنسان فإن جميع هذه الأمم التي قرنها عنوة إلى نيره تسارع إلى الانضواء إليكم. أفي العالم ظالم يجب رده؟ هاكم أثينا! أفي العالم أمة مقهورة تحتاج إلى رد حريتها إليها؟ هاكم أثينا ما أسرعها إلى الإسعاف! ففيم نعجب من فيلبس إذا كان لا يطيق صبرا على هذه الحرية الأثينية التي تقف موقف الجاسوس ينظر إلى شروره وآثامه؟ فأيقنوا أيها المواطنون أنه عدوكم الذي لا هوادة عنده، وأنه إنما يعبي جيوشه ويهيئ عدده وينصب أشراكه لكي يقاتل أثينا.
فماذا عليكم أن تفعلوا باعتباركم رجالا عقلاء قد اقتنعتم بصحة هذه الحقائق؟ يجب عليكم أن تنفضوا عنكم هذا السبات القاتل وأن يتبرع كل منكم بنسبة ما يملك وأن تطلبوا من حلفائكم أن يتبرعوا ثم تستعدوا للاحتفاظ بالجنود المسلحين حتى إذا كان فيلبس قد تهيأ لغزو الإغريق وإخضاعهم يكون لديكم جيش تمدونهم به وتخلصونهم منه. ولا تخبروني عن المتاعب والنفقات التي يحتاجها هذا العمل، فإني لست أنكرها، ولكن اعتبروا الخطر الذي يتهددكم واعتبروا مبلغ ربحكم فيما إذا انضممتم للدفاع عن قضية الوطن إلى سائر الإغريق منذ الآن. والحق أنه لو أكد لكم أحد الآلهة أن فيلبس لن ينالكم بأذى إذا بقيتم وادعين في مقامكم لا تحفلون بما يعمل فإني أقول لكم والسماء تشهد علي أنه من الهوان ومن الصغار ومما هو دون كرامة دولتكم ومجد آبائكم أن تضحوا مصالح وطن الإغريق بأجمعه لكي تنالوا أنتم الراحة لأنفسكم.
أجل، إنه لخير لي أن أهلك من أن أشير عليكم بهذا، فليفعل ذلك من يشاء غيري، واستمعوا لأقواله إذا أردتم، أما إذا كنتم تحسون مثل ما أحس وترون كما أرى أنه كلما امتدت فتوحات فيلبس كان في ذلك تقوية لعدونا وشدا لأزره علينا حين نضطر عاجلا أو آجلا إلى مكافحته فلم تترددون وأي اضطرار تنتظرون؟ فهل هناك ما يخشاه الأحرار قدر ما يخشون سقوط الشرف؟ فهل أنتم في انتظار هذا؟ ألا إنه قد وقع بنا الآن ما تنتظرونه وإن عبئه ليكدنا ويبهظنا. لقد قلت «الآن» ولكن الحقيقة أنه قد وقع منذ زمان ولازمنا وجها لوجه. إلا أن هناك اضطرارا آخر قد احتفظ به لنا للمستقبل: هو اضطرار الرق والجلد والصفع، فهل تنتظرون هذه الأشياء؟ ألا لا قدرت الآلهة! إن النطق بهذه الكلمات مهانة وذل. (3) خطبة لشيشرون
كان شيشرون (106 ق.م.-43 ق.م.) في رومية بمقام ديموستينيس في أثينا، وكان أديبا وخطيبا معا ولكن تبريزه كان أظهر في الخطابة. وقد ولد في وقت بدأت فيه الجمهورية في التدهور وأخذ قواد الجيش في الاستئثار بالسلطة، وأوشكت حرية الأمة الرومانية أن تزول وأن تسود الإمبراطورية. وقد حدث في حياة شيشرون أن حاكم صقلية المدعو فرس قد طغى وتجبر على الأهالي فشكوه إلى رومية، فكان شيشرون «المتهم العام» أو النائب العمومي في القضية، فهيأ أركان الاتهام وألقى سبع خطب في صددها فكانت من الفصاحة والبلاغة بحيث فر فرس قبل الحكم.
وكان موضوع خطبه قبيل وفاته تحذير الرومانيين من أنطونيوس القائد المشهور، فتخلص منه هذا بأن أرسل إليه من اغتاله.
وقد ألقى الخطبة التالية وهو يتهم فرس بأنه جلد أحد الرومانيين الذين تكفي نسبتهم إلى مدينة رومية في حقهم في ألا يجلدوا، قال:
وحدث أن فرس جاء في ذلك اليوم إلى مسانا فقدمت القضية له وقيل له إن الرجل روماني وأنه يشكو من أنه قد حبس في محاجر سيراقوز، وكيف أنه عندما كان يوشك أن ينزل إلى السفينة أخذ يفوه بألفاظ الوعيد يهدد بها فرس فأعيد ثانيا واعتقل ريثما يقر قرار فرس على ما يريد أن يفعله معه.
وعندئذ يشكر فرس هؤلاء الأشخاص الذين اعتقلوا هذا الروماني ويحمدهم على نشاطهم وحسن صنيعهم. ثم يأتي وهو ثائر بالشر والجنون «إلى الفورم»، عيناه تقدحان والقسوة تبدو من وجهه والناس صامتون ينتظرون ما يشير به، ماذا يريد أن يفعل؟ إنه يأمر في الحال بأن يقبض على الرجل وأن يجرد من ملابسه ويقيد في وسط الفورم ثم تعد الأسواط، ويصيح الرجل في تعسه وشقاوته بأنه روماني وأنه أيضا معدود من أهل كوزا الحاصلة على الحقوق البلدية وأنه قد خدم في الجيوش الرومانية تحت قيادة الفارس الروماني العظيم لوقيوس برينيس الذي يسكن في مدينة بانورماس، وكان فرس يستطيع أن يسأله عن صحة هذه الدعوى.
إن فرس يقول إنه كان قد تحقق من أن المتهم قد أرسله العبيد الآبقون إلى صقلية لكي يكون عينا يتجسس لهم، وهذه تهمة لم تقم عليها بينة وليس لها أصل، بل ليس هناك أقل شبهة في وجودها في رأس أي إنسان، ثم يأمر فرس أن يجلد الرجل بالسياط على جميع جوانب جسمه.
رجل روماني يجلد بالسياط أيها القضاة في وسط الفورم! وطول مدة هذا الجلد لا يتأوه الرجل ولا يسمع منه في وسط آلامه وبين قرقعة الأسواط سوى هاتين الكلمتين: «أنا روماني!»
كان هذا الرجل يتخيل أنه بهاتين الكلمتين يستطيع أن يدفع عن نفسه هذه السياط ويقي نفسه عذاب الجلد، ولكن هذه الكلمات لم تقلل من عنف السياط ولم يجده رجاؤه وإثباته أنه روماني شيئا إذ رأى بعد الجلد أنه قد أحضرت له خشبة لكي يصلب عليها، ولم يكن قد رأى قبلا أن الاستبداد والجبروت يصلان إلى هذا الحد.
فواها على اسم الحرية الحلو! ووا أسفا على حقوق الحرية الرومانية ... أيها القضاة، هذه سلطتكم التي أسفنا لضياعها قد ردها إليكم الرومانيون فانظروا كيف يعامل روماني في مدينة من مدن حلفائنا المتحدين معنا، يقيد ويجلد بالسياط في وسط الفورم بأمر رجل لم يحصل على مركزه إلا بفضل الرومانيين. (4) خطبة للقديس برنار
كان القرن الثاني عشر قرن الحروب الدينية الصليبية، فكان التعصب رأس الفضائل عند المسلم والنصراني وكان هو الزاد الذي تغتذي به القوة المعنوية لكل من الفريقين. وكان القديس برنار رأس أحد الأديرة في فرنسا، وقد عاش من 1091 إلى 1153م. وكان إذا خطب امتلك قلوب سامعيه لما كان في كلماته من الإغراء وقوة الإقناع حتى «كانت الأمهات يخفين أولادهن والزوجات أزواجهن والناس أصدقاءهم» عندما كان ينزل ببلدة ليخطب فيها خوفا عليهم من إغراء الخطيب لهم. وكان جل خطبه في الحض على مقاتلة المسلمين وإجلائهم عن سوريا وفلسطين. ويحسن أن يقارن القارئ بين هذه الخطبة وبين خطبة ابن الزكي التي ألقاها عند فتح صلاح الدين لبيت المقدس، ففي كلتا الخطبتين روح دينية هوجاء كلها بغض وكلها تعصب كأن الحب والتسامح منكران لا ينبغي لأحد أن يدين بهما.
قال القديس برنار يحض الأوروبيين على حرب المسلمين:
لا مناص لكم من أن تعرفوا أننا نعيش في عصر العقاب والدمار، فإن عدو البشر قد نفخ على جميع أنحاء العالم هبوات الفساد فإننا لا نرى سوى الشرور التي لا يعاقب عليها أحد، ولم يعد لقوانين الناس أو قوانين الدين قوة تكفي لوقف انحطاط الآداب أو منع الأشرار من التغلب، فلقد تبوأت الهرطقة كراسي الحق وأرسل الله لعنته على الأماكن المقدسة، وأنتم أيها المستمعون لكلماتي سارعوا إلى تهدئة غضب الله، ولكن لا تسألوه أن يستجيب لكم عن ظلامات كاذبة ولا تلبسوا الخيش وإنما تأبطوا تروسكم فإن صليل السيوف وأخطار الحروب وكفاحها ومتاعبها هي الكفارات التي يطلبها الله منكم، فكفروا عن خطاياكم بما تنالونه من الانتصارات على الأعداء، واجعلوا خلاص الأماكن المقدسة مكافأة لكم على توبتكم.
من منكم لا يمتشق حسامه إذا قيل لكم إن العدو قد غزا بلادكم وأوطانكم وأرضكم، وأنه قد سبى زوجاتكم وبناتكم وتناول بالرجس معابدكم؟! إن هذه الرزايا وأكبر منها قد وقعت بإخوانكم وبأسرة يسوع المسيح التي هي أسرتكم، فلم تترددون في حسم هذه الشرور ولم لا تنتقمون لهذه الفظائع؟ هل تتركون هؤلاء الأعداء هادئين ينظرون ويتأملون ما يرتكبونه من المآثم في المسيحيين؟ اذكروا أن انتصارهم سيكون موضوع حزن جميع العصور وسيكون للأجيال الحاضرة فضيحة أبدية لا تمحى. أجل، إن الله الحي قد كلفني أن أعلن لكم أنه سيعاقب أولئك الذين لم ينصروه على أعدائه، فإلى الحرب، هلموا إليها! وليؤنس قلوبكم غضب مقدس واجعلوا العالم المسيحي بأجمعه يتجاوب هذه الكلمات التي فاه بها النبي: «ملعون من لا يلطخ سيفه بالدم.» وإذا كان الله يدعوكم إلى الدفاع عن ميراثه فليس ذلك لأن يده قد فقدت قوتها، أليس في مقدوره أن يرسل اثني عشر جيشا من الملائكة أو يفوه بكلمة فيذهب أعداؤه هباء؟ ولكن الله نظر في أبناء البشر وأراد أن يفتح لهم الطريق على رحمته فقد أراكم تباشير صباح يوم الأمان بأن هيأ لكم الانتقام لمجده ولاسمه.
أيها المجاهدون المسيحيون، إن الذي وهبكم حياته يطلب منكم حياتكم، وهذه المعارك جديرة بكم لأنكم تنالون المجد إذا انتصرتم والنفع إذا هلكتم. أيها الفرسان البواسل، يا حماة الصليب الأجواد، اذكروا مثال آبائكم الذين فتحوا أورشليم والذين قد رقمت أسماؤهم في السماء فانبذوا ما يفنى واجمعوا ما لا يفنى وافتحوا ملكوتا لا نهاية له. (5) خطبة لبوسويه
كان بوسويه (1627-1704) من خطباء فرنسا المعدودين في عهد لويس الرابع عشر وكان قد نصب نفسه للدفاع عن الكاثوليكية فكانت أكثر خطبه مواعظ يلقيها من منابر الكنائس. وقد ارتد كثيرون من البروتستانت عن مذهبهم وعادوا إلى الكنيسة الرومانية لقوة عارضته وفصاحة إلقائه. وله خطب عديدة مدونة، أفضلها ما ألقاه في رثاء أمير كونده وكان قائدا فرنسيا شهيرا. والقطعة التالية مختارة من هذه الخطبة:
سار المرض في جسم أمير كونده ولكن الموت كان قد أخفى اقترابه، فلما تحسنت حالته قليلا وكان الدوق دانجيان الذي كان يوزع وقته بين واجباته نحو أبيه وواجباته نحو ملكه قد دعي إلى البلاط، تغير عندئذ الأمير لفراقه وهنا صرح له أيضا بأن الموت قد أوشك أن ينزل به. ألا انصتوا أيها المسيحيون وتعلموا كيف يجب أن تموتوا، أو تعلموا بالحري ألا تنتظروا الساعة الأخيرة لكي تشرعوا في أن تعيشوا! أتنتظرون أن تبتدئوا الحياة عندما تقبض عليكم يد الموت الباردة في وقت لا تعرفون فيه إذا كنتم بين الأحياء أو الأموات؟ ألا فاتقوا بالندم والتوبة هذه الساعة؛ ساعة القلق والظلام.
لم يدهش الأمير عندما ألقى في سمعه هذا الحكم بل صمت لحظة ثم قال: «هذه مشيئتك يا ربي، فلتكن مشيئتك، فامنن علي بنعمتك لكي أموت موتة هنية.»
فماذا ترغبون في أكثر من ذلك؟ ففي هذه الصلاة القصيرة ترون الخضوع لمشيئة الله والاعتماد على عنايته والثقة بنعمته، وكل هذا تقوى وإيمان.
ومن هذه اللحظة صار كما كان شأنه في معامع القتال هادئا ضابطا لنفسه لا يشغله سوى الاهتمام بجنوده، كذلك كانت هذه حالته في هذا الصراع الأخير، فلم يتراء له الموت هيكلا مخوفا شاحبا ذابلا أكثر مما كان يتراءى له وهو في المعارك ينتظر الظفر، فبينما كانت التنهدات والتأوهات تتصاعد حوله كان هو يدأب على إصدار أوامره كأنه لم يكن هو المقصود بهذه التنهدات والتأوهات، وكان يأمرهم بالكف عن البكاء، لا لأنه كان يحزنه هذا البكاء؛ بل لأنه كان يعوقه عن تأدية ما يرغب أداءه. وفي هذا الوقت امتدت عنايته إلى أقل خدمه خطرا، فأثقل الجميع بهباته وشرفهم بتحف تذكارية وفعل ذلك بسخاء جدير بنبالته وبخدمتهم.
وأسلم نفسه إلى ذراعي الله وجعل ينتظر في هدوء خلاصه وكان يبتهل إليه إلى أن أسلم أنفاسه الأخيرة. وهنا ينبغي أن ينفجر رثاؤنا ونستسلم للتفجع على فقد مثل هذا العظيم، ولكن إعزازا للحق وخزيا لأولئك الذين يزدرونه يجب أن تصغوا إلى هذه الشهادة التي ألقاها وهو يجود بنفسه، فقد قال له الكاهن الذي حضر للاعتراف أنه إذا لم يكن قلبنا بأجمعه مع الله يجب أن نسأل الله أن يجعله كما يشاء وأن نقول له كما قال داود هذه الكلمات المؤثرة: «اللهم اخلق لي قلبا طاهرا.»
فلما سمع الأمير هذه الكلمات صمت وتأمل كأن الكاهن قد أوحى إليه خاطرا عظيما، ثم دعا الكاهن الذي فاه بهذه الكلمات وقال له: «إني ما شككت قط في خفايا الدين كما ذكر بعضهم ذلك عني.»
أيها المسيحيون إنه قال الصدق حين فاه بهذه الكلمات لأنه كان في حال لم يكن مدينا فيه للعالم بشيء سوى الحق، وقد قال أيضا: «وأنا الآن أقل شكا مما كنت، فعسى هذه الحقائق تتكشف وتتوضح في ذهني، نعم سنرى الله وجها لوجه.» ثم جعل يكرر هذه العبارة الأخيرة باللغة اللاتينية كأن معناها قد لذ له، ورآه المحدقون به وهو في هذه الحال الهنيئة فلم يضجروا من وقوفهم.
فماذا كان حديث نفسه في هذا الوقت؟ وأي نور جديد كان يلتمع فيها؟ وما كان هذا الشعاع الفجائي الذي مزق سحب إحساسه وشتت الظلام عنه بل بدد عنه هذه الظلال بل هذه الغوامض التي كانت تلبس الإيمان؟ وماذا جرى عندئذ لهذه الألقاب الفخمة التي نتباهى بها؟
سرعان ما ننسى ونحن على حافة المجد وفي فجر هذا النور الجميل خيالات هذا العالم، وهذه الانتصارات اللامعة ما أكمدها في ذلك الوقت، وما أشد احتقارنا لأمجاد هذا العالم، وما أعظم أسفنا لأن أعيننا قد عشيت بسنائها!
فهلموا أيها الناس، بل هلموا أيها الأمراء والأشراف! ويا من تحكمون على هذه الأرض، ويا من تفتحون أبواب السماء للناس، وأخصكم أنتم أيها الأمراء والأميرات والنبلاء الذين هم من سلالة الملوك، أنتم يا مصابيح فرنسا التي قد جللها السواد، أنتم الذين قد غشاكم الحزن كما تغشى السحب الأرض، تعالوا وانظروا ماذا بقي من هذا النبل العظيم ومن هذه العظمة العليا ومن هذا المجد الذي يغشي العيون! ... تقدموا أنتم يا من يتبعون طريق المجد ويسيرون إليه وقلوبهم ممتلئة حماسة ونفوسهم شجاعة وتعطشا إلى الحروب، هل رأيتم من كان أجدر منه بقيادتكم؟ فاندبوا قائدكم وابكوه ولسان حالكم يقول: «لقد قادنا هذا الرجل واقتحم بنا المعارك، ونلنا في قيادته الرتب والدرجات واقتدينا به حتى وصلنا إلى أشرف الغايات في الحروب ولا تزال له رهبة ينال بها الظفر، وها هو ذا الآن اسمه يحمس النفوس، ويحذرها أيضا، حتى إذا فاجأها الموت الذي به تستريح من متاعبها تكون قد أعدت نفسها لسكناها الأبدي، فهي لذلك في طاعتها لملك الأرض يجب أن تخدم ملك السماء.» (6) خطبة لفنيلون
كان فنيلون (1651-1715) مطرانا في فرنسا وكان مؤدب ابن لويس الرابع عشر وقد ألف له كتاب «تليماك». وكان هذا الكتاب سببا في حرمانه من منصبه لأن لويس اعتقد أنه وضعه لكي ينتقد به بطريق التلويح الأحكام الاستبدادية التي كان يجري عليها هذا الملك.
وكان خطيبا وواعظا يجيد إذا تهيأ للخطبة ولا يأتي بالرذل إذا ارتجل، وفي الخطبة التالية يحاول فنيلون أن يثبت وجود الله:
لست أفتح عيني دون أن أرى المهارة في كل شيء تكشفه لنا الطبيعة، فإن لمحة واحدة تمكنني من أن أرى اليد التي صنعت كل هذه الأشياء، فإن الذين قد تعودوا أن يفكروا في الحقائق المجردة ويسيروا في تفكيرهم إلى الأصول والمبادئ الأولى يرون الله في الطبيعة؛ لأنهم يرونه في عقولهم، ولكن كلما استقام هذا الطريق حاد عنه دهماء الناس وعامتهم الذين يتبعون أخيلتهم.
فإثبات وجود الله أمر بسيط ولهذه البساطة لا تستطيع الأذهان التي لم تألف التفكير الذهني أن تقف على حقيقته. وكلما وضح النهج الذي يمكن به معرفة الكائن الأعلى قلت العقول التي تسير في وضحه، على أن هناك طريقة يمكن أن تكون أوفق الطرق لعامة الناس في إثبات وجود الله، فيها يمكن أولئك الذين لا يكثرون من الرياضة العقلية والذين هم أكثر الناس خضوعا لحواسهم أن يعرفوا الله الذي تمثله أعماله في الطبيعة، فإن الحكمة والقوة اللتين يظهرهما الله في كل شيء صنعه تدلان على اسمه كما تعكس المرآة ظل الأشخاص لأولئك الذين لم يجدوا في أذهانهم ما يثبت وجوده. وهذه فلسفة عامية تخاطب بها الحواس، لكل إنسان بعيد عن الهوى أن يدركها ويفهم مغزاها.
فإذا فرضنا أن هناك رجلا قد شغله شاغل عظيم فقد نرى أنه يقضي أياما عديدة في غرفته مكبا على عمله دون أن ينظر إلى أبعاد الغرفة أو زخارفها أو الصور المعلقة حواليه، وهذه الأشياء جميعها على الرغم من أنها أمام عينيه لا يراها ولا تترك أثرا في ذهنه. وإنما الناس يعيشون على هذا المثال، فكل شيء أمامهم يدل على وجود الله ولكنهم لا يرونه، فهو في العالم وهو الذي صنعه ولكن العالم يجهله، فهم يقضون حياتهم دون أن يروه لأن الحياة قد فتنتهم وغشت على بصائرهم. وقد قال القديس أوغستين: إن عجائب الكون تنقص قيمتها في نظرنا إذا تكررت أمام أعيننا. وقال شيشرون الروماني: «لما كنا مضطرين إلى رؤية الأشياء نفسها كل يوم فإن العقل والعين يعتادان رؤيتهما؛ فلهذا لا نعجب ولا نحاول أن نكشف علل الحوادث التي نرى أنها تحدث في طريقة واحدة لا تختلف، كأن جدة الشيء وما فيها من طلاوة هي التي تبعثنا على البحث، أما عظمة الأشياء فلا تبعث فينا ذلك.»
ولكن الطبيعة بأجمعها تثبت مهارة صانعها التي لا نهاية لها، وأقول إن الصدفة؛ أي تتابع الحوادث تتابعا لا إرادة فيه، ليست هي أصل كل ما نرى، وحق علينا هنا أن نستشهد بأحد أمثلة القدماء.
من يستطيع أن يقول إن إلياذة هوميروس لم يؤلفها شاعر فحل وإنما هي حروف الهجاء وضعت معا دون أن ترتب، فحدث صدفة واتفاقا أنها رتبت كل منها في مكانه بحيث صار منها نظم مختلف القوافي ومعان تلون الأشياء بأشرف الألوان وأجملها، فنرى فيها الأشخاص كالطبيعة لكل منهم خلق وروح؟ فمهما تمحل أي إنسان فإنه لن يستطيع أن يقنع أحدا ذا حواس سليمة بأن الإلياذة ليس لها مؤلف وأن الصدفة هي التي أوجدتها، فكيف يعتقد إذن إنسان ذو عقل أن الكون وهو من حيث العمل أعجب من الإلياذة ليس له صانع وأنه وجد بالصدفة والاتفاق. (7) خطبة لكرومويل
كان كرومويل (1599-1686) زعيم الثورة الإنجليزية على الملك تشارلس الأول ملك إنجلترا. وكان هذا الملك قد نزع إلى الاستبداد وألغى البرلمان وأقفل أبوابه وطرد النواب، فألف كرومويل جيشا وطارده حتى هزمه وأسره، وتألفت محكمة لمحاكمته فأدانته وحكمت عليه بالإعدام، وأعدم فعلا وصار اسمه عبرة لكل خائن من الملوك يستهين بدستور بلاده.
وصار كرومويل حاكم البلاد ودعي باسم «المولى الحامي»، قال كارليل عن خطبه «إنها تفوق ما يعتقده الإنسان في مخالفتها للخطب وفي عدم جريها على أساليب الخطابة أو في ترتيب الأفكار ترتيبا منطقيا ... ولكن مضى زمن كان لهذه الخطب في إنجلترا شأن لا يقل عن شأن خطب ديموستينيس المصقولة في أثينا.»
وقد ألقى الخطبة التالية ردا على ما اقترحه عليه البعض من أن يلقب نفسه بلقب الملوكية، قال:
سأقول الآن شيئا عن نفسي، وإني أجهر بضميري وهو أني لست ممن يحفل بالألفاظ أو الأسماء أو ما إلى ذلك، وليس أمامي نهج واضح ولكن عندي كلمة الله التي آمل أن تكون معي على الدوام والتي هي قوام ضميري ومعول علمي ونبراس طريقي. وإذا كان حقا أن الناس قد تقتادهم العناية الإلهية إلى الطرق المظلمة فليس لأحد أن يعترض عليهم؛ إذ من من الناس يرضى أن يسير في الظلام؟ ولكن لله تدابير فإذا شاء إنسان أن يعزو إلى العناية الإلهية جنونه وعمى قلبه فعليه خطيئته ... والحق أن عناية الله قد نبذت لقب الملوكية ولم يكن هذا عن نزق أو عن هوى طارئ من الأمة، كلا، إنما هو عن روية وتدبر لا يطلب من أمة كائنة من كانت أكثر منهما. إنه نتيجة حرب أهلية دامت عشر أو اثنتي عشرة سنة سفك فيها كثير من الدماء. ولست أماري الآن في عدالة هذه الحرب ولست أحتاج إلى أن أخبركم عن رأيي فيما لو عادت الحال التي دعت إليها، ولكن إذا كان هذا مما يمارى فيه فما يقوله الإنسان عندما يجد أن الله في صرامة حكمه قد استأصل عائلة بأكملها وأقصاهم عن البلاد لأسباب يعلمها هو جلت قدرته؟ بل إنه ختم الحرب بأن استأصل أيضا الاسم واللقب.
إني أنا لم أفعل هذا ولم يفعله أولئك الذين طلبوا إلي أن أتقلد مقاليد الحكومة التي أرأسها الآن، فإن البرلمان هو الذي فعل ذلك، وكانت لله بصيرة في قمع العائلة ومحو اللقب، وكما قلت لكم لقد محا البرلمان هذا اللقب ونبذه وبقي منبوذا إلى يومنا هذا ...
وإني أرجو إليكم ألا تظنوا أني أقول هذا برهانا على شيء ما! كلا، إن الله أراد أن يجزي الشخص والعائلة ففعل بل محا اللقب أيضا. والآن ماذا يقول إنسان يرى حكم الله هذا ويتأمل فيه ويرى هذا اللقب معفرا في التراب؟ أقول إني الآن في مثل هذا المقام، إن في هذا لعبرة ينفعل منها رجل ضعيف مثلي وقد تترك أثرا كبيرا فيمن هم أضعف مني؛ ولهذا فإني لا أبتغي أن أقيم ما هدمه الله ودفنه في التراب، كلا إني لن أبني أريحا مرة أخرى ...
وليس عندي أزيد مما قلته. وقد أشرت إليكم في أول مقالي إلى هذه النهاية التي انتهيت إليكم بها عندما أوضحت لكم الطريق الذي سأسلكه في هذه الخطبة. ويمكنني أن أقول إنه ليس من مصلحتي ولا من مصلحة الخدمة التي أحمل أعباءها أن أدلي بجميع الحجج على عدم منفعة مقترحكم أو فائدته للقيام بتأدية أعمالنا، أقول إنه ليس من المناسب أن أجهر بجميع الأفكار التي تختلجني عن نقطة الأمن في هذا الموضوع، ولكني أدعو الله أن يوفقكم إلى ما فيه إنفاذ إرادته، وهذا في الختام هو ما يمكنني أن أقوله عن نفسي. (8) خطبة لمارات
زعماء الثورة الفرنسية أشبه شيء، بقصابين منهم بأدباء أو سياسيين فديدنهم وهجيراهم القتل وسفك الدماء. وكان مارات (1743-1793) أكثر هؤلاء الزعماء حضا للناس على التقتيل وإعدام النفوس. وكان له شريكان في ارتكاب هذه المآثم باسم القانون وهما دانتون وروبسيير. ولما ضج الناس من كثرة الدماء التي كان يلغ فيها مارات كثرت الشكوك حوله وقصدت إليه فتاة تدعى شرلوط كوردي فقتلته وهو يستنقع في الحمام.
والخطبة التالية ألقاها دفاعا عن نفسه وكان قد اتهم بجملة تهم وكان يخشى أن يحكم عليه بالإعدام، قال:
لقد كنت أخاف وأرتعد من حركات الشعب الحماسية والخالية من النظام عندما رأيتها قد تعدت حدود الضرورة، ولكيلا تموت هذه الحركات موتا أبديا ثم لكي نتجنب ضرورة عودتها اقترحت أن يدير الشعب في هذه الحركات رجل عاقل عادل مشهور بتعلقه للحرية ويجعل الحرية العمومية غايتها العظمى. ولو أن الناس استطاعوا أن يقدروا الحكمة في هذا المقترح ولو أنهم اصطنعوه برمته لاكتسحوا يوم فتح سجن الباستيل خمسمائة رأس من المتآمرين، ولو أنا فعلنا هذا لاستقرت الأمور؛ ولهذا السبب عينه اقترحت جملة مرار أن نعين شخصا ونمنحه السلطة المطلقة، والدليل على أني أردت أن أقيده للمصلحة العامة هو أني اقترحت في أن يكون في طرف قدمه خرطوشة ولا يكون له من عمل سوى إطاحة رءوس الخونة.
لقد كان هذا رأيي وقد أوضحته لأخصائي ونشرته في جميع كتاباتي، وقد مهرت هذه الأقوال بتوقيعي ولست أستحي من ذلك، وإذا كنتم أنتم لا تفهمون فتعسا لكم!
إننا نعيش في عصر ولما تنته فيه أيام القلق والاضطراب، وها نحن أولاء بإزاء ماية ألف وطني ذبحوا لأنكم لم تستمعوا إلى صوتي، وثم ماية ألف أخرى سيقاسون الآلام ويوشك أن يحل بهم الدمار. واذكروا أنه إذا تردد الشعب فلن يكون ثم طريق آخر للفوضى.
لقد نشرت هذه الآراء بين الجمهور فإذا كانت مخطرة فليفندها المستنيرون بما لديهم من الأدلة. أما عن شخصي فإني أصرح بأني أكون أول من يسير على رأيهم وأقدم لهم بذلك البرهان القوي على أني أرغب في السلام والنظام وسيادة القوانين عندما أقتنع بعدالتهم.
هل تتهمونني بالطمع؟ إني لا أنزل للدفاع عن نفسي، افحصوا سلوكي واحكموا على ماضي، فإني لو أردت أن أصمت وأتاجر بهذا الصمت لصرت من ذوي الحظوة في البلاط، ثم ماذا كان حظي؟ لقد دفنت نفسي في المطبقات وتعرضت لجميع الأخطار وقد علق فوق رأسي سيف ماية ألف سفاك ووعظت الناس بالحق ورأسي على النطع، فليتحد أولئك الذين يخشون المستبدين معي ومع جميع الوطنيين الصادقين وعلينا أن نحث الجمعية الوطنية على التعجيل في إقرار القوانين التي تضمن للناس السعادة، وبعد ذلك أذهب فرحا إلى المشنقة. (9) خطبة للامارتين
كان لامارتين (1790-1869) شاعرا وأديبا وسياسيا فرنسيا، وكان خطيب الجمهورية ينافح عنها. ولما حدثت ثورة سنة 1848 كان هو من العوامل التي أفادت في منع الغلو فسار بالناس في طريق وسط وكبح جماح المتطرفين والملوكيين. وفي الخطبة التالية يفسر معنى الثورة الفرنسية وما جناه الناس منها، قال:
فما هي إذن الثورة الفرنسية؟ هل هي كما يقول عباد الأزمنة الماضية فتنة أمة مضطربة لغير سبب تهدم في تشنجاتها الجنونية كنيستها وحكومتها الملوكية وطبقاتها الاجتماعية وقوميتها حتى لقد مزقت أيضا خريطة أوروبا؟ كلا، لم تكن الثورة الفرنسية فتنة منكودة كما يزعمون لأن هبوب الفتن إلى خمود عاجل وهي لا تترك وراءها سوى الجثث والدمار، وليس من ينكر أن الثورة قد خلفت وراءها دمارا وآلات للإعدام، وهذه لها بمثابة وخز الضمير للإنسان، ولكنها قد خلفت أيضا مذهبا وخلفت روحا ستبقى وتعيش ما دام في الإنسان ذهن يفكر.
ولسنا نقول هذا تشيعا لشيعة ولسنا نقصد إلى تأليف شيعة، إنما نكون رأيا وفي الرأي القوة والشرف والمناعة، فهل نحن لاجئون إلى العنف والضغط والقتل في بدء جهادنا؟ كلا، وعلينا أن نشكر آباءنا لذلك؛ لأنهم قد خلفوا لنا الحرية التي لا تفتقر إلى سلاح لأن سلاحها سلاح السلم تنشأ وترقى دون حاجة إلى الغضب أو الشطط، ولهذا سنحوز النصر، ثقوا بذلك. وإذا سألتموني عن القوة الأدبية التي سترغم الحكومة على النزول على إرادة الأمة لأجبتكم إنها سيادة الأفكار وملوكية الذهن وجمهورية الذكاء، أو أقول بكلمة واحدة إنها الرأي؛ هذه القوة الحديثة التي لم يكن القدماء يعرفون اسمها.
أيها السادة، لقد ولد الرأي العام يوم اخترع غوتنبرج الذي لقب بصانع العالم الجديد بواسطة الطباعة تلك الصلة التي لا نهاية لها بين الأفكار والعقول الإنسانية. وقوة الرأي هذه التي لا نكاد نفهمها ليست تحتاج في بسط سلطانها إلى سمة الانتقام أو سيف العدل أو إلى آلة الإعدام؛ لأن في يدها ميزان الأفكار والمؤسسات والذهن البشري، ففي إحدى كفتي ميزانها ستعيش مدة طويلة خرافات العقل البشري والأهواء التي تدعى لها الفوائد وحقوق الملوك المقدسة والتمايز في الحقوق بين الطبقات وعداء الدول وروح الفتح الحربي واتحاد الدين والحكومة اتحادا فاسدا والرقابة على الأفكار وإسكات زعماء الشعب وتفشي الجهل بين سواد الأمة والعمل في الحط من كرامتهم، أما في الكفة الأخرى فإننا سنضع أخف ما خلقه الله وأقله مادة؛ نعني النور، ذلك النور الذي تفجر من الثورة الفرنسية عند ختام القرن الماضي ولا شك أنه تفجر من بركان هو بركان الحق. (10) خطبة لفكتور هيجو
كان فكتور هيجو (1802-1885) من أكبر القوى الأدبية في فرنسا زاول الشعر فبذ الشعراء ومارس الخطابة فكان الثاني في حلبتها عند من يعدون ميرابو أولها في فرنسا. ونزع إلى الشهرة والصيت بين العامة فمارس السياسة وهجر الأدب فنال مبتغاه وفقد الأدب العالمي رجلا من أهل الكفايات فيه ظهرت بوادر أدبه في قصة «التعساء».
وقد ألقى الخطبة التالية في سنة 1778 بعد مرور ماية سنة على وفاة الكاتب الشهير فولتير، قال:
منذ ماية سنة مات رجل، ومات خالدا مثقلا بالسنين وبالأعمال وبأمجد التبعات وأكبرها ألا وهي تبعة تنوير ضمير الإنسان وتصحيحه، ومات تشيعه لعنات الماضي وبركات المستقبل وكلاهما من مفاخر المجد. مات بين هتاف أهل جيله وخلفهم وبين نعيب الماضي الذي لا يلين على أولئك الذين يجاهدونه. لقد كان أكبر من رجل، أجل إنه كان عصرا، لقد أتم عمله وأدى الرسالة التي اختارته لها الإرادة العليا التي تظهر في نظام القدر كما تظهر في نواميس الطبيعة، فإن الأربعة والثمانين العام التي قضاها في هذا العالم كانت جسرا بين صعود الملوكية وبزوغ فجر الثورة فقد ولد في عصر لويس الرابع عشر ومات في حكم لويس السادس عشر، فسطع على مهده ضوء العرش العظيم كما انتشرت على كفنه الأشعة الأولى من الهوة السحيقة.
فقد كانت أيام البلاط أعيادا وكانت فرساي زاهية وباريس في جهل وكان القضاة للتوحش الديني يحكمون بقتل الرجل المسن على الدواليب وبنزع لسان الطفل لأنه أنشد إحدى الأناشيد. ورأى فولتير هذه الهيئة النكدة النزقة وأدرك جميع القوى التي عبئت عليه من البلاط والأشراف والممولين وهذا السواد الأعمى من الشعب وهذه المحاكم التي تذل الرعية وتستذل للراعي فتسحق وتتملق وتجثو أمام الملك على رقاب الناس ثم هؤلاء القساوسة وهم أخلاط مناكيد لا يعرفون سوى النفاق والتعصب فأعلن عليهم الحرب وشن غارته على هذا التآلف المكون من المظالم الاجتماعية وعلى هذا العالم القوي العظيم.
فماذا كان سلاحه؟ كان ذلك السلاح الذي هو أخف من الريح ولكن له قوة الصواعق؛ أعني به القلم، فجاهد فولتير بهذا السلاح وظفر به، فلتحيا هذه الذكرى، لقد انتصر وهو فرد يحارب جموعا متألبة، وكانت حربه حربا بين العقل والمادة بل بين الرأي والهوى أثيرت دفاعا عن المحقين على المبطلين وعن المستضعفين على الظلمة الجائرين وكانت حرب الدفاع عن الخير والرحمة. وكانت في قلبه رقة النساء وغضب الأبطال، وكان هو عقلا كبيرا وقلبا عظيما، هزم القوانين القديمة ودمغ العقائد العتيقة.
إنه انتصر على أشراف الإقطاعات وعلى قضاة القوط وقساوسة الرومان ورفع العامة الرعاع إلى مقام الشعب، وكان يعلم وكان ينشر السلم وكان ينشر المدنية، وكان لا يعبأ بالتهديد أو السباب أو الاضطهاد أو مقالة السوء أو النفي. وكانت ابتسامته تدمغ العنف وكان يهزم الاستبداد بتهكمه ويعبث بالمغرورين ويثبت أمام المكابرين ويتغلب على الجهالة بالحق. (11) خطبة لكوشوث
في سنة 1848 شملت أوروبا أو كادت تشملها ثورة تختلف نزعة ومبادئ باختلاف المكان، فكانت في هنغاريا تنزع نحو استقلال البلاد، فأخذ المجريون في الاتحاد وكافحوا الاستبداد مكافحة الأبطال وأوشكوا أن يتغلبوا على النمسويين، فما هو أن أحست روسيا بنهوضهم وقرب انفكاكهم من قيد العبودية حتى خشيت على بنائها أن يتهدم في أثر هذه الحركة التي تصير عندئذ مثالا وقدوة للشعوب المغلوبة على أمرها في دولة القياصرة، فأرسلت جموعها إلى النمسا وشدت أزرها فأخمدت ثورة المجر، وعادت هنغاريا في قيد الاستعباد ولكن لم تمض عشرون سنة حتى نالت استقلالها وصارت شريكة في مملكة «النمسا والمجر».
وكان زعيم الثورة في سنة 1848 رجل يدعى كوشوث وقف حياته على استقلال بلاده وأرصد جهوده لتخليصها من نير النمسويين، فلما تألب الاستبداد وعقد الروسيون والنمسويون الخناصر على خنق حرية المجر وغمروهم بجيوشها فر إلى تركيا، فكان كالمستجير من الرمضاء بالنار فقبض عليه الأتراك وسجنوه بدسائس السياسة النمسوية، وقضى سنوات يكابد عذاب السجن في الأناضول حتى تحرك الرأي العام في إنجلترا والولايات المتحدة وطلب الإفراج عنه فسعى سفيرا هاتين الدولتين حتى أطلق سراحه فقضى سائر ما بقي له من العمر فيهما. وكان يخطب ويدعو إلى نصرة بلاده، وقد ألقى الخطبة التالية في برلمان الولايات المتحدة في واشنطون إذ دعاه الأعضاء إلى وليمة في سنة 1852 تكريما له وإعزازا للمبدأ الذي قضى حياته في الدفاع عنه، قال:
أقف الآن أمامكم كما وقف قينياس الإغريقي أمام مجلس الشيوخ في رومية؛ ذلك المجلس الذي كان بكلمة واحدة حافلة بجلالة القوة يتحكم في أحوال العالم، ويقف عتاة الملوك عن السير في طريق أطماعهم. أقف الآن أمامكم وقلبي مفعم بالإعجاب والاحترام لكم أنتم المتشرعون في هذا البرلمان الذين تمثلون جلالة الأمة المتحدة. إن جدران مجلس الشيوخ الروماني لا تزال أطلالها قائمة ولكن روحها قد هجرها إليكم بعد أن تنسم نسيم الحرية، وتلك الأطلال التي لا تزال شاخصة تغشيها الكآبة هي رمز إلى فناء الجهود الإنسانية وزوالها بينما هذا المكان هو رمز للحقوق الأبدية. كان ذلك المجلس كاسيا بلون الفتوح والحروب أحمر قانيا وهو الآن في ليل حالك من ظلام الظالمين بينما مجلسكم يسطع بضوء الحرية اللامع، كان ذلك يحتجن العالم إلى مجده بينما مجلسكم هذا يحمي أمتكم ولا يرضى بأن يستحوذ على شيء من حقوق الأمة. كان لذاك روعة القوة التي لا تقاوم بينما أنتم تفخرون بتقييد هذه القوة. وكانت الأمم ترتعد وترتجف إذا رأت ذلك المجلس بينما الإنسانية تعقد الرجاء بكم عندما تنظر إلى مجلسكم. وكان لا يدخل ذلك المجلس من الغرباء إلا مهزوم أو منكوب قد شدت أيديه بالأغلال لكي يركع عند أقدام الظافرين وأما أنتم فيدخل الغريب المبتئس إليكم فتدعونه إلى أن يقعد بجانبكم حيث لا يدعى الملوك والقياصرة وليس لهذا الغريب من ميزة سوى أنه زعيم مضطهد لأمة مقهورة لا حول له ولا قوة. كان شعار ذلك المجلس القديم: «ويل للمغلوبين!» بينما شعاركم حماية المظلوم ولعنة الغاصب وعزاء المهزوم في قضية الحق. وبينما كان ذاك يقعد فيه رجال يفخرون بسيادتهم على العالم يقعد هنا رجال ينحصر مجدهم في الاعتراف بنواميس الطبيعة وبإله الطبيعة وفي إنفاذ إرادة الأمة التي هم خدامها.
وإن في تكريمكم إياي لتاريخا للأجيال المقبلة. أجل، إن الأجيال المقبلة ستقرأ تاريخ ذلك الرجل الذي كان أول حاكم لبلاد المجر المستقلة فأخرجته القوة الروسية الغاشمة طريدا من بلاده فعاش في المنفى في بلاد الأتراك يحميه سلطان مسلم من استكلاب الجائرين المسيحيين، ثم طوحت به دسائس السياسة إلى سجون آسيا ثم مدت إليه أميركا يده فخلصته، حتى إذا عبر المحيط الأطلانطيقي وهو يحمل آمال الأمم المظلومة ويقف أمام أهل هذه الجمهورية الكبرى فيذكر أمامهم ظلامات بلاده وارتباطها بمصير القارة الأوروبية ويصرح بجرأة من يدافع عن حق بوجوب رفع مبادئ الدين المسيحي إلى أن تكون قوانين دولية، لم ير أن جرأته قد قوبلت بالصفح فحسب بل يجد أيضا عزاء في عطف الملايين وتشجيع الأفراد والمدن والاجتماعات والولايات تسنده معونتهم العاملة وتحييه حكومتهم وبرلمانهم وتقعده مقعد الضيف المكرم وتسبغ عليه من المكارم ما لا يطمع فيه أمير قوي، ثم هذه الوليمة وهذا الشراب الذي نتساقاه. أجل، إن لفي هذا تاريخا للأجيال المقبلة.
وإني أؤكد دون تردد أنه لا يوجد في بلادكم العظيمة هذه رجل واحد قد خطر برأسه أن يضع مقعد أطماعه على أطلال حرية بلاده، وهو لو أتيح له تحقيق ذلك لما رغب فيه؛ لأن للمؤسسات التي تنشأ بين ظهراني أمة أثارا تنعكس على أخلاق أفرادها، ومن زرع الريح حصد الزوابع، فالتاريخ يكشف عن مقاصد العناية الإلهية. فالله القادر يدير العالم المادي والعالم الأدبي بنواميس أبدية، وكل ناموس مبدأ وكل مبدأ ناموس، والأفراد كالأمم لهم حق اختيار المبادئ بما لهم من الإرادة الحرة، ولكنهم إذا ما اختاروا لم يعد لهم مفر من نتيجة اختيارهم، فالحرية من لوازم الحكومة الذاتية، والعدالة والوطنية من لوازم الحرية، ومن مبدأ «المركزية» في الحكم يتولد الطمع، والاستبداد من لوازم الطمع، وإن بلادكم لسعيدة لأنها قد أغرمت بالحكومة الذاتية غراما شديدا. وعلى هذا الأساس بنى آباؤكم بيتا للحرية هو أمجد ما رأى العالم، ورقيتم أنتم بهذا البناء حتى صار أعجوبة العالم. إن بلادكم لسعيدة إذ اصطفاها الله لكي يثبت إمكان اتحاد الولايات المستقلة كل منها محتفظ بحقوقه واستقلال حكومته ومع ذلك فهي كلها متحدة في دولة واحدة لكل نجم منها نوره الخاص يتلألأ ومن الجميع تتألف مجموعة تضيء سماء البشر. (12) خطبة لغامبتا
كان غامبتا (1838-1882) أحد مؤسسي الجمهورية الفرنسية الحديثة، وعندما حاصر الألمان باريس في سنة 1871 فر من هذه العاصمة في بلون على أجنحة الريح حتى إذا صار بنجوة من جيوشهم نزل فأهاب بالأمة الفرنسية فالتفت حوله فجعلت الجيوش تعبى تلو الجيوش فلا تصيب من الأعداء سوى الهزيمة فتخلى عنه أنصاره فاستقال هو من الزعامة ورحل إلى إسبانيا، ونازل الجنرال مكماهون فحكم عليه بالحبس والغرامة ولكنه عاد ففاز عليه واستقال الجنرال. وكان رئيسا للوزارة الفرنسية ثم استقال في سنة 1882. وفي سنة 1920 عندما احتفل بمرور خمسين سنة على الجمهورية أخذ قلبه فدفن في البانثيون مثوى أجساد عظماء الفرنسيين. وقد ألقى الخطبة التالية إنهاضا لهمم الفرنسيين بعد الانكسار العظيم الذي نالهم على يد الألمان، قال:
إن طبقة الفلاحين تتأخر جملة قرون عن طبقة المستنيرين والمتعلمين في هذه البلاد، أجل، إن المسافة بعيدة بيننا وبينهم نحن الذين قد حظينا بتعلم العلوم والآداب وإن كان هذا التعلم لا يزال ناقصا، فلقد تعلمنا قراءة تاريخ بلادنا وأن نتكلم لغتنا بينما - وهذا من الفظائع - لا يزال كثير من مواطنينا لا يستطيعون الأداء.
ويح هذا الفلاح قد قيدته أرضه بقيد الإسار يحمل عبئها حمل المقتدر الجسور وليس له عزاء سوى أن يترك لأبنائه أرضه آملا أن يزيدوها فدانا أو بعض فدان، فجميع عواطفه ومخاوفه ومباهجه معقودة بمصير أرضه، وأما عن العالم الخارجي وعن الاجتماع البشري الذي يعيش بين ظهرانيه فلا يدري سوى الأساطير والإشاعات، وهو مع ذلك فريسة الخداع والغش، فهو يطعن على غير دراية منه قلب الثورة التي أغدقت عليه النعم، ويدفع ضرائبه ويسخو بدمه لهذا الاجتماع الذي يخشاه بمقدار ما يحترمه، ولكن إلى هنا تنتهي مهمته فإذا تكلمت معه عن المبادئ تبينت أنه يجهل كل شيء.
فإلى الفلاحين إذن يجب أن نوجه عنايتنا فهم الذين يجب علينا أن نرفعهم ونعلمهم، ولا ينبغي أن تنبز الأحزاب بعضها بعضا بلفظة «الفلاحين» أو «مجلس الفلاحين» ولا ينبغي أن يكون في هذه الألفاظ ما يسوء أحدا، فيا ليت كان لنا مجلس فلاحين في المعنى الحقيقي لهذه الكلمة؛ لأن مثل هذا المجلس لم يكن ليؤلف من جهلة بل من المزارعين الأحرار المستنيرين الذين يستطيعون النيابة عن طبقتهم. وبدلا من أن تكون هذه الكلمة داعية إلى الهزء والسخرية تكون داعية إلى تقدم سواد الأمة وتحضرهم، فمثل هذه القوة الاجتماعية الجديدة يمكن الانتفاع بها في المصلحة العامة، إلا أننا لسوء الحظ لم نصل بعد إلى هذه الدرجة وسنظل محرومين من هذا التقدم ما دامت الديمقراطية الفرنسية لا تعرف أننا بتعمير الأرياف ورد عظمة الفلاحين وقوتهم وعبقريتهم إليهم وفي تربية هؤلاء العمال وتحريرهم إنما نعمل لمصلحة الطبقات العليا ونمس مادة بكرا حاوية لكنوز لا تفنى من النشاط والكفاية. فعلينا أن نتعلم ثم نعلم الفلاح ما عليه من الواجبات للأمة وما له من الحقوق عليها.
وفي ذلك اليوم الذي ندرك فيه أنه ليس علينا من الواجبات ما هو أعظم من هذا، وأنه يجب علينا أن نرجئ جميع الإصلاحات وأن نعرف أنه ليس يلزمنا سوى واجب واحد هو تعليم الأمة ونشر التربية وتشجيع العلوم، في هذا اليوم نكون قد خطونا خطوة واسعة نحو إحياء الأمة، ولكن هذا العمل يجب أن يكون مزدوجا يؤثر في العقل كما يفعل في الجسم. وبعبارة أدق أقول إنه يجب على كل إنسان أن يكون ذكيا مدربا على التفكير والقراءة ، ومع ذلك ذا جسم قادر على العمل والقتال، فإلى جانب كل معلم يجب أن يقف الجندي ومدرس الرياضة وذلك حتى يكون أولادنا وجنودنا وسائر مواطنينا قادرين على أن يحملوا السيف والبندقية وأن يسيروا على أقدامهم المسافات البعيدة وأن يناموا تحت قبة السماء وأن يتحملوا ببسالة جميع المشقات التي تعرض للوطنيين، فعلينا أن نرقي هاتين التربيتين. وتذكروا أنكم إن لم تفعلوا ذلك فنجاحكم في الآداب لن يجعل منكم سورا وطنيا يحمي البلاد من الأعداء.
واذكروا أيها السادة أنه إذا كان الألمان قد تفوقوا علينا، وإذا كنتم قد اضطررتم إلى مكابدة الآلام في رؤية بلادكم - بلاد كليبر وهوش - تفقد أعظم ولاياتها التي يتجسم فيها الروح الحربي والتجاري والصناعي والديمقراطي؛ فليس ذلك إلا لنقص في آداب الأمة وصحة أجسامها. والآن تقضي مصالح بلادنا بأن نلزم الصمت فلا ننطق بكلمة هوجاء وأن نكظم غيظنا في صدورنا وأن نقوم بذلك الواجب العظيم؛ ألا وهو إحياء الأمة فنرصد له ما يلزمه من الوقت حتى يصير عملا ثابتا يدوم مع الأيام، فإذا كان هذا العمل يقتضي عشرة أعوام أو عشرين عاما لإنجازه فيجب ألا نضن عليه بهذا الوقت، ولكن علينا أن نشرع من الآن حتى نرى في كل عام تقدم الجيل الجديد في القوة والذكاء وحب العلوم وحب الوطن بحيث تحمل قلوب الشباب عاطفة مزدوجة، ألا وهي أنه لا يخدم البلاد تمام الخدمة وينصح لها الولاء إلا من يخدمها بعقله وذراعه.
لقد تعلمنا نحن تعليما غير مهذب فعلينا أن نعالج أنفسنا من ذلك الغرور الذي جلب علينا البلايا العديدة، وعلينا أن نتحقق المسئولية، فإذا عرفنا العلاج بذلنا كل شيء للوصول إلى الغاية، وهي إحياء فرنسا، ففي سبيل هذه الغاية يجب ألا نبخل بشيء مهما عظمت قيمته وألا نسأل عن شيء آخر قبل تحقيقها، فأولى حاجاتنا في هذا السبيل هي التربية؛ تربية كاملة من القاعدة إلى القمة بمقدار ما يستطيعه الذكاء الإنساني. ومن الطبيعي أن نعترف بحقوق الجدارة فيجب إيقاظ الكفايات وتزكيتها، ويجب اصطفاء القضاة الأشراف النزيهين وأن تكون أحكامهم عمومية تثبت للجمهور أنه ليس ثم من مفتاح يفتح أبواب الحق سوى الجدارة، وعليكم أن تنبذوا أولئك الذين يضعون الأقوال مكان الأعمال وأولئك الذين يضعون المحاباة مكان الجدارة وأولئك الذين يحملون السيف لا لحماية فرنسا وإنما ابتغاء خدمة أحد الأشخاص يطوح بهم في سبيل أهوائه ويشركهم في جرائمه، هؤلاء هم دعاة السوء وفاعلو الشر الذين يجب عليكم أن تنبذوهم. (13) خطبة للنكولن
كان إبراهام لنكولن (1809-1865) زعيما لحزب تحرير العبيد في الولايات المتحدة الأميركية ثم رئيسا لهذه الجمهورية الكبرى. وربما لم تقع في العالم حرب أشرف من هذه الحرب، فقد انشطرت الأمة شطرين: أحدهما المؤلف من أهل الشمال يقودهم لنكولن يرغب في محو العبودية ورفع الزنوج إلى مرتبة الأحرار، ولم تكن لهم مصلحة مالية في ذلك ولم يكن لهم مأرب خاص وإنما غايتهم تحرير الإنسان، وكان الشطر الثاني مؤلفا من أهل الجنوب وكانوا يستوردون العبيد من أفريقيا ويستغلونهم في مزارعهم فيسخرونهم لأعمالهم يشتغلون نهارهم بلا أجر لا يأخذون من أسيادهم سوى كفافهم من الطعام، واشتعلت الحرب وانهزم أهل الجنوب وفتح بذلك للإنسان فتح جديد في المبادئ الأدبية العليا. وقد ألقى لنكولن الكلمات الآتية في خطبة افتتاح عهد الرياسة الثانية، قال:
أبناء وطني، في وقوفي الآن أمامكم للمرة الثانية لكي أقسم يمين عهد الرياسة لا تتيح لي الفرصة أن أسهب في الكلام بمقدار ما فعلت في المرة الأولى، فقد كان من المناسب في ذلك الوقت أن ألقي أمامكم بيانا مفصلا بعض التفصيل عن الخطة التي أزمعنا اتباعها. أما الآن فبعد انصرام أربع سنوات تليت فيها تصريحات عمومية عن أماكن النزاع ووجوهه - هذا النزاع الذي لا يزال يستغرق جهود الأمة وهمها - فليس لدي من القول مما جد سوى القليل، فإن تقدم جيوشنا الذي يتوقف عليه كل شيء آخر معلوم لديكم كما هو معلوم لدي، وإني أعتقد أنه تقدم يجب أن نقنع به ونتشجع منه. ولست أجرؤ على التنبؤ ولكن رجائي في المستقبل عظيم، وقد كانت أفكارنا في مثل هذا الموقف منذ أربع سنوات تتجه نحو حرب أهلية وشيكة الوقوع، وكنا كلنا نخشى هذه الحرب، وكنا كلنا نبحث عن السبيل إلى تجنبها. وبينما كانت الخطبة الافتتاحية تلقى من هذا المكان وكانت كلها تدعو إلى الاتحاد وتجنب الحرب كانت العوامل الثائرة تعمل في المدينة لتمزيق هذا الاتحاد بدون الحرب وقسمة الغنائم بالمفاوضات، وكان كلا الحزبين يكره الحرب ولكن كان أحدهما يؤثر الحرب على تمزيق وحدة الأمة، فكانت الحرب.
كان العبيد السود يؤلفون الثمن من سكان هذه البلاد ولم يكونوا متوزعين بالتساوي في أنحائها وإنما كانوا يسكنون الجنوب، ومن هؤلاء العبيد كانت تنتفع أناس منفعة خاصة عظيمة، وكلنا كنا نعرف أن هذه المنفعة ستثير الحرب، وكان الثائرون الداعون إلى تمزيق وحدة الأمة يقصدون إلى تقوية هذه المنفعة وتخليدها ومد شبكتها ولم يكن قصد الحكومة إلا تحديد هذه المنفعة وقصرها على مكانها دون أن تتسع دائرتها إلى ولايات أخرى، ولم يكن أحد الحزبين يتوقع أن تبلغ الحرب هذا المدى أو تطول إلى هذه المدة، كما لم يكن أحدهما يتوقع حسم النزاع والاتفاق قبلما تعرف نتيجة الحرب، فكان كلاهما ينتظر انتصارا سهلا أهون في النتائج وأقل في الروعة، فكلاهما يقرأ إنجيلا واحدا ويصلي لإله واحد، وكلاهما يدعو الله أن يعينه على خصمه! وربما يتراءى لكم من الغريب أن يدعو إنسان ربه لكي يؤيده في انتزاع الخبز من عرق جبين الآخرين ولكن لنترك الحكم على الناس حتى لا يحكم علينا. ولم يستجب الله لدعوات أحد الحزبين استجابة تامة لأن للخالق مقاصد لا ندركها.
وإذا نحن اعتقدنا أن هذا الرق الأفريقي هو أحد تلك الذنوب التي قدر الله حدوثها في وقت ما، وأن هذا الوقت قد انقضى بحكم الله وأن عنايته الإلهية قد قضت بأن يزيل هذا الذنب وأنه قد أوجد هذه الحرب الهائلة لهذا القصد، فهل نجد في هذا مخالفة للصفات الإلهية التي يؤمن المؤمنون بوجودها في الله؟
وإنا لنرجو الرجاء كله ونصلي الصلوات الحارة لكي تنتهي هذه الحرب العتيدة وتزول بليتها عنا، ولكن إذا كانت إرادة الله قد قضت بأن تستمر هذه الحرب حتى تأكل الأموال التي تكدست من كد العبيد كدا غير مكافأ مدة مائتي وخمسين عاما وحتى يأخذ السيف من دم سادة العبيد مقدار ما أخذه هؤلاء بالسوط من دم عبيدهم كما قيل منذ ثلاثة آلاف عام فيجب أن نقول إن إرادة الله هي الإرادة الصادقة وهي الإرادة الحقة.
فلنجاهد في إنهاء هذا العمل الذي نحن فيه وصدورنا خلو من النيات السيئة نحو الناس وقلوبنا تفيض بالتسامح نحو الجميع ثابتين في الحق كما يرشدنا إليه الله حتى نضمد جراح الأمة. وعلينا أن نعنى بذلك الذي اصطلى بنار الحرب ونعنى بمن تركه من الأيامى والميتمين، وأن نعمل كل ما يهيئ لنا صلحا دائما بيننا وبين جميع العالم. (14) خطبة لكافور
كان كافور (1810-1861) من عظماء ساسة القرن التاسع عشر؛ فقد أسس دولة إيطاليا الحديثة وتوج عليها الملك فكتور عمانوئيل فكان لمملكة إيطاليا بمقام أبي مسلم الخراساني للدولة العباسية، ولكنه لم يجز على فضله جزاء سنمار كما كوفئ أبو مسلم. ومات بعيد إتمام عمله بشهور مذكورا من بني وطنه بالفضل والحمد. وهذه الخطبة التالية ألقاها يناشد فيها قومه بأن يجعلوا رومية عاصمة الدولة الجديدة، قال:
يجب أن تكون رومية عاصمة إيطاليا إذ ليس هناك حل للمسألة الرومانية ما لم توافق إيطاليا أوروبا على هذا المبدأ، وإذا كان هناك من يتوهم أن إيطاليا المتحدة يمكن أن تعيش وتدوم دون أن تكون رومية عاصمتها فإني أصرح بأن المسألة الرومانية تبقى مع ذلك صعبة الحل إن لم يكن حلها عندئذ محالا، ولعلكم تسألونني عن السبب في تشبثنا بحقنا أو بواجبنا في جعل رومية عاصمة إيطاليا المتحدة؟ ذلك لأنه إذا لم تكن رومية عاصمة إيطاليا فوجود مملكة إيطاليا لن يتحقق، وهذه حقيقة يشعر بها الإيطاليون شعورا غريزيا ويؤكدها جميع الذين يزنون المسائل الإيطالية من الأجانب بميزان الحق والنزاهة، وهي حقيقة لا تحتاج إلى إيضاح لأن الأمة بأجمعها تقول بها وتناصرها.
ومع ذلك، أيها السادة، فهذه الحقيقة يدعمها برهان بسيط، وذلك أن إيطاليا لا تزال في حاجة إلى عمل أشياء عديدة قبلما تستقيم على قاعدة ثابتة وأمامها عديد من المسائل التي أوجدها اتحادها الجديد، والتي تحتاج إلى حل سريع وأمامها من العراقيل التي أوجدتها التقاليد التليدة ما يحتاج إلى التمهيد؛ تحقيقا لهذا المشروع العظيم. ومن الضروري لكي ينجح مشروعنا ألا يكون هناك سبب للشقاق والقطيعة، وما دامت مسألة العاصمة لا تزال باقية معلقة فإن الخلاف والشقاق سيستمران بين الولايات الإيطالية.
ومن السهل أن نعرف السبب الذي من أجله يقترح البعض من ذوي الثقافة والنبوغ والنية الحسنة أن تكون العاصمة مدينة أخرى غير رومية مستندين في ذلك إلى اعتبارات فنية أو تاريخية أو غير ذلك. والكلام في هذا الشأن ممكن الآن ولكن لو كانت رومية هي العاصمة لما استطاع أحد أن يناقش في الموضوع، وحتى أولئك الذين يعارضون في اتخاذ رومية عاصمة الآن لن يعارضوا إذا رأوا أن الفكرة قد تحققت، فالوسيلة لحسم النزاع والشقاق بيننا لا يكون إلا بإعلان رومية عاصمة لإيطاليا.
ومما يسوءني أن أرى ناسا من الممتازين بالرفعة والنبوغ ومن ذوي المآثر في الاتحاد الإيطالي يجرون هذه المسألة إلى مناقشاتهم فيحاج بعضهم بعضا بحجج الأطفال.
إن مسألة العاصمة أيها السادة ليست من المسائل التي ينظر فيها إلى الاعتبارات المناخية أو الجغرافية أو الحربية، ولو كان لهذه الأشياء شأن لما كانت لندن عاصمة إنجلترا ولما كانت باريس عاصمة فرنسا. كلا، إنما تنتخب العاصمة لاعتبارات أدبية، ومشيئة الأمة هي التي يجب أن تكون الفاصلة في موضوع كهذا يلصق بها أشد الالتصاق.
ففي رومية وحدها قد اجتمعت جميع الظروف التاريخية والذهنية والأدبية التي تحتم جعلها عاصمة دولة كبيرة، فرومية هي المدينة الوحيدة التي لها من مأثورها التليد ما يخرجها عن أن تكون بلدة ذات أهمية محلية، فإن تاريخها من عهد القياصرة إلى اليوم هو تاريخ مدينة قد رفعتها أهميتها إلى أن تعدو حدودها وإلى أن تكون إحدى عواصم العالم، فاقتناعا بهذه الحقيقة أراني مضطرا إلى أن أصرح لكم وللأمة وإلى أن أناشد وطنية كل إيطالي كما أناشد جميع نواب البلاد بوجوب وقف هذا النزاع حتى يتاح لممثلي أمتنا في البلاد الأجنبية أن يعلنوا أن الأمة تقرنا على جعل رومية عاصمة الدولة. وأظن أن أولئك الذين يخالفونني لأسباب أعرف قيمتها وحرمتها يرون إنني على حق في هذه المسألة، واذكروا أني أنا لي مدينة أخرى (تورين) لا أستطيع ألا أبالي بمشيئتها، وإنه لمن بواعث حزني العميق أن أنبئ أهل بلدتي بأن ينكروا على أنفسهم هذا الأمل في جعل بلدتهم مركزا للحكومة.
أجل أيها السادة، إني باعتبار شخصي لست أسر بالذهاب إلى رومية، فإني غير حاصل إلا على القليل من الذوق الفني، فلذلك عندما أجدني بين أطلال رومية الفخيمة قديمها وحديثها أرثي لبلدتي الساذجة الخالية من الخيال والفنون، ولكني أثق بشيء واحد ألا وهو أن أهل بلدتي بما عرفت من خلقهم وبما عرفت من استعدادهم للبذل والتضحية في سبيل إنجاح قضية البلاد المقدسة ورغبتهم في التضحية لهذه القضية حتى وقت أن كانت بلدتهم تغزوها الأعداء، أقول إني لست أخشى ألا ينصروني وأنا نائبهم وألا يبذلوا مصالحهم في سبيل إيطاليا المتحدة.
وإن الأمل بأن عاصمة إيطاليا ستكون «المدينة الأبدية» يملؤني عزاء بأن هذه المدينة لن تنسى فضل تلك البلدة التي كانت مهد الحرية والتي غرست فيها غراسها فأثمرت وانتشرت فروعها من جزيرة صقلية إلى جبال الألب.
لقد قلت وأعيد قولي بأن رومية ورومية فقط يجب أن تكون عاصمة إيطاليا. (15) خطبة لمازيني
كانت إيطاليا قبل أن تتحد وتصير مملكة واحدة يحكمها برلمان على رأسه الملك فكتور عمانوئيل جزءا من الإمبراطورية النمسوية وغنما مقسما بين أمرائها يسام أهلها الخسف ويجرعون كئوس الذل حتى قيضت لها الأقدار ثلاثة من رجالها هم كافور وغاريبالدي ومازيني فنهضوا بالأمة ونشروا لواء الاتحاد فانضوى إليه جميع أبنائها وقامت الحرب بين الغاصبين الأقوياء وبين الوطنيين الضعفاء. فوجد الوطنيون من حقهم قوة تغلبت به على باطل الغاصبين فانهزموا وتركوا الحق لذويه والوطن لأهله. وكان مازيني (1808-1872) أخطب الثلاثة، وكان دفاعه عن قضية الوطن بالقلم أكثر مما كان بالسيف. وهذه الخطبة التالية ألقاها مازيني في ميلاد سنة 1848 تأبينا لشهداء كوسنتسا الذين قتلهم الأعداء ويحاول فيها الخطيب إثارة الوطنية في نفوس أبناء بلاده، قال:
عندما ندبني شبابكم لكي أفوه ببضع كلمات تقديسا لذكر بانديره وإخوانه الذين قضوا شهداء في كوسنتسا خامرني الظن بأن بعض الذين سيسمعونني سيهيبون بي وقد أخذهم الغضب قائلين: «دعنا من رثاء الموتى فإن التكريم الذي يليق بشهداء الحرية هو أن نظفر في المعركة التي شرعوا في القتال فيها، فإن كوسنتسا التي ماتوا فيها لا تزال مستعبدة والبندقية التي ولدوا فيها لا تزال محوطة بالأعداء، فلنشرع في تحريرهما ولا ندع يمر بأفواهنا قبل تخليصهما سوى كلمات الحرب.»
ولكن خطر ببالي شيء آخر، فإني تساءلت: لماذا لم نظفر للآن؟ ثم لماذا بينما نحن نقاتل للاستقلال في الشمال تموت الحرية في الجنوب؟ ثم لماذا بدلا من أن نقاتل في حرب كان يجب أن نثب وثبة الأسد نحو جبال الألب نرانا الآن وقد مضى علينا أربعة أشهر ونحن ندب دبيب العقرب المترددة قد حيطت بحلقة من النار؟ وكيف تنقلب نهضة أمة قد شملها إحساس قوي سريع إلى جهد المريض الجازع يتقلب في يأسه من جنب إلى جنب؟
أجل، لو أننا كنا ارتفعنا إلى قداسة الفكر الذي مات من أجله هؤلاء الشهداء، ولو كان لواء إيمانهم المقدس يتقدم شباننا نحو المعركة، ولو كنا نحس ذلك الاتحاد الذي كان قويا في قلوبهم، ولو كان هذا الاتحاد يجعل من كل فكر من أفكارنا عملا ويخلق من كل عمل من أعمالنا فكرا، ولو كنا ادخرنا كلماتهم الأخيرة في قلوبنا وتعلمنا منهم أن الاستقلال والحرية وحدة لا تنفصل وأن الله والأمة أو الوطن والإنسانية كلمتان لازمتان لكل أناس يسعون في أن يكونوا أمة متحدة. ولو كنا نعرف أن إيطاليا لن تعيش عيشا حرا حتى تصير مملكة واحدة يزكيها حبها لأبنائها والمساواة التي تشملهم ويعظمها احترامها للحق الأبدي وتستغرق مجهوداتها الأماني العليا فنصير بذلك أشبه بكنيسة أدبية بين أمم أوروبا. أجل لو فعلنا ذلك لما كنا الآن في حرب بل لكان النصر يرفرف علينا، ولما كانت كوسنتسا تحتفل بشهدائها خفية وسرا ولما كانت منعت البندقية من إقامة أثر لذكراهم، ولكننا الآن نهتف لأسمائهم لا يخامرنا الشك في مستقبلنا ومصيرنا ولا تغمنا سحابات الكآبة، ولكنا الآن نقول لأرواحهم: «ابتهجوا فإن أرواحكم قد تجسمت في إخوانكم، فهم جديرون بكم.»
إن الفكرة التي عبدوها لم تشرق للآن على أعلامكم بطهارتها وكمالها، وهذا البرنامج السامي الذي خلفوه للجيل الإيطالي الناشئ هو برنامجكم، ولكن المذاهب الكاذبة المنبوذة التي سكنت إلى قلوبكم قد شوهت هذا البرنامج بل فتتته ومزقته إربا، وإني ألتفت ذات اليمين وذات الشمال فأرى جهود الجماعات وتفانيها وهي تتراوح بين الغضب تسخو فيه بنفوسها وبين الدعة تطمئن إليها فتنزل عن مقامها، وما هو أن نسمع صوت الحرية حتى تطن في آذاننا كلمات العبودية، ولكن أين هي نفس الأمة؟ وأين هو الاتحاد في هذه الحركة المختلفة الأشكال والجهود؟ بل أين هي الكلمة التي يجب أن تسود على جميع النصائح التي تسدى إلى الجمهور لاستهوائه أو استغوائه؟ فإني أسمع أقوالا وعبارات هي بمثابة الافتئات على سيادة الأمة، فهناك من يقول: «إيطاليا الشمالية» أو «عصبة الولايات» أو «اتحاد الأمراء» ولكن إيطاليا أين هي؟ أين هي البلاد التي تجمعنا والتي حيا فيها شهيدنا بنديره؟
إننا ونحن في نشوة الانتصارات الأولى قد نسينا المستقبل ونسينا معه تلك الفكرة التي ألهمها الله أولئك الذين تألموا، وقد عاقبنا الله على نسياننا بتأخير انتصارنا. واذكروا يا إخواني أن هذه الحركة الإيطالية هي بحكم الله حركة أوروبا بأجمعها فإننا نهضنا لكي نسدي إلى العالم الأوروبي ضمانا لتقدمه الأدبي، ولكن لا يمكن إحياء أمتنا ورميها بالأكاذيب السياسية أو أطماع الأسر المالكة أو نظريات الوصوليين؛ وذلك لأن الإنسانية إنما تحيا وتتحرك بالإيمان وما المبادئ العليا إلا نجوم هدى ترشد أوروبا نحو المستقبل، فلنتوجه نحو أجداث أولئك الشهداء الذين ماتوا في سبيلنا ولنستلهمهم نجد في عبادة إيمانهم سر الظفر والانتصار.
إلا أن ملائكة الظفر وملائكة الاستشهاد أخوة وإنما ينظر الأولون إلى الأرض ويتطلع الآخرون نحو السماء، وعندما يحين الحين وتتلاقى نظراتهما بين الأرض والسماء يزدان هذا العالم بحياة جديدة إذ ينهض شعب من مهد القبور ...
أحبوا أيها الشبان المثل الأعلى، أحبوه وأكرموه، فإن المثل الأعلى هو كلمة الله، ففوق جميع الأقطار بل فوق الإنسانية يوجد الوطن الروحي؛ مدينة النفس، حيث يؤمن الجميع بحرمة الفكر وكرامة النفس الخالدة وهم بهذا الإيمان إخوان، وسبيل هذا الإخاء هو الاستشهاد، ومن هذا المستوى الأعلى تصدر المبادئ التي يكون بها فداء الأمم. فانهضوا لأجل هذا المثل الأعلى ولا تجعلوا سبب نهضتكم نفاد صبركم أو آلامكم أو خوفكم من المكاره، واذكروا أن الغضب والكبرياء والطمع وشهوة الثراء عدة الغالب والمغلوب على السواء، وأنتم لو هزمتم عدوكم بهذه العدة اليوم فإنكم مهزومون بها في الغد وإنما ميزتكم في المبادئ إذ ليس لعدوكم سلاح يفلها، وعليكم أن تعودوا إلى حماستكم الأولى وإلى أحلام نفوسكم العذراء ورؤيا شبابكم الأول إذ فيها روائح الجنة التي تبقى في النفس من لدن نفخها الله فيها، واحترموا فوق كل شيء ضميركم ولا تنطقوا إلا بالحق الذي زرعه الله في قلوبكم وارفعوا العلم الذي يعلن إيمانكم عندما تشتغلون مع غيركم لتحرير أرض الوطن.
إن ما أقوله لكم هو ما كان يقوله لكم شهداء كوسنتسا لو كانوا للآن أحياء بينكم. والآن أشعر كأن هاتفا من أرواحهم قد استجاب إلى حبنا فهي الآن تطيف بنا فأدعوكم إلى ضم هذه الأرواح إليكم كنزا تدخرونه في وسط هذه العواصف التي تهددكم والتي سنتغلب عليها بقوة أسمائهم التي تلفظ بها شفاهنا وإيمانهم الذي يعمر قلوبنا.
كان الله معكم ولتنزل بركاته على إيطاليا. (16) خطبة لبت
كان وليم بت (1759-1806) خطيبا وابن خطيب نزع به العرق الدساس إلى احتراف حرفة والده لورد تشاتام فصار زعيما سياسيا كبيرا وخطيبا مصقعا، وكانت مهمته التي أرصد لها حياته ووقف عليها مجهوداته مكافحة نابليون، فقد ألب على هذا الجبار الفرنسي دول أوروبا وهيأ له الجيوش والأساطيل، ولا يعلم ماذا كان يكون مصير العالم لو لم يخضد بت شوكة نابليون في بدايتها.
وقد ألقى هذه الخطبة عن «الخطر الفرنسي» بمناسبة الشطط الذي تناهت إليه الثورة الفرنسية وانتصارات نابليون الحربية. وكان البرلمان الإنجليزي قد تهيأ لمنح روسيا إعانة لكي تخلص أوروبا من فرنسا، قال أمام أعضاء البرلمان الإنجليزي:
إن لنا من عزة النفس والولاء السامي وسجاحة الخلق وشرف الروح ما يعمر قلوبنا ويملأ نفوسنا بهجة فنمتاز بذلك على سائر الأمم ونجد في هذه الصفات ضمانا يؤمن بلادنا ويجعلها في حرز من غزو المعتدين. أما بخصوص هذا الشيء الذي يقلق بال بعض الأعضاء - وهو تخليص أوروبا - فإني لن أسهب في ذكر تفاصيله، فلن أقول إنه يجب تخليص أوروبا مما تعانيه الآن أو مما تنتظر وقوعه في المستقبل أو من عدوى المبادئ الكاذبة أو من هموم هذا الزمن القاتلة أو من انحلال الحكومات وموت الأديان وتهدم النظم الاجتماعية وغير ذلك مما سيلازم انتصار الجمهورية الفرنسية، إذا كانت لسوء حظ البشر ستنتصر على الرغم مما يصرف من الجهود في مكافحتها. كلا، لن أقول مم يجب تنجية أوروبا وتخليصها؛ لأنه من السهل أن يجمع الإنسان جميع الأخطار التي تتعرض لها أوروبا فيجد أنها بأجمعها عائدة إلى وجود الحكومة الفرنسية وقوتها، وإذا كان ثمة من يصرح بأن هذه الحكومة ليست جائرة فهو مخطئ أشد الخطأ وجاهل يجهل حقيقة هذه الحكومة، إن جورها هائل كريه تقبض على حياة الخاضعين لها وثروتهم فتتصرف بها وتبذلها ضحية لأطماعها وقسوتها وظلمها. إن هذه الجمهورية الفرنسية قد حيطت بسياج من الجرائم وهي إنما تحتفظ بوجودها الآن لأنه ينظر إليها بعين الخوف والرهبة فلا يقترب من حصونها الكافرة أحد إلا ويرتد فازعا.
وعلى هذا المبدأ لا أظن أن العضو الموقر يخالفني في أن تأمين بلادنا هو غاية هذا الكفاح الشرعية. وفي هذا القدر ما يكفي لجعل كلامي مفهوما. أما سؤال العضو الموقر: «هل تريد الحكومة متابعة الحرب حتى تنهزم الجمهورية الفرنسية؟ وهل نيتها ألا تعامل فرنسا ما دامت جمهورية؟» فجوابي الصريح عليه أني أقول إن آرائي تعدو حدود البلاد الفرنسية، فإني أفكر في سلوك فرنسا ومبادئها وخلقها، وأنظر في هذه الأشياء فأرى فيها خراب الأمم التي حالفت هذه الحكومة. وعلى ذلك أقول إنه ما دامت هذه الكتلة الضخمة المؤلفة من الجنون لم تتغير تغيرا كاملا، وما دام خلق هذه الحكومة باقيا كما هو، وما دمت لا أستطيع أن أقول وأنا مؤيد برأي جميع الناس إن فرنسا لم تعد تزدري حقوق الأمم الأخرى، وإنها لا تدبر التدابير لبناء إمبراطورية كبيرة، وإنها قد اهتدت إلى حكومة تحتفظ بهذه العلاقات التي بينها وبين الأمم الأخرى والتي لا يمكن أقواما متحضرين أن يعيشوا آمنين بدونها، والتي هي أيضا مصدر مجدهم وذكرهم؛ أقول إننا لا يمكننا أن نتعامل مع فرنسا ما دامت هذه الشروط غير متوافرة فيها.
والوقت الملائم للمناقشة في الصلح هو الوقت الذي يمكنكم فيه أن تثقوا بالوصول إلى صلح شريف يعيد إلى أوروبا نظامها القديم متزنا وطيدا ويعيد إلى كل دولة تدخل في المفاوضات تلك المكانة التي تضمن استقلالها كما تضمن الأمن العام في أوروبا.
هذا هو اعتقادي الذي لا أخشى الجهر به أعرضه على أذهان الطبقات المفكرة في العالم البشري، فإذا لم تكن قد سمعتهم السفسطة الفرنسية وأزاغت أبصارهم فإني واثق من أنهم سيزكونني في إصراري على خطتي. وإني أرجو رجاء حارا أن تنظر الدول المشتبكة في هذا الكفاح إلى هذا الموضوع كما نظرت إليه، وأرجو على الخصوص أن يكون هذا هو نظر إمبراطور روسيا وهو ما لا أشك فيه. وعلى ذلك أطلب من هذا المجلس أن يوافق على المشروع الذي عرضته حكومة جلالة الملك بخصوص إعانة روسيا. (17) خطبة لولبرفورس
كان ولبرفورس (1759-1833) أحد أعضاء البرلمان الإنجليزي، وقد أرصد حياته لغرض واحد لم يعده إلى غيره استغرق جهوده فعاش لهذا الغرض ومات بعد أن تحقق أكثره ولم يبق إلا أقله، فقد قام في ذهنه منذ صباه أن الرق جور بالغ يجب قمعه ومحوه. وكان الزنوج في إنجلترا إلى عهده «عبيدا» يباعون ويشترون بيع السلع، فقضى ولبرفورس عشرين سنة في إقناع الأمة والبرلمان بضرر النخاسة حتى اقتنع كلاهما بصحة مذهبه، فألغى البرلمان الرق في سنة 1807، ثم أخذ في إقناع الأمة بضرر النخاسة في المستعمرات، وعرض مشروع الإلغاء في البرلمان وقرئ القراءة الثانية ثم لم تمض ثلاثة أيام حتى مات ولبرفورس. والقطعة التالية مختارة من إحدى خطبه عن إلغاء الرق، قال:
إني مقتنع بأنه مهما اختلفت آراؤنا فإننا اليوم متفقون مجمعون، فإني لا أستطيع أن أعتقد بأن مجلس العموم الإنجليزي سيصدق على هذه التجارة الجهنمية؛ أعني تجارة الرقيق في أفريقيا. لقد مضى علينا وقت جهلنا فيه طبيعة هذه التجارة ولكنها قد تكشفت لنا أساليبها الآن وظهرت عارية بجميع صنوف قطاعاتها. والحق أنه لم يظهر في العالم نظام شبيه بهذه التجارة من حيث إنها حافلة بالقسوة والشر، فهي تصل إلى أبعد مدى في العدوان الملح والشر المصفى. وهي تستهين بالمزاحمة وتجل عن المقارنة؛ لأنها فريدة في تفوقها الممقوت.
ولكني يا سيدي الرئيس أراني مغتبطا إذ تقدم الجمهور البريطاني في هذه الفرصة وأعلن عن شعوره بوجه صريح بعيد عن الإبهام في هذا الشأن. ولست أستطيع الأداء عما خامرني من السرور لفوز قضيتنا حتى صارت الأمة تنظر إلى مسعانا نظر الموافقة والود بدلا من المقاومة وعدم الثقة السابقين. وقد كان من أثر هذا الشعور أن ارتفع المستوى الأدبي في البرلمان؛ إذ مهما ظن الناس أو تحدثوا عن الخلافات الحزبية في البرلمان وتفشيها تفشيا مطلقا فإن الأمة البريطانية بل سائر الأمم المحدقة بنا قد عرفت بأن هناك من الموضوعات ما هو فوق الأحزاب، فهناك الرباوة العليا التي نرتفع إليها بعيدين عن هذه النزاعات والخلافات التي يثيرها سافي السهول. وإذا كنا نعيش ونحيا في جو حافل بالأبخرة والسحب تلعب بنا آلاف الرياح المتعاكسة والتيارات المتضادة فإننا في هذه القضية نحيا الآن في طبقة عليا يكتنفها هواء صاف هادئ نقي قد خلص إلينا من كل ما يثير القلاقل «كالصخرة العصماء ترتفع مشمخرة نحو السماء فلا يبلغ مجهود العاصفة أن ينال نصفها، تطيف بها حول صدرها سحب تمخر الأجواء ولكنها لن تبلغ الرأس حيث أشعة الشمس الأبدية قد استقرت واطمأنت.»
فعلى هذه الرباوة العليا إذن يجب أن نبني «كعبة» الخير والبر وعلينا أن نوطد الأساس في الحق والعدالة، وليكن منقوشا على بابها «السلام والبر لجميع الناس». وهنا يجب أن نقدم باكورة نجاحنا وأن نرصد حياتنا لخدمة هؤلاء التعساء تضطرم في أحشائنا حماسة سخية تقتضي منا إصلاح ما جلبناه من الأذى على هؤلاء المساكين. فلنأسون الجراح التي فتحناها، ولنبتهج بأننا الوسيلة السعيدة لوقف السلب والخراب وبأننا قد أدخلنا إلى تلك البلاد المترامية الأطراف بركات المسيحية ورفاهيات المتحضرين وحلاوة الحياة الاجتماعية. واعتقادي أنه ليس بين من يسمعني من لا يرحب بقدوم هذا العصر السعيد ومن لا يشعر براحة العقل وسلوى النفس عندما يفكر ويتأمل في هذه الخواطر الجميلة. (18) خطبة لأنجرسول
يعد أنجرسول (1833-1899) من الطبقة الأولى بين مفكري الأميريكيين وخطبائهم، وكان من خصوم المسيحية ولكنه كان على الرغم من ذلك محبوبا من الجماهير يتوافدون لسماع خطبه فيأخذ في إقناعهم (أو إغوائهم) حتى يستهويهم بألفاظ وعبارات «لها أنفاس الموسيقى وإيقاع الأشعار حتى ليكاد نثره يقرأ شعرا لما في تأليف جمله من الإيقاع.» وهو مع كفره بالأديان ليس في اللغة الإنجليزية من الخطب ما هو أحفل بالروح الدينية من خطبة ألقاها عند وفاة أخيه تنبض بالعطف والمحبة وتثبت أن أنجرسول كان يؤمن بالحياة الأخرى، قال:
إخواني، إني سأفعل الآن ما وعدني به كثيرا هذا الفقيد أن يفعله لي، هذا الفقيد الذي كان أخا وزوجا وأبا فمات في ضحوة الرجولة ولما يبلغ ظهيرتها والظل لما يزل يميل إلى الغرب.
إنه لم يجز في طريق الحياة تلك الأعلام التي تدل على أنه قد بلغ أقصاها ولكنه شعر بالأعباء فانتحى جانبا من الطريق وألقى عبئه على الأرض متوسدا إياه فأخذه نوم لا تكدره أحلام وأطبق جفنيه، فمات وذهب إلى عالم صامت، عالم التراب وهو بعد متعلق بالحياة يطرب للعالم.
ولعله من المفضل الأحسن أن تصطدم السفينة بالصخرة المختفية فتغوص في لحظة إلى القرار تحت الأمواج المصطخبة والسفينة بعد في أسعد ساعات سفرها تقبل الرياح أشرعتها وتسكب الشمس أشعتها عليها؛ لأن مصير السفينة إلى التحطم سواء أكان ذلك في أرض الساحل أم في وسط البحر. وكل حياة بغض النظر عما إذا كانت حافلة بالحب مزدانة بالسرور ستنتهي في الختام إلى مأساة بها من الحزن والظلام ما هو حري بأن ينسج من لحمة الموت وسداه.
لقد كان هذا الرجل الشجاع الرحيم صخرة وسنديانا إذا عصفت عواصف الحياة ولكنه كان زهرا وكرما إذا انجابت السحب وصحت السماء. وكان صديقا للنفوس الجريئة يرتفع إلى القمم وينبذ تحت قدميه الخرافات بينما كان يتفجر من جبهته فجر ذهبي لعصر رائع.
كان يعشق الجمال وكانت تنهمل دموعه إذا ما مس نفسه جمال اللون أو جمال الشكل أو روعة الموسيقى. وكان ينصر الضعيف والمسكين والمظلوم ويبسط يده برا بالفقراء، وقد أدى ما عهد إليه من الخدمات العمومية بقلب ولي ويد طاهرة.
وكان من عباد الحرية وأصدقاء المظلومين، وكم من مرة سمعته وهو ينشد هذه الأنشودة: «لأجل العدالة أقيموا كلكم معبدا.» وكان يؤمن بأن السعادة هي خير ما في العالم، وأن العقل هو الشعلة الوحيدة وأن العدالة هي أحق ما يعبد وأن الإنسانية أليق الأديان والمحبة أفضل الكهان، فكان وجوده مما يزيد أفراح أصدقائه ولو أن جميع الذين أفادوا منه مصلحة حضروا اليوم إلى قبره وأهدى كل منهم إليه زهرة لنام هذه الليلة تحت عرم من الأزهار.
إن الحياة واد ضيق بين جبلين قاحلين من الأبدية، ونحن إنما نحاول عبثا أن يخترق بصرنا هذين الجبلين، ونصيح صيحات عالية فلا يجيبنا غير صدى أصواتنا، ومن شفاه الموتى الخرساء لا تخرج لنا كلمة ولكن في ليل الموت هذا يرى الأمل نجما ويسمع الحب المنصت حفيف الأجنحة.
وهذا الذي ينام الآن أمامكم نوم الموت شعر وهو في النزع باقتراب الموت فخاله عودة الصحة فهمس كلمته الأخيرة: «حالي أحسن الآن!» فلنؤمن على الرغم من الشكوك والتحكمات والمخاوف والدموع أن هذه الكلمات العزيزة تصدق على جميع الموتى.
وإليكم أنتم المصطفون من الأصدقاء الكثيرين الذين كان يحبهم وقد جئتم الآن لكي تؤدوا هذه المهمة الأخيرة للفقيد نقدم رماده. (19) خطبة لماكولي
كان ماكولي (1800-1859) من أدباء إنجلترا المعدودين «ما مس شيئا إلا زانه، فليس هناك ما يضارع ما كتبه ماكولي من المقالات الساحرة المتوهجة ، وليس هناك من التواريخ مثلما ألفه ماكولي من حيث القدرة على فتنة القارئ، وقد قيل عن أسلوبه إنه يتسم بالقوة والنشاط والجزالة والوضوح وفوق ذلك تلك السمة التي قل وجودها الآن وهي صحة اللغة.»
وقد ألقى الخطبة التالية في سنة 1846 عن «المعارف السطحية»، قال:
إن من الناس الذين أحب أن أتكلم عنهم بالاحترام والوقار من تعتريه المخاوف التي لا أساس لها عما يسمونه «المعارف السطحية» فهم يقولون إن المعارف الجديرة بأن تسمى بهذا الاسم هي من البركات الإنسانية وهي حليفة الفضيلة وبشيرة الحرية، ولكن مثل هذه المعارف يجب أن تكون عميقة، فالجماعة التي قد شدت طرفا من الرياضيات وطرفا آخر من الهيئة وآخر من الكيمياء وقرأت شيئا من الشعر وأصابت شيئا آخر من التاريخ؛ مثل هذه الجماعة يقولون عنها إن وجودها مخطر بالمصلحة العامة، فالمعرفة السطحية في رأيهم شر من الجهل. وهم يستندون في زعمهم هذا إلى قول بوب «اشرب حتى ترتوي وإلا فلا تذق!» فالجرعة الصغيرة تسكر ولكن من عب أفاق. وإني أعترف بأن هذه التخوفات لم تعترني يوما ما وهذه الطمأنينة إنما يبعثني عليها عدم استطاعتي التمييز بين المعرفة السطحية والمعرفة العميقة؛ لأنه ليس عندنا من المعايير ما نقيس به عمق المعارف، والقائلون بهذا التمييز يتوهمون وجود حد فاصل بين العميق والسطحي من المعارف أشبه شيء بالحد الفاصل بين الحق والباطل، أما أنا فلست أجد هذا الحد. هبنا تحدثنا عن رجال العلم العميق فهل نعني بذلك أنهم قد بلغوا قرار العلم؟ هل نعني أنهم قد عرفوا كل ما يمكن معرفته؟ بل هل نحن نعني أنهم يعرفون الآن ما سيعرفه المبتدئون من الجيل القادم؟ إننا إذا قارنا بين الحقائق القليلة التي نعرفها وبين ما نجهل من الحقائق التي لا تحصى لاعترفنا بأننا كلنا سطحيون ولكان فلاسفتنا أول من يقر بأنهم سطحيون. ولو فرضنا أننا سألنا عالما مثل نيوطن عما إذا كان يعتد معارفه عميقة حتى في تلك العلوم التي لم يكن له فيها منافس لأخبرنا بأن حاله كحالنا، فكلانا مبتدئ، وهذا الفرق الذي بيننا وبينه يزول عندما يقارن بمقدار الحقائق التي لا تزال مجهولة، كما يزول الفرق بين الواقف في سفح الجبل والواقف على القمة إذا قورن بالمسافة التي تفصل الجبل عن النجوم الثابتة.
فيظهر لكم من ذلك أن أولئك الذين يخشون المعارف السطحية لا يعنون بتلك المعارف ما يمكن أن يسمى سطحيا عند المقارنة بما لا يزال مجهولا، لأن جميع المعلومات الإنسانية كانت ولا تزال وستكون سطحية إذا نحن قصدنا إلى هذا المعنى، فما هو إذن المعيار الذي يصح أن نتخذه لقياس المعارف؟ وهل يجب أن يكون واحدا في جميع البلدان وفي جميع الأوقات؟
لقد كان «راموهون روي» يعد بين الهنود من أعمق الناس معرفة بالثقافة الغربية، على أنه لو وجد في هذا المعهد لعد من السطحيين الذين لا يؤبه لهم. وكان سترابو يعد بحق منذ ثمانية عشر قرنا من أعمق الجغرافيين، في حين أن المعلم الذي يجهل اسم أميركا الآن يكون مضحكة بين البنات. وماذا نقول الآن عن معارف عظماء الكيمائيين في سنة 1746 أو عظماء الجيولوجيين في سنة 1746؟
فالحقيقة الراهنة أن الإنسان من حيث العلوم التدريبية في تقدم مطرد، ولكل جيل بالطبع صفوفه المتقدمة وصفوفه المتأخرة، ولكن الصفوف المتأخرة في الجيل الجديد تأخذ مكان الصفوف المتقدمة في الجيل السابق.
إنكم تذكرون قصة جوليفر، فقد تحطمت به سفينته في بلاد يسكنها أقزام صغار فكان بينهم عملاقا يخطو على أسوار عاصمتهم وإذا انتصب فاق طول قامته منائر معابدهم، فكان يجر أسطولا ملوكيا، وكان يمد ساقه فيمر تحتها جيش الملك يحمل الرايات ويدق الطبول، فإذا أفطر التهم أحد أهرائهم وإذا تعشى أكل قطيعا من مواشيهم، فإذا عطش عمد إلى دنان النبيذ فشربها جملة، ثم يسيح سياحته الثانية فيجد نفسه بين أناس يبلغ أحدهم في القامة ستين قدما فبينما كان يحتاج وهو في بلاد الأقزام إلى أن يحمل الناس على يديه ويضعهم عند أذنه لكي يسمع ما يقولونه له إذا به تفعل به العمالقة ما كان يفعله مع أولئك الأقزام. يتفرج السيدات بمشاهدته وهو يقاتل الجرذان والضفادع والزنابير، ثم يأتي قرد فيختطفه ويتسلق به إحدى المداخن فإذا بلغ القمة أرداه فيقع في صحفة من القشدة يسبح فيها ويخرج ناجيا بنفسه.
لقد كان هذا الرجل في بلدته الأصلية مثل سائر الناس ذا قامة اعتيادية فلما صار في بلاد الأقزام صار عملاقا وعاد قزما بين العماليق. وهكذا الحال في العلوم، فعمالقة أحد العصور قد يكونون أقزام عصر آخر. (20) خطبة للورد رسل
كان لورد جون رسل (1792-1878) أحد رؤساء الوزارة الإنجليزية وكان من أكبر زعماء حزب الأحرار في القرن التاسع عشر، تحت رايته نشأ غلادستون وعلى يديه اشتد ساعد الأحرار حتى صاروا قوة يحسب لها المحافظون حسابها. ومن مآثره إصلاح طرق الانتخاب للبرلمان، وكانت الأصوات تباع في زمنه بالنقد جهرا وكانت دوائرها لا تتناسب عددا ومن ينتخب منها. وهو أيضا صاحب الفضل في إلغاء المكوس الجمركية على الحبوب الواردة لإنجلترا.
وكان في الخطابة وسطا لا يأتي بالدون ولا يرتفع إلى الجيد الناصع ولكن خطبه كثيرة وأكثرها يتعلق بالشئون السياسية. وقد ألقى الخطبة التالية في معهد الميكانيكيين في ليدس وموضوعها «قيمة الصدق في الآداب» قال:
إن سعة هذا الموضوع تجعلني أشعر بضيق الوقت إذا حاولت أن أبحث بعض فروعه، ولكن لي كلمة أجدني جريئا على أن أقولها لكم وهي جديرة بأن يعتبرها كل من يتصدى لدرس الآداب.
ففي الأدب عدد لا يحصى من التآليف تختلف من حيث الذوق ومن حيث الصيغة، فمنها الرزين ومنها الزاهي. ومنها ما يتطوح مع الخيال ومنها ما لا يحيد عن المنطق، ولكنها جميعها تحتاج إلى شرط واحد هو في اعتقادي شمول الصدق لها. لقد قال أحد المؤلفين الفرنسيين إن الجمال ليس سوى الحقيقة وإن الحقيقة وحدها هي الجميلة، وإن الحقيقة يجب أن تنبسط على الأساطير الخيالية. وهذا قول حق؛ لأني أعتقد أنه لا يمكننا أن نقيس الأدب الخيالي وننقده تمام النقد إلا إذا صدق تمثيله للطبيعة.
ولعلي أحسن الإفصاح عما أريد إذا ضربت لكم مثلا أو مثلين، فقد عاش في القرن الماضي شاعر قد ذاع صيته واشتهر بحق بجزالة الخيال وقوة الإحساس؛ أعني به ينج، فإنه على الرغم من مواهبه لم يكن موفقا في صدق الأداء، فقد قال في إحدى قصائده: «إن النوم مثل هذه الدنيا سريع إلى زيارة من يبسم لهم الحظ، بينما هو يهجر البائسين، ولا يقع إلا على الجفون التي لم تكدرها الدموع.»
فإذا أنتم حققتم النظر في هذه الكلمات رأيتم أن الشاعر قد خلط شيئين معا، فقد خلط بين أولئك المجدودين الذين نالوا حظهم من هدوء البال وكمال العافية وبين أولئك المجدودين الذين حصلوا على الثراء، فانظروا الآن معي تجدوا أن أولئك الذين لم ينالوا حظهم من هذه الدنيا ورأوها قد تنكرت لهم والذين لم يبتسم لهم الحظ يهنئون بالنوم اللذيذ أكثر مما يهنأ به من يفوقونهم رتبة أو ثروة.
ولا شك في أنكم تذكرون شاعرا آخر صادق التمثيل للطبيعة، أعني به شكسبير، فهو يذكر في إحدى قصائده بحارا صغيرا قد أخذه النوم وهو في مكانه المزعزع على الصاري تحفه رياح العاصفة، بينما الملك لا يستطيع النوم في فراشه الوثير. فهذا هو الشاعر الذي لا يعدو حقائق الطبيعة.
فإذا أنتم نظرتم في هذه الاعتبارات وقستم الشعر بهذا المقياس وعولتم عليه أيضا في درس التاريخ وغيره حصلت لكم قوة التمييز وصرتم على بينة مما تقرءون، فتعرفون عندئذ ما إذا كان جديرا بانتباهكم وإعجابكم أو أنه كثير الأغلاط غير جدير بالالتفات. (21) خطبة للورد بيكونسفيلد
كان بيكونسفيلد (1805-1881) يهوديا «طالب دنيا» نشأ على دين موسى، فرأى أهل ملته مكروهين محرومين من بعض الحقوق المدنية، فتقمص بلباس المسيحية ودخل البرلمان، فكان قريع غلادستون، كلاهما على طرفي نقيض وكلاهما يرمي إلى غاية تختلف عن غاية الآخر. كان غلادستون حرا يقول بالديمقراطية، مسيحيا يخلص الإيمان للمسيحية، وكان رجل إيثار ونبل في العواطف إذا اهتاجته فاضت على لسانه وحيا يستطير لب الإنجليز فيأتمرون بما أمر وينتهون بما نهى. وكان بيكونسفيلد على عكس ذلك، كان محافظا يكره الديمقراطية ويخشاها، يهودي القلب في مسلاخ المسيحي، لم يكن للعواطف عنده شأن، تدفعه أثرته إلى تجشم المشاق لكي يرضي كبرياءه. فكان لذلك يتخذ هيئة خاصة في لباسه وفي مشيته، يروض نفسه على الكتابة والخطابة حتى بلغ فيهما شأوا عظيما. ولم يكن المثل الأعلى في جميع أطوار حياته غايته؛ لأنه لم يكن له من غاية سوى مصلحته الذاتية. ولو لم يعش في القرن التاسع عشر لكان هذا القرن خيرا وأحسن أثرا في السياسة للشرق والغرب مما كان، فهو الذي جاهد غلادستون في منح أرلندا استقلالها. والاستعماريون الإنجليز يذكرون ويشكرون له صنيعه في جعل ملكة إنجلترا «إمبراطورة» على الهند.
قال في إحدى خطبه عن «أخطار الديمقراطية»:
أعتقد أنه من الميسور أن نزيد عدد الناخبين في البلاد إذا بنينا هذه الزيادة على مبادئ لا تتعارض ومبادئ الدستور، فلا يكون الانتخاب من حقوق الأفراد بل امتيازا يمتاز به الفرد لما اكتسبه من فضائل أو لما له من ذكاء أو اجتهاد أو استقامة ويستعمله للمصلحة العامة، فإذا أنتم اطرحتم هذه القاعدة ورضيتم بالنظرية القائلة بأن لكل شخص الحق في الانتخاب ما دام لم تحكم عليه أحكام تحرمه هذا الحق، فإنكم بهذا العمل تهدمون أساس الدستور، وتهدمونه بكيفية تسقط كرامة الأمة.
إن بين المشروع الذي عرضناه وبين ذاك الذي عرضه العضو المحترم فرق ما بين الحكومة الأرستقراطية؛ أي الحكومة المؤلفة من نخبة الأمة وبين الحكومة الديمقراطية. وإني أرتاب كثيرا فيما إذا كانت الديمقراطية توافق هذه البلاد. ومن حق هذا المجلس أن يعرف عند النظر في هذا المشروع أن ما يدعى إليه إنما هو الاختيار بين المحافظة على الدستور الراهن أو قبول الديمقراطية.
وعلى المجلس أن يتذكر أن ما يعرض عليه الآن له قيمته من الثمن، فإن شعبنا له صفات خاصة، وليس في العالم الآن أمة تعيش في مثل الظروف التي نعيش فيها، مثال ذلك أن لنا كنيسة قوية قديمة ذات أوقاف ثمينة ومع ذلك نعيش في حرية دينية تامة، ولنا نظام لا يختل ترافقه حرية مستوفاة، وعندنا ضياع واسعة تشبه ضياع الرومانيين، ومع ذلك لنا نظام تجاري يفوق ما كان للبندقية وقرطاجنة مجموعتين، ومع هذه المتناقضات وهذه الخواص التي تتسم بها بلادنا نعيش في كنف حكومة لا تعتمد على القوة، فليس لنا جيوش مرابطة، كلا إنما نحن تحكمنا مجموعة من التقاليد القديمة التي احتفظ بها آباؤنا جيلا بعد جيل علما منهم بأنها تخلد العادات وتقوم مقام القوانين وماذا فعلنا بهذه التقاليد؟ أنشأنا بها أكبر إمبراطورية في العصر الحاضر، وجمعنا من رءوس الأموال مقادير تشبه ما يذكر في الأساطير، وأنشأنا نظاما من الاعتماد في الصناعة والعمل ليس له شبيه في التاريخ من حيث السعة والتراكب، وهذه الأعمال العظيمة لا تتناسب وثروة البلاد وعناصرها الأصلية، فإذا أنتم هدمتم أساس هذه العظمة فاذكروا أن إنجلترا لا يسعها أن تبدأ من جديد.
إن هناك بلادا قد قاست آلاما مبرحة وتعرضت لأخطار هائلة، هاكم الولايات المتحدة التي نزلت بها من المحن في أيامنا هذه ما سمعتم عنه، فقد رأيتم هناك حربا أهلية يتناحر فيها الإخوان عاشت مدى أربع سنوات، ولكن هذا الزمن على طوله وعلى ما كان فيه من عناء وخراب وكوارث لم يكن ليمنع الولايات المتحدة من البدء ثانيا لأنها في حال تشبه تلك الحال التي كان يعيش فيها أسلافنا في حرب الورود (سنة 1455)، عندما كان السكان لا يزيدون على ثلاثة ملايين نفس والبلاد تحتوي على ما لا يحصى من الأرض البكر والكنوز المعدنية التي لم تستغل بل التي لم تكشف بعد. وهاكم فرنسا، فقد قامت في تلك البلاد ثورة في أيامنا هذه غير ثورة أخرى حدثت في عصر آبائنا، وكانت كلتاهما انقلابا حقيقيا غير قاصر على تغيير الأحوال السياسية والاجتماعية، فقد اقتلعت مؤسسات الأمة اقتلاعا ومحيت فروق الهيئة الاجتماعية، بل بلغ التغيير حد إبدال الأسماء والأعلام. ولكن مع كل ذلك استطاعت فرنسا أن تبدأ من جديد؛ وذلك لأن لها متسعا من الأراضي الزراعية في أوروبا وسكانها كانوا ولا يزالون محدودي العدد يعيشون عيشة غاية في السذاجة.
ولكن إنجلترا، هذه البلاد التي نعرفها ونعيش فيها ونزهى بها ليس في مقدورها أن تبدأ من جديد. ولست أعني بذلك أنه إذا فشت في إنجلترا القلاقل ذهبت حضارتها وأصبحت خرابا يبابا! كلا، فإن ذكاء الأمة يعود فيأخذ في الظهور ويبقى شيء من الأخلاق ولكن إنجلترا هذه التي نعهدها بما فيها من مأثور الآباء وبأس الأبناء وبما فيها من الأموال والنظم التجارية تزول ... وإني أرجو أن المجلس عندما يدرك أن المشروع يراد به طعن دستور البلاد لن يأذن بالتقدم خطوة واحدة نحو الديمقراطية؛ إذ عليه أن يحافظ على النظام الحاضر الذي نعيش فيه على أرض إنجلترا. (22) خطبة لغلادستون
تاريخ غلادستون (1809-1898) هو في الواقع تاريخ إنجلترا في القرن التاسع عشر أو على الأقل تاريخها في ثلثيه الأخيرين، فليس هناك مسألة مهمة تتعلق بسياسة البلاد في هذه المدة لم يكن لرأيه أثر فيها. وكانت الميزة التي اتسمت بها شخصيته وجعلت الشعب الإنجليزي ينقاد إليه إخلاصه، فلم يكن يعرف «دهاء» السياسيين أو أساليب المواربة وطرق الغش والتمويه، وكان لسانه ترجمان قلبه، «ولم يكن له من يعدله في المناقشات البرلمانية في تاريخ البلاد. وكان صوته بطبيعته جميلا حلوا قويا نافدا يرن على أوتار جميع العواطف. وقد كان مرانه الطويل في مجلس العموم سببا في تنشئة مواهبه إلى أقصى حد، وكانت طلاقة لسانه تبلغ به حدا فاحشا بحيث تحمله فصاحته أحيانا إلى غاية بعيدة، ولكن المستمعين له لم يكن يظهر عليهم مع ذلك إنهم يسأمون الإصغاء إليه.»
وقد اخترنا القطعة التالية من خطبة ألقاها في جلاسجو في سنة 1865 عن «الحروب والاستعمار»، قال:
إذا رجعنا إلى تاريخ الإنسان في العصور الأولى نجد أنه كان يعيش بلا قوانين تحدد حقوق الأفراد، فكان أول ما يجول بخاطر الفرد إذا أراد أن يصلح من شئونه ويزيد ثروته أن يغير على جاره ويأخذ منه عنوة ما يملك، فكانت القرصنة والغزو في العصور الأولى يقومان مقام الحروب في العصور الحديثة. تسألون لماذا؟ فلننظر في عبر الحرب.
في الحرب فريقان لا يمكن أن يكون كلاهما على صواب، بل يمكن أن يكون كلاهما مخطئ. وإني أعتقد أنه إذا نظر مؤرخ نزيه في عدد عظيم من الحروب التي نشرت الخراب في العالم - بصرف النظر عن ذلك البعض الذي لا يشك فيه والذي سلت فيه السيوف في شأن الحق والعدل - فإنه يجد أن كثيرا منها قد أثاره الطيش والشهوات والطمع من الجانبين وأن نتائج هذه الحروب كان الندم ولات ساعة مندم عند كلا الفريقين!
ففي تاريخ العالم حروب دينية، وقد جزنا نحن هذا الطور، ولكني لست واثقا من أنه لم يكن لتلك الحروب ما يبررها من التعللات التي نجدها في الحروب الأخرى المدونة في التواريخ، فذلك الجنون الذي قاد الأمم إلى الحروب الدينية هو الذي ساقها بعد ذلك إلى حروب أخرى غير دينية. فقد جرت حروب بين أعضاء الأسر المالكة ينازل بعضهم بعضا ويسفكون دماء الأمم التي يتقاتلون من أجل الاستئثار بالتسلط عليها. واعتقادي أننا قد جزنا هذا الطور أيضا. وهناك حروب أبعد مدى وأخطر أثرا مما ذكرنا، وهي تلك التي تهاج لأجل التوسع والامتلاك. ولست أشك بأن بواعث هذه الحرب طبيعية في الإنسان ولكنها بواعث إجرامية مخطرة، وإني شديد الأسف لما أجد الآن في أيامنا الراهنة من أن الرغبة في الامتلاك والتوسع لا تزال حية في قلوب أمم تعيش في أقدم بلاد أوروبا حضارة.
ولكني أريد أن ألفت نظركم إلى الكيفية التي صارت بها هذه الرغبة في الامتلاك والتوسع سببا في سفك الدماء وإثارة الحروب بدرجة تفوق ما كانت عليه قبلا. فإنما كان ذلك وقت أن شرعت الدول الأوروبية في الاستعمار، كأنما قد ظهر لهم أن هذه الدنيا قد ضاقت بهم. لقد كنا نظن عندما ننظر إلى سعة هذا العالم وعندما نجد أن قليلا منه مأهول الآن، وأقل منه كان مأهولا قبلا منذ قرن أو قرنين من الزمان نرى أنه لم يكن هناك ما يدعو إلى الشجار لأن في هذه السعة مندوحة عنه، ولكن الاستعمار على الرغم من ذلك كان سببا في الحروب الدموية مع جيراننا. وكان أساس هذه الحروب تلك الشهوة القديمة؛ شهوة التوسع وامتلاك الأرضين . وبما أن أحوال أوروبا كانت قد استقرت واطمأنت ولم تجد الدول متسعا لمرضاة شهواتها في التوسع فيها كما كانت تجد لو كان الوقت وقت همجية وفوضى ذهبت بسلاحها وجيوشها عبر المحيط الأطلسي فنشبت هناك الحروب من أجل التوسع والامتلاك.
وهذا كان من شر أغلاط الإنسان وإليه تعزى أكثر حروب القرن الماضي. ولكن لو عرف آباؤنا كما نعرف الآن نعمة التجارة والتبادل الحر للبضائع لكانوا إذن في غنى عن جميع تلك الحروب؛ إذ ماذا كانوا يقصدون من تلك الحروب؟
كانوا يرمون إلى الاستعمار، ولكن الغاية البعيدة التي كانوا ينظرون إليها في الاستعمار لم تكن الامتلاك فحسب وإنما كانت زيادة أرباح الأمة من التجارة بين المستعمرات وبين الدول المالكة لها، ولهذا لم يكن خطأ الاستعمار قاصرا على أمة واحدة، فإن جميع الأمم سواء في ارتكاب هذا الخطأ.
هكذا كان خطأ إسبانيا في مكسيكا وخطأ البرتغال في البرازيل، وخطأ فرنسا في كندا ولويزيانا، وكان خطأ إنجلترا في استعمارها الهند الغربية والشرق. وكان جماع الخطأ في اعتقاد الجميع بأنه متى استعمرت إحدى البلاد القاصية صارت تجارتها وأرباح هذه التجارة وقفا على الدولة المالكة لهذه البلاد دون أن ينال غيرها منها شيئا. وكانت الحروب نتيجة هذا المذهب؛ لأن جميع الدول صارت تعتقد أن الاستعمار لا قيمة له ما لم يقصر امتياز التجارة على الدولة المالكة ومستعمراتها، ومن هنا نشأت أطماع الدول في الغارة على مستعمرات غيرها للحصول على هذا الامتياز.
لقد قضى ذكاء الإنسان المضلل في ذلك الزمن الذي أشرت إليه أن تكون التجارة التي يجب أن تكون سبيل الرابطة بين بني البشر سببا في إثارة الحروب وتبريرها هنا في بلادنا وغير بلادنا، نبررها عند الشروع فيها ونتمجد بها عند ختامها، فنأخذ من الجار مستعمرته ونعتبر هذا العمل توسيعا للمعاملات التجارية وترقية للصناعة في بلادنا. لقد كان هذا خطأ مخطرا جنونيا، وهو أحرى بهذه الصفات إذا اعتبرنا أننا نزعم أننا قد أقلعنا عن الطرق القديمة التي مارسها الإنسان في العصور الأولى؛ طرق الغزو والنهب، وملنا إلى الصلح والسلام. ولكني أرتاح الآن إلى القول بأننا قد أفلتنا من هذا الزعم الخادع، أجل ليس من الحكمة أن نفخر على آبائنا، لقد كانت أخطاؤهم تنسل إليهم انسلالا فلا يلحظونها ولا يقدرون جرائرها، ولعلنا نحن أيضا في هذا المركز تتسرب إلينا الأخطاء فلا نحس بها، وحقيق بنا أن نتواضع عندما نقارن أنفسنا بالبلاد الأجنبية الآن أو بالدول السابقة في العصور الماضية، وأن نقنع بالحمد عندما نرى خطأ قد صحح وعلينا أن نصمم بألا تعود هذه الأخطاء إلى الوجود، بل علينا ألا نني عن معونة أولئك الذين لا يزالون يعتقدون صحة هذه الأوهام، ولست في حاجة إلى القول بخصوص مستعمراتنا إنها لم تعد سببا في الحروب؛ لأننا قد انتهينا إلى الاعتقاد بأن عظمة هذه البلاد لا تتأكد من حيث العلاقة مع هذه المستعمرات إلا إذا جعلناها تتمتع بجميع الحقوق والميزات التي نتمتع نحن بها. وإذا اتفق أن وجدنا عددا كبيرا من السفن الأميركية تتجر في كالكوتة فلن يكون في هذا ما يهيج فينا عواطف الحسد، بل على العكس نمتلئ سرورا؛ لأن معنى هذا زيادة ثروة الإمبراطورية الهندية وسعادة أهلها، وكلما زادت هذه الثروة وهذه السعادة عاد علينا ذلك بالربح بواسطة التجارة. (23) خطبة لبسمارك
كان بسمارك (1815-1898) «رجل الدم والحديد» جمع شمل الدويلات الألمانية العديدة تحت علم واحد هو علم الإمبراطورية بقيادة بروسيا. وكان رأسه من أضخم الرءوس كما ثبت ذلك بعد تشريح جثته عند وفاته، فإذا كان ذكاؤه يعزى إلى ضخامة هذا الرأس أو لا يعزى إليها فالواقع أنه كان من أذكى السياسيين، يدس الدسائس ويدبر الحروب بمهارة الأبالسة، فحارب دانماركا والنمسا وفرنسا وتغلب عليها. وفي سنة 1871 في عقر دار المهزوم في فرساي توج ملك بروسيا إمبراطورا على ألمانيا، فلما تولى الإمبراطور غليوم (الذي يعيش الآن منفيا في هولانده) حسده على عظمته ورأى فيها ما يكسف ضوءه فأخرجه من الحكومة.
والقطعة التالية مختارة من خطبة ألقاها بمناسبة مشروع الدستور الألماني الذي قدمه البرلمان الثوري، ولم يكن هذا المشروع وفق هوى بسمارك لأنه لم ينص على سيادة بروسيا، قال:
أيها السادة، لقد آلمني أن أرى هنا بروسيين بالحقيقة لا بالاسم فقط يعضدون مشروع الدستور هذا بقوة وحماسة، ولقد شعرت بالهوان والصغار كما يشعر بهما الألوف من أبناء وطني عندما رأيت ممثلي الأمراء الذين أحترمهم في مقاماتهم الرسمية الشرعية، ولكني لا أدين لهم بطاعة أو ولاء قد صاروا بهذا الدستور سادة ذوي سلطان. ومما زاد مرارة هذا الشعور أننا في افتتاح المجلس رأينا المقاعد مزينة برايات تخالف رايات الإمبراطورية الألمانية بل كانت على العكس من ذلك مدة السنتين الماضيتين شارة الثورة والتمرد، وهي رايات لا يحملها في ولايتنا باستثناء الديمقراطيين سوى الجنود، يحملونها طاعة للأوامر والأسى ملء قلوبهم.
أيها السادة، إنكم إذا لم ترضوا الروح البروسية في هذا الدستور فإني أعتقد أنه سيبقى حبرا على ورق، وإذا أنتم حاولتم أن تسوموا البروسيين الإذعان لهذا الدستور فإنكم ستجدون منهم ما وجده الأقدمون من جواد الإسكندر، بوكيفالوس، الذي كان يحمل مولاه ويسير به جريئا مبتهجا بينما هو كان يقذف الفارس الذي يتطال إلى امتطاء صهوته ويلقيه على الرغام يتمرغ بذهبه وفروه وسائر حليه وملابسه. ولكن يعزيني الآن اعتقادي الراسخ بأن الوقت لن يطول حتى تنظر الأحزاب المختلفة إلى هذا الدستور كما نظر الطبيبان في أسطورة لافونتين إلى جثة المريض الذي كانا يعودانه، إذ يقول أحدهما: «لقد مات، ولقد تنبأت بذلك منذ رأيته»، فيقول الآخر: «لو أنه استمع لنصيحتي لما مات!» (24) خطبة لجون برايت
كان جون برايت (1811-1889) من أحرار الإنجليز ساعد غلادستون الأيمن يعضده في كل مشروعاته وينافح عن سياسته، وكان خطيبا مفوها «قد منحه الله عطية الصوت إذا خطب سمعت منه موسيقى فصيحة تغور إلى أعماق الشجن وترتفع إلى قمم الغضب.»
وقد اخترنا القطعة التالية من خطبة له ألقاها في سنة 1851 عن عبء الأنظمة الحربية وما تكلف الأمم من باهظ النفقات، قال:
إني أعتقد أن عظمة الأمة لا تدوم إلا إذا ثبتت على أسس الآداب، ولست أبالي بالعظمة الحربية أو الذكر الحربي، وإنما أحق بالمبالاة والعناية أفراد الأمة التي نعيش في ظهرانيها وأحوالهم، إنكم تعرفون أنه ليس في إنجلترا من هو أبعد مني عن قول السوء في التاج والملوكية، ولكن اعلموا أن التيجان والصولجانات والأبهة الحربية والمستعمرات الواسعة والإمبراطوريات العظيمة هي كلها في رأيي هباء كالهواء لا تستحق النظر والاعتبار إلا إذا كانت الأمة حاصلة على نصيب كاف من الرفاهية والرضا والسعادة، فإن الأمة لا تتألف من القصور والآطام والأبهاء والدور الفخمة، فالأمم في جميع البلاد تعيش في الأكواخ وإذا لم يضئ الدستور هذه الأكواخ وإذا لم تصل السياسة الرشيدة إليها وينطبع أثرها على أحوال سكانها وشعورهم فثقوا بأنكم لم تتعلموا بعد واجبات الحكومة.
لقد حكى لنا أقدم المؤرخين أن الإسكيثيين كانوا في زمنه أكثر الشعوب ميلا إلى الحروب وإنهم قد رفعوا صولجانا على منصة رمزا «لمارس» إله الحرب ولم يشيدوا لأحد من الآلهة مناسك إلا لهذا الإله، والآن أراني أتساءل عما إذا كنا نحن قد تقدمنا على هؤلاء الإسكيثيين، إذ ماذا ننفق الآن على البر والتربية والآداب والدين والعدل والحكومة المدنية؟ وما هو هذا الذي ننفقه في جانب نفقاتنا الحربية التي نقدمها ضحية على منسك مارس؟
منذ ليلتين خطبت طائفة كبيرة من المستمعين في هذه القاعة، وكانت هذه الطائفة مؤلفة إلى حد عظيم من أبناء وطنكم الذين ليس لهم حقوق سياسية لا تبدو أنوار الفجر حتى يشرعوا في الانكباب على أعمالهم لا يتحولون عنها حتى المساء. ليس لهم من الأسباب والوسائل ما يعينهم على تفهم هذه المسائل المهمة. أما الآن فقد وفقت إلى إسماع طائفة أخرى، فإنكم تمثلون تلك الطبقة التي امتازت بتربية أوفى وحصلت على قدر أكبر من الذكاء في فهم بعض المسائل وفي أيديهم النفوذ والسلطة ... إن في مقدوركم تكوين الآراء وإيجاد السلطة السياسية ولن يخطر ببالكم فكر حسن عن هذا الموضوع تفضون به إلى جيرانكم، ولن تحدث بينكم وبين من تجتمعون بهم مناقشة تدلون فيها برأيكم حتى تؤثروا على سير حكومتكم أثرا سريعا محسوسا.
وهل تسمحون لي بأن أطلب إليكم أن تعتقدوا كما أعتقد أنا اعتقادا راسخا أن القوانين الأدبية لم تسن للأفراد بل هي أيضا قد كتبت للأمم مهما كبر شأنها، مثل هذه الأمة التي نحن أفرادها! وإذا سخرت الأمم بهذه القوانين الأدبية ورفضت طاعتها فهناك العقاب الذي لا مفر منه، وقد لا يقع بها العقاب على الفور، بل قد لا يقع في حياتنا ولكن ثقوا بأن ذلك الشاعر الإيطالي قد قال حقا ونطق عن وحي نبوة عندما قال: «سيف الله لا يتعجل ولكنه لا يتأخر.» (25) خطبة لبوكر واشنطون
كان بوكر واشنطون (1858-1915) زنجيا ولد في حجر العبودية في الولايات المتحدة الأميركية، فلما ألغي الرق وجد نفسه صبيا معدما، فالتحق بإحدى الكليات يخدم فيها ويتعلم، ثم ترك الكلية مشيعا بصداقة جميع الذين عرفوه. وتعين ناظرا لإحدى مدارس الزنوج وكانت مكتبا صغيرا ليس به سوى ثلاثين تلميذا، فأخذ في إدارة المدرسة بهمة ومثابرة مدة عشرين عاما يعلم فيها شباب الزنوج ويمدنهم ويثقفهم حتى صار عدد تلاميذه 1100 تلميذ، وصارت قيمة مباني مدرسته وأموالها أكثر من ماية ألف جنيه. قال عنه أحد الأميريكيين البيض: «لقد عاش بيننا ردحا طويلا من الزمن نبيل أميركي ذو بشرة سوداء ولد عبدا وضيعا فرفع نفسه بقوة الخلق العظيم حتى صار وطنيا مكرما يعجب به كل رجل ذي أريحية في كل مكان.»
وكان واشنطون خطيبا مطبوعا يخطب كما يتكلم فلم يكن يزين ألفاظه بعبارات البديع أو يلجأ إلى الخلابة؛ لأن دعوته لم تكن ترمي إلى الإغراء أو الإغواء، فإن غايته كانت الحق وإقناع سامعيه به. وقد ألقى الخطبة التالية في أحد المعارض في سنة 1895، قال:
إن ثلث السكان في جنوب الولايات المتحدة من الزنوج، فليس ثم مشروع يقصد به إصلاح الأحوال المادية أو الأدبية أو المدنية لهؤلاء السكان يمكن واضعيه أن يهملوا فيه شأن شعبنا الذي ننتمي إليه. وإني أيها الرئيس والمديرون إنما أنقل إليكم عواطف سواد الشعب الزنجي عندما أقول إنكم عنيتم بتمثيل رجولة الزنوج تمثيلا سخيا في هذا المعرض الفخم في جميع أدوار تقدمه، وهذا العمل سيزيد الصداقة التي تربط شعبي الولايات المتحدة متانة أكثر من أي عمل آخر منذ تحريرنا.
وليس هذا كل الفوائد التي سنجنيها من هذا المعرض، فإن فيه فرصة قد أتيحت لنا لكي نفتتح بيننا عصرا جديدا للتقدم الصناعي. لقد بدأنا حياتنا في عهدنا الجديد ونحن مغمورون بالجهل والغرارة لم نكسب علما ولا تجربة، فلم يكن غريبا أن نبدأ من القمة لا من القاعدة، فصرنا نطمع في الحصول على مقعد في البرلمان أو في مجلس الولاية التي نعيش في كنفها ونؤثر هذا على شراء العقار أو على تحصيل الفنون الصناعية، فكانت السياسة والخطابة تغوينا فننزع إليها ونهمل الزراعة أو صنع الألبان.
لقد حدث مرة أن إحدى السفن الضالة في عرض البحار لمحت سفينة أخرى موالية قد ارتفعت لها على ثبج الأمواج، فأرسلت إليها إشارة عن صاريها تقول: «الماء، الماء، نحن نهلك من العطش!» فجاءها الرد من السفينة الأخرى: «ألقوا دلوكم حيث أنتم.» فأعادت السفينة المنكوبة إشارتها: «الماء، الماء، نحن نهلك من العطش!» فجاءها الرد ثانيا: «ألقوا دلوكم حيث أنتم.» وتكررت الاستغاثة مرة ثالثة ورابعة فكان الرد لا يتغير، وأخيرا رأى ربان السفينة المنكوبة أن يستمع لإشارة السفينة الأخرى، فألقى دلوه ورفعه إليه وإذا بالماء عذب رواء وإذا بالسفينة تمخر عباب نهر الأمازون عند مصبه. فإلى أولئك الأفراد الذين تجمعني وإياهم الوحدة القومية والذين يطمحون إلى ترقية أحوالهم في بلاد أجنبية والذين يبخسون قيمة تحسين العلاقات الودية بينهم وبين جيرانهم من البيض أقول: «ألقوا دلوكم حيث أنتم!» ألقوه وصادقوا جميع الناس الذين تعيشون بينهم كائنة من كانت الشعوب التي ينتمون إليها.
أقول ألقوا دلوكم في الزراعة والصناعة والتجارة والخدمة المنزلية وسائر الصناعات، وبهذه المناسبة يجب أن تتذكروا أنه مهما كانت خطايا أهل الجنوب وذنوبهم نحو الزنوج ففي بلاد الجنوب وحدها يمكن للزنجي أن يجد الفرصة السانحة لكي يندمج في العالم التجاري، وهذا المعرض لسان ناطق بهذه الفرصة. وإن أعظم ما نتعرض له من الأخطار هو أننا في وثوبنا من العبودية إلى الحرية قد ننسى أنه يجب على سواد الشعب الزنجي أن يعيش بكد يديه، أو ننسى أن رقينا سيكون بنسبة إكبارنا وتمجيدنا للكد والكدح وبنسبة ما نصرف من مهارتنا وأذهاننا على الصناعات الوضيعة. وإن رقينا سيتوقف على التمييز بين الحقائق والأوهام في هذه الحياة وبين ما هو نافع مقيم وبين ما هو زينة زائلة. ولن يرقى شعب حتى يتعلم ويعرف أن إفلاح الأرض فيه من الشرف والجاه ما في كتابة الشعر. ويجب أن نبتدئ من القرار لا من القمة، ثم لا ينبغي أن تلهينا ظلاماتنا عن انتهاز الفرص.
أما أولئك البيض الذين يؤثرون قدوم الأجانب ذوي الألسنة والعادات الغريبة لكي يشتغلوا معهم في إسعاد بلادهم على الزنوج فإني أقول لهم كما قلت لأبناء قومي: «ألقوا دلوكم حيث أنتم!» ألقوه بين الثمانية الملايين من الزنوج الذين يعيشون بينكم والذين لا تجهلون أخلاقهم وعوائدهم، الذين قد بلوتم أمانتهم وحبهم وقت عبوديتهم عندما كانت خيانة أحدهم تعني خراب البيت بأجمعه. ألقوا دلوكم بين هؤلاء الناس الذين حرثوا أرضكم واحتطبوا لكم من غاباتكم وبنوا مدنكم ومدوا لكم السكك الحديدية وأخرجوا لكم الكنوز من بطن الأرض وكانوا سبب رقي بلادكم، الذين فعلوا كل ذلك دون أن يلجئوا إلى إضراب أو إثارة حرب بين العمال وأصحاب الأعمال، إنكم إن فعلتم ذلك وعاونتم أفراد قومي وشجعتموهم كما تفعلون الآن في هذا المعرض وتناولتم رءوسهم وأيديهم وقلوبهم بالتربية والتعليم وجدتم منهم من يشتري أرضكم الفائضة فيمتلئ بور أرضكم بالأزهار والأنوار كما تمتلئ مصانعكم بالعمال.
وأنتم في عملكم هذا ستتأكدون في المستقبل كما كنتم في الماضي من وجودكم ووجود أسراتكم محوطين بأودع الناس وأصبرهم وأكثرهم أمانة وأقلهم استياء في هذا العالم. وكما قد برهنا لكم على ولائنا لكم في الماضي نربي أولادكم ونرعى أمهاتكم وآباءكم وهم في فراش المرض ونتبعهم إلى قبورهم أحيانا وعيوننا تفيض بالدموع، فكذلك في المستقبل سنقف إلى جانبكم وسترون منا برا لا يجارينا فيه أجنبي ترتخص فيه الحياة في سبيل الدفاع عنكم وتشتبك حياتنا بحياتكم في الصناعة والتجارة والدين بحيث تتحد مصالح الشعبين. وفي مقدورنا أن ننفصل في الأشياء الاجتماعية كما تنفصل أصابع اليد ولكننا نصير كاليد كتلة واحدة متحدين في جميع الشئون الأساسية الخاصة بالتقدم المتبادل. (26) خطبة لروزفلت
كان روزفلت (1858-1919) رئيسا للولايات المتحدة الأميركية «وكان يتسم بالهمة التي لا تني، فما دام هناك شيء جدير بأن يعمل فهو عنده ينهض به دون اكتراث للعوائق ... وكان يضيف إلى نشاطه الجسمي والعقلي نشاطا أدبيا لا يمكن لرجولة الرجل أن تتم بدونه. وكان من سمات أخلاقه شرف المقصد وإحساس رفيع بالواجبات العمومية ... إن روح الحضارة الأوروبية الحقيقي كان متمثلا تمثيلا كاملا في تيودور روزفلت.»
وقد ألقى الخطاب التالي في سنة 1899 في مدينة شيكاغو، قال:
أيها السادة، إني في مخاطبتي إياكم وأنتم رجال أكبر مدينة في الغرب ورجال الولاية التي خرج منها لنكولن وجرانت وأنتم الذين تمثلون أحسن تمثيل الصفات الأميركية في الخلق الأميركي لا أريد أن أحدثكم عن مذهب الدعة المخزية، بل سيكون كلامي عن مذهب حياة الكفاح، حياة الكد والجهد، والعمل والنزاع، أريد أن أعظكم بأرفع أشكال النجاح الذي لا يناله رجل الدعة ولكن يحصل عليه ذلك الرجل الذي لا يحجم عن المخاطر أو المشقات أو الكد المضني وينال في الختام من كل هذه الأشياء نصرا عظيما.
إن حياة الدعة ... حياة الهدوء التي تنشأ من عدم الطموح إلى تأدية الأعمال العظيمة أو من عدم القدرة على الكفاح هي حياة غير جديرة بأمة أو بفرد، إني أطلب من الأمة الأميركية ما يطلبه كل أميركي ذي كرامة من نفسه ومن أبنائه، فمن منكم يرضى بأن يعلم أبناءه بأنه يجب أن يكون للدعة والهدوء المحل الأول من اعتبارهم وأن يكونا الغاية التي يطمحون إلى تحقيقها؟
إنكم يا أهل شيكاغو قد جعلتم بلدتكم هذه عظيمة، وأنتم يا أهل إلينواس قد قمتم بنصيبكم في رفع أميركا إلى مقام العظمة لأنكم لا تقولون بالدعة ولا تمارسون مذهبها، إنكم تشتغلون بأنفسكم وتطلبون من أولادكم أن يشتغلوا مثلكم، فإذا كنتم ميسورين وكنتم تستحقون ثروتكم فإنكم ستغرسون في نفوس أبنائكم أنهم وإن كانت لهم أوقات فراغ فلا يجب أن يقضوها في الكسل، لأن أوقات الفراغ إذا أحسن استعمالها عادت بأكبر الفوائد. لأن الغني الذي لا يضطر إلى الكد لمعاشه يجب عليه أن يقضي وقت فراغه في الأبحاث العلمية أو الأدبية أو الفنية أو في الاستكشاف الجغرافي أو التاريخي؛ فإن هذه كلها أعمال تحتاج إليها هذه البلاد ونجاحها جدير بأن يرفع شأن أمتنا.
إننا لا نعجب برجل الدعة الذي يجفل من العمل، ولكننا نعجب بالرجل تتجسم فيه الجهود الظافرة، ذلك الرجل الذي لا يؤذي جارا والذي يبادر إلى معونة الصديق ولكنه مع ذلك حاصل على صفات الرجولة اللازمة في الانتصار في معارك الحياة القاسية. وليس من ينكر مشقة الفشل ولكن شر من الفشل ألا يحاول الإنسان النجاح. وفي هذه الحياة الراهنة لا نحصل على شيء ما إلا بالجهود، ومن ليس في حاجة إلى جهد في وقته الراهن كان في حاجة إليه في الماضي وقد اختزن منه حاجته للمستقبل، فإنما يتحرر الإنسان من قيد الاضطرار إلى العمل لأنه هو أو آباؤه قد عملوا في الماضي ونجحوا، فإذا كانت هذه الحرية قد أحسن استعمالها وإذا كان صاحبها لا يزال يشتغل شغلا من طراز آخر كأن يكون كاتبا أو قائدا أو يشتغل بالسياسة أو بالاستكشاف فإنه بعمله هذا يثبت جدارته لثروته، أما إذا كان يعتبر خلو باله من هموم الكدح للمعاش فرصة للتمتع بضروب اللذات فإنه عندئذ يصير عالة على الناس، ثم هو مع ذلك يجعل نفسه عاجزا عن المنافسة والجهاد مع إخوانه إذا دارت الدوائر وتطلبت منه الأحوال ذلك، فإن حياة الدعة ليست مما يرغب فيه لأنها تعجز الذين يمارسونها عن العمل الجدي في هذا العالم.
وكما يسري هذا على الفرد فكذلك يسري على الأمة ، وإنه لمن الأكاذيب السافلة أن يقال إن الأمة التي لا تاريخ لها تكون سعيدة، فأسعد منها مرتين بل ثلاثا تلك الأمة التي تباهي بتاريخ مجيد. والإقدام على جلائل الأعمال ونيل الفوز المجيد وإن تخلل ذلك حبوط المسعى خير من أن يعد الإنسان في صف أولئك الضعاف الذين لا يتمتعون كثيرا ولا يتألمون كثيرا لأنهم يعيشون في غبشة الغسق فلا يعرفون ظفرا أو هزيمة. ولو أن الأميركيين الذين كانوا يؤمنون بالاتحاد في سنة 1861 كانوا يعتقدون أن السلام هو غاية الأماني وأن الحرب والنزاع شر الأشياء ولو أنهم عملوا بما آمنوا لكنا قد وفرنا دماء الألوف ومئات الألوف من النقود، ثم كنا إلى جانب هذه الدماء وهذه النقود نوفر على النساء أحزانهن وخراب بيوتهن وكنا وفرنا على بلادنا تلك الأيام السوداء عندما كانت جيوشنا تسير نحو المعركة فكأنها تسير نحو الهزيمة فتملأ قلوبنا خزيا وأسفا. كان في مقدورنا أن نتجنب جميع هذه الآلام بأن نحجم عن القتال والكفاح، ولكننا لو كنا قد فعلنا ذلك إذن لصرنا ضعافا أنكاسا غير جديرين بالوقوف في مصاف الدول العظمى. فلنشكر الله أنه مزج دماء آبائنا بالحديد، أولئك الرجال الذين نصروا لنكولن وآمنوا بحكمته وساروا إلى القتال تحت راية جرانت! فعلينا نحن أبناء الرجال الذين ارتفعوا إلى مستوى تلك الأيام العظيمة، نحن أبناء أولئك الأبطال الذين ساروا بالحرب الأهلية إلى الفوز النهائي، علينا أن نشكر الله لأن نصائح الصلح قد ردت وأن الآلام والخسائر والأحزان قد قوبلت دون خور؛ لأن ختام هذه الحرب قضى على عبودية الزنوج وعاد الاتحاد وظهرت الجمهورية الأميركية العظيمة ملكة متوجة بين الأمم.
وليس علينا نحن أبناء هذا الجيل أن نواجه مثل هذه المهمة التي وقعت على كواهل آبائنا ولكن لنا نحن أيضا مهماتنا وويل لنا إذا لم نؤدها. فلسنا نستطيع - حتى لو أردنا - أن نعيش كما يعيش الصينيون تبلى أجسادنا وعقولنا في دعة لا نهتم لما يحصل خارج حدود بلادنا نتخبط في المبادئ التجارية لا نعنى بالحياة العليا حياة الأماني والكد والأخطار نقصر جهدنا على حاجات يومنا الجسمية، حتى نرى في أحد الأيام كما رأت الصين أن الأمة التي تعيش في هذا العالم عيشة الدعة والسلام والبعد عن الطرق الحربية تنهزم أمام الأمم التي لم تفقد صفات الاقتحام والرجولة ، فإذا نوينا نية صادقة أن نكون أمة عظيمة فعلينا أن نمثل دورا عظيما في هذا العالم، وليس من المستطاع أن نتجنب مواجهة المسائل العظمى، وكل ما علينا أن نقر على نوع هذه المواجهة إن حسنا وإن سيئا. (27) خطبة للرئيس ويلسون
كل من يذكر الحرب الكبرى يذكر أيضا ويلسون (1856- ) أحد أساتذة جامعة برنستون ثم رئيس الولايات المتحدة، وقد قال أحد فلاسفة الإغريق إن الأمم لن تسعد حتى تصير قادتها فلاسفة وفلاسفتها قادة. فلما صار ويلسون إلى مركز الرياسة تطلع الناس ليروا ما سيجنونه من سياسة الفيلسوف، وحدث في عهده أكبر أزمة كابدها الضمير البشري في تاريخ الإنسان، وهي الحرب الكبرى، وكانت في لبها حربا مادية تستحثها الأطماع السافلة في امتلاك المال والعقار، فلم تكن تختلف عن حروب المتوحشين الأفريقيين إلا من حيث الكمية لا من حيث النوع، ولكن الأمم المتحاربة أرادت أن تجند العواطف وتعبي القلوب، فاخترعت ألفاظا لم تكن مألوفة في الحروب السابقة مثل الحق والعدل وما إليهما، فاغتر بها الفيلسوف ويلسون وزج بأمته في هذه الحرب ونال النصر ثم جاء السلم فنالته الهزيمة، فقد حاطه ساسة أوروبا وأخذوه بأساليبهم حتى خرج من قاعة المفاوضات في النهاية ولم يربح لمبادئه نصيرا.
ولكن يكفي ويلسون فخرا أن يتهكم عليه مسيو كليمانصو فيقول فيه: «إنه يظن نفسه أنه المسيح.»
وخير للناس أن ينخدعوا بالمبادئ العليا ويعتقدوا أنهم يؤمنون بها وأن تحقيقها مستطاع مثل ما فعل ويلسون من أن يؤمنوا بالحقائق وينزلوا عند حد الأطماع البشرية كما فعل مسيو كليمانصو.
وفيما يلي يرى القارئ مثالا من خطب ويلسون وموضوعه: «الحرية الجديدة»، قال:
مهما أكثرنا من التفكير في حادثة استكشاف أميركا فإن هذه الحادثة لا تزال تثير خيالنا وتهتاجنا، فقد سلفت قرون كان وجه أوروبا يتجه فيها نحو الشرق، فكانت طرق التجارة ودوافع النشاط تسير نحو الشرق، وكان المحيط الأطلسي أشبه شيء بالباب الخلفي للمنزل، ثم فوجئ الأوروبيون باستيلاء الأتراك على القسطنطينية ووقوفهم سدا حائلا بين أوروبا والشرق، فكان على أوروبا إما أن تتجه نحو وجهة أخرى وإما أن تقف مشلولة الحركة لا تجد منفذا لنشاطها. وفي النهاية أقدم الناس على هذا البحر الغربي المجهول مجازفين بأرواحهم وعلم سكان الأرض عندئذ أن أرضهم تبلغ ضعفي ما كانوا يعتقدون. ولم يجد كولمبوس كما كان ينتظر حضارة الصين بل وجد قارة غير عامرة، ففي هذا الجزء من العالم على هذا النصف الآخر من الكرة الأرضية أتيح للإنسان في تاريخه الحديث أن يؤسس حضارة جديدة لها ميزة التجربة الجديدة.
فمثل هذه الفرصة الفريدة جديرة بأن تحرك العواطف عند جميع من يتبصرون في غرابتها وفي قيمتها، فقد يستطيع الإنسان أن يؤلف آلافا من التواريخ الخيالية لهذه الأرض ولكن لا يبلغ خياله إلى اختراع قصة يكون فيها نصف العالم مخبوءا حتى ينضج الزمان ويتهيأ للشروع في إيجاد حضارة جديدة، فقد كان طمع ربان سفينة في الاهتداء إلى طريق بحري سببا في امتياز أدبي للإنسانية، فقد قدر للإنسان أن يؤسس هيئة اجتماعية جديدة في هذه الأرض الميمونة التي لم يقترب منها إنسان كما كان يقول السياح إلا وينتعش بهواء الغابات الملتهبة بالأزهار ويطرب لخرير المياه الصافية التي تنساب بين أشجارها.
فهذا النصف الآخر من الكرة الأرضية كان راقدا ينتظر مس الحياة - حياة من العالم القديم حقا ولكنها قد طهرت من الأدران وعولجت من الإعياء لكي تليق بطهارة العروس العذراء.
فكل هذا يستطير الخيال كأنه رؤيا عجيبة بل تحفة جميلة لا يسخو الزمان بمثلها مرة أخرى.
والآن نتساءل، ماذا كان فيما كتبه أولئك الناس الذين أسسوا أميركا مما يروج مصالح أميركا بالذات ويعود عليها بالفائدة وحدها دون غيرها؟ هل تجدون للأثرة مكانا في هذه الكتابات؟ كلا، فإنهم إنما كانوا يكتبون خدمة للمبادئ الإنسانية ولتحرير الإنسان، فأقاموا مقاييسهم الأدبية هنا في أميركا على دعائم الأمل شعلة تستضيء بها أمم العالم وتتشجع منها، وأخذ الناس يأتون إلى شواطئ هذه القارة وهم يحدوهم رجاء لم يكونوا يعرفونه من قبل وثقة لم يكونوا يجرءون على الشعور بها من قبل ثم وجدوا هنا عدة أجيال مكانا قد انتشرت فيه الطمأنينة والأمن وعرضت فيه لهم الفرص وصاروا فيه مستوين. وعسى الله - في هذه الأحوال المرتبكة التي تحوطنا الآن - يلهمنا أن نرجع إلى تلك المقاييس ونقوم بمثل تلك الأعمال المجيدة التي يزدان بها ذلك العصر السعيد.
لقد مرت بذهني مرارا عديدة صورة لتلك الشروط التي تتألف منها الحرية، ولبيانها لكم أفرض أني أريد أن أبني آلة قوية وأني في إقامة أجزائها قد جمعتها من غير مهارة أو لباقة بحيث إذا أردت إدارتها وتحرك أحد الأجزاء وقف في سبيل حركته جزء آخر فينتهي الحال بوقوف الآلة، فحرية هذه الأجزاء تنحصر في اجتماعها على أحسن شكل وتآلفها على أحسن وجه، فإذا أردت من كابس الآلة البخارية أن يسير بأكمل حريته فليس عليك سوى أن تضعه بحيث يأتلف بسائر أجزاء الآلة فلا يتعارض وإياها عند الإدارة، فليست حريته في أن يكون منفردا في عزلة على حدة بل في وضعه وضعا ملائما موافقا بيد ماهرة في جسم الآلة. فالحرية الإنسانية هي كذلك تنحصر في الملاءمة والتوفيق بين المصالح الإنسانية والنشاط الإنساني.
فهل نحن في هذا المعنى الجديد محتفظون بالحرية في هذه البلاد التي هي رجاء هذا العالم؟ فالجواب على ذلك يقينا هو أننا قد سرنا شوطا بعيدا نحو الخيبة التي تجلب الحسرة والأسى للنفس، ونحن الآن في خطر الوقوع في الخيبة التامة إلا إذا أمضينا نيتنا نحو إلغاء المظالم الدقيقة الخفية ووضعنا لكل منها العقاب الذي تستحقه. وإياكم وخدع أنفسكم عن مبلغ نفوذ المصالح الكبرى التي تتحكم في رقينا ومدى قوتها، فإن لهذه المصالح من القوة والنفوذ ما يجعلنا نرتاب فيما إذا كانت حكومة الولايات المتحدة تستطيع أن تتحكم فيها، فإذا أنتم تهاونتم واكتسبت هذه المصالح صفة دائمة لنفوذها لصار عندئذ إصلاح الحال من المحال .
إني أومن بالحرية الإنسانية كما أومن بنبيذ الحياة، وليس في رعاية أصحاب المصانع للأمة تلك الرعاية المؤسفة وفي تنازلهم للنظر في مصالحها ما يسير بالإنسان نحو الخلاص؛ إذ ليس للأوصياء مكان في بلاد الأحرار لأن تلك السعادة التي تأتي عن طريق القوام لا يرجى لها دوام أو بقاء.
إن الاحتكار الذي يرمي إليه أصحاب المصانع يئول إلى قتل جهود الأفراد، وإذا ألح المحتكرون في الاحتفاظ بقوتهم فإنهم سيقبضون بأيديهم على دفة الحكومة، ولست آمل أن يضبط هؤلاء الناس أنفسهم لأنه إذا كان في البلاد أقوياء قادرون على أن يمتلكوا زمام الحكومة فهم هؤلاء الأقوياء، وعلينا نحن أن نستقر على قرار ونعقد نيتنا على وضع أيدينا على الحكومة، وهذا لا يكون إلا إذ كنا رجالا بل رجالا عظاما.
ويجب علينا أن نزرع الشعور اللطيف والرحمة في قلوب الناس وذلك بأن نجرد السياسة والأعمال والصناعة من جمود الإحساس والقسوة، فيجب أن تكون السياسة من الأمور التي يستطيع رجل شريف أن يمارسها راضيا لأنه يعرف أن رأيه له من المكانة في القانون مثل ما لرأي جاره وأنه ليس لرئيس المصنع أو للمصالح الصناعية المختلفة تأثير عليه. (28) خطبة للويد جورج
ولد لويد جورج في سنة 1861 واشتغل وكيلا للدعاوي في ويلز وفي سنة 1890 دخل البرلمان عضوا في حزب الأحرار. وفي سنة 1905 صار وزيرا للتجارة، واحتفظ بمركز الوزارة إلى أن جاءت سنة 1916 وكانت الحرب الكبرى في عنفوانها، فصار رئيسا للوزارة فرفع مستوى الجهود الحربية في إنجلترا وبقي في الرياسة إلى أن عقد الصلح على يده. ولويد جورج هو بلا مراء «رجل الجماهير» يسايرهم ولا يقودهم إلا عندما لا يجد خطرا في القيادة، يغريهم وقد يغويهم، ولكنه إذا عاد إلى نفسه وتبين خطأه رجع عنه، وقد يكون رجوعه بعد أن تفوته الفرصة، ولكن الندم نصف التوبة. فقد أغوى الجمهور الإنجليزي بضرورة محاكمة إمبراطور ألمانيا وكسب الانتخاب بهذه الصيحة الخبيثة، ثم ندم فلم يذكرها ثانيا. وعقد صلحا مع ألمانيا يقضي بفنائها، ثم ندم، فألف كتابا يدعو فيه إلى حماية ألمانيا من فرنسا، والخطبة التالية ألقاها بمناسبة دعوة صلح عرضتها ألمانيا حوالي سنة 1917 لم ترق الحكومة الإنجليزية، قال فيها:
أقف اليوم في مجلس العموم وأنا مثقل بأروع تبعة يستطيع حملها أي إنسان باعتباري الوزير الأول للتاج وفي وسط أكبر حرب خاضتها هذه البلاد وهي حرب يتوقف أيضا عليها مصيرها، وقد تأكدت تبعة الحكومة وزادتها فداحة تلك التصريحات التي ألقاها الوزير الألماني. وها أنا ذا أتناول أمامكم هذا الموضوع الآن، وقد جاءتنا على أثر هذه التصريحات التي ألقيت في الريخشتاج مذكرة من سفير الولايات المتحدة تتضمن هذه التصريحات دون أي تعليق من حكومته ...
ولقد سرني غاية السرور أن فرنسا وروسيا قد أجابتا على هذه التصريحات الجواب الأول، وهما بلا شك لهما الحق في أن يجيبا الجواب الأول، فإن العدو لا يزال في أرضهما وضحاياهما أكبر الضحايا، وقد نشر هذا الجواب في جميع الصحف وأنا أقف هنا بالنيابة عن الحكومة لكي أؤازر هاتين الحكومتين في جوابهما مؤازرة صريحة، وهنا يجب أن أقول إن الرجل أو الرجال الذين يتحملون تبعة تطويل مدة حرب هائلة كهذه الحرب بدون سبب وجيه إنما يرتكبون جريمة لا تغسلها عن أنفسهم بحار من الدموع، ثم إن رجلا أو رجالا يكفون عن الحرب لما نال أنفسهم من السأم والجهد قبل أن نحقق الأغراض العظمى التي دخلنا الحرب من أجلها إنما يرتكبون إثما من الجبانة والعار لا يعدله أي إثم آخر. وهنا يليق بي أن اقتبس من إبراهام لنكولن كلمة قالها وهو في ظروف مثل هذه التي نعانيها الآن: «لقد دخلنا ونحن نتوخى تحقيق غرض شريف وستنتهي الحرب عندما يتحقق هذا الغرض، وأدعو الله ألا تنتهي الحرب في ذلك الوقت!» فهل نحن نحقق هذا الغرض بقبولنا دعوة وزير ألمانيا؟ هذا هو السؤال الوحيد الذي يجب أن نلقيه على أنفسنا.
فشروط الصلح التي نقبلها هي كما قال مستر بونارلو: «رد المسلوب والتعويض والضمان بألا يحدث ما حدث من ألمانيا.»
ولكن لكيلا تتسرب الأغلاط - ومن المهم ألا تتسرب الأغلاط في مسألة موت ملايين وحياتهم - يجب أن أقول إن ما نطلبه هو رد المسلوب بأجمعه، والتعويض التام، والضمانات الناجعة، فهل نطق وزير ألمانيا بكلمة تدل على أنه يقبل هذه الشروط؟ فهل ألمع إلماعا إلى رد المسلوب؟ وهل اقترح شيئا بشأن التعويضات؟ وهل قال شيئا يدل على ضمان المستقبل من أن تحدث فيه مثل هذه الحرب الفظيعة تفاجئ بها ألمانيا الأمم عندما تجد أن الفرصة سانحة؟ كلا، فإن مادة خطبته وأسلوبها ينكران القواعد التي لا يمكن لصلح ما أن يقام على غيرها، فهو لا يعرف للآن ولا يشعر أن ألمانيا قد جنت على حقوق الأمم الحرة، فأصغوا إلى قوله هذا: «إن دولتي الوسط لم تحيدا عن الاعتقاد لحظة واحدة بأن احترام حقوق الأمم الحرة لا يتناقض ومصالحهما الشرعية وحقوقهما»، فمتى عرفتا احترام حقوق الأمم الأخرى عندما دخلت جيوشهما في بلجيكا؟ لقد قيل إن ذلك كان دفاعا عن النفس، فلعل الألمان قد رأوا أنفسهم مهددين بخطر غزو الجيوش البلجيكية الجرارة لبلادهم فغزوا هم بلجيكا وأحرقوا بلدانها وقراها وذبحوا الآلاف من سكانها كبارا وصغارا، واسترقوا بعد ذلك من بقي من الأحياء، فما هو الضمان لكيلا تعاد مثل هذه الأفاعيل حتى إذا تعاقدنا في صلح علمنا أن هذا الصلح قد ختم روح الحرب البروسية؟ وهل نحن نستطيع إذا لم نحاسبهم على ما جنوه من الفظائع في البر والبحر أن نصافح اليد التي ارتكبت هذه الآثام دون أن يدفع التعويض عنها؟ إن علينا أن نطالب بالتعويض وقد شرعنا في ذلك. إننا تكلفنا كثيرا في هذه الحرب فنحن مضطرون إلى الحصول على التعويض حتى لا نترك لأولادنا هذا الميراث السيئ.
وإذا كنت في هذه الحرب لم أكترث للدعوة الحزبية فذلك لأني قد تحققت منذ اللحظة التي هدرت فيها المدافع، وصبت الموت على بلاد صغيرة وديعة، أن الألمان قد تحدوا الحضارة وقد أوقفونا حيال مسألة تعدو الاعتبارات الحزبية، وهي مسألة يتوقف على تسويتها حظ الناس في المستقبل عندما تتساقط الأحزاب الراهنة كالأوراق الجافة الميتة. فهذه إذن هي المسألة التي يجب أن تبقى ماثلة أمام الأمة وذلك لكيلا تعتري الشكوك عقائدنا ولا التردد قضيتنا. وفي كل حرب طويلة يجيء وقت ينسى فيه الناس وهم في وغرة القتال وحدة الشهوات ذلك القصد السامي الذي أدخلوا الحرب من أجله . فإن هذه الحرب نزاع لإحقاق الحقوق الأممية والشرف وحسن النية بين الدول. وهذه هي الطريق التي تؤدينا نحو السلام على الأرض والإرادة الحسنى بين الناس، فقد هدمت الأسوار التي كد في بنائها أجيال من الناس لكي يصدوا بها تيار الهمجية. ولو لم تدخل بريطانيا بقوتها إلى هذه الثغرة التي انفتحت في أوروبا لغمر هذه القارة فيضان من التوحش والجبروت المطلق.
إن انتصار بروسيا يدع الإنسان في حمأة من الفظائع ويقضي على روح الإنصاف بين الأمم وعلى نمو هذا الشعور الذي يقضي بحماية الضعيف من القوي كما يقضي أيضا على هذا الشعور الأقوى بأن للعدالة شيئا ينصرها أسمى من الشره وأن انتهاك حرمة المعاملة الحسنة بين الأمم الكبيرة أو الصغيرة يجلب على المنتهك العقاب العاجل الصارم، وهذا هو السبب في أنني منذ بداية هذه الحرب لم أضع نصب عيني سوى قصد سياسي واحد قد جاهدت في سبيله؛ وهو تخليص النوع البشري من أعظم نكبة نزلت به توشك أن تقضي على سعادته.
Unknown page