ولكان في شعر البحتري وحده ما يقع في كتاب مفرد، ولا بدّ بعد هذا أن نذكر منه شيئًا آخر إن شاء الله.
العرندس بن وثاق اليربوعيّ وذكر منهزمًا:
فأولى على عمرو بن بدر فإنَّه ... يُطوَّع في عال من الركض زائدِ
مضى يحمد الشقراء لما تمطَّرت ... به تحت جُؤشوشٍ من اللَّيل وافدِ
إذا ما رأى لمعَ السيوف بدا له ... طريق نجاء للفرار مساعدِ
لئن جرعت منه القنا دون ريّها ... لما هو عن ربّ القنا بمباعدِ
هذه أبيات جياد في صفة هارب. وأما قوله: " لئن جرعت منه القنا " البيت، فذكر أنّه قد طعن طعنات لم تأتِ على نفسه لهربه، ثمَّ هدَّده فقال: وما هو عن ربّها ببعيد، وقد أخذ هذا المعنى منه مسلم بن الوليد فقال:
ولَّى وقد جرعَتْ منه القنا جُرَعًا ... حيَّ المخافةِ مَيتًا غير موءودِ
والبيت الأول أجود من بيت مسلم هذا، وقد أخذ هذا المعنى أبو تمام فأتى به في غاية الجودة والصحّة، وهو قوله:
من مُشرقٍ دمُه في وَجْههِ بطلٍ ... أو ذاهلٍ دمُه للرعب قد نزفا
فذاك قد سُقيت منه القنا جرعًا ... وذاك قد سُقيت منه القنا نُطفا
بيت أبي تمام هذا، وإن كان أخذه ممن ذكرنا، فهو جيد التقسيم مطّرد الصدر، والعجز مليح اللفظ، ونذكر ها هنا أشياء من ذكر المنهزمين، ولا نستغرق الكلَّ في هذا الموضع إذ كنَّا نحتاج إلى بثّ ذلك في مواضع من الكتاب، وقال أبو تمام وذكر منهزمًا:
مُوَكَّلًا بيَفاع الأرضِ يُشْرِفهُ ... من خفّة الروع لا من خفة الطَّربِ
ومن الجيد النادر في صفة منهزم قولُ البحتري:
تحيَّر في أمريه ثمَّ تحبَّبَتْ ... إليه الحياةُ ماؤها غلَلٌ سَكْبُ
تكرّه طعم الموت والسيف آخذ ... مخنّقَ ليثِ الحرب حاصلُهُ كلْبُ
ولو كان حرَّ النفس والعيشُ مدبِرٌ ... لمات وطعم الموت في فمه عَذبُ
ولو لم يحاجز لؤلؤ بفراره ... لكان لصدر الرمح في لؤلؤ ثقبُ
تخطَّأَ عرض الأرض راكب وجهه ... ليمنع منه البعد ما يبذل القربُ
يحبُّ البلادَ وهي شرقٌ لشخصه ... ويُذعرُ منها وهي من فوقه غَرْبُ
إذا سار سهبًا عاد ظُهرًا عدوَّه ... وكان الصديقَ غدوةً ذلك السهبُ
يقول: كل شيء يقطعه من الأرض فهو من قبل أن يجتازه مثلُ الصديق له، فإذا جازه صار عدوًّا لما يخاف من الطلب. وما نعرف مثل هذه الأبيات في المنهزمين إلاَّ له في مواضع أخر، ثمَّ نذكر بعضها ههنا وبعضها بعد وقت آخر، وقال يصف منهزمًا:
لما تضايق بالزحفَين قُطرُهما ... فضاربٌ بغرار الصَّيف أو واجي
قالت له النفس لا تألوه ما نصحتْ ... والخيلُ تخلط من نقع وأرهاج
إنّ المقيم قتيل لا رجوع له ... إلى الحياة وإنَّ الهاربَ الناجي
فمرّ يَهوي هويَّ الريح يُسعده ... جوّ يشطُّ وليلٌ مُظلم داجي
إنْ لا تنَلْه العوالي وهو منجذِبٌ ... فقد كوَتْ صلَوَيْه كيَّ إنضاج
وله أيضًا في مثله يصف منهزمًا في البحر:
مضى وهو مولى الريح يشكر فضلَها ... عليه ومن يولي الصنيعة يُشكَرِ
إذا الموج لم يبلغه إدراك عينه ... ثنى في انحدار الموج لحظة أخزرِ
وله أيضًا:
ومضى ابنُ عمرو قد أساء بعمره ... ظنًّا ينزّق مهرَه تنزيقا
فاجتاز دِجلةَ خائضًا وكأنَّها ... قَعْبٌ على باب الكحيل أُريقا
لو خاضها عمليق أو عوج إذنْ ... ما خوَّضَتْ عوجًا ولا عمليقا
لولا اضطرابُ الخوف في أحشائه ... رسبَ العُبابُ به فبات غَريقا
خاض الحتوفَ إلى الحتوف معانقًا ... زجلًا كقهر المنجنيق عتيقا
يجتاب حُرَّةَ سهلها وجبالها ... والطيرَ هان مِرارُه ودقوقا
لو نفَّسته الخيلُ لفتةَ ناظر ... ملأَ البلادَ زلازلًا وفتوقا
وله أيضًا:
أشلَى على منويل أطرافَ القنا ... فنجا عتيق طمرَّةٍ جرداءِ
لو أنَّه أبطى لهنَّ هنيهة ... لَصَدرْنَ عنه وهنَّ غير ظماءِ
فلئن تبقّاه القضاءُ لوقته ... فلقد عممتَ جنودَه بفناءِ
أثكلتَه أشياعَه وتركتَه ... للموت مرتقِبًا صباحَ مساءِ
حتَّى لو ارتشفَ الحديدَ أذابَه ... بالوقْدِ من أنفاسهِ الصُّعَداء
وله أيضًا:
كما انْهزم المغرورُ من مَرْج دابِق ... وخيلك في جَنبَي قُوَيق تُحاولُهْ
تأوَّبَ من حموص أبوابَ بالس ... مسيرًا لفرط الذّعر تطوي مراحِلُهْ
تقوّس من حدّ الأسنّة ظهرُه ... وقد سُلَّ منها منكباه وكاهلُهْ
يخيطُ عليه كاثِبَ النقع مُرْعيًا ... لكي تتغطَّى في العَجاج مَقاتلُهْ
إذا مرّ بالصحراء جانبَ قصدها ... يرى أنّها أرسال خيل تقاتلُهْ
أتى سادرًا بالبغي مستفتحًا به ... وحاولَ نصرَ الله واللهُ خاذلُهْ
وله:
بَهتَتْه أهوال الوغى فلو أنَّه ... عينٌ لشدة رُعبه لم تَطرفِ
وله:
ولم ينج ابن جستان بشيء ... سوى الأقدار عاقبت المنونا
يلاوذ والأسنة تدَّريه ... شمالًا حيث وجَّهَ أو يمينا
يصدُّ عن الفوارس صدَّ قالٍ ... يرى العشرات يحسبُها مئينا
لم نذكر من هذا المعنى في هذا الموضع أكثر ممّا ذكرناه للبحتري، ولم نترك أن نذكر لمسلم بن الوليد، وأبي نواس، وأبي تمام، وابن الرومي وغيرهم من المجوّدين، إلاَّ ليقع في مواضع أخر. ولا بد أن نشوب ما ذكر المحدثون في هذا المعنى والفنّ بشيء من أشعار المتقدمين، وإن كان ليس في هذا المعنى ما يكثر ويتَّسع، وقد ذكرنا فيما تقدم من ذلك أشياء، ونحن نذكر غيرها بعد هذا الموضع إن شاء الله.
أعرابيّ:
ونِضْوٍ على نضو تجشّمَ شُقَّةً ... إليك بعيدٌ سهلُها من جبالِها
يشقُّ على مرّ الرياح اعْتِسافُها ... ويبعد قطراها عليَّ من آلِها
وتغدو بها الوجناءُ بعد مراحها ... وقد قُيِّدَتْ أرساغُها بكلالها
فإن تفعلي فعلَ المحبّ فهيِّنٌ ... علينا سُراها وامتدادُ ارتحالها
وإن كان ذاك البخل منك فعندنا ... لها دمعُ عينٍ وكّلَتْ بانهمالها
أما قوله " بعيد سهلها من جبالها " فإنَّه ذكر برية بعيدة الأقطار مستوية، وإذا كانت البرية مستوية بغير جبال كان أبعد لها، فذكر أنّ سهلها بعيد من جبالها لاستوائها وبعد أطرافها.
وقوله " ونضو على نضو تجشم شقة " فهو معنى مليح جيد، وهو كثير في أشعارهم، فمن ذلك قول العباس بن الأحنف:
إنَّا من الدَّرب أقبلْنا نؤمُّكم ... أنضاءَ شوق على أنضاء أسفارِ
آخر:
رأتْ نضو أشجانِ أميةُ شاحبًا ... على نِضوِ أسفار فجُنَّ جُنونُها
آخر:
باتت تُشوِّقني برجع حنينها ... وأزيدها شوقًا برجع حنيني
نضوان مغتربان عند تهامة ... طَوَيا الضلوعَ على جَوى مكنونِ
وقال أبو الشيص:
أكل الوجيف لحومهم ولحومها ... فأتوك أنقاضًا على أنقاضِ
ومثل هذا قول أبي تمام:
فقد أكلوا منها الغواربَ بالسُرى ... فصارت لها أشباحُهم كالغواربِ
آخر:
حتَّى انْتَضاه الصبحُ من ليل خَضِرْ ... مثل انتضاء النصل والسيف الذَكِرْ
نضوَ هوى بالٍ على نضو سفَرْ
والأصل في هذا المعنى على قول بعضهم قول امرئ القيس:
ألا إنَّني بالٍ على جملٍ بالٍ ... يسوق بنا بال ويتبعُنا بالِ
يجوز أن يكون أراد في هذا البيت أنَّه وجمله وقائده وسائقه بالون على ما قدمنا من هذا المعنى. ويجوز أنَّه أراد أنَّه خُبْرٌ بالموضع الَّذي يقصده وكذلك جمله وقائده وسائقه من بلوت الشيء أي خبرته. فإن قال قائلٌ: ما لذكر القائد ههنا معنى، إذ كان الرجال لا يُقاد بهم وإنَّما يُقاد بالنساء، ولم يذكر أيضًا أنَّه بالٍ من السقم وقائده صحيح، بل هما باليان، قلنا: إنَّ من شأن الملوك إذا قصدوا وجهًا وأرادوا سفرًا وكانوا على نجائبهم أن يُقادَ بهم، وكان امرؤ القيس ملكًا فلذلك ذكر القائد.
فأما قوله " وتغدو بها الوجناء بعد مراحها " البيت، فكثير أيضًا في أشعارهم فمن ذلك قول جرير:
إذا بلغوا المنازل لم تقيِّدْ ... وفي طول الكلال لها قيودُ
مثله قول نصيب:
أضرَّ بها التهجيرُ حتَّى كأنَّها ... بقايا سِلالٍ لم يدَعْها سِلالُها
ومثله قول الآخر:
كانت تُقيَّد حين تنزل منزلًا ... فاليومَ صارَ لها الكلالُ قيودا
وقال آخر:
قيَّدَها الجهد ولم تقيَّدِ
وقال آخر:
إذا اطَّرَحوا عنها الرحائل لم تَزُلْ ... كَلالًا وقد كانت تنافَرُ بالعقلِ
وقال آخر:
وقيَّدها التهجيرُ في كل سبسبٍ ... بعيدِ المدى قُطْراهُ منتزحانِ
وقال آخر:
وما زال طولُ السير حتَّى لقد غدت ... ركائبُنا حسرى بغير قيودِ
وقال آخر:
تشكَّى إليَّ الأرحبية ما بها ... وما بي ممَّا بالنجيبة أكثرُ
غدوت طليحًا وهي مثلي لقطعها ... فدافد أشباهًا تروح وتُبْكِرُ
آخر:
وقيَّدها بعد ذاك المِراح ... بكور تواصله بالرواحِ
وقال مخلد يصف ناقة حجَّ عليها:
غدت بالقادسية وهي ترنو ... إليَّ بعين شيطانٍ رجيمِ
فما وافت بنا عسفان حتَّى ... رنت بلحاظ لُقمان الحكيمِ
وقال مروان بن أبي حفصة في مثل هذا:
فما بلغت حتَّى حماها كلالُها ... إذا عَرِيتْ أصلابُها أن تقيَّدا
والأصل في هذا كلّه قول عباد بن أنف الكلب الصيداويّ وهو:
فتُمسي لا أقيِّدُها بحبلٍ ... بها طولُ الضَّرارة والكلالُ
أعرابي يخاطب ناقته:
فلله إن بلغْتِ رحلي أهلها ... بهضب الصفا أن تُطْلَقي من حبالكِ
وأن لا تخطَّيْ سبسبًا بعد سبسبٍ ... وأن لا تثنَّى ليلةً في عقالكِ
والأصل في هذا قول الشماخ بن ضرار في عرابة الأوسي، وإن كان هذا الشاعر قد قلَبه:
إذا بلّغتِني وحملتِ رحلي ... عرابةَ فاشْرَقي بدم الوتينِ
هذا دعا عليها والأول نذر ألاَّ يتعبها بسير ولا غيره. ولغيره من الشعراء في هذين المعنيين أشياء نذكر بعضها، فمن ذلك قول ذي الرمَّة في معنى شعر الشماخ يمدح بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري:
إذا ابن أبي موسى بلالًا بلَغته ... فقام بفأس بين وصليك جازِرُ
فأما من قلب هذا المعنى بالدعاء لها أو بالنذر أنَّها لا تُتعب وجوَّده فأبو نواس بقوله:
أقول لناقتي إذ بلغتني ... لقد أصبحتِ عندي باليمين
فلم أجعلك للغربان نهبًا ... ولا قلتُ اشرَقي بدم الوتين
وردَّ أيضًا هذا المعنى في موضع آخر من شعره فقال:
فإذا المطيّ بنا بلغن محمّدًا ... فظهورهنَّ على الرحال حرامُ
ومن القديم الجيد في هذا المعنى قول عبد الله بن رواحة الأنصاري ﵀ وقد وجَّهه النبي ﷺ أميرًا بعد زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب رحمة الله عليهما على الجيش الَّذي أنفذه إلى غزوة مُؤتَة، وهو:
إذا بلّغتِني وحملْتِ رَحْلي ... مسافةَ أربعٍ بعد الحِساءِ
فدونكِ فانْعَمي وخلاك ذمّ ... ولا أرجِعْ إلى أهلي ورائي
ومن القديم قول الفرزدق يخاطب ناقته:
علامَ تلفَّتينَ وأنتِ تَحتي ... وخيرُ النَّاس كلِّهم أمامي
متى ترِدي الرُّصافةَ تستريحي ... من الأنْساعِ والدَّبر الدّوامي
وقد أخذه أبو تمام فقال:
ولست شماخًا الَّذي ليمَ في ... سوءِ مكافاته ومجترمهْ
أشرَقَها في دم الوتين لقد ... ضلّ كريم الأخلاق عن شيَمهْ
وذاك حكم قضى عليه به ... أُحَيْحَة بن الجُلاح في أطمِهْ
أراد بهذا القول أنَّ الشماخ لما أنشد عرابة شعره وانتهى إلى قوله: " إذا بلغتِني " البيت، قال له أحيحة: بئس ما كافأتها به، شماخ، ومعنى قول الفرزدق وغيره " متى تردي الرصافة " البيت، يريد أنَّا إذا وصلنا إلى هذا الممدوح أغْنانا أن نطلب المعاش ونرحل في التماس الرزق بما يُسدي إلينا ويهبُ لنا. وقد روى أهلُ السير أنَّ امرأة من الأنصار كانت مأسورة بمكة، وأنّها هربت من أيدي المشركين فنجت على ناقة من إبل الصدقة، فلما صارت إلى المدينة قالت: يا رسول الله! إنّي قد نذرت أنّي إن نجوت عليها أن أنحرها، فقال النبي ﷺ: بئسما جازيتها، وقال: لا نذر في معصية. وقال آخر في هذا المعنى:
إذا بلَّغتنا الناجيات إليكم ... فقد أمنت من حلة ورحيلِ
آخر:
لا نالها الحلُّ ولا الترحال ... إن بلَّغتْني من له الأفضالُ
آخر:
إذا بلَّغَتْ أرضَ الحبيبة ناقتي ... فقد أمنتْ من كلّ ما تحذَرُ البُزُلْ
وقال ابن قيس الرقيات في حمزة بن عبد الله بن الزبير:
سأُعفي ناقتي من كلّ شيء ... تخاف إذا أتَت آل الزبير
قد ذكرنا من هذا الفنّ ههنا شيئًا وبقي منه أشياء أخر لمواضع أخر من الكتاب إن شاء الله.
أعرابيّ:
وقافيةٍ غيرِ معمورة ... قرضتُ من الشعر أمثالَها
شرود تُجوِّلُ في الخافقَين ... إذا أُنشدت قيل من قالَها
القول يتسع في وصف الشعراء لأشعارهم إذا أنشدت، إلاَّ أننا نثبت منه ها هنا فنًّا واحدًا ونترك فيه فنونًا كثيرة تقارب هذا الفنّ لتقع في مواضعها، فمن ذلك قول الخنساء:
وقافية مثل حدِّ السنا ... نِ تبقى ويهلكُ من قالها
ومثل هذا قول دعبل:
إنِّي إذا قلت بيتًا مات قائلُه ... ومن يقالُ له والبيت لم يمتِ
ومثله أيضًا:
يموت رديء الشعر من قبل ربِّه ... وجيِّدُه يبقى وإن مات قائلُه
وقريب منه:
قواف لو يكون لها شخوصٌ ... لركّبَها الكميُّ على السنانِ
ومثله:
قواف لو تقارضها المنايا ... لركَّبَها الكماة على الرماحِ
آخر:
فإن أهلك فقد أبقَيتُ بعدي ... قوافي ليس يَلْحقها الفناءُ
آخر:
لا يفرحن بموتي من تركت له ... عارًا إلى آخر الأيام معروفا
قصائدًا تترك الألباب حائرة ... من شاعر لم يزل بالحذق موصوفا
آخر:
خذوها هنيئًا إنَّها لرقابكم ... قلائد عارٍ ليس تَزْهى سموطها
وممّا يقارب هذا المعنى وإن لم يكن مثله سواء قولُ الشاعر:
أليس إذا ما قلت بيتًا تناوحَت ... به الريحُ في شرقيها والمغاربِ
يقصِّرُ للسارين من ليلة السُّرى ... ويُغْدى عليه بالقيانِ الضواربِ
ومن جيد هذا المعنى ونادره للخريمي:
من كلِّ غائرة إذا وجَّهتُها ... طلعتْ بها الركبانُ كلَّ نجادِ
طورًا يمثِّلُها الملوك وتارةً ... بين النُّدِيِّ تُراضُ والأكباد
ذكر أنَّ الملوك كثيرة التمثل بأشعاره، وأنَّ الغناء فيها أيضًا كثير فهي تُراض بين النُّدِيِّ والأكباد، وهناك مواقع العيدان. وقال ابن أبي حفصة في شبيه من ذلك:
إنِّي أقول قصائدًا جوَّالة ... أبدًا تَجول خوالعًا أرسانَها
من كل قافيةٍ إذا جرَّبتُها ... جمحت فلم تملك يداي عنانَها
سارت بيوتي في البلاد فأمْعَنت ... وبيوتُ غيري لم تَرِمْ أوطانَها
وقال بشار بن برد:
ومثلِك قد سيَّرتُه بقصيدة ... فسار ولم يبرحْ عراصَ المنازل
رميتُ به شرقًا وغربًا فأصبحت ... به الأرض ملأى من مقيمٍ وراحل
وقال مُزرِّد بن ضرار:
زعيم لمن فارقتُهُ بأوابدٍ ... يغنّي بها الساري وتحدي الرواحلُ
تُكَرُّ فلا تزداد إلاَّ استِنارةً ... إذا رازَتِ الشعر الشفاهُ العواملُ
وقال كثير:
وإلاَّ يعقْني الموتُ والموت غالب ... له شرك مبثوثة وحبائلُ
أُحبِّرْ له قولًا تناشد شعره ... إذا ما التقَتْ بين الجبال القبائلُ
وتصدر شتَّى من مُصِبٍّ ومُصعِد ... إذا ما خلَتْ ممَّن يحلّ المنازلُ
يغنّي بها الركبان من آل يحصب ... وبصرى وترويه تميم ووائلُ
وقال آخر أيضًا وهو محمد بن حازم:
أبَى لي أن أُطيلَ الشعرَ قصدي ... إلى المعنى وعلمي بالصوابِ
فأبْعثهن أربعةً وستًّا ... مثقفة بألفاظ عذابِ
وهنَّ إذا وسَمتُ بهن قومًا ... كأطواق الحمائم في الرقابِ
وهنَّ وإن أقَمنَ مسافراتٌ ... تهاداها الرواةُ مع الركابِ
وشبيه بما ذكرناه قول البحتري:
وأنا الَّذي أوضَحتُ غيرَ مدافع ... نهجَ القوافي وهو رسمٌ دارسُ
وشهرتُ في شرقِ البلاد وغربها ... وكأنَّني في كلِّ نادٍ جالسُ
ومثله:
فلا تبعدنّي من نداك فإنَّ لي ... لسانًا مَلا الدُّنيا وأنت ابن خالدِ
آخر:
لأحملنّك من شعري على فرس ... من المذبَّة مأمونٍ على الزلقِ
يأتي بك الصينَ في يومٍ وليلته ... كالريحِ تأتي على مكرانَ والسَّلَقِ
والشعر في صفة الشعر كثير، وإنَّما أتينا بهذا الفنّ منه ههنا، وتركنا غيره لنأتي به في مواضع أخر إن شاء الله.
أعرابيّ يذكر ابنه:
فتًى لم تلِدْه بنتُ عمّ قريبة ... فيضْوى وقد يَضوى سليل القرائبِ
ولكنَّما أدَّتْه بنتُ محجّبٍ ... عظيمِ الرواقِ من خيارِ المَرازبِ
تعلّم من أعمامه البأسَ والندى ... وورَّثه الأخوالُ حسنَ التجاربِ
ومثل هذا قول جرير في ابنه بلال:
إنَّ بلالًا لم تشِنْهُ أمُّه ... لم يتناسَبْ خالُه وعمُّه
فريحُه ريحي وشمّي شمُّه
وإنّما يعتدّ بأنَّ خاله وعمَّه لم يتناسبا، لأنَّ العرب تزعم أن ابن الغرائب أنجب، وأنَّ ابن القريبين يكون ضاويًا، ومن أمثالهم: اغْتَرِبوا لا تُضْووا، وأنشد:
نمت بي من شيبان أُمٌّ نزيعة ... كذلك ضرب المنجبات النزائع
وهذا البيت لجرير، وكانت أمُّه نزيعة في بني شيبان. وروي أنَّ نوح ابن جرير أنشد هذا البيت في مجلس يونس بن حبيب النحويّ ورجل من بني شيبان حاضر المجلس، فالتفت إليه نوح فقال: أخذناها والله يا أخا بني شيبان بأطراف الرماح عنوةً، فقال له الشيباني: أجل والله، ولولا ذلك لكان أبوك وجدّك ألأمَ من أن ينكحاها عن رضى.
وقال آخر في المعنى الَّذي قدمنا ذكره:
1 / 59