أخذ أبو تمام قوله: " رفِيع بجدَّيه وضيع بنفسِه " البيت، فقال:
يا أكرمَ النَّاس آباءً ومفتخَرًا ... وأَلأَمَ النَّاس مَبلُوًّا ومُختبرا
يُغضِي الرجالُ إذا آباؤه ذُكروا ... له ويُغضي إذا ما لؤمُهُ ذُكرا
والشعر الأول الَّذي أخذ أبو تمام هذا المعنى منه أجود من قول أبي تمام وأحسن تركيبًا وتقسيمًا وأبلغ في المعنى، وقد ألمَّ بهذا المعنى جماعة من الشعراء، فقال بعضهم:
إن قلتَ كانَ أبي في بيت مكرمةٍ ... قلنا صدقتَ ولكن بئسَ ما ولَدا
وأتى به آخر فقال:
أبوك أبٌ حرٌّ وأُمك حرَّةٌ ... وقد يلدُ الحُرَّانِ غيرَ نجيبِ
فلا يعجبنَّ النَّاسُ منك ومنهما ... فما خَبَثٌ من فضَّةٍ بعجيبِ
ولابن المعتز يخاطب به رجلًا فيقول: إنك كريم الآباء لئيم النفس، وهو:
حتَّى كأنَّك نِقمة في نِعمةٍ ... أو ثُومةٌ في روضةٍ من نرجسِ
وقال الله تعالى:) يخرج الخبيثَ من الطيِّب (والشعر في مثل هذا المعنى كثير، وهو يجيء في مواضع أُخر إن شاء الله.
أعرابيّ ذكر سيفًا:
وصافي الفرنْدِ كأنَّ الدّبَى ... عَلاه فغادرَ فيه أَثرْ
يُرقرقُ للشَّمس في متنِهِ ... شعاعٌ يحسّر عنه النَّظرْ
سريع إذا استكرهته اليمين ... كأنَّ معًا وِردَه والصَّدَرْ
تبيتُ المنيَّةُ في حدِّه ... وتُلحقُهُ بصروف القدرْ
آخر:
وقلنا لهم ثِنتانِ لا بدَّ منهما ... صدورُ رِماح أشرِعتْ أو سلاسلُ
لهم صدرُ سَيفي يومَ صحراء سَحْبَلِ ... ولي منه ما ضُمَّتْ عليه الأناملُ
إذا ما ابْتدرنا مأزِقًا فرجَت لنا ... مَضائقهُ بيضٌ جلَتْها الصَّياقلُ
الرواية " بأيماننا بيض ". أما قوله: " وقلنا لهم ثِنتانِ " البيت، فإنَّه ذكر أنهم قالوا لأعدائهم من عزّهم وسطوتهم واقتدارهم عليهم: إمَّا أن تختاروا القتل بصدور الرماح أو الشد بالسلاسل في الأسرة.
وقوله: " لهم صدر سيفي " البيت، فمثل قول الآخر، ولا ندري أيّهما أخذ من صاحبه:
نقاسمهم أسيافَنا شرَّ قسمةٍ ... ففينا غواشيها وفيهم صدورُها
أعرابي من بني تغلب:
يناديني لأنظرَهُ بريمٌ ... فدَعْني إنَّما أربأْ أمامِي
دَلَفْتُ له بأبيضَ مَشرفيٍّ ... كما يدنو المُصافحُ للسَّلامِ
يقول: دعاني بريم لأنظر إلى مواقفه في الحرب، فقلت له: دعني فإنِّي أُريد التقدم أمامي في القتال. ثمَّ قال: " دَلَفْتُ له بأبيضَ مَشرفيٍّ كما يدنو المُصافحُ للسَّلامِ " يقول: إنِّي أدنو إلى قِرني غير مرتاع منه كما يدنو من يريد مصافحة صديقه والسلام عليه، ومن هنا أخذ البحتري قوله:
تسرَّعَ حتَّى قال من شهِد الوغَى ... لِقاء أعادٍ أو لقاء حبائبِ
لقد كانَ ذاك الجأشُ جأشَ مُسالمٍ ... على أنَّ ذاك الزِّيَّ زيّ محاربِ
ومثله قول أعرابي قديم:
حنَّتْ لهم بكرٌ فلم تسْتطِعْهمُ ... كأنَّهم بالمشرفيَّة سامرُ
يقول: كأنَّهم قوم يتحدثون في سامرٍ، ليس عليهم روع الحرب ولا جزع القتال.
الضحاك بن عمرو العدواني:
فإن لا أمُتْ أشهدْ سوابقَ غارة ... تُساقي المنايا بالوشيج المقوَّمِ
بكلِّ رُدَينيّ كأنَّ سِنانه ... سَنا لهبٍ في عارضٍ متضرّمِ
لكم صعدةٍ دنّستُ بالطعن لونَها ... بمُعتبط من قانئِ الجوف أسْحمِ
سقاها فروَّاها من الدَّم فانطوَت ... على عَلَق في ثعلبٍ متهضمِ
قوله: " في ثعلب متهضمِ " قريب من قول البحتري: " أو نثر القناة كعوبا " وفي مثله: " وفي صُلبه ثعلب ينكسِر ".
عبد الله بن الحارث:
إذا طلعتْ شمس النهار مريضةً ... وجُرّد بالأيدي السيوفُ القواطعُ
وأشرِع أطرافُ الرِّماح كأنَّها ... حبالُ جَرورٍ مدَّهن النوازعُ
قوله: " إذا طلعتْ شمس النهار مريضةً " يقول: إنَّ يوم الحرب يكسو نور الشَّمس بما يرتفع من الغبار كأنَّها مريضة.
وقوله في وصفه الرماح: " وأشرع أطراف الرِّماح " البيت، مثل قول عنترة بن شداد:
أشطانُ بئرٍ في لبان الأدهم
والجرورُ: البئر البعيدة القعر، وقد أخذه ابن المعتز فقال:
وصَعدةٌ كرشاء البئرِ ناهضةٍ ... بأزرقٍ كاتِّقاد النَّجم يقظانِ
وروي عن بعض الأعراب أنَّه سُئل عن وقعة كانت لهم فقال: لمَّا لقيناهم جعلنا الرماح أرشِيةً لمناياهم، فنزحنا بها ركايا نفوسهم. والبيت الأول أجود ممَّا ذكرنا بعده لأنه جعل الرماح الطوال وزعم أنَّها لا تكون إلاَّ مع الشجعان لحذقهم بالطَّعن، قال زياد الأعجم:
لعمرك ما رماح بني نُمير ... بطائشةِ الصُّدور ولا القِصارِ
ويروى أن امرأة من بني نُمير أُحضرت، فاجتمع حولها قومُها ليلقِّنوها الشهادة، فقالت لهم: من القائل: " لعمرك ما رماح بني نُمير " البيت؟ فقالوا: زياد الأعجم، قالت: فبكَم يجوز أن أتصدَّق من مالي؟ قالوا: بثلثه، قالت: فأُشهدكم أنَّه له. فأما قول عنترة: " أشطانُ بئر في لبان الأدهم "، فيجوز أن يكون أراد طولًا، ويجوز أن يعترض عليه معترضٌ فيُعلّ بيته، إذ لم يذكر طولًا ولا قصرًا. وأما بيت ابن المعتز فهو ناقص لأنه ذكر " صَعدة " وهو الرمح القصير عندهم بغير شك.
وقال في رمح وسنان:
له فارطٌ ماضي الغِرار كأنَّه ... هلالٌ بدا في آخر الليل ناحلُ
أصَمّ إذا ما هُزَّ مارتْ سَراتُهُ ... كما مار ثعبانُ الرّمالِ الموائلُ
أعرابي:
لقد علمتْ عرسي أُمامةُ أنَّني ... طويلٌ سنا ناري بطيء خمودُها
إذا حلَّ أضياف الفلاة فلم أجد ... سوى خشب الأطناب شبّ وقودُها
إذا لم تجد إلاَّ الكريمةَ للقِرى ... فرِدْ نفسَها إنَّ المنايا تُريدُها
آخر:
إذهبْ فلا يُبعدنك اللهُ من رجلٍ ... دفَّاع ضيم وطلاَّبٍ بأوتارِ
قدْ كنتَ تحمل قلبًا غير مهتضم ... مركَّبًا في نصابٍ غيرِ خوَّارِ
جميل:
وقد زعمتْ أنِّي سأرضي بها العدَى ... سرقت إذًا يا بثن زادَ رفيقي
عمِيتُ إذًا يا بثن حتَّى يقودني ... إليك العِدَى لا أهتدي لطريقي
الشَّمردل اليربوعيّ:
ألا لا أُبالي من أتاه حمامُهُ ... إذا ما المنايا عن بجير تجلَّتِ
يكون أمام الخيل أوَّلَ فارس ... ويضرِبُ في أعجازها إنْ تولَّتِ
ومن هذا أخذ البحتري قوله:
طليعتهم إن وجَّه الجيشُ غازيًا ... وساقتهُم إن وجَّه الجيشُ قافِلا
1 / 42