أما قوله: " وكم من كريم " البيت، فإليه نظر أبو تمام في قوله:
لم تطلُعِ الشَّمسُ منهم يومَ ذاك على ... بانٍ بأهلٍ ولم تغربْ على عَزَبِ
إلاَّ أن بيت أبي تمام أجود بناءً ورصفًا. وأمَّا ذكره النساء بما ذكر فلا نعلم أنَّ أحدًا ذكرهن بأحسن من ذلك ولا أجود. ويقال إنَّ عبد الملك ابن مروان سابق بين ابنَيه، مسلمة والوليد، وكانت أُم مسلمة أُم ولد وأُم الوليد عبسيَّة، فسبق الوليد مسلمة فقال رجلٌ من أخوال الوليد من بني عبس: أحسن. والله يا أمير المؤمنين الَّذي يقول:
نهيتُكم أن تحملوا هُجناءَكم ... على خيلكم يوم الرِّهان فتُدرَكوا
وما يستوي المرءان هذا ابن حُرَّة ... وهذا ابن أُخرى طُهرها متشرَّكُ
فتصطكُّ فخذاه ويرعش كفُّه ... ويلقى على الأعواد لا يتحرَّكُ
وأدركْنَه جدَّاتُه فخَلَجْنَه ... أَلا إنَّ عرق السُّوء لا بدَّ مُدركُ
فأعجب عبد الملك هذا القول لميله إلى الوليد، فقال مسلمة، وسمع الكلام: كذب يا أمير المؤمنين، بل أحسن من هذا وأصوب قول مسكين الدارميّ، وذكر الأبيات التي قدَّمنا ذكرها قبل هذا، فتعجب النَّاس من ذكاء مسلمة في ذلك الوقت وقلَّة دهشه.
وأمَّا أبياته في ذكر قلَّة الغيرة، فقد ردَّ مثلها في موضع آخر من شعره وهو:
أَلا أيُّها الغائر المستَشيطُ ... علامَ تغارُ إذا لم تُغَرْ
فما خيرُ عِرس إذا خِفتَها ... وما خَير بيت إذا لم يُزَرْ
تغارُ على النَّاس أن يَنظروا ... وهل يفتِنُ الصالحاتِ النظَرْ
فإنِّي سأُخلي لها بيتَها ... فتحفَظ لي نفسَها أو تَذَرْ
وما نعلم أن أحدًا من الشعراء سهَّل ترك الغيرة غير هذا. ونظنّه كأنَّه يقول بالإباحة، وإلاَّ فأيّ شيء دعاه إلى هذا القول الَّذي يأنف منه الأحرار.
ولقد روي أنَّ بعض العلويَّة قال في هوى له:
ولمّا بدا لي أنّها لا تُحبُّني ... وليس هواها عن فؤادي بمُنجلي
تمنَّيتُ أن تهوى سِوايَ لعلَّها ... إذا عرفَتْ طعم الهوَى أن تَجودَ لي
فجاء رجل يسأل عنه فقال: ما فعل المتديِّثُ في شعره؟ فهذا عيب عليه ما قال في غير زوجته، ونُسب إلى التديُّث بما قال. ولقد عيب على القائل:
أهيمُ بدعدٍ ما حييْتُ فإن أمُتْ ... فوا حزَنًا من ذا يَهيمُ بها بَعْدي
فقال له بعض من سمع هذا البيت: وما يهمّكَ ممَّن ينيكها بعدك؟ ولشتَّان بين مسكين الدارميّ في إغفاله تفقد امرأته وتركه الغيرة عليها وبين الَّذي يقول:
إذا كنتَ ذا عِرس تضِنُّ بوصلها ... فلا تُخرجنْها تبتغي ليلةَ القَدْرِ
ولا تُدخلِ الحمَّامَ عِرسكَ أنَّني ... أخاف من الحمَّام قاصمةَ الظَّهْرِ
وإلى هذا أشار أبو عليّ البصير في قوله:
دهَتْك بعلّة الحمَّام خِشُفٌ ... ومال بها الطريق إلى سعيدِ
أرى أخبارَ بيتك عنك تخفى ... فكيف وليتَ أعمالَ البريدِ
وإلى هذا نظر عثمان بن سعدان بقوله:
سألَتْ زوجَها الخروجَ إلى الحَ ... قِّ ويا رُبَّ باطل في الحقوقِ
واستقامتْ على الطريق إلي ... هِ ساعة ثمَّ عرَّجتْ في الطريقِ
لم تخَفْ فتنة الفُتونَ لما في ... قلبها من تلهُّب وحريقِ
وأقامت بمأتم اللهو لا مأ ... تم شقِّ الجيوب والتخريقِ
ويروى أن جميل بن معمر كان يقول: ما رأيتُ مصعب بن الزبير يمشي بالبلاط إلاَّ لحقتْني الغيرة على بثينة وهي بالجِناب، وبينهما مسيرة عشر ليال للراكب المجِدّ المُسرع. ويقال إنّه لم يُرَ في الدُّنيا رجلٌ كان أغْيَر من مالك بن طوق. تزوَّج امرأة من بني تغلب فجاء أخوها يزورها فأقام سنة حتَّى وصل إلى من أدّى رسالته إليها.
ولمسكين الدارميّ أيضًا:
أرى كلَّ ريح سوف تسكنُ مرةً ... وكلَّ سماء لا محالة تُقْلِعُ
وإنِّيَ والأضيافَ في بُردة معًا ... إذا مات نصفُ الشَّمس والنصف يَنزِعُ
أحدِّثُه إن الحديث من القِرى ... وتعرفُ نفسي أنّه سوف يَهجعُ
قوله: " وإنِّي والأضياف في بردة معًا " البيت، حسن جدًّا، وذلك أنَّ
1 / 34