ومن أجود ما قيل في هذا الحديث قديمًا وحديثًا قول ابن الرومي:
وحديثُها السِّحرُ الحلال لو أنَّه ... لم يجْنِ قتلَ المسلم المتحرِّز
إن طالَ لم يُمْلَل وإن هي أوجزَتْ ... ودّ المحدِّثُ أنَّها لم توجزِ
شركُ القُلُوب ونزهة ما مثلها ... للمطمئنّ وعُقلةُ المُستوفِزِ
هذا نهاية ما قيل في هذا الباب. وقد تناول ابن الرومي قوله: " ودّ المحدِّثُ أنَّها لم توجزِ " من بعض المتقدمين، وهو قوله:
من الخفِراتِ البِيض ودّ جليسُها ... إذا ما قضَتْ أحدوثةً أن تعيدَها
ومن مليح ما قيل في الحديث أيضًا قول بعض الأعراب:
وحديثها كالغيث يسمعُهُ ... راعِي سنينَ تتابَعَتْ جَدْبا
فأصاخَ يرجو أن يكون حَيًا ... ويقول من فَرَحٍ هَيَ رَبَّا
وقال آخر:
وإنَّا ليجري بيننا حين نلتقي ... حديث كتسبيح المريضَين مُزعجُ
حديث لوَ أنَّ اللَّحمَ يُولَى ببعضه ... غريضًا أتى أصحابَه وهْوَ منضَجُ
هذا ذكر أنَّه إذا خلَى بمن يحبّ يجري بينهما من التشاكي أحرّ من النار. ومثله قول الآخر:
تقول لي وهي تحُفُّ الهودجا ... قولًا جميلًا حَسَنًا سَمَلّجا
لو طُبخَ اللَّحمُ به لأنضَجَا
والقول في الحديث كثير، ولو استقصينا جميع ما فيه لخرج كتابنا عن الغرض الَّذي قصدنا له.
وقوله: " ولمَّا رأين الصبح بادرن " البيت والَّذي بعده فهو شبيه بقول بشار:
حتَّى إذا بعث الصَّباح فراقنا ... ورأينَ من وجه الظَّلام صُدودا
جرتِ الدُّموع وقلن فيك جلادة ... عنَّا ونكره أن تكون جليدا
ومثله قول عبد الصمد بن المعذّل:
فضحكنَ في وجهِ الدُّجى ... وبكَينَ في وجهِ الصَّباحْ
يريد أنهن اشتهين طول الليل ليتمتَّعن بالحديث، وبيت عبد الصمد أحسن ممَّا تقدَّمه وأعذب ألفاظًا.
وقوله: " فأصبحنَ صرعى في الحِجال " البيت، مأخوذ من امرئ القيس:
فأصبحتُ معشوقًا وأصبح بَعلُها ... عليه القتامُ كاسفَ الظّنِّ والبالِ
وقوله: " يبلّغن الحاجَ " البيت والَّذي بعده، يذكر أنَّه يُرسل إلى من يهوى بمن لا يُؤبَهُ له. وقوله: " مكاتب " أي ضعيف. ويجوز أن يكون قد كاتب هذا الرسول عن نفسه فهو يسأل النَّاس في مكاتبته، فليس ينكر دخوله البيوت وكلامه النساء. وقوله: " أو مقعد يتزحَّفُ " أراد أيضًا ضعيفًا، وهذا مثل قول الفرزدق:
فأبلغَهنَّ وحيَ القَول عنِّي ... وأدخلَ رأسَهُ تحتَ القِرامِ
ضعيفُ ذو خُرَيِّطَةٍ بهيم ... من المُتَلَقِّطي قرَدَ القُمامِ
وصفه أيضًا بالضعف والمسكنة وإنَّه يلقط القَرَد، وهو ما يقع من الصوف، في خُريِّطة معه.
وقوله: " فأصبح في حيث التقينا " البيت، أراد أنَّا تجاذبنا وتعاركنا فتكسَّرت الإسورة والخلاخيل وتحرَّقت الثياب، فمن أتى موضع التقائنا وجد فيه ما قلنا، وهذا مثل قول عبد بني الحسحاس:
فكم قد شقَقْنا من رداءٍ مَطرف ... ومن برقع عن طِفلةٍ غَير عانسِ
إذا شُقَّ بُردٌ شُقَّ بالبُرد برقعٌ ... دواليكَ حتَّى كلُّنا غيرُ لابسِ
وقال جران العَود:
كأنَّني يومَ حثَّ الحاديان بهم ... مرنَّح من سلافِ الخمر معلولُ
يومَ ارتحلتُ برَحْلي قبل بَرذَعتي ... والقلبُ مستوهِلٌ بالبين مشغولُ
ثمَّ اغْترزْتُ على كوري لأدفعَه ... إثْر الحُمول الغوادي وهو معقولُ
لم يبقِ من كبِدي شيئًا أعيشُ به ... طولُ الصَّبابةِ والبِيض العطابيلُ
ممَّن يجول وشاحاها إذا انصرفتْ ... ولا تجولُ بساقَيها الخلاخيلُ
يرنو إليها ولو كانوا على عجَلٍ ... بالشِّعب من مكَّة الشِّيبُ المثاكيلُ
أما قوله: " ثمَّ اغْترزْتُ على كوري " البيت، فلا يكون في الطيش والدهش وشغل القلب بالبَين مثله؛ لأنه ذكر أنَّه جعل رحله على جَمَله قبل برذعته ثمَّ ركبه وأثاره وبعثه في السير وهو لا يعلم أنَّه معقول دهشًا لما ناله من فراق من يحبّ. وإلى هذا نظر أبو تمام في قوله:
أَظَله البين حتَّى أنَّه رجُلٌ ... لو مات من شغله بالبين ما علِمَا
على أن جران العود أتى بما يمكن ويقوم في العقل وأتى أبو تمام بما لا يكون، إلاَّ أنَّه إغراق جيّد.
وقوله: " يرنو إليها ولو كانوا " البيت، نهاية في معناه، فهو قد جمع محاسن كثيرة، لأنه قد " يرنو إليها ولو كانوا على عجل " فجعل العجلان وغير العجلان في النظر إليها بمنزلة واحدة. ثمَّ قال: " بالشِّعب من مكَّة " أي أنهم في الحرم، ومن كان في الحرم كان خاشع القلب غاضّ الطرف. ثمَّ قال: " الشيبُ " والأشيب قلما يلتفت إلى شيء من اللهو من جهات، أما إحداها فلِما مضى من عمره، والأخرى أنَّ الأشيب أتقَى من الشاب. وأخرى أنَّ الأشيب يستحيي من الغزل أكثر ممَّا يستحيي الشباب. ثمَّ قال: " المثاكيل " والثاكل يشتغل بثكله عن النظر إلى الحسن والقبيح لا سيما إذا كان أشيب ثاكلًا، فقد يئس من الولد لكبره وعلوّ سنّه. والأوَّل في هذا المعنى قيس بن الخطيم في قوله:
ديار الَّتي كادت ونحن على منًى ... تَحُلُّ بنا لولا نجاء الركائبِ
وقد ذكرنا هذا البيت ونظائره في صدر كتابنا هذا. وبيت جران العود هذا الَّذي قدمناه ذكره أجود من كلّ ما عُمل في هذا المعنى وأشدّ إغراقًا.
وقال مسكين الدارميّ:
ونارٍ دعوتُ المعتفين بضوئها ... فباتوا عليها أو هَدَيتُ بها سَفْرَا
تضرَّمُ في ليل التِّمام وقد بدتْ ... هوادي نجوم الليل تحسبُها جمْرَا
وضيفٍ يخوض الليل خوضًا كأنَّما ... يخوض به حتَّى تأوّبني بحرَا
وكم من كريم بوَّأَتْهُ رِماحُهُ ... فتاة أُناس لا يسوق لها مهرَا
وما أنكحونا طائعين بناتهم ... ولكن نكحناها بأرماحنا قسرَا
وكائن ترى فينا من ابن سبيئةٍ ... إذا لقيَ الأبطالَ يطعنُهم شزْرَا
فما ردّها فينا السباء وضيعةً ... ولا عرِيَتْ فينا ولا طبخت قِدرَا
ولكن جعلناها كخير نسائنا ... فجاءتْ بهم بِيضًا غطارِفة زُهرَا
إذا لم تجدْ بُدًّا من الأمر فأتِهِ ... رحيبَ الذراعِ لا تضيقَنْ به صدرَا
ولا تأمن الخُلانَ إلاَّ أقلّهم ... عليك إذا كانت صداقتهم مكرَا
وإنِّي امرؤ لا آلفُ البيتَ قاعِدًا ... إلى جنبِ عِرْسي لا أفارقُها شِبرَا
ولا مُقسمٌ لا تبرحُ الدَّهرَ بينَها ... لأجْعلَه قبل المماتِ قبرَا
إذا هي لم تُحصِنْ أمامَ فنائها ... فليس يُنجِّيها بِنائي لها قصرَا
ولا حامل ظنِّي ولا قالَ قائل ... على غيرةٍ حتَّى أُحيط به خُبرَا
وهَبْني امرأ راعيتُ ما دمتُ شاهدًا ... فكيف إذا ما غِبتُ من بيتها شَهرَا
1 / 33