فوثبنا ثلاثتنا إلى الجربة؛ لنرى ما الخبر، وإذا بأصوات البكاء والعويل تتوالى، فتقرب إلينا وفي جملتها ولولة النساء لا تخمد من حين إلى آخر، حتى يسمع هتاف أفظع من الصراخ الأول، كاد يجمد له الدم في العروق.
وكنا نحن على باب الجربة، ينظر بعضنا إلى البعض نظر المتحير الدهش، لا ندري ما الداعي لهذه أصوات الويل والثبور، إذ تراءى لنا نور مشعل ضئيل، فميزنا في ضوئه جنازة يحملها نفر، وكان على الجنازة جثة هامدة، ولم نلبث أن عرفناها، وإذا هي جثة علي، ذاك الشاب ذي البهاء والجمال الذي راقنا منظره في أصيل النهار.
وكانت علة موته أنه لما عاد من الدوار حيث أرسله أبوه لطلب الملح؛ عثرت رجل فرسه في دجى الليل، فوقع الراكب من ظهرها، وصدم رأسه بصخرة في الطريق فمات موتا وحيا، فلما استطال أهله عودته أرسلوا قوما يستطلعون أخباره، فوجدوه صريعا بين الصخور.
وبينما كان حملة النعش يحطون بجسم الميت، كان الشيخ أحمد ينظر إلى ابنه نظرة أب فجع بفلذة أكباده ومظنة آماله، وأنا سبب موت الغلام على غير اختياري، بل رغما مني، كنت بقربه واقفا واجما، لا أبدي حراكا، كأن صاعقة انقضت علي ففلجت جسمي، أما الدليل رفيقي فكان يسرح بصره بين الوالد المسكين وبيني ، لا يدري ما يقول أو يفعل .
فمد الميت في زاوية من الجربة، وكان فوه منفتحا، كأنه يريد التكلم، فأشار الشيخ إلى النسوة أن اكففن عن العويل. فسكتن للحال، وخرجن مطرقات صامتات.
عندئذ دعانا ضيفنا ودعا معنا كل الحضور؛ لندخل المنزل، فجلسنا حوله لا ننبس بكلمة، وكان كل منا يجيل في فكره حوادث ذاك النهار المشئوم، وكانت كل أصوات الخارج قد هدأت ثانية إلا قطرات ماء المطر، كانت تسمع بقبقتها عند سقوطها في أجران الماء، تحسب صوتها في هدو الليل الدامس كصوت الموت.
وبقينا كذلك مدة غائصين في بحر الغم، إذ لمحنا الشيخ أحمد، فرأيناه مسح وجهه ولحيته بيديه قائلا: «الله أكبر، إنه وحده أزلي لا يموت.» ثم التفت إلى أحد الحضور فسأله: وهل أتى بالملح؟ فقام رهط من الجلوس ودسوا جثة الميت، فوجدوا لفافة فيها الملح، فوجه الشيخ الكلام نحوي قائلا: «سيدي، إن ولدي أتاك بالملح، فقم بلا تكلف وشرفني بأكل طعامي.» ثم أراد أن ينشطنا على الأكل، فأخذ دبلة من الكسكس وأدخلها فاه، وقال للجلوس: «هيا، باسم الله، يا أسيادي كلوا.»
فلما رأيت هذا الجلد، وسمعت هذا الكلام عمل في منظر الشيخ عملا لا يوصف، فاندفعت أبكي وعلا صوت نحيبي، ثم خرجت من الدوار وحدي، رغما عن العاصفة وأهوال الليل وقفر المكان لا أعي، فقام الشيخ مع الحضور ليوقفوني ويردوني إلى المنزل، إلا أني لم أعرهم سمعي، ولم أنكص على الأعقاب لتوسلاتهم وإلحاحهم، بل سرت هائما في وجهي إلى ما شاء الله.
Unknown page