هذه هي أساطير الشعوب القديمة، وإن هي إلا رموز تنطق بمجد الله الخالق المبدع عز وجل وتخبر بأعمال يديه. وقد كان للأساطير احترام عظيم ومنزلة سميا عند فلاسفة تلك الشعوب ومشاهير شعرائهم، يحدثون بها في نثرهم وشعرهم، ويتوسعون في إيراد تفاصيلها، ويتزيد كل منهم في تلوين صورها، وهي لا تزال اليوم متعة النفوس لما فيها من الغرائب وجمال الخيال. وليس أمتع للنفوس من الغرائب والتخيلات؛ لأن الحقيقة، على جمالها وعظمتها، جافة جامدة، ترضي العقول، ولكنها لا تلامس الأرواح كما تلامسها الخرافات بأجنحتها المخملية، ولا سيما أن عصرنا هذا عصر مادة تغذي الجيوب، ولكنها لا تشبع الأرواح، تلك الأرواح التي يلذها، من حين إلى حين، أن تسيح في العوالم الخيالية لتنزه عنها وتفرج همومها. وهذا ما حدا بعض الأدباء الغربيين، قبل الحرب الأخيرة، أن يصرفوا همتهم إلى تأليف روايات خرافية، ويعودوا إلى عالم الأوهام، فرأينا في الفرنسية غير واحدة من هذه الروايات ك «خيط آريان» وسواها.
وكنت منذ أخذت أعنى بالميثولوجية الفينيقية والعربية أتشوف إلى جمع بعض أساطير في كتاب يجد فيه قارئه ملهاة له عن هموم الحياة، ومتعة يستمتع بها في ساعات وقوفه عن عمله، حتى قيضت لي مطالعة كتب بعض المؤرخين والشعراء، من يونان ورومان وعرب وفرنسيين وإنكليز، أن أعثر على أساطير كثيرة، اخترت منها ما كان الشرق ملعبها، وكتبتها في شكل حكايات تسلي من يطالعها وتفيده في وقت معا، وقد جعلتها في القسم الأول من الكتاب، أما القسم الثاني فقد ضمنته شروحا تبين صلة كل أسطورة بالتاريخ، ومعجما يشرح أسماء الآلهة واختصاصهم، وأسماء الأبطال والأمكنة التي كانت ملاعب لهم، واعتمدت في أكثر الأحيان أسماء الآلهة الرومانية لخفة وقعها على الآذان.
ولا أكتم القارئ الكريم ما عانيت من جهد وما صرفت من وقت لجمع شتات هذه الأساطير من كتب عديدة، واختيار أروع صورة لها من شتى الصور المنثورة في تلك الكتب، حتى تمكنت من نظم عقودها، متسلسلة، في حكايات متساوقة صورها، متلاحمة أجزاؤها، وآمل أن أكون قد وفقت إلى الغاية التي استهدفتها.
كرم البستاني
القسم الأول
(1) أدونيس وعشتروت
كان في قديم الزمان وسالف العصر والأوان في جزيرة قبرس شاب يدعى بغماليون يعيش عزبا لا يقرب النساء ولا يقربنه، وكان بارعا في فن المثالة، فصنع ذات يوم، من العاج، تمثال فتاة في جمال لا تستطيع الطبيعة أن تمنح امرأة بشرية مثله. ولم يكد ينتهي من عمله وينظر إليه، حتى شعر بعشق شديد في قلبه لهذه الفتاة العاجية صنع يديه، وكأنه ذهل فطفق يتلمس مجاسها ليرى أليست بشرا سويا من لحم ودم؟ ويقبلها ويتخيلها ترجع إليه القبل، وكأنه يحس هسهسة رجع تلك القبل، ويكلمها ويضمها إلى صدره، ويدغدغها حينا ويحمل إليها الهدايا حينا: من لعب وأزهار مختلفة الألوان، وزنابق عابقة الطيوب. ويلبسها ملابس فاخرة ويحلي يديها بالأساور، وأصابعها بالخواتم، وأذنيها بالحلق، وكان كل شيء يليق بها، جميلة هي في عريها وكسوتها، ومسكين هو في عشقه وذهوله.
وحل عيد فينوس الكبير الذي تعيد له قبرس من أدناها إلى أقصاها، فاحتشدت الجموع في معبد الإلهة الفتانة، وشرعوا بإقامة الطقوس الدينية، فألبسوا قرون العجول ذهبا وقربوها لها، وأحرقوا البخور في كل ناحية، وقدموا لها التقادم، وطلبوا إليها أن تمنحهم ما هم في حاجة إليه، وفينوس كريمة على عبادها لا تبخل عليهم، ولا ترد طلباتهم خصوصا في عيدها هذا الكبير.
وكان بغماليون بين المحتشدين فقدم للإلهة تقدماته ووقف أمام هيكلها وخاطبها قائلا بلهجة الحيي: «أيتها الإلهة المحبوبة، إذا كان حقا أنك تستطيعين أن تمنحي جميع ما يطلب منك، فأتوسل إليك أن تمنحيني زوجة، تكون شبيهة بذات التمثال العاجي»، ولم يجرؤ أن يطلب منها العذراء العاجية نفسها. وكانت فينوس حاضرة عيدها قاعدة في أعلى الهيكل محلاة بالذهب، فأصغت إلى ما طلبه منها بغماليون، وأدركت أنه إنما يريد العذراء العاجية زوجا لا غيرها. وهل تخفى على إلهة الحب حيل المحبين؟! فأظهرت له إرادتها الحسنة نحوه بأن جعلت النار الموقدة تشتعل من نفسها ثلاث مرات، وترسل لهبها نحو السماء، فعاد بغماليون مطمئنا إلى منزله، وكان قد وضع العذراء العاجية في الفراش، فانحنى فوقها يقبل فمها، فإذا به يحس حرارة ونفسا، فمد يده إلى صدرها وغمزه بأصبعه فشعر بأنه يغمز لحما طريا، فدهش وبهت، ثم أخذ يجس هنا ويجس هنالك، حتى أثبت أنها جسم بشري حي تجري الدماء في عروقه، فركع على ركبتيه ورفع للإلهة الحنون على العشاق آي الشكر والثناء، وعاد إلى عذرائه يرشف ثناياها، فأحست بالقبلة فاحمرت حياء ورفعت نظرها نحو النور فرأت السماء ووجه عاشقها في وقت معا.
وكانت فينوس قد التحقت ببغماليون؛ لأنها لم تكن تأتي أمرا إلا أتمته، فظهرت له ولعذرائه في جلالها وبهائها وعقدت لهما الزواج في عرس خفي لم يحضره إلا كوبيدون ابنها إله الحب والأزهار والزنابق، ولم يكد القمر يجمع قرنيه تسع مرات حول قرصه حتى ولدت هذه المرأة الشابة بنتا سمتها فابوس، حملت الجزيرة التي ولدت فيها اسمها من بعدها.
Unknown page