ورأت سيلا السفن تبتعد، فثار غضبها على مينوس لتركه إياها، وقد سدت خيانتها في وجهها سبل العودة إلى المدينة، فلطمت صدرها وصاحت به: يا قاسي القلب ويا صلب الكبد لن تفلت مني، ثم قفزت إلى الماء وسبحت حتى وصلت إلى سفينته فتعلقت بها.
وكان جوبيتر قد رأف بأبيها الشيخ لما لحق به من هوان فحوله إلى نسر بحري أصهب الجناحين، وفيما هو يحوم فوق البحر شاهدها متعلقة بسفينة مينوس فانحط عليها مغيظا يريد تمزيقها بمنقاره المعقوف، فارتجفت فرقا لرؤيته واسترخت يداها، فسقطت فسندها نسيم لطيف أرسلته إليها جونون رحمة لها، ومنعها أن تمس الأمواج، وإذا بها ينبت لها ريش وجناحان فتحولت إلى عصفور يسمى قوس السحاب (إيريس) تذكرها ألوانه الجميلة شعرة أبيها الأرجوانية.
عاد مينوس إلى مملكته، وكان نبتون إله البحر قد غضب عليه لإبحاره إلى ميغار دون أن يقرب له قربانا، فأراد أن ينتقم منه، ولكنه خاف جوبيتر؛ لأن رب أرباب الأولمب لا يأذن بأن يؤذى ابنه، فصوب نبتون انتقامه إلى بازيفابي، وعزم على أن يلبسها، في غياب زوجها، ثوب الخيانة والعار، فبعث إلى إكريت ثورا أبيض جميلا، فاندس بين ثيران مينوس يرعى معها في أودية جبل أيدا الظليلة المغطاة بالغابات الخضراء، والموشاة بالخمائل النضرة، وكانت بازيفابي تذهب كل يوم تتنزه في هذه الأودية فتمتع القلب والعين بهوائها النقي المنعش، وبمناظرها الخلابة. وإنها ذات يوم لكذلك في لذتها الروحية والبدنية، إذا بها ترى ثورا أبيض كالثلج، وفي جبهته لطخة سوداء صغيرة زادته جمالا، فدهشت لرؤيته بين ثيران زوجها ولا عهد لها بمثله، ونهضت جالسة تنظر إليه فألهمها نبتون حبه فولعت به واتبعت خطاه.
وكأن العجلات كانت شاعرة بجمال هذا الثور، فسرى حبه في قلوبها، وأخذت تتزاحم على الدنو منه لعله يتيسر لها مداعبته، فغارت بازيفابي من العجلات، وليس كالغيرة ما يؤرث لواعج الحب، غارت بازيفابي من العجلات فكانت تنظر إلى كل عجلة فتية جميلة بعين الحقد والبغضاء، وجعلت تتيه وراء حبيبها الثور في الغابات فتعري الأشجار من أوراقها الطرية والمروج من حشائشها الرخصة لتطعم ثورها الحبيب، تتبعه حيث يسير، ولا يمنعها شيء عن اتباعه. ألهاها الثور عن كل حب غير حبه فنسيت زوجها مينوس، طفقت تتزين بأثمن جواهرها وحلاها وأجمل ثيابها، وتعرض نفسها في زينتها على الثور توهما منها أنه يشعر بقيمة محاسنها وتبرجها. تلتحق به إلى مشارف الجبال حاملة مرآتها بيدها تترآى بها لتلمس وجهها، وترتب ما تشعث من شعرها. تنظر إلى وجهها في مرآتها ولا تشعر أنها إنسانة لا عجلة، وأن الثور لا يميل إلا إلى بنات جنسه، وكم ودت لو أن الطبيعة تنبت لها قرنين لتكون زوجة للثور.
ولم يكن حبها لمينوس ليردها عن هذا الحب الشاذ، فكانت تتقاذفها الغابات مشمرة وراء الثور كأنها إحدى بنات باخوس تسير مملوءا قلبها بحب هذا الإله. وكم مرة ألقت نظرة الغضبى على عجلة دنت من الثور، صائحة: ماذا يرى فيها مما يعجبه؟ انظروا إليها كيف تقفز إلى جانبه على العشب الأخضر، أتظن أنها، في عملها هذا، تتحبب إليه؟ وتوصلت بها غيرتها من العجلات أن أمرت بإخراجها من القطعان، وبذبحها قربانا للآلهة، وكانت حينما تذبح العجلة تجس بغبطة أحشائها وتخاطبها بشماتة: اذهبي الآن وزاحميني على حب حبيبي.
وكم اشتهت أن تتحول إلى عجلة بيضاء كما تحولت إيو من قبلها، أو أن يخطفها هذا الثور على ظهره كما خطف ذاك الثور الأبيض أوروبا أم زوجها، ولكن عبثا ما اشتهت، وأخيرا لم تر بدا من الخدعة، فتزيت بزي عجلة ودنت من حبيبها الثور تداعبه فألهمه نبتون مراودتها فحملت منه ثمرة دنسة لم تكد ترى ضوء الشمس حتى فضحت خيانة أمها وعارها. حملت منه وولدت مينوتور مسخا برأس ثور وجسم إنسان نما نموا عجلا.
وصل مينوس إلى إكريت، معقودة عليه أكاليل الغار، فضحى لجوبيتر بمائة ثور، وزين قصره بأسلاب أعدائه، وشد ما كان غمه حينما شاهد مينوتور، ورأى رأسه ينم بخيانة بازيفابي، فجعل كل همه في إبعاده عن قصره وسجنه، حيث لا يمكنه أن يعرض لعيون الناس قبح فعلة أمه.
وكان في إكريت مهندس بارع في فن البناء يقال له ذيذال. فأوعز إليه مينوس أن يبني دهاليز متشابكة يتيه فيها من يدخلها فلا يهتدي إلى الخروج منها، فبنى ذيذال متائه إكريت المشهورة وسجن فيها مينوتور، وكان هذا من أكلة لحوم البشر، فأكره مينوس أهل أثينا أن يرسلوا إليه في كل سنة سبعة شبان وسبع شابات طعاما لمينوتور.
وكان لإيجه ملك أثينا ولد يدعى تيزه، بطل من الأبطال مضى صباه في ترويض سباع الوحوش واستئصال شأفة قطاع الطرق، فلم يطق أن تحمل مدينته هذا الذل فطلب من أبيه أن يكون بين السبعة المعدين للذهاب إلى إكريت، فأجابه أبوه إلى ما أراد، وسافر من أثينا على سفن سود الأشرعة ووعد أباه أنه إذا عاد متغلبا على مينوتور يبدل من الأشرعة السود أشرعة بيضا. ولما بلغت بهم السفن إكريت انطلق تيزه مع رفقائه ليدخل المتائه، وكان متكميا بسلاحه مدرعا بأقوى أدراعه، فرأته أريان بنت مينوس فأخذت بملاحته وشجاعته، وخشيت عليه إن هو دخل المتائه، أن يتيه فيها فلا يجد إلى الخروج منها سبيلا، فزنرت خصره بخيطها السحري فدخل المتائه ونازل مينوتور فغلبه وقتله وعاد إلى النور مهتديا بخيط أريان، وكانت هذه بانتظاره فاختطفها وسار بها، ولكنه حينما مر بشاطئ ناكسوس، جزيرة الإله باخوس، حملها وهي نائمة ووضعها على رمال الشاطئ وأبحر إلى أثينا تاركا إياها وحدها. وكان قد سها عن أن يبدل بالأشرعة السود أشرعة بيضاء، فرأى أبوه إيجه السفن تطلع من صدر البحر بأشرعتها السود، فأيقن أن ولده قتل فألقى نفسه في البحر يأسا وحزنا، فمات غرقا وسمي ذلك البحر باسمه بحر إيجه، وتملك تيزه مكان أبيه، وتزوج ملكة الأمازونة.
أما أريان فلبثت نائمة على رمال شاطئ ناكسوس، ولما استفاقت من نومها ورأت نفسها وحيدة على ذلك الشاطئ المقفر أخذتها الرعدة وسالت دموعها على خديها، ونادت على الأمواج تسألها عن تيزه الصلب الفؤاد ولكن الأمواج لم تحر جوابا، تصيح وتبكي في وقت معا فتذهب الريح بصراخها وبكائها مبددة إياهما في الأجواء، تقول وتخبط ثدييها: لك جوبيتر أيها الخائن! كيف تتركني هنا وحدي وما تراه يحل بي؟
Unknown page