الأسطورة في الحياة والتاريخ
القسم الأول
القسم الثاني
المصادر
الأسطورة في الحياة والتاريخ
القسم الأول
القسم الثاني
المصادر
أساطير شرقية
أساطير شرقية
تأليف
كرم البستاني
الأسطورة في الحياة والتاريخ
الأسطورة وما أدراك ما الأسطورة؟ إن هي إلا لهو القلوب وسمر الأرواح. وقد رافقت الأساطير الإنسان منذ نشأته، وما زالت ترافقه، ولن تنفك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
والنفس البشرية تحتاج إليها احتياج الجسم إلى الغذاء؛ لأن حياة البشر مرتكزة عليها. والأساطير مهما كان شأنها قائمة - ولا شك - على أساس من الحقيقة إلهي أو بشري، غير أن الخيال الإنساني تلاعب في هذا الأساس فحوله إلى ما تخيله له من صور، وألبسه من الأوهام برودا جعلته بعيدا عن المعقول، وإن يكن قريبا من النفوس محببا إلى القلوب.
وليست الأسطورة قديمها وحديثها بمختصة بشعب من الشعوب، وإنما هي مشاع لكل الأمم، على اختلاف مللهم ونحلهم، تتنقل بينهم حاملة على أجنحتها غبار القرون وتهاويل الأزمنة المتعاقبة.
وهي عند الباحثين نوعان: بشرية ومؤلهة. فالبشرية حكاية محدد مكانها معينة أشخاصها، تشتمل على تقاليد الشعب الذي استنبطها وتداولها واعتقاداته، والمؤلهة ترتبط بما وراء الطبيعة ارتباطا تفسره العلاقات المتبادلة بين المؤلهين والبشر، ولكن الدور الأسمى لأولئك الآلهة؛ فإليهم مرجع كل شيء وبيدهم مدار كل أمر.
وقد كان لزاما على الإنسان القديم أن يخترع الأساطير؛ فإن ما حوله من مدهشات الكون وأعاجيبه التي لم يستطع إدراكها إدراكا علميا حمله على أن يتوهم له تفسيرا ويتخيل أصولا ووقائع يرتاح إليها، وتزيل حيرة نفسه.
وأقدم الأساطير التي وضعها الإنسان هي - ولا نكير - أساطير تكوين العالم والطوفان. شاهد الإنسان هذا الكون العظيم ووحدته المتماسكة ونظامه البديع، فأدرك بفطرته أن لا بد لابتداع مثل هذه البدائع من علة أولى عاقلة ذات قوة أسمى من قوى العناصر والكائنات، فعبد عن حق هذه العلة، وسماها بأسماء حسنى تدل على أزليتها وأبديتها ووحدانيتها وعظمتها، ووضع أساطير تخيل فيها كيف برأت السماوات والأرضين، وما فيها من مخلوقات على اختلاف صورها وأشكالها وأحوالها، فأتت أساطيره متفقة في مبدئها وإن اختلفت في تفاصيلها وما فيها من أسماء وصفات، فإذا نظرنا إلى ما قاله بيروز الكلداني عن اعتقاد الآشوريين والبابليين في التكوين، وما قاله سنكنيتن المؤرخ الفينيقي عن اعتقاد الفينيقيين، وأوفيد الشاعر اللاتيني عن اعتقاد اليونان والرومان فيه، وما ورد في التواريخ عن معتقد الفرس والبراهمة وغيرهم من الشعوب القديمة، رأينا أن كل هذه المعتقدات، على مختلف تعابيرها، تتفق وما أورده موسى في التوراة عن صورة البدء: خلاء وخواء وظلام وروح أزلي يرف على وجه المياه.
وهكذا أساطير الطوفان عند الآشوريين واليونان والرومان، فهي تشابه، في تفصيلها وتصويرها للسفينة وتفجر عيون الغمر العظيم وتفتح كوى السماء، ما ذكره موسى في التوراة، غير أن نوح التوراة يتحول عند الآشوريين إلى كزيزوتروس، وعند اليونان والرومان إلى دوكاليون، وتابوت نوح يرسو على جبال أراراط في أرمينيا، وترسو فلك كزيزوتروس من أرمينيا على جبال الغوردين، وتتعلق سفينة دوكاليون بجبل البرناس في بلاد الإغريق.
هذه هي أساطير الشعوب القديمة، وإن هي إلا رموز تنطق بمجد الله الخالق المبدع عز وجل وتخبر بأعمال يديه. وقد كان للأساطير احترام عظيم ومنزلة سميا عند فلاسفة تلك الشعوب ومشاهير شعرائهم، يحدثون بها في نثرهم وشعرهم، ويتوسعون في إيراد تفاصيلها، ويتزيد كل منهم في تلوين صورها، وهي لا تزال اليوم متعة النفوس لما فيها من الغرائب وجمال الخيال. وليس أمتع للنفوس من الغرائب والتخيلات؛ لأن الحقيقة، على جمالها وعظمتها، جافة جامدة، ترضي العقول، ولكنها لا تلامس الأرواح كما تلامسها الخرافات بأجنحتها المخملية، ولا سيما أن عصرنا هذا عصر مادة تغذي الجيوب، ولكنها لا تشبع الأرواح، تلك الأرواح التي يلذها، من حين إلى حين، أن تسيح في العوالم الخيالية لتنزه عنها وتفرج همومها. وهذا ما حدا بعض الأدباء الغربيين، قبل الحرب الأخيرة، أن يصرفوا همتهم إلى تأليف روايات خرافية، ويعودوا إلى عالم الأوهام، فرأينا في الفرنسية غير واحدة من هذه الروايات ك «خيط آريان» وسواها.
وكنت منذ أخذت أعنى بالميثولوجية الفينيقية والعربية أتشوف إلى جمع بعض أساطير في كتاب يجد فيه قارئه ملهاة له عن هموم الحياة، ومتعة يستمتع بها في ساعات وقوفه عن عمله، حتى قيضت لي مطالعة كتب بعض المؤرخين والشعراء، من يونان ورومان وعرب وفرنسيين وإنكليز، أن أعثر على أساطير كثيرة، اخترت منها ما كان الشرق ملعبها، وكتبتها في شكل حكايات تسلي من يطالعها وتفيده في وقت معا، وقد جعلتها في القسم الأول من الكتاب، أما القسم الثاني فقد ضمنته شروحا تبين صلة كل أسطورة بالتاريخ، ومعجما يشرح أسماء الآلهة واختصاصهم، وأسماء الأبطال والأمكنة التي كانت ملاعب لهم، واعتمدت في أكثر الأحيان أسماء الآلهة الرومانية لخفة وقعها على الآذان.
ولا أكتم القارئ الكريم ما عانيت من جهد وما صرفت من وقت لجمع شتات هذه الأساطير من كتب عديدة، واختيار أروع صورة لها من شتى الصور المنثورة في تلك الكتب، حتى تمكنت من نظم عقودها، متسلسلة، في حكايات متساوقة صورها، متلاحمة أجزاؤها، وآمل أن أكون قد وفقت إلى الغاية التي استهدفتها.
كرم البستاني
القسم الأول
(1) أدونيس وعشتروت
كان في قديم الزمان وسالف العصر والأوان في جزيرة قبرس شاب يدعى بغماليون يعيش عزبا لا يقرب النساء ولا يقربنه، وكان بارعا في فن المثالة، فصنع ذات يوم، من العاج، تمثال فتاة في جمال لا تستطيع الطبيعة أن تمنح امرأة بشرية مثله. ولم يكد ينتهي من عمله وينظر إليه، حتى شعر بعشق شديد في قلبه لهذه الفتاة العاجية صنع يديه، وكأنه ذهل فطفق يتلمس مجاسها ليرى أليست بشرا سويا من لحم ودم؟ ويقبلها ويتخيلها ترجع إليه القبل، وكأنه يحس هسهسة رجع تلك القبل، ويكلمها ويضمها إلى صدره، ويدغدغها حينا ويحمل إليها الهدايا حينا: من لعب وأزهار مختلفة الألوان، وزنابق عابقة الطيوب. ويلبسها ملابس فاخرة ويحلي يديها بالأساور، وأصابعها بالخواتم، وأذنيها بالحلق، وكان كل شيء يليق بها، جميلة هي في عريها وكسوتها، ومسكين هو في عشقه وذهوله.
وحل عيد فينوس الكبير الذي تعيد له قبرس من أدناها إلى أقصاها، فاحتشدت الجموع في معبد الإلهة الفتانة، وشرعوا بإقامة الطقوس الدينية، فألبسوا قرون العجول ذهبا وقربوها لها، وأحرقوا البخور في كل ناحية، وقدموا لها التقادم، وطلبوا إليها أن تمنحهم ما هم في حاجة إليه، وفينوس كريمة على عبادها لا تبخل عليهم، ولا ترد طلباتهم خصوصا في عيدها هذا الكبير.
وكان بغماليون بين المحتشدين فقدم للإلهة تقدماته ووقف أمام هيكلها وخاطبها قائلا بلهجة الحيي: «أيتها الإلهة المحبوبة، إذا كان حقا أنك تستطيعين أن تمنحي جميع ما يطلب منك، فأتوسل إليك أن تمنحيني زوجة، تكون شبيهة بذات التمثال العاجي»، ولم يجرؤ أن يطلب منها العذراء العاجية نفسها. وكانت فينوس حاضرة عيدها قاعدة في أعلى الهيكل محلاة بالذهب، فأصغت إلى ما طلبه منها بغماليون، وأدركت أنه إنما يريد العذراء العاجية زوجا لا غيرها. وهل تخفى على إلهة الحب حيل المحبين؟! فأظهرت له إرادتها الحسنة نحوه بأن جعلت النار الموقدة تشتعل من نفسها ثلاث مرات، وترسل لهبها نحو السماء، فعاد بغماليون مطمئنا إلى منزله، وكان قد وضع العذراء العاجية في الفراش، فانحنى فوقها يقبل فمها، فإذا به يحس حرارة ونفسا، فمد يده إلى صدرها وغمزه بأصبعه فشعر بأنه يغمز لحما طريا، فدهش وبهت، ثم أخذ يجس هنا ويجس هنالك، حتى أثبت أنها جسم بشري حي تجري الدماء في عروقه، فركع على ركبتيه ورفع للإلهة الحنون على العشاق آي الشكر والثناء، وعاد إلى عذرائه يرشف ثناياها، فأحست بالقبلة فاحمرت حياء ورفعت نظرها نحو النور فرأت السماء ووجه عاشقها في وقت معا.
وكانت فينوس قد التحقت ببغماليون؛ لأنها لم تكن تأتي أمرا إلا أتمته، فظهرت له ولعذرائه في جلالها وبهائها وعقدت لهما الزواج في عرس خفي لم يحضره إلا كوبيدون ابنها إله الحب والأزهار والزنابق، ولم يكد القمر يجمع قرنيه تسع مرات حول قرصه حتى ولدت هذه المرأة الشابة بنتا سمتها فابوس، حملت الجزيرة التي ولدت فيها اسمها من بعدها.
وتزوجت فابوس ملك بانشاي «آشور» من بلاد المشرق، فولدت له سينيراس، فتولى الملك بعده ناعم العيش إلى أن كبرت بنته مرة، وليته لم يلدها، فقد كانت مسخا وشؤما عليه وعلى نفسها، ولكنها أحسنت إلى البشر بأن ولدت لهم إلها.
ما نهدت مرة وصارت تشعر بما تشعر به النساء حتى عشقت والدها عشق جنون، اهتزت له فينوس غضبا، وأنبت ابنها كوبيدون، فتبرأ من السهام التي أصابت قلب هذه الفتاة، وكانت مرة جميلة كل الجمال حتى إن شبان المشرق كلهم كانوا يتمنون أن يشاطروها مضجعها فرفضتهم، وفيهم السري الجميل، والمثري النبيل، وكانت تدرك أن حبها لوالدها حب غير طبيعي ولا شرعي، فجعلت تقاوم عاطفتها الملحة، وتسأل الآلهة باكية أن تصرف عنها هذه الكأس المرة، وتساعدها على التخلص من هذا الحب القاتل، ولكن الآلهة أصمت آذانها عن ندائها وحولت عنها عيونها.
وكان ألذ شيء في قلبها، وأعذبه في فمها، أن تقبل والدها وتضمه إلى صدرها، وشد ما تمنت لو تكون في بلاد الفرس، حيث يباح للآباء الزواج ببناتهم، إذا لما كانت تلاقي هذه العذابات، ولما كانت تأتي أمرا إدا.
وأخيرا حينما رأت أن حبها مجرم، وأنه ليس في مكنتها أن تبوح به وهل بوسعها أن تزاحم أمها الحنون؟! وهل يرضى أبوها عن عاطفتها المجنونة؟! لما رأت كل هذا عزمت على الانتحار، فتناولت زنارها الحريري وربطته على عنقها، وشدته شدة ازرق لها وجهها وجحظت عيناها. واتفق أن فيروز مربيتها العجوز كانت واقفة على بابها، فسمعت حشرجة أنفاس فدفعت الباب ودخلت، فرأت مرة على وشك أن تلفظ روحها، فقطعت الزنار وحلته عن عنقها، وقعدت بها تسندها إلى صدرها وتسألها ما بها، فلا تجيبها بسوى البكاء والزفرات.
ولكن العجائز لا يعجزن عن انتزاع أسرار الفتيات، فأخذت تقسم على مرة أن تطلعها على ما بها، وهي تدبر أمرها مهما صعب وتعقد، فترددت مرة حياء، ثم دست وجهها في صدر مربيتها وفاهت بسرها الرهيب، فارتعدت المربية لأول وهلة، ولكنها تمالكت مدركة أن لا مندوحة لها عن إنقاذ ربيبتها، فطيبت نفسها ووعدتها بأن توصلها إلى من يحبه قلبها.
ومرت ليال على مرة كانت إذا نامت فيها حلمت بأبيها، وإذا سهرت أخذت تؤنب نفسها، وتقول: كيف يصح لي أن أزاحم أمي وأحمل من أبي فألد ابنا أكون له أما وأختا ويكون له أبي أبا وجدا؟
وجاء موسم سيريس إلهة الزروع، وكانت أمهات الأسر النبيلة يحتفلن به احتفالا رائعا، فيلبسن ثيابا بيضاء كالثلج، ويقدمن للإلهة عقودا من السنابل، باكورة الغلال، وينقطعن تسعة أيام عن ملذات فينوس وعن مقاربة أزواجهن، فانطلقت الملكة كولشيريس، أم مرة، إلى الموسم لتقوم، مع نساء المدينة، بتلك الأسرار المقدسة. وفيما كانت غائبة عن فراشها جاءت العجوز الملك سينيراس، وقعدت إليه تحدثه، ثم أخبرته أن فتاة شغفت به شغفا شديدا ولم تسمها له، وإنما امتدحت لديه جمالها وصباها، فسألها الملك عن سنها، فأجابته: هي في سن بنتك مرة. فسال لعاب الملك، وأنى له وهو في الشيخوخة أن يقع على فتاة جميلة في سن مرة؟ فأمرها بأن تقودها إليه الليلة، فافتر ثغر العجوز الأدرد بشرا، وبادرت إلى مرة تبشرها قائلة: النصر لنا. ولكن مرة، على ارتياحها، لم تستسلم بملء نفسها إلى الفرح، فقد لبثت متخوفة.
ولما سكت الليل جاءتها العجوز، وأخذت بيدها اليسرى تقودها إلى فراش أبيها، وتركت لها اليمنى تتلمس بها الجدران لتهتدي في حندس ذاك الليل الطامس، وقد تعثرت مرة ثلاث مرات، فكأن الآلهة جعلت لها من كل عثرة هاتفا ينبهها إلى العدول عن الذهاب وإلى العودة إلى غرفتها فلم ترعو، ونعقت بومة ثلاث نعقات منكرة، فانتبهت مرة إلى صراخها المحزن المشئوم، ولكنها لم ترجع، لبثت سائرة حتى أوصلتها العجوز إلى غرفة أبيها، وسلمت إليه يدها في الظلمة الحالكة قائلة له: خذها فهي لك. فجمعت بخبثها ودهائها جسميهما الملعونين، وربما كان من حق التفاوت في السن أن تدعوه مرة بأبيها في حال المضاجعة، وأن يدعوها بابنته، حتى لا ينقص شيء مما يخالف الشرائع ويدنسها.
وعلقت مرة من أبيها، وتلقت في أحشائها زرعا نجسا، وحملت في بطنها ثمرة الخيانة، وتجددت خيانتها في الليلة الثانية، ولبثت تتجدد كل ليلة حتى آخر يوم من أيام الموسم، وكان الملك سينيراس قد تبرم من تواري هذه الفتاة عن عينيه، وأراد أن يعرف صورتها، فجاء بمشعل أدناه منها، ولما عرفها وتمثلت له الجريمة بهولها، عقل الحزن والغضب لسانه، وأسرع إلى سيف معلق بالجدار فتناوله واستله من غمده، والموت يلمع على شفرته، والتفت إلى حيث كانت مرة ليرديها به، فلم ير لها أثرا، فقد كانت انسلت من الغرفة وسترها الظلام فنجت، وسارت تاركة العربية الخصبة بالنخيل، وأرض بانشاي، تضرب في السهول والأوعار، ولا تعرف الراحة ليل نهار، فمرت عليها تسعة أشهر وهي تمشي حتى وصلت إلى أرض سبأ، فوقفت وقد أوهنها التعب وأحست أن حملها قد ثقل عليها، فهي لا تستطيع سيرا، وانطرحت أرضا تئن تعبا ولا تعلم ماذا تسأل الآلهة، وقعت على الأرض ترهب الموت وتكره الحياة، لا تريد أن تموت ولا ترغب في أن تحيا.
رأت أنها استحقت نصيبها في هذه الدنيا، وليس لها أن ترفض العقاب القاسي الذي استأهلته جريمتها، فطلبت من الآلهة ألا تبقى حية لئلا تلوث الأحياء، وألا تموت لئلا تدنس الأموات، وإنما ليبعد منها الموت والحياة، وليجعل منها كائن آخر لا ميتا ولا حيا.
وكان في السماء بعض آلهة منصتين إلى اعترافات مذنبي الأرض، فسمعت إلهة منهم طلبة مرة فحنت عليها، وأجابتها إلى ما سألت وحولتها إلى شجرة حملت اسمها «شجرة المر»، وتركت دموعها تسيل من الشجرة عطرا طيبا يجمعه عابرو الطريق.
وكان الجنين لا يزال في بطن مرة وقد اكتملت أيامه، فجاءها المخاض وأخذتها الآلام ولم تكن تستطيع الكلام لتدعو «لوسين» الإلهة التي تساعد الحبالى في وضعهن، لكن «لوسين» لم تكن تخفى عليها خافية، فأدركت أمرها وانحدرت من أعلى السماء إلى مساعدتها، وإذا بالشجرة تتلوى تلويا عنيفا، ثم تنشق ويخرج الطفل من أحشائها، فاستقبلته حوريات الماء وأضجعنه على مهد من العشب. وكان الطفل جميلا يستهوي قلب كل من رآه، حتى الحسد نفسه فإنه أعجب بجماله. هكذا ولد أدونيس الإله الفينيقي، وحوريات الماء هن اللواتي اخترن له هذا الاسم اللطيف.
وشعرت فينوس إلهة الجمال والحب بأنه ولد في الأرض طفل عجيب بجماله، فأبت إلا أن تكون لها يد في تربيته، فانحدرت إلى الأرض في مركبتها التي تجرها حمائم بيضاء، وأخذت أدونيس الطفل من حوريات الماء ووضعته في صندوق، وأقفلت عليه وسلمته إلى فرسيفين، ملكة الجحيم، آخذة عليها عهدا بألا تفتحه وأن تعيده إليها ساعة تطلبه منها، ثم مضت طائرة على مركبتها إلى جبال الآلهة، ولكن فرسيفين لم تراع عهدها؛ فقد رابها الصندوق واشتهت أن ترى ما فيه ففتحته، ورأت ذلك الطفل يشع فيه كالكوكب فسحرت بجماله واحتفظت به لنفسها، ولم تستطع فينوس أن تنتزعه منها، فتحاكمتا إلى جوبيتر الإله الأعظم، فقضى بأن يكون الطفل أربعة أشهر لفرسيفين وأربعة أشهر لفينوس وأربعة أشهر حرا بنفسه.
مرت السنون فشب أدونيس الذي كان أخا أمه وابنها مقفلا عليه في قلب شجرة، وترعرع وصار فتى بسمات الحياة ملء إهابه وآيات الجمال حشو ثيابه، وكان قد خرج من حكم وصاية فرسيفين وفينوس عليه، وصار رشيدا حر التصرف بأمر نفسه.
وكانت عشتروت (فينوس) تتقصى أخباره من حوريات الغابات؛ لأنها كانت تعلم أنه يحب الصيد ومطاردة الوحوش. وذات يوم عن لها أن تنزل إلى مغارة أفقا في لبنان، فتبترد بمائها الصافي الزلال، فمر أدونيس من هناك اتفاقا وقد تفتقت أزهار جماله فافتتنت عشتروت به ولم يأبه لها، فكأنه أراد أن ينتقم منها لما سببته لأمه من الآلام بذلك الغرام الذي ألهمتها إياه. ويظهر أن كوبيدون، الإله الصغير مثير الحب بسهامه، قد لامس بأحد أسهمه، عن غير قصد، فؤاد أمه فجرحه، وأحست آلام الجرح فغضبت على كوبيدون، وطردته من أمامها، ولكن سم السهم كان قد فتك فتكته، فشغفت عشتروت بأدونيس أشد الشغف، وتركت من أجله شواطئ «قيثيرا» جزيرتها الساحرة في الأرخبيل، وعشرة بافوس، مدينتها القبرسية التي يحيط بها بحر عميق، وأهملت كل الجزر التي تحبها حتى السماء، وفضلت أدونيس عليها جميعا، فتعلقت بأذياله، والتحقت به في لبنان ترافقه أينما ذهب، فترقد معه في ظلال الخمائل، ويتيهان معا خلال الغابات والجبال والصخور المكسوة بالطحلب والعليق. ولكنه على استئناسه بها لم يبادلها الحب ولم يشف غليلها بقبلة كانت تحترق جوى لاجتنائها من ثغره الربيعي.
وكان أدونيس صيادا ماهرا مولعا بصيد سباع الوحوش، فكانت عشتروت تثير له الكلاب فتتبع هذه الصيد وتسد عليه مذاهبه، فيأسره أدونيس دون ما خطر، وعشتروت سائرة إزاءه مشمرة ثوبها فعل ديانا إلهة الصيد، فتفر من أمامها الأرانب والغزلان والأراوي والنعام.
غير أنها كانت تخشى على أدونيس السباع الضواري، فتعظه قائلة: كن شجاعا تجاه كل ما يفر من أمامك، ولكن حذار الجرأة على الأجراء فإنها خطرة عليك، إن جمالك وشبابك اللذين فتنا عشتروت لا يحسنان أن يفتنا الأسود، فإياك يا حبيبي الشاب أن تخاطر بسعادتي التي هي أنت وحدك، لا تصارع الوحوش المفترسة التي سلحتها الطبيعة بسلاح قوي، فالأسود والخنازير والحيوانات المتأبدة إياك أن تدنو منها.
فبهت أدونيس لوصيتها، وسألها: ما هو سبب خوفك علي من هذه الحيوانات؟ فاضجعت وإياه تحت حورة مسدولة الأغصان قرب ينبوع أفقا، وقالت له: أصغ إلي أحدثك حديثا عجبا: كان على أركاديا ملك يقال له: ياسيوس من سلالة ليكاوون أول ملوك اليونان، ولم يكن لهذا الملك ولد يخلفه في الملك بعد موته، فطلب من الآلهة أن يرزقوه ولدا ذكرا يرثه، فحبلت زوجته ولكن الآلهة رزقته بنتا ولم ترزقه غلاما، فاغتاظ وأمر زوجته أن تلقيها على الجبل البرتيناني، فلم يسعها مخالفته، فحملتها أمها إلى هذا الجبل وتركتها إلى ما قدر لها الآلهة من نصيب، واتفق أن مرت بها دبة، فحنت عليها وحملتها إلى وجارها تقوتها بحليبها إلى أن شبت وبلغت مبلغ النساء، وتعلمت رماية النبال، فكانت تصطاد الحيوانات، وقد أكسبها كلفها بالصيد سرعة العدو، وكانت ذات جمال وحفاظ شديد على بكارتها، وفي أحد الأيام بينما كانت تطارد الوحوش هاجمها حيوانان مخيفان يقال لهما السانتور، فلم ترهب ولكنها أوترت قوسها ورمتهما عنه بسهمين أصابا مقاتلهما فخرا لليدين وللفم صريعي سهامها.
واتصل خبرها بأبيها الملك فهفا قلبه؛ وهل هي إلا ولده وقطعة من كبده؟! فجاء بها إلى قصره، فكانت عنده بمنزلة روحه.
هذه الفتاة هي أتلانت العذراء التي لا يعرف رائيها أيفتنه منها سحر جمالها أم تأسر فؤاده خفة رجلها، وكان أبوها يرغب في تزويجها لتلد له وارثا لمملكته، ولكنها كانت تكره الزواج وتفضل أن تبقى بكرا. وألح عليها ذات يوم فانطلقت إلى هيكلي تستشيرني وتطلب مني أن أجيبها بلسان هاتفي، وأقول لها: هل يمكنها أن تتزوج؟ فأجبتها: كلا! ولكنك لن تفري من الزواج، وسوف تتركين ثوبك هذا البشري، وتلبسين ثوبا آخر دون أن تتركي الحياة. فخافت أتلانت من هذا الجواب، واعتزلت المدينة وخرجت تعيش في عتمة الغابات منصرفة إلى الصيد، غير أن الشبان الذين كانوا قد رأوا جمالها وفتنوا بها وطلبوا يدها فرفضتهم التحقوا بها إلى الغابات. واشتهر جمالها في بلاد الإغريق فقصدها الشبان، أبناء الملوك والأمراء، يخطبون ودها ويسألونها رضاها عنهم، فلما رأتهم تكاثروا عليها وضايقوها بولوعهم بها أرادت أن تتخلص منهم، فشرطت عليهم أن تتسابق جريا على الأقدام وكل من يرومها زوجة له، فإذا سبقها تزوجته، وإن سبقته رمته عن قوسها بسهم يقتله، فرضوا بشرطها فذهبوا ضحايا حبها.
وذات يوم حضر السباق ولد يدعى هيبومين، وكان في أول الأمر يضحك من الشبان الذين يستسلمون للقتل من أجل امرأة، ولكنه لما رأى وجه أتلانت وجسمها، وقد كشف الهواء ثوبها عنه، رفع يديه شأن المتوسل، وخاطب المستعدين للسباق قائلا لهم: «عفوكم أنتم أيها الذين كنت ألومكم، فإني لم أكن قد عرفت قيمة المكافأة التي تتهالكون في سبيل نيلها.»
وشعر منذ ذلك الحين بحب شديد لأتلانت حتى إنه كان يرجو ألا يسبقها أحد، ولكن من يستطيع مسابقة النسيم؟! وعزم على أن يجازف بحظه لعله يسبقها، فيحظى بها أو تسبقه فيموت بها. وفيما كان يفكر في هذا كانت عذراء الغابات طائرة في عدوها، وبينما كانت تطوي المسافات كالسهم المارق كان هيبومين ينظر إليها فيشاهد جمالها، ويرى شعرها متطايرا على كتفيها، وأطراف سيور حذائها المطرزة تتلاعب على ساقيها فتزين ركبتيها، وبياض بدنها العذراوي الملون بالوردي يتلألأ في لون بقايا الشفق. وبينما هو مأخوذ بهذه المشاهد، إذا بها عائدة وعلى رأسها إكليل الظفر، والمغلوبون يرانونها المراناة الأخيرة.
فدنا منها هيبومين وسألها أن تأذن له بمسابقتها، وقال لها: ماذا تجديك هذه الانتصارات التافهة على خصوم ضعفاء؟! تعالي وسابقيني فإن غلبتني غلبت حفيد نبتون إله البحار وابن سبط ملك المياه، وإذا غلبتك فلن تكون غلبة مثلي لك عارا عليك.
وكانت تنظر إليه وهو يتكلم فراقها حسنه وجرأته على صغر سنه، وشعرت بحب له، ولكنها لا تستطيع الزواج به، وخشيت أن تسبقه، إذا سابقته، ولا تريد قتله، فتلطفت إليه تحاول إقناعه بالعدول فلم يقنع، فأجابته إلى طلبه مرغمة، لا سيما أنها شعرت بحبه لها، وبعزمه على المغامرة بنفسه بغية الوصول إليها، ولامت عينيها اللتين وقفتا عليه، فشاهدتاه وشاهدتا آيات الطفولة العذراء على وجهه.
وكان الحاضرون قد ملوا الانتظار فصاحوا طالبين السباق وتأهبت أتلانت للعداء.
قالت عشتروت: فطلب مني هيبومين أن أعينه، فمس فؤادي طلبه، فانحدرت إليه من عليين وأخفيت نفسي عن الحاضرين وترآيت له وحده، وسلمت إليه ثلاث تفاحات، جنيتها من حقل تامازوس في قبرس، وعلمته ما يفعل بها، ونفخ بالأبواق فعدت أتلانت وعدا هيبومين، فكانت تسبقه ثم تقف فتنظر إليه وتنتظره، ثم تعدو فتتقدمه أشواطا، ولما قطعا مسافة رمى إليها بتفاحة فتراجعت لتأخذها فسبقها، ولكنها التحقت به وتجاوزته، فرمى بالتفاحة الثانية ففعلت فعلها الأول، وكان الحاضرون يحمسون هيبومين ويصيحون: اسبقها اسبقها. فرمى بالتفاحة الثالثة، وكانا قد قربا من الهدف، فترددت عن الرجوع إليها، فدفعتها سرا نحوها، فكرت تريد التقاطها، فسبقها واستولى على الهدف وتزوجها، ولكنهما في فرحتهما نسيا أن يكرماني ويشكراني على حسن صنيعي ودنسا هيكلي فغضبت عليهما وحولتهما إلى أسد ولبؤة، هذان هما اللذان أخافهما عليك؛ لأنهما يضمران لي غدرا وانتقاما.
أوصت عشتروت أدونيس وصيتها واعتلت مركبتها التي تجرها الحمائم، وطارت في الهواء منطلقة إلى قبرس في أمر يعجلها، وكان أدونيس شجاعا غير هياب، فلم يراقب وصاة عشتروت، وكانت كلابه قد اتبعت آثار خنزير بري في مشارف لبنان فأثارته من مجثمه فانطلق يسعى إلى الخروج من الغابة، فأرسل إليه أدونيس سهما فجرحه، فهاج وانقض على أدونيس فذعر منه، وجعل يبحث عن ملجأ يتقيه فيه، غير أن الخنزير الجريح الهائج أدركه وطعنه بقرنيه قرب ثندوته فشكه وألقاه على التراب يسيل دمه. ولم تكن بعد عشتروت قد وصلت إلى قبرس، فحانت منها التفاتة فرأت أدونيس مضرجا بدمه، فقفزت إلى الأرض تبكيه وتندبه، وتلوم القدر الذي جعلها تبتعد عنه فيفتك به ذاك الوحش المفترس، ثم خاطبته قائلة: كلا يا أدونيس الحبيب! لن تخضع لشريعة النسيان، فسيبقى منك دائما ذكرى لألمي، ويمثل مشهد موتك في كل سنة، ويذكر بنواحي عليك، وسيتحول دمك إلى زهرة جميلة، قالت هذا وأخذت كأسا من كوثر الآلهة وصبتها على دم أدونيس، فغلى الدم عندما لامسه شراب الآلهة المعطر، ولم تمض ساعة حتى تولدت منه زهرة حمراء تشبه زهرة الرمان، تخفي بزرها تحت قشرة طريئة، ولكن لا يمكن التمتع بمنظرها طويلا؛ لأنها خفيفة ودقيقة الساق تنقطع بسهولة وتسقط في مجرى الرياح.
هذه الزهرة التي تحول إليها دم أدونيس هي زهرة الشقيق، أما جسده الجميل فقد غطته عشتروت بورق الخس والخبازى ودفنته بيديها في أفقا، في ذاك الإطار البديع الذي يؤلفه أجمل مجرى ماء وأروع منظر طبيعي يلفه الاخضرار النضر من أية ناحية رنوت إليه.
وكانت عشتروت في تولهها وتفجعها على أدونيس قد أضاعت شيئا من رشدها، فطفقت تمشي على الورود البيضاء، فتغرز أشواكها بقدميها الطريتين وهي لا تنتبه، حتى سال دم قدميها على الأشواك فنهلته، وتسرب منها إلى الأزهار البيضاء، فاصطبغت بلونه وتحولت إلى ورود حمراء، ومنذ ذلك اليوم صارت الوردة الحمراء رمز الحزن على أدونيس الجميل. (2) قدموس وأوروبا
حدثتنا الهواتف في إحدى ليالي السمر، قالت: كان في الزمان القديم في فينيقية ملك ذو عزة وسلطان يقال له آجينور ابن بوصيدون إله البحار ومزعزع الأرضين، وكانت زوجته صور حورية من حوريات الماء تصيدها على الشاطئ الفينيقي، وأذن له والده بأن يتزوجها، فبنى على الشاطئ مدينة سماها باسمها وجعلها عاصمة ملكه، فولدت له صور أولادا كثيرين فيهم قدموس، فتى قوي الأجلاد شجاع الفؤاد كأنه قد من جلاميد لبنان، وأوروبا فتاة كصباح لبنان بهاء، ونصوع ثلجه ونضارة أوراده لونا، وزبد ينابيعه بضاضة، ولطف نسيمه حديثا، وحباها ملكرت إله صور، فوق ذلك، فطنة وكياسة، وظرفا جعل أباها يولع بها ولا يطيق بعدها عنه، وكم رد من طالب ليدها خائبا حسيرا حينما بلغت عمر البدر وتزاحم الشبان على عتبة باب قصرها.
وكانت أوروبا قد تعودت منذ طفولتها أن تذهب بعد ظهر كل يوم إلى شاطئ البحر مع لداتها من عذارى صور، فيلعبن هنالك زيافات على حصى الشاطئ، ويبتردن بماء البحر، حتى إذا أمسى المساء عدن إلى منازلهن، وعادت أوروبا إلى قصر أبيها تزهو جمالا وشبابا.
وذات يوم بينما كانت وأترابها، كعادتهن على شاطئ البحر، كان جوبيتر (زفس) جالسا على عرشه الإلهي يرمي الأرض بعينيه من أعالي سمائه، باحثا عن إنسية ينسى معها ملله لفراش جونون (هيرا) زوجته، وجوبيتر مشهور بولعه بالإنسيات الحسناوات، ولكنه كان يخشى غيرة جونون وانتقامها من اللواتي يحلين في عينيه، وكثيرا ما فاجأته مع بنات الأرض؛ لأنها كانت تراقبه دائما؛ لعلمها بنزورة أمانته لها، فكان يتستر بالغمام فلا تفطن له إلا بعد أن يكون قد قضى لبانته من صيده، وكم من جناية جنى على بنات الأرض وتركهن عرضة لانتقام ربة الأولمب، وقصته والحسناء اليونانية إيو شهيرة في الأولمب وعلى الأرض. اختطف هذه الفتاة فباغتته جونون ملتفا وإياها بالغيوم، فلما أحس وقع قدميها حول إيو إلى عجلة، فلم تجز حيلته على جونون، فأخذت العجلة وحبستها، غيرة منها، على رأس جبل، وعهدت بمراقبتها إلى أرغوس ذي المائة عين، فعبرت تلك المسكينة أياما ملؤها شكوى وعذاب إلى أن حن قلب جوبيتر وشاء إنقاذها. ومن تراه يقوم بهذا الأمر إلا مركور رسول الآلهة؟! فبعثه جوبيتر إلى الأرض فنوم بنغمات شبابته عيون أرغوس عينا عينا ثم قتله، وأنقذ إيو فعادت إلى جسمها الإنساني، وسكتت جونون على مضض، ولكنها كافأت أرغوس بأن حولته إلى طاوس، وجعلت عيونه دوائر على ذنبه ملونة بألوان قوس السحاب.
وهناك مئات من بنات الإنس لها بهن رب أرباب الأولمب، ثم تركهن إما خشية من جونون أو لافتتانه بأخريات من جنسهن.
أما في ذلك النهار فكان قد مر عليه زمن طويل لم يعبث فيه بإنسية، زمان أظهر فيه لجونون أنه تاب إلا عن حبها، فصدقته أو تظاهرت بتصديقه، وهل يمكن خداع المرأة في شئون الحب؟! ومهما كانت الحال فقد غفلت عنه فشعر بنعمة الحرية، وجعل يرصد الأرض حتى وقعت عيناه على جبل قريب من صور، انتثر فوقه قطيع من الثيران لملك تلك المدينة، فتذكر أن لهذا الملك ابنة آية في الجمال، وأنه كان يلمحها بعد ظهر كل يوم على رمال الشاطئ فلا يأبه لها، فأدار عينيه إلى هنالك فإذا به يراها تشع في الشمس كفلذة من الماس، فارتقص فؤاده تشهيا، وقال في نفسه: ما دامت جونون غافلة عني فلأنحدر إلى أرض صور، وأختطف هذه اللؤلؤة السنية، وأذهب بها إلى حيث لا تراني عين.
قال هذا ولكنه تردد هنيهة عن النزول إلى الأرض ليبتدع حيلة يتمكن بها من الدنو من أوروبا، فأنارت له مخيلته سبيل الحيلة، وهل يعجز رب أرباب الأولمب عن ابتداع حيلة؟! فدعا إليه ولده مركور وقال له: يا بني، أيها الأمين على تنفيذ أوامري، اهبط الأرض في السرعة المعهودة بك تر على شمالنا بلادا يرفع أهلها عيونهم إلى سمائنا تعبدا لأمك، بلادا يسميها سكانها صور، هناك على الجبل المجاور لها قطيع من الثيران يرعى العشب الأخضر فسقه إلى شاطئ البحر.
لم يقل جوبيتر كلمته حتى انتعل مركور نعليه الذهبيتين المجنحتين اللتين تمسكانه في الهواء، وتطيرانه فوق الأرض وفوق البحار بسرعة الريح، وحمل بيمينه مخصرته الذهبية التي يقود بها الطيوف الشاحبة من ظلمات الجحيم إلى أضواء السماء، أو يقودهم إلى تلك الظلمات المحزنة. بهذه المخصرة يفتح العيون التي أطبقها الموت، ويتسلط على الرياح ويجتاز العواصف. هكذا انحدر مركور من أعلى عليين كالشهاب اللامع، وإذا بالثيران تتزاحم نحو الشاطئ حيث تلعب بنت الملك والبنات الصوريات، فلما أبصر جوبيتر هذا تزيا بزي ثور أبيض، وسقط على سحابة بيضاء إلى الشاطئ الصوري، واختلط بالثيران السود يخور خوارهم، ويرعى مرعاهم ويتخطر معهم على رمال الشاطئ، وكان لونه يلمع لمعان الثلج تحت أشعة الشمس، وعنقه متين العضلات، وغببه يتدلى حتى كتفيه، وجعل قرنيه الناصعي البياض صغيرين لئلا تخاف أوروبا منهما.
وأبصرته أوروبا فأدهشها أن ترى بين ثيران أبيها السود ثورا في هذا البياض وهذا الجمال لا يبدو عليه ميل للنطاح، ولكنها على لطفه وجماله وسكينته لم تجسر أن تلمسه، فأوحى جوبيتر إليها أن تدنو منه وتداعبه، فدنت وقدمت لفمه أزهارا بيضاء لا دنس فيها، فذفذف سرورا ولمعت عيناه غبطة ولحس يدها: قبلة خفية بث بها لواعج فؤاده، ثم جعل يزحمها بكتفه زحما لطيفا، ويقفز على العشب الأخضر قفزات الغنج والدلال، أو ينبطح متقلبا على الرمال الحمراء، فتضحك أوروبا ملء فيها، فتشجع وعرض عليها صدره لتدغدغه بيدها الناعمة، ثم أدنى منها قرنيه لتعلق بهما أزهارا، ولما رآها أنست به وسكن قلبها إليه حول ظهره نحوها يدعوها دعوة صامتة إلى الركوب عليه، وكانت أوروبا صبية لعوبا، فقفزت على ظهره فطفق يمشي بها متمهلا ويترك اليابسة خطوة خطوة، وهي تلتفت إلى رفيقاتها مزهوة ضاحكة، حتى غمرت المياه قوائمه فسبح مبتعدا إلى صدر البحر، فسرت في بدن أوروبا رعشة الذعر، وتلفتت نحو الشاطئ فإذا هو بعيد منها، وكانت الريح تعبث بثوبها الأرجواني الهفهاف، فخشيت أن تسقط في اللجة، فأمسكت بيمناها أحد قرنيه، واستندت بيسراها إلى ردفه، وحاولت أن تديره نحو الشاطئ ليعود بها ولكن هيهات ما أرادت، ولما غاب الشاطئ عن ناظريها دب الرعب في قلبها وصاحت تستغيث جوبيتر، وإذا بالثور يخلع عنه ثوبه الثوري، ويبدو في ثوب من النور وهو يقول: ها أنا ذا من تدعين! فلبيك. لا تخافي وإنما تيهي جمالا ودلالا. أليس من العزة والسؤدد أن تسترقي رب الأولمب وتجعليه مطية لك؟ ثم حملها إلى برية ديكته، في الشاطئ الجنوبي من جزيرة إكريت، وتزوجها تحت شجرة دلب خلدت عليها أوراقها منذ ذلك اليوم، فهي لا تيبس ولا تسقط أبدا.
هذا ما كان من أمر أوروبا. وأما ما كان من أمر والدها آجينور وأخيها قدموس، فأصغ إلى ما حدثت به الهواتف: وقفت عذارى صور مأخوذات دهشة ورعبا حينما رأين الثور الأبيض يحمل أوروبا ويسير بها في البحر، ولبثن متوقعات أن يعود بها، حتى هبط الظلام وهبت أنسام الليل الباردة، فعدن إلى بيوتهن يكتمن حزنهن خشية من الملك الذي كن يعرفن تعلقه بابنته.
دمس الليل وأوروبا لم ترجع إلى قصر أبيها، فتبلبل القصر وريعت نساؤه ورفعن الصوت معولات، فسمع الملك صيحتهن فأقبل مبغوتا يتقصى الخبر، ولما علم بغيبة ابنته صعق، وما ثاب إلى نفسه حتى بادر بإرسال العبيد والإماء يجوسون بمشاعلهم شاطئ البحر وأنحاء المدينة لعلهم يرون لها أثرا أو يعرفون خبرا، وكان قدموس يعرف أتراب أخته، وكثيرا ما كان يغازلهن ويلاطفهن، فأسرع لائع القلب إليهن يستطلعهن أمرها، فأخبرنه بما كان من الثور الأبيض. ولم تكن حيل جوبيتر في تخطف الإنسيات بخافية على أحد، فأدرك قدموس سر فقدان أخته وعاد إلى أبيه بالخبر اليقين، ولا تسل عن احتدام غضب آجينور على جوبيتر ولا عن الشتائم التي أرسلها إليه، وقد ذهبت سدى استغاثته لجونون حامية صور، فأوروبا لم ترجع ولا هو يعرف أين مقرها، ولما أيأسته الحال نادى على ابنه قدموس وخاطبه قائلا: يا بني! إني آمرك أن تطوف في الأرض كلها لتجد أختك أوروبا وتأتي بها إلي. وإلا فنفيا، تنفى من البلاد التي هي تحت سيطرتي، وعش بعيدا حيث يشاء لك العيش إله الحظ.
قال هذا ودخل إلى مقصورته مشتملا بحزنه العميق، وقعد يرثي بنته ويبكي. بكى هذا الملك الجبار الذي لم تكن، من قبل، تعرف الدموع عيناه، ولبث الصوريون يحتفلون في كل سنة بذكرى اختفاء أوروبا في ذاك المساء المشئوم، وألهوها ودعوها الربة القمرية.
أذعن قدموس لأمر أبيه واختار من رفقائه، شبان صور، نفرا عرف شجاعتهم وإقدامهم، وأخذ معه عبيده وأبحر على سفينة قوية البنيان، فطاف في البحر المتوسط الشرقي كله: من إكريت إلى رودس فثاروس فتراقية، فلم ير لأخته أثرا. ومن تراه يستطيع كشف ما شاء جوبيتر إخفاءه؟!
ولبث قدموس يسير ليل نهار إلى أن وصل إلى يوثيا في اليونان فأم معبد أبولون في دلف، وقرب له ذبيحة وسأله أن يدله على الأرض التي يمكنه السكنى فيها، فأجابه أبولون بلسان بيثي هاتفته: أن انقطع عن البحث عن أختك وسر في الحقول المنفردة تر عجلة لم يعرف عنقها النير ولا تعبت قوائمها بجر المحراث، فاتخذها دليلا لك واتبعها حيث تسير، وحيثما تقف قف، وابن سور مدينة تدعوها بيوثى.
عاد قدموس من المعبد، ولجأ في تلك الليلة إلى مغارة كاستالي، ولما برق الفجر انحدر ورفاقه من المغارة وساروا سيرا لينا، وإذا بعجلة تطلع عليهم لا أثر في عنقها لعبودية النير، فاتبعها ومن معه ماشين على خطاها، وهو يصلي في قلبه لأبولون الذي رأف به وهداه. وبعد أن اجتازوا حقولا ومروجا وقفت العجلة، ورفعت نحو السماء جبهة يزينها قرنان طويلان وعجت عجيجا هز الهواء هزا، ثم التفتت إلى قدموس، وانبطحت على العشب الطري كأنها تقول له: هنا ابن سورك، ثم توارت ذائبة في الفضاء، فشكر قدموس إلهه وقبل تلك الأرض الغريبة وحيا الجبال والبراري التي تحيط بها، وعزم على تقديم ضحية تكريما لآلهة تلك الأرض واستنداء لعطفهم وعونهم، ولكن لا بد من الوضوء قبل التضحية، ولم يكن هناك ماء، فأرسل بعض رفاقه وعبيده ليبحثوا عن ينبوع يستقون منه، وكان في جوار ذاك المكان غابة عذراء لم تضرب فأس على شجرة من أشجارها، وفي وسطها مغارة تظللها صفصافة مهدلة الأغصان مصففة الأوراق، وفوق المغارة حجارة مرصوفة في شكل قبة، وأمامها عين ماء ثرثارة، وكان في أعماق تلك الخلوة ثعبان كبير أزرق اللون هو ابن المريخ (مارس) رأسه ساطع كالكوكب، واللهب ينبعث من عينيه وجسمه يذخر بالسم، ويندلع من فمه ثلاثة ألسنة كثلاثة أسهم من نار بين ثلاثة صفوف من أنياب محددة كالأسنة. ولم يكد الشبان الصوريون يدخلون وعبيدهم هذه الغابة المشئومة ويضعون أجاجينهم في ماء العين ليملئوها حتى أبرز الثعبان الأزرق رأسه من مغارته وصفر صفيرا راعبا، فسقطت الأجاجين من أيديهم وجمد الدم في عروقهم وعرتهم قشعريرة باردة، وإذا بالثعبان يلوي ذنبه حلقا ويزحف متمعجا، ثم تقوس ذنبه قوسا عظيمة زنرت الغابة كلها، فتراجع الفينيقيون ليمكنهم رميه بسهامهم والفرار من وجهه، ولكنه انقض عليهم، فسمرهم الذعر في أمكنتهم، وأعمل فيهم أنيابه فمزق أبدان بعضهم تمزيقا، وطوق آخرين بذنبه فقطعهم، وسم غيرهم بنفسه فلم يبق منهم حيا.
جنحت الشمس إلى المغيب وقدموس ينتظر رفاقه، وأدهشه أن يكونوا قد تأخروا فمشى يبحث عنهم وكان لابسا جلد أسد ومسلحا بحربة لماعة السنان ومزراق خفيف، ومتكميا بقلبه الشجاع الذي كان يفضل كل الأسلحة، فدخل الغابة وتوغل فيها حتى وصل إلى قرب عين الماء، فرأى جثث رفاقه منثورة قطعا على الحضيض، والثعبان الهائل يسترهم بعظيم هيكله، ويلحس بلسانه الدماء الفائرة من لحومهم الممزقة، فطار صوابه وصاح قائلا: لبيكم يا ذوي القلوب المخلصة! فإما أن أنتقم لكم أو التحق بكم إلى عالم الظلمات. ثم تناول بيديه القويتين صخرة كبيرة، ورجم بها الثعبان رجمة لو وقعت على قلعة لزعزعتها، فلم تؤثر فيه؛ لأنه كان ممنعا بحراشيف كأنها دروع من زرد مكين، لكن هذه الحراشيف لم تكن لتصد الأسنة عن المرور إلى لحمه الطري، فسدد قدموس إليه مرزاقه، وأطلقه فانطلق يصفر في الهواء صفيرا صادعا، وسقط من الثعبان في عموده الفقري وتغلغل منه إلى أحشائه، فأحس عندها الألم ولوى عنقه إلى ظهره، فرأى المزراق غارزا فيه، والدم يفور من مغرزه، فجعل يعجمه حنقا وألما ويزعزعه ليخرجه حتى تمكن من نزع قناته، ولبث السنان عالقا في عظامه، ففح [فحيحا]
1
دوت منه الغابة، وطفا على شدقيه رغوة من السم الأسود، وانسل يدور حينا في شكل لولبي وحينا ينتصب كالعمود، فترتج الأرض من وقع حراشيفه عليها، ثم قفز قفزات واسعة مرتميا كالشؤبوب المنصب يقتلع من الأشجار ما يصده، فلم يذعر قدموس، ولكنه وقف في سبيل انقضاضته كالسد المنيع ومكن حربته من حنكه، فهاج هيجان البركان وعض سنان الحربة وهو ينكفئ فغرز السنان في حلقه ولم ينفذ؛ لأن تقهقره حماه نفاذه من قفاه، وكان قدموس يلتحق به ملحا حتى رأى رأسه يصطدم بسنديانة ضخمة، فضغط بحربته حلقه، فاخترقته والسنديانة معا، والتوت السنديانة تحت ثقل جثته وتنهدت تحت ضربات ذنبه المتوالية عليها، تلك الضربات التي كان يلفظ بها آخر أنفاسه.
وقف قدموس ينظر إلى ابن المريخ محتضرا، وإذا به يسمع هاتفا يهتف به قائلا: «لماذا تملي نظرك، يا ابن آجينور، الثعبان الذي قتلته؟ توقع أن تتحول يوما إلى ثعبان ...»، فرعب قدموس وقف شعره ولبث مشدوها لا يدري ما يفعل، فانحدرت إليه مينرفا من أعالي مناطق الهواء، وأمرته بأن ينبش تراب الأرض، ويقتلع أسنان الثعبان ويدفنها في الأرض، فتكون بذورا لشعب جديد، فأطاع قدموس أمرها وشق الأرض أثلاما، ونثر الأسنان فيها، ولم تمر ساعة حتى رأى بطن الأرض يتقلقل، ثم برزت منه أسنة حراب كثيرة، فرءوس رجال فأكتاف فأذرع وصدور، فبطون وأفخاذ وسوق، رجال دارعون، مسلحون بالقسي والحراب. فانتضى قدموس حربته وهم بمنازلتهم فقالوا له: لا تخف منا ولا تدخل في حرب أهلية نثيرها بيننا، ثم تراموا بالسهام وتطاعنوا بالحراب فتساقطوا أشلاء، إلا خمسة بينهم بطل عنيد يسمى إيشيون، وفيما هو يطاعن الباقين من رفاقه مثل أمامه تريتون أحد آلهة البحر، وأمره أن يكف عن حرب إخوانه ويصالحهم، ففعل إيشيون ما أمره به الإله، وانطلق والأربعة الأخر مع قدموس فساعدوه في بناء مدينة بيوثى التي أوعز إليه أبولون أن يبنيها، وسكنوا معه فيها ونجلوا أولادا وحفدة فكانوا آباء القبائل الخمس التي تألف منها السبرطيون.
ملك قدموس على بيوثى وعطف عليه المريخ وزوجته فينوس، ورضيا بأن يصهر إليهما فزوجاه ابنتهما هرمونيا، وأهدى إليه الإله فولكان رداء وعقدا ألبسهما هرمونيا، وكان العقد طلسما مشئوما على كل من لمسه ما عدا لابسته، فسبب هلاك كثيرين فاستاءت منه هرمونيا وأهدته إلى معبد أبولون.
وولدت هرمونيا لقدموس سميلا «الثائرة» وإينو وإريسته، ثلاث بنات امتزج فيهن الجمال اللبناني بالجمال اليوناني.
وبينما كان قدموس جالسا ذات يوم وزوجته هرمونيا مغبوطين بنسلهما سمعا هاتفا يقول: لا تغتبط يا قدموس بما ولد لك من بنات، وبما سوف يولد لك من حفدة وأسباط وحفيدات، ولا تحسب أن سعادتك تدوم، وإنما انتظر ما كتب لك من آلام.
مرت أيام وسنون على قدموس تكاثرت فيها ذريته، ولكن سعادته كانت دائما مهددة بما أوعده به الهاتف من آلام، وكان أول ألم نزل به ما أصاب سبطه أكتيون ابن بنته أريسته؛ وذاك أن أكتيون ذهب في بعض الأيام يتصيد في جبل قرب بيوثى، فأعياه الحر والتعب فدخل غار غاني مستظلا، وكان هذا الغار مقدس ديانا. غابة خضراء في وسطها ينبوع غزير الماء تبترد فيه بنت جوبيتر وحورياتها العذارى حينما تعود وإياهن من الصيد. وكانت ديانا وعذاراها حين دخول أكتيون الغار عاريات في الماء، فشاهدهن في عريتهن فولولت العذارى حياء وذعرا ولولة ملأت الغابة، وغضبت ديانا لأنه رآها عارية وهي عذراء غيور على عذرتها ضنينة بها نذرت المحافظة عليها إلى الأبد، فتناولت ملء كفها ماء ورشقته به، فتحول إلى وعل ونبت له قرنان في أم رأسه، وقالت له: اذهب الآن وخبر، إن استطعت الكلام، أنك شاهدتني وعذاراي عاريات. ففر من وجهها يعدو حتى وصل إلى عين ماء، فنظر فيها فرأى أنه وعل ذو قرنين فبكى.
وكان لسانه قد عقل فتاه على وجهه حتى وصل إلى حيث ينتظره خدمه وكلابه، فلما أبصرهم دنا منهم يريد أن يكلمهم ويعرفهم نفسه، فلم يستطع إلى الكلام سبيلا، وشاهدته كلابه، فالتحقت به تطارده ولم يكن في طوقه أن يناديها بأسمائها، طاردته كلابه حتى أدركته ومزقته بأنيابها وأظفارها، فاشتفى قلب ديانا العذراء.
أما الألم الثاني الذي حل بقدموس، فقد كان مما سببه جوبيتر لابنتيه سميلا وإينو، وذاك أن هذا الإله، تبع البنات الإنسيات، رأى سميلا فأحبها، ويظهر أنه كان يفتتن بجمال كل فتاة من سلالة آجينور، وما عتم أن اختطفها وتزوجها، فغارت منها جونون، وشاءت أن تتخلص منها، لا سيما أنها كانت تبغض كل سلالة آجينور من أجل أوروبا، فانحدرت إلى الأرض في زي بريسا العجوز، مربية سميلا، ودخلت عليها وعلمتها أن تسأل جوبيتر، يوم يأتي إلى زيارتها، أن يحيطها بهالة المجد والعظمة التي يحيط بها زوجه جونون ساعة يكون وإياها في فراش الزوجية. وجاء جوبيتر إلى زيارة سميلا، فسألته أن يمنحها من المجد والعظمة ما يمنح جونون، وكان جوبيتر يضن بكل ما هو من حق الألوهية لا يتساهل به أقل تساهل خشية أن يبتذل بين أبناء الأرض المعدين للفناء، فتنعدم ميزات الآلهة، وهكذا لم تكد سميلا تفوه بما سألته إياه حتى احتدم غيظا واستل من أحشائها ولده الذي كانت حبلى به ورماها بصاعقة أحرقتها، ثم شق فخذه ووضع ابنه فيها وخاط عليه إلى أن تمت أشهره، فأخرجه وسلمه إلى خالته إينو فأرضعته، ولكن الحوريتين ياريا (سارة) ونمريتس (صادقة) أخذتاه منها وحملتاه إلى جزيرة ناكسوس، فربتاه في مغاورهما تغذيانه باللبن، وسمتاه باخوس، ولما ترعرع خرج من المغاور، وطاف في الشرق يصحبه مؤدبه سيلين والإله بان وسرب من الحوريات، فافتتح الهند كلها، وعاد إلى جزيرته فاستوى على عرش ألوهية الخمر والنبات الحقلي والغابي والمروج والرياض.
أما إينو فقد تزوجت البطل اليوناني أتاماس ملك أوكومين، فولدت منه غلامين ليركوس وميليسرت، وكان له من زوجه الأولى نيفيله غلامان فريكسوس وهله اتخذتهما جونون أداة لتوقع الشر بين إينو وزوجها انتقاما من إينو؛ لأنها أرضعت باخوس، فأوقعت في قلب إينو كرها شديدا لولدي زوجها. واتفق أن حصلت مجاعة في أوكومين، فأرسل أتاماس يستفتي بيثي، كاهنة دلف وهاتفة أبولون، فيما يصنعه تداركا للمجاعة، فأمالت إينو قلوب الرسل إليها وجعلتهم يقولون: إن بيثي تأمر بتضحية فريكسوس. فكشفت جونون لأتاماس مكيدة إينو وشردت عقله موهمة إياه أن ليركوس ابنه من إينو وعل فقتله، وحملت إينو على أن تلقي ابنها ميليسرت في مرجل ماء غال فمات، ثم دفعتها فارتمت في البحر فماتت غرقا وطفت جثتها على وجه الماء، فحملها دلفين إلى خليج قورنثه، وتحولت هنالك إلى إلهة بحرية اسمها ليكوثيا تساعد بعطفها ولطفها البحارة المهددين بالغرق والعواصف.
نزلت هذه الآلام المرة على بيت قدموس لقتله ابن المريخ وتمليته نظره منه وهو يحتضر . وتوالت عليه وعلى زوجه هرمونيا أحزان ملا معها الحياة. وكان جوبيتر قد رق لهما فجعلهما إلهين في ثوبهما الإنساني، ولكنهما لم يعلما بذلك، فهجرا بيوثى يائسين وتوجها إلى إيليرية، وتذكر هناك قدموس أنه معد إلى التحول إلى ثعبان ولا منجاة له مما هدده به الهاتف، فطلب وزوجه هرمونيا إلى جوبيتر أن ينفذ بهما ما قدر لهما فاستجابهما، وحول قدموس إلى ثعبان وهرمونيا إلى حية ووضعهما في فردوس الجحيم. وكانا أحيانا يخرجان معا فيجولان في غابات إيليرية متنزهين، ولكنهما لم يكونا يؤذيان أحدا. (3) مينوس وأريان
ولدت أوروبا لجوبيتر فيمن ولدتهم مينوس الشاب الجميل، فتولى بإرادة أبيه عرش إكريت، وتزوج صبية جميلة تدعى بازيفابي ولدت له أريان فمنحها جدها جوبيتر صفة إلهية، وأعطاها خيطا سحريا تقود به الضالين.
وفي أحد الأيام ترك مينوس زوجه بازيفابي في قصره في إكريت، وسافر بجيشه إلى محاربة مدينة ميغار حليفة أثينا لخلاف وقع بينه وبين مليكها الشيخ نيزوس، فحاصر ميغار بضع سنين لم يتمكن خلالها من فتحها؛ لأنها كانت محمية بطلسم هو شعرة أرجوانية مندسة بين شعرات مليكها نيزوس، فلا يقوى أحد على فتحها وإزالة ملك ملكها إلا إذا تسنى له الحصول على تلك الشعرة.
وكان للمدينة سور قوي يحيط بها قيل إن أبولون، إله النور والفنون الجميلة والكهانة، وضع في أحد الأيام قيثارته عليه فالتقطت حجارته نغماتها، وكان للملك نيزوس بنت تدعى سيلا، تأتي كل يوم إلى السور وترشق حجارته بحصى صغيرة، فترن مرددة نغمات قيثارة أبولون. واتفق أن جاءته في أحد الأيام والمعارك واقفة بين مدينتها وجيش مينوس، فأشرفت من أحد الأبراج على السهول المنبسطة حول المدينة، فرأت فارسا ممتطيا فرسا أبيض، ومدرعا بدرع تبرق في أشعة الشمس، وفي يده مزراق يسطع سنانه كالكوكب الدري، فرنت إليه تتثبته، وإذا به ينزع الخوذة عن رأسه ويكشف وجهه فيبين في ثوبه القرمزي فتنة النواظر، ثم همز فرسه فمر به من تحت السور كالبرق الخاطف، فعرفت أنه مينوس، وودت لو تلقي بنفسها من على البرج فتسقط بين يديه، ولعنت الحرب لأنها جعلته عدو أبيها، ثم ما لبثت أن باركت الحرب، فلولاها ما رأت هذا الشاب الجميل ولا عرفته، وشد ما تمنت لو تنفتح أمامه الأسوار، فيدخل المدينة وتنتهي الحرب فتهبه نفسها وتصبح أمة له.
ثم خاطبت نفسها قائلة: لماذا أدع دماء أبناء مدينتي تهرق في حرب لا نهاية لها؟ وعلام أترك مدينتي تشقى في حصار لا فرج منه إلا بسقوطها في يد من أحبه قلبي؟ أليس الأجمل بي أن أحقن دماء بني قومي وأبعد الشقاء عنهم؟ لأذهب إلى مينوس وأسلمه نفسي وأسأله أن يكف نفسه عن الحرب ويرفع الحصار، ولكن أنى لي الوصول إليه والأبواب مقفلة والعسس لا يأتلي طوافا؟
وقطبت حاجبيها تفكر فيما تصنع، وإن هي إلا هنيهة حتى أشرقت أسارير وجهها، واستدارت على نفسها، وعادت إلى قصر أبيها، ولما أرخى الليل ذوائبه ونامت العيون مشت مشية الحية منسلة إلى غرفة والدها، فرأت شعرته الأرجوانية تسطع نورا بين شعراته البيضاء فاستلتها، وخرجت تجر ذيل خيانتها وراءها إلى أن وصلت إلى السور، فانفتحت لها أبوابه، فاجتازتها ومشت إلى مخيم الأعداء حاملة جريمتها بيدها، ولما انتهت إلى خيمة مينوس دخلت عليه، فبهت لرؤيته صبية من بنات أعدائه تأتي إليه وحدها تحت غياهب الظلام، وسألها: من أنت؟ قالت: أنا سيلا بنت الملك نيزوس، جئتك لأسلم إليك آلهة بيتي ولا أطلب مكافأة إلا أن أكون لك أمة. خذ هذه الشعرة الأرجوانية عربونا لحبي لك، واعلم أني، في تسليمي إياها إليك، إنما أسلم إليك رأس والدي، ثم بسطت يدها بالشعرة، فتراجع مينوس مذعورا من خيانتها ووقاحتها، وأجابها بغضب: لتطردك الآلهة من عالمنا، أنت يا عار زماننا، وليحرموك البر والبحر، أما أنا فلا أطيق أن تتدنس إكريت، مهد جوبيتر ومدينتي، بملمس قدمي مسخ مثلك، قال هذا وانتزع الشعرة من يدها، ومضى إلى المدينة فانفتحت وخضع له مليكها وسكانها ففرض عليهم فروضا عادلة، وقفل راجعا إلى قومه، فأمرهم بأن يحلوا أربطة سفنهم وينشروا أشرعتها ليعودوا إلى بلادهم.
ورأت سيلا السفن تبتعد، فثار غضبها على مينوس لتركه إياها، وقد سدت خيانتها في وجهها سبل العودة إلى المدينة، فلطمت صدرها وصاحت به: يا قاسي القلب ويا صلب الكبد لن تفلت مني، ثم قفزت إلى الماء وسبحت حتى وصلت إلى سفينته فتعلقت بها.
وكان جوبيتر قد رأف بأبيها الشيخ لما لحق به من هوان فحوله إلى نسر بحري أصهب الجناحين، وفيما هو يحوم فوق البحر شاهدها متعلقة بسفينة مينوس فانحط عليها مغيظا يريد تمزيقها بمنقاره المعقوف، فارتجفت فرقا لرؤيته واسترخت يداها، فسقطت فسندها نسيم لطيف أرسلته إليها جونون رحمة لها، ومنعها أن تمس الأمواج، وإذا بها ينبت لها ريش وجناحان فتحولت إلى عصفور يسمى قوس السحاب (إيريس) تذكرها ألوانه الجميلة شعرة أبيها الأرجوانية.
عاد مينوس إلى مملكته، وكان نبتون إله البحر قد غضب عليه لإبحاره إلى ميغار دون أن يقرب له قربانا، فأراد أن ينتقم منه، ولكنه خاف جوبيتر؛ لأن رب أرباب الأولمب لا يأذن بأن يؤذى ابنه، فصوب نبتون انتقامه إلى بازيفابي، وعزم على أن يلبسها، في غياب زوجها، ثوب الخيانة والعار، فبعث إلى إكريت ثورا أبيض جميلا، فاندس بين ثيران مينوس يرعى معها في أودية جبل أيدا الظليلة المغطاة بالغابات الخضراء، والموشاة بالخمائل النضرة، وكانت بازيفابي تذهب كل يوم تتنزه في هذه الأودية فتمتع القلب والعين بهوائها النقي المنعش، وبمناظرها الخلابة. وإنها ذات يوم لكذلك في لذتها الروحية والبدنية، إذا بها ترى ثورا أبيض كالثلج، وفي جبهته لطخة سوداء صغيرة زادته جمالا، فدهشت لرؤيته بين ثيران زوجها ولا عهد لها بمثله، ونهضت جالسة تنظر إليه فألهمها نبتون حبه فولعت به واتبعت خطاه.
وكأن العجلات كانت شاعرة بجمال هذا الثور، فسرى حبه في قلوبها، وأخذت تتزاحم على الدنو منه لعله يتيسر لها مداعبته، فغارت بازيفابي من العجلات، وليس كالغيرة ما يؤرث لواعج الحب، غارت بازيفابي من العجلات فكانت تنظر إلى كل عجلة فتية جميلة بعين الحقد والبغضاء، وجعلت تتيه وراء حبيبها الثور في الغابات فتعري الأشجار من أوراقها الطرية والمروج من حشائشها الرخصة لتطعم ثورها الحبيب، تتبعه حيث يسير، ولا يمنعها شيء عن اتباعه. ألهاها الثور عن كل حب غير حبه فنسيت زوجها مينوس، طفقت تتزين بأثمن جواهرها وحلاها وأجمل ثيابها، وتعرض نفسها في زينتها على الثور توهما منها أنه يشعر بقيمة محاسنها وتبرجها. تلتحق به إلى مشارف الجبال حاملة مرآتها بيدها تترآى بها لتلمس وجهها، وترتب ما تشعث من شعرها. تنظر إلى وجهها في مرآتها ولا تشعر أنها إنسانة لا عجلة، وأن الثور لا يميل إلا إلى بنات جنسه، وكم ودت لو أن الطبيعة تنبت لها قرنين لتكون زوجة للثور.
ولم يكن حبها لمينوس ليردها عن هذا الحب الشاذ، فكانت تتقاذفها الغابات مشمرة وراء الثور كأنها إحدى بنات باخوس تسير مملوءا قلبها بحب هذا الإله. وكم مرة ألقت نظرة الغضبى على عجلة دنت من الثور، صائحة: ماذا يرى فيها مما يعجبه؟ انظروا إليها كيف تقفز إلى جانبه على العشب الأخضر، أتظن أنها، في عملها هذا، تتحبب إليه؟ وتوصلت بها غيرتها من العجلات أن أمرت بإخراجها من القطعان، وبذبحها قربانا للآلهة، وكانت حينما تذبح العجلة تجس بغبطة أحشائها وتخاطبها بشماتة: اذهبي الآن وزاحميني على حب حبيبي.
وكم اشتهت أن تتحول إلى عجلة بيضاء كما تحولت إيو من قبلها، أو أن يخطفها هذا الثور على ظهره كما خطف ذاك الثور الأبيض أوروبا أم زوجها، ولكن عبثا ما اشتهت، وأخيرا لم تر بدا من الخدعة، فتزيت بزي عجلة ودنت من حبيبها الثور تداعبه فألهمه نبتون مراودتها فحملت منه ثمرة دنسة لم تكد ترى ضوء الشمس حتى فضحت خيانة أمها وعارها. حملت منه وولدت مينوتور مسخا برأس ثور وجسم إنسان نما نموا عجلا.
وصل مينوس إلى إكريت، معقودة عليه أكاليل الغار، فضحى لجوبيتر بمائة ثور، وزين قصره بأسلاب أعدائه، وشد ما كان غمه حينما شاهد مينوتور، ورأى رأسه ينم بخيانة بازيفابي، فجعل كل همه في إبعاده عن قصره وسجنه، حيث لا يمكنه أن يعرض لعيون الناس قبح فعلة أمه.
وكان في إكريت مهندس بارع في فن البناء يقال له ذيذال. فأوعز إليه مينوس أن يبني دهاليز متشابكة يتيه فيها من يدخلها فلا يهتدي إلى الخروج منها، فبنى ذيذال متائه إكريت المشهورة وسجن فيها مينوتور، وكان هذا من أكلة لحوم البشر، فأكره مينوس أهل أثينا أن يرسلوا إليه في كل سنة سبعة شبان وسبع شابات طعاما لمينوتور.
وكان لإيجه ملك أثينا ولد يدعى تيزه، بطل من الأبطال مضى صباه في ترويض سباع الوحوش واستئصال شأفة قطاع الطرق، فلم يطق أن تحمل مدينته هذا الذل فطلب من أبيه أن يكون بين السبعة المعدين للذهاب إلى إكريت، فأجابه أبوه إلى ما أراد، وسافر من أثينا على سفن سود الأشرعة ووعد أباه أنه إذا عاد متغلبا على مينوتور يبدل من الأشرعة السود أشرعة بيضا. ولما بلغت بهم السفن إكريت انطلق تيزه مع رفقائه ليدخل المتائه، وكان متكميا بسلاحه مدرعا بأقوى أدراعه، فرأته أريان بنت مينوس فأخذت بملاحته وشجاعته، وخشيت عليه إن هو دخل المتائه، أن يتيه فيها فلا يجد إلى الخروج منها سبيلا، فزنرت خصره بخيطها السحري فدخل المتائه ونازل مينوتور فغلبه وقتله وعاد إلى النور مهتديا بخيط أريان، وكانت هذه بانتظاره فاختطفها وسار بها، ولكنه حينما مر بشاطئ ناكسوس، جزيرة الإله باخوس، حملها وهي نائمة ووضعها على رمال الشاطئ وأبحر إلى أثينا تاركا إياها وحدها. وكان قد سها عن أن يبدل بالأشرعة السود أشرعة بيضاء، فرأى أبوه إيجه السفن تطلع من صدر البحر بأشرعتها السود، فأيقن أن ولده قتل فألقى نفسه في البحر يأسا وحزنا، فمات غرقا وسمي ذلك البحر باسمه بحر إيجه، وتملك تيزه مكان أبيه، وتزوج ملكة الأمازونة.
أما أريان فلبثت نائمة على رمال شاطئ ناكسوس، ولما استفاقت من نومها ورأت نفسها وحيدة على ذلك الشاطئ المقفر أخذتها الرعدة وسالت دموعها على خديها، ونادت على الأمواج تسألها عن تيزه الصلب الفؤاد ولكن الأمواج لم تحر جوابا، تصيح وتبكي في وقت معا فتذهب الريح بصراخها وبكائها مبددة إياهما في الأجواء، تقول وتخبط ثدييها: لك جوبيتر أيها الخائن! كيف تتركني هنا وحدي وما تراه يحل بي؟
وكانت رجلاها عاريتين، ولم يكن عليها إلا غلالة شفافة، وكان هواء البحر يداعب شعرها الأشقر، فيتفرق متموجا على كتفيها. بردت ولم تستطع أن تمشي بقدميها الطريتين على الرمل والحصى لتبحث عن مكان يقيها برد الهواء، وجاعت؛ لأن تيزه القاسي لم يترك لها طعاما، فلم تجد قربها إلا ما كانت تأكل منه طيور البحر فأكلت منه. وفيما هي في هذه الحالة إذا بها تسمع ضجيج صنوج وطبول تضرب ضربا شديدا، فصعقت خوفا وسقطت إلى الأرض تتمتم كلمات متقطعة لا تفهم، وهرب الدم من وجهها فاصفرت، وشخصت عيناها إلى حيث تطلع الضجة فرأت حوريات الإله باخوس ورفيقاته الخفيفات الناعمات نافشات شعورهن سائرات في مقدمة موكب إله الكرمة، ورأت الشيخ سيلين مدبر الإله راكبا على حماره، متعلقا بناصيته لا يكاد يستمسك من سكره. ورأت الإله في قلب الموكب على مركبة مجللة بأوراق الكرمة وعساليجها تقودها النمورة تساس بأرسان من ذهب. وكانت أريان بعد فقدها تيزه قد فقدت لونها وصوتها وقوتها، فحاولت ثلاث مرات أن تهرب فكان الخوف في كل مرة يقيد رجليها، فاضطربت كالقذاة في مهب الرياح، ووقفت ضائعة الرشد لا تدري ما تصنع، فدنا الإله بمركبته منها ووقف قربها فعرف بها نسيبته أريان، أليست أريان بنت مينوس ابن أوروبا، وهذه أخت قدموس، وقدموس جد باخوس لأمه سميلا؟ فأريان إذا ابنة عمة أمه؛ ولذلك حنا عليها وقال لها: أبعدي الخوف عنك يا بنت مينوس! ستكونين زوجة باخوس أحن زوج وأخلصه، وإني مكافئك بتقديمي السماء لك مهرا، ستكونين نجمة جديدة، ويكون إكليلك الساطع دليلا للبحارة التائهين. قال هذا وقفز من مركبته، فخشعت الأرض تحت قدميه، وضم أريان إلى صدره وحملها فلم تتمنع منه ولم تتمنع عنه، وهل بإمكان بشرية أن تمتنع عن إله؟ أليس في طاقة الإله أن يفعل ما يشاؤه؟ حملها بينما كانت حوريات موكبه ينشدن أناشيد العرس، ورفيقاتهن يصحن: إيها إيها! هو ذا الإله وعروسه الشابة يتممان عقد الزواج، وكانت الأنوار اللازوردية والأضواء الشفقية تلفهما بغلالة شفافة فاتنة للعيون والألباب، ثم خلع الإله عن رأسه تاجه المرصع بالحجارة الكريمة وألبسها إياه، ثم حولها إلى نجمة زاهرة وأرسلها إلى السماء، وتحولت حجارة التاج الكريمة إلى نجوم صغيرة تدور متلألئة حول أريان في شكل تاج من النور البهي يستهديه البحارة الضالون في البحار سبيلهم فيهديهم إليه. (4) ديدون الصورية
كانت صور في عهد الفينيقيين عروس البحر الأبيض المتوسط وسيدة التجارة والبحار، وقد وصفها حزقيال النبي في نبوءاته فبين ما كانت عليه من العظمة والجمال وسعة الغنى والقوة البحرية وامتداد المتجر، وسماها تاجرة الشعوب في جزائر كثيرة. وكان في ذاك الزمان على هذه المدينة ملك يقال له بيلوس وهو حفيد إيتوبعل ملك صور وكاهن عشتروت الأكبر، وابن أخي إيزابل الشهيرة زوجة آخاب ملك السامرة وناشرة الديانة الفينيقية في إسرائيل. وكان بيلوس ملكا قويا غزا قبرس والجزائر اليونانية غزوات مظفرة عاد منها بالأسرى والغنائم.
ولم يكن له إلا ولدان: بغماليون وعليشار. وكانت هذه تهوى خالها سيشاربعل أكبر كهنة ملكرت وأول رجل في المدينة بعد أبيها الملك، وكان هو يهواها لما فيها من جمال وذكاء وجرأة، فطلبها من أبيها زوجة له فزوجه إياها وزفها إليه عذراء وربطها به بعهد الزواج، فولدت له ولدين ذكرين كانا بهجة نفسه.
ولم يلبث الملك بيلوس أن توفي فولى الشعب مكانه ولده بغماليون على صغر سنه آملا منه أن يكون كأبيه شجاعا عادلا محبا لشعبه ومصالحه، لكن بغماليون لم يحقق أمل الشعب منه، فقد كان ظالما شريرا رديء النفس مهملا لشئون المملكة، وكان يحسد صهره سيشاربعل على ثروته العظيمة، ويود لو انتزعها منه. يحسده على ثروته، ويغار منه؛ لنفوذه في الصوريين ونفاذ كلمته فيهم، وهذه الخلائق السيئة التي اشتمل بغماليون عليها، جعلت كبار رجال الدولة ينقمون عليه ويكرهونه، ويرغبون في تولية أخته بدلا منه، فتألبوا حزبا عليه بزعامة الكاهن الأكبر، وجعلوا يتربصون به ليقضوا منه لبانتهم.
وشعر بغماليون بهذا الشر الذي يهدده، فخاف على رأسه وتاجه، وانبرى بما فيه من خبث ولؤم يدس على صهره ومن لف لفه بين طبقة الشعب الجاهلة، يفعل ذلك في الخفاء خشية من أخته التي كانت تتمتع بمنزلة أسمى من منزلته في قلوب الصوريين، حتى تمكن من الفتك بأكثر رجال الحزب، ثم فاجأ صهره في الهيكل، فطعنه بخنجر مزق أحشاءه، وأخفى جثته في بعض سراديب المعبد، وذهب إلى أخته يقول لها إنه أرسل زوجها في أمر خطير، وعللها بعودته في وقت قريب.
تخلص بغماليون من مزاحمة صهره، فبقي عليه أن يقبض على كنوزه التي كانت تثير طمعه القاتل، ولكن سيشاربعل كان يخبئها في مكان خفي، حتى إنه لم يطلع عليه عليشار زوجته مع حبه لها وثقته بها.
مرت أيام وليال وعليشار تعلل نفسها بعودة زوجها، وهي لفراقه على مثل الجمر اللاهب، وكانت جثة سيشاربعل لا تزال مطروحة في سرداب الهيكل غير مواراة في قبر ولا مقامة عليها الطقوس الدينية التي تقام لكل ميت لتستطيع روحه دخول فردوس الآلهة. فلبثت روحه تائهة في ظلمات الجحيم لا ترى مكانا تستريح فيه.
وذات ليلة بينما كانت عليشار راقدة، بعد هواجس كثيرة ساورتها، رأت طيف زوجها يطلع عليها من بين ضباب كثيف مظلم، وعلى وجهه شحوب راعب، فأراها درجات المذبح المخضبة بدمائه، وأراها أحشاءه التي مزقها خنجر بغماليون، وكل الفظائع التي ارتكبت في سر قصر أخيها، ثم أمرها أن تهرب من صور الجميلة وتترك أرضها إلى الأبد، وأن تبني مدينة على الشاطئ الأفريقي حيث تشير عليها جونون ربة الأولمب بأن تبنيها، وأذن لها بأن تقف حياة ولديها على إتمام هذه الوصية، ثم كشف لها بطن الأرض وأراها المكان الذي دفن فيه كنوزه من ذهب وفضة وياقوت أحمر وزمرد أخضر ودرر ولآلئ، وأطلعها على المخبأ الذي خبأ فيه كنوز معبد ملكرت، وأمرها بأن تحمل كل هذه الكنوز معها لتكون عونا لها على أداء الرسالة التي عهد بها إليها، ثم توارى عنها.
استفاقت عليشار من نومها مذعورة مما رأت وعزمت على أن تنفذ وصية زوجها الرجل الوحيد الذي أحبته ولا تزال تحبه، فتهيأت للفرار، وبعثت إلى أصحاب زوجها فأتوها في خفية، فأخبرتهم بما رأت وما سمعت وما عزمت عليه، فوافقوها على الفرار، والتف حولهم كل الغاضبين على أعمال بغماليون الناقمين على سلوكه الرديء، فانتدبت منهم من سرق جثة زوجها من السرداب ودفنتها خارج مدينة صور لتتمكن روحه من الراحة في جنان الآلهة وهنائها، واستخرجت كنوز زوجها وكنوز المعبد من حيث كانت مدفونة، وأرسلت من يجوس الميناء لترى هل من سفن مهيأة للسفر؟ فرأوا مراكب موشكة أن تنشر أشرعتها فأمسكوها، وحملت إليها عليشار نفسها وولديها وكنوزها ورجالها، واستغاثت جونون لتعينها وتسهل سفرها وتدلها على المكان الذي تبني فيه مدينتها، ونذرت لها هيكلا في أول أرض تطؤها قدماها، ثم نادت على أصحابها واستقسمتهم بالآلهة أن يخلصوا لها وللقضية التي انتدبها إليها زوجها، فأقسموا لها يمين الإخلاص، وجعلوها ملكة عليهم يصدرون ويردون عن كل ما تأمرهم به.
سارت سفن عليشار تمخر البحر الأبيض والأمواج تتقاذفها والعواصف تشردها حينا وتجمعها حينا، يعلو بها التيار الثائر حتى يخيل لمن فيها أنهم لصقوا بالسحاب، وينحدر بها حتى يظنوا أن اللجة ابتلعتهم، بحر تضربه رياح الشتاء الهوجاء، وتهيج أمواجه الزوابع المجنونة، وسفن تتقلب في ظلمات غيوم دامسة تكتنفها من كل جانب، ولولا مهارة نوتية صور في تسيير السفن ومقدرتهم في خوض البحار مهما ثار تيارها وعربدت أمواجها، لكان الفينيقيون الهاربون قد هلكوا في الهالكين، وما زال هذا دأبهم حتى ألقت بهم يد الأقدار على الشاطئ الأفريقي، فتنفسوا الصعداء وسري عنهم، وشكروا الآلهة على نجاتهم، ثم انحدروا من سفنهم إلى غابة قرب الشاطئ خضراء ظليلة، فلجأت إليها عليشار بولديها وكنوزها فسماها أصحابها منذ ذلك اليوم ديدون أي اللاجئة.
وكان أول ما صنعته ديدون أن قدمت قرابين لآلهة تلك الأرض تقربا إليها، ثم اضجعت منهوكة القوى، فزارتها جونون في الحلم وقالت لها: انهضي تجدي رأس جواد فتي، فتبنين مدينتك حيث تجدينه. وهذا الرأس هو رمز إلى الأمة التي سوف تنشئينها، ودليل على أن أمتك ستكون ظافرة في حروبها، وسوف تسود أمما كثيرة، فانتبهت ديدون ونهضت من مرقدها، ولم تسر إلا قليلا حتى رأت العلامة التي وصفتها لها الإلهة جونون، فقبلت التراب شكرا لها، ثم أهابت بأصحابها إلى بناء هيكل تمجد فيه هذه الإلهة المحسنة فلبوها، فبنت ديدون هيكلا كبيرا زانته بأنواع الذهب والجوهر والفضة، وجعلت في أساسه رأس الجواد الفتي، العلامة التي أعطتها إياها جونون، وأقامت له مصعدا ذا درجات في أعلاها رتاج مزدان بالشبه، مصراعاه مصنوعان من جسور من الخشب مربوط بعضها إلى بعض بربط من الشبه، يدوران صافرين على رزات من المعدن نفسه.
وبعد أن انتهت من بناء معبد جونون أخذت تفكر بتحقيق حلم زوجها وبناء مدينة تكون مجمعا قوميا للفينيقيين الهاربين وأنسالهم، ولكنها خافت الاجتراء على أراضي الدولة البربرية المسيطرة في تلك البقاع، ولم تشأ أن تنزل في العاصمة الفينيقية القديمة أوتيكا حذرا من أن تخالف وصية زوجها في بناء مدينة جديدة.
وكان ملك القبائل البربرية المقيمة هنالك يقال له يرباس، وهو ينزل في عاصمته جيتول، التي لا تبعد كثيرا عن الغابة التي لجأ إليها الفينيقيون، فأرسلت إليه ديدون رسلا يسألونه أن يأذن لها ببناء مدينة في أرضه، وأن يطلب ما يريده من مال وجواهر ثمنا للأرض التي يعطيها إياها، فرد يرباس رسلها خائبين، ورفض أن يبيعهم أو أن يهبهم شبرا من أرضه؛ لأن ديانته تقضي بأن تكون الأرض التي يتكون ترابها من رفات الآباء والأجداد ومن بقاياهم ملكا للإله ملكرت، إله الغابات، فلا يجوز بيعها، ولا تصح هبة شيء منها.
لكن رفض الملك يرباس بيع ديدون أرضا لم يثنها عن عزمها ولم يوئسها، فأقامت مذبحا لبعل، إله الشمس، ولما كان هذا الإله جشعا يحب الضحايا البشرية لم تشأ ديدون أن تضحي له بأحد أصحابها، فضحت بأحد ولديها؛ لأن زوجها كان قد أوصاها بأن تقف حياتهما على تحقيق ما تمناه، وهو في قيد الحياة، فأبلغها هاتف بعل أن الإله يأمرها بأن تذهب بنفسها إلى يرباس وتفتنه بجمالها ومحاسنها، فيبيعها أرضا تبني فيها حصنا على التلال القريبة من البحر حيث وجدت إشارة جونون، فيكون هذا الحصن نواة لمدينة جديدة تزاحم أوتيكا، وتنتزع منها السيادة التجارية والحربية.
ولما سمعت ديدون ما قاله هاتف الإله بعل عقدت نيتها على تلبية أمر الإله والذهاب إلى يرباس وإيقاعه في حبائل هواها، وكانت ديدون مثال الجمال النسائي اللبناني القديم: بيضاء مشربة سمرة ذهبية، عيناها كحلاوان فاترتان، وثغرها نقي كحب الغمام، وشعرها كستنائي مسترسل على كتفيها طويل حتى لتكاد أطرافه تلامس كعبيها، ممشوقة القوام، مجدولة الجسم، صافية البشرة، ناعمة الملمس، فتزينت بأبهى زينتها، ونثرت عليها أبدع جواهرها، وتحلت بأجمل حلاها، وتعطرت بأطيب عطورها، ثم انطلقت إلى يرباس فتنة من أروع الفتن.
لم تدخل ديدون على يرباس حتى أخذته سورة سحرها، فجن بها وتاه عقله، وأراد أن يجيب سؤلها ويهبها الأرض التي تختارها فاعترضه خصمه «ندب» زعيم القبائل ونبهه إلى أحكام ديانتهم، واستعان عليه بملكون كبير سحرة البربر حتى تم الرأي على أن يستوحوا ملكرت، ويعملوا بما يوحي به إليهم، فإن له وحده حق التصرف بأرضه، فمشوا إلى الغابات يحملون البخور والخمر والأزهار والسنابل في موكب حافل يملأ عجيجه الآفاق، حتى وصلوا فقدموا التقادم، وقربوا القرابين بعد أن نضحوا الأرض بالخمر وأحرقوا البخور، وهم يتضرعون إلى ملكرت، ويسألونه أن يوحي إليهم: أيبيعون ديدون أرضا أم يمتنعون؟ وإذا بالساحر ملكون يكلمهم بلسان الإله قائلا: إن ملكرت يقول لهم ألا يبيعوا شيئا من أرضه. فعادت ديدون إلى أصحابها وهي أقوى عزيمة مما كانت عليه ساعة ذهابها إلى يرباس، وجعلت تفكر فيما تعمل، فهتف بها هاتف أن الجئي إلى الإلاهة تانيت إلهة القمر فهي توحي إليك بما تعملين، فأقامت ديدون مذبحا للإلهة تانيت، ونضحت عليه الخمر، وأحرقت البخور، وقربت القرابين عجلات أبكارا، فأوحت إليها تانيت أن ترشو الساحر ملكون بالمال، وتتحبب إلى يرباس، وتعده بالزواج وتطلب منه أن يبيعها من الأرض مقاس جلد ثور، ثم علمتها الإلهة كيف تقيس به الأرض التي تبغي شراءها، فأسرعت ديدون إلى ملكون حاملة إليه أموالا كثيرة وجواهر ثمينة، فملكته بها وجعلته طوع يدها، ثم ذهبت إلى يرباس تتثنى دلالا وترفل سحرا. (5) سميراميس البابلية
يتدفق من أعالي جبال أرمينية نهران كبيران: دجلة والفرات. وبعد أن يسير كل منهما، على مسافة، في وجهة غير وجهة الآخر، يتدانيان ويجريان متوازيين نحو الجنوب، ثم تختلط مياههما في مجرى واحد يسمى شط العرب، ويصبان منه في خليج فارس، والوادي الذي ينبسط بين هذين النهرين، بعد تركهما منطقة الجبال، يسمى ما بين النهرين، نشأت فيه مملكتان عظيمتان: آشور وكلدة، ازدهرتا زمنا، أقدمهما بل أقدم مدنية في آسيا هي مدنية كلدة.
وكان الآشوريون ينزلون من هذا الوادي في شماله على ضفة دجلة الشرقية وعاصمتهم نينوى، وينزل الكلدانيون قدماء البابليين في جنوبه وعاصمتهم بابل قائمة على ضفتي الفرات يشطرها هذا النهر شطرين، ولم يكن بد من خضوع إحدى هاتين المملكتين للأخرى، فكانتا تتداولان السيادة، فتسيطر حينا نينوى على بابل وحينا بابل على نينوى.
وكان نهر الفرات يهدد المنطقة الجنوبية من الوادي بفيضانه المتوالي في كل سنة، فأنشأ أهلها قنوات وخنادق يحولون إليها ما يفيض من الماء عن مجرى النهر تحاميا للطوفان وريا لأراضيهم.
واتفق في إحدى السنين أن نزلت أمطار غزيرة في زمن ذوبان الثلوج على جبال أرمينية، ففاض الفرات وتدفقت مياهه فخرجت الأسماك منه إلى الأرض اليابسة، وكان بينها سمكتان كبيرتان رأتا بيضة كبيرة على وجه الغمر فسبحتا إليها ودفعتاها أمامهما إلى الضفة، وإذا بحمامة بيضاء تهبط من السماء وتحتضن البيضة إلى أن تراجع ماء الفرات إلى مجراه، فنقفت البيضة وخرجت منها الإلهة ديركيتو بوجه امرأة وجسم سمكة، إلهة السريان التي اشتهرت بعدلها وفضلها وحكمتها، حتى أن جوبيتر أعجب بها فوعدها بأن يمنحها كل ما تطلبه منه، فسألته أن يخلد السمكتين اللتين أنقذتاها من الطوفان فجعلهما في برج الحوت نجمتين وضاءتين، وهذا ما جعل السريان عباد ديركيتو يحترمون الحمام ولا يأكلون السمك.
وحبلت ديركيتو، والإلهات يحبلن ساعة يشأن بزواج وغير زواج، ولما تمت أشهرها وضعت إنسية ينبعث النور من بدنها لجمالها الباهر، فبهتت ديركيتو أمامها، وذعرت لأنها ولدت ولدا ليس في شكلها، وخافت أن تعيرها بنات جنسها ويتهمنها بما هي منه براء. فحملتها في ليلة مظلمة إلى البادية وتركتها هنالك على الأرض في قفر بلقع تسوطه الرياح من جهاته الأربع يقرس فيه البرد ليلا ويستحر الحر نهارا، فلبثت تلك الطفلة المسكينة عارية مهملة بين أيدي العناصر الطبيعية.
ولكن بيلوس إله نينوى الأعظم كان يعلم، من قبل، موعد مجيء هذه الطفلة إلى العالم الأرضي، ويعرف ما سوف يكون لها من شأن. وربما كانت بنته تزوج أمها ولم يعلم بذلك أحد، وعلمه بها جعله يرسل الإله ينبو رسوله رقيبا على ديركيتو حتى إذا ولدت طفلتها وألقتها في البادية أرسل إليها ينبو سربا من الحمائم هداهن ببكائها إلى مكانها، فطفق بعضهن يرف عليها بأجنحته ليرد عنها الحر نهارا ويدفئها ليلا، وكانت الحمائم الأخريات ينطلقن إلى حيث ينزل رعيان البدو، فيحملن إليها بمناقيرهن نقطا من الحليب يزققنها بها ليغذينها، وحينما بلغت السن التي تحتاج فيها إلى غذاء أقوى أخذت الحمائم يردن الأمكنة التي يضع فيها الرعيان ما يصنعونه من الجبن، فيأخذن منه مقدار ما يسع منقار كل منهن، وكان الرعيان إذا عادوا مساء يرون جبنهم منقورا فدهشوا، وتركوا منهم في الغد من يرقبه في غيابهم، فرأى الرقيب الحمائم وما يفعلنه فأخبر رفاقه، فتتبعوا الحمائم حتى وصلوا إلى حيث الصبية، فرأوها رائعة الجمال، فحملوها معهم إلى خيامهم، وقر رأيهم على بيعها في نينوى.
وكان للآشوريين موسم يقيمونه في كل سنة لتزويج بناتهم، موسم يتقاطر فيه الشبان والشابات من كل نواحي المملكة، ومن جميع طبقات الشعب إلى العاصمة الآشورية، فتعرض هناك الشابات في ساحة واسعة، ويجتمع الشبان لينتقي كل منهم زوجة، أو ينتقي صبية يحملها إلى داره فيربيها إلى أن تبلغ سن الزواج فيتزوجها.
وكان الشبان الأغنياء يتقدمون أولا، ويتزايدون في أثمان الحسان، فتكون الحسناء عرسا لمن ترسو عليه الزيادة الأخيرة، ولا تدفع أثمان الجميلات إليهن ولا إلى أهلهن، وإنما تعطى بائنات للشابات القبيحات فيحملنها إلى متوسطي الحال والفقراء، فهؤلاء لم يكن يهمهم الجمال، وإنما كان يهمهم ما تحمله الزوجة من المال، ولا تسلم بنت إلى شاب إلا على ضمان تزوجه بها.
حمل الرعاة الصبية الحسناء إلى نينوى، وكانوا قد سموها سميراميس أي حمامة لرؤيتهم الحمائم يغذينها. ووافق وصولهم إلى المدينة يوم موسم الزواج وقد غصت ساحة عرض الحسان بالشيوخ والكهول والشبان، كل يطلب حسناء جميلة تملأ بيته حبا وحياة، فشاء الرعاة أن يخترقوا الجماهير ليدخلوا سميراميس إلى الساحة فلم يستطيعوا. وفيما كانوا يحاولون ذلك شاهدهم «سيما» ناظر مرابط خيول الملك، وشاهد الصبية الصبيحة الوجه المتلألئة الجمال. وكان سيما عقيما لا أولاد له فهفا قلبه إلى سميراميس، وشاء أن يتبناها، فدعا إليه الرعاة وساومهم على ثمنها، وحملها إلى منزله وسلمها إلى زوجته، فكانت هذه تحبها وتعتني بها كأنها بنت أحشائها حتى ترعرعت وتفتقت أزهار محاسنها، وبرزت معاني جمالها.
وفي أحد الأيام جاء منيوتس كبير قواد الملك نينوس، ملك نينوى، إلى مرابط الخيول ليتفقد خيول الملك، فشاهد سميراميس قاعدة قربها، فوقف ينظر إليها معجبا ببهائها والنور المنبعث من وجهها، فرنت إليه سميراميس بمقلتين فاترتي النظر يترقرق السحر فيهما، فاستطير عقله ولم يتمالك أن دعا إليه سيما وسأله عنها، فأخبره سيما خبرها، فطلبها القائد زوجة له وأغلى مهرها. ثم حملها إلى قصره وسلمها إلى المزينات والمواشط ليتواصين بها، وأخرج لها من خزائنه من حلي وجواهر ما لا يوجد مثله إلا في كنوز الملوك. فأخذتها النساء إلى الحمام وغسلن بدنها بالماء المعطر ومشطن شعرها الأسود الطويل، وسدلنه على كتفيها خصلا معقدة بالجواهر، ثم ألبسنها الأرجوان الفينيقي الموشى بالذهب والمحلى بالجوهر، وأخرجنها للقائد عروس الجمال والفتون والأناقة.
وكان منيوتس قد أمر بتهيئة أداة العرس فتزوجها، وجعل لها المقام الأسمى بين نسائه وحظياته، وكان يلازمها ملازمة ظلها لها ولا يطيق البعاد عنها، فكانت تزيد فتونه بها بدلها الخفر وتسبيه بذكائها وعذوبة منطقها.
ذهب القائد ذات يوم مع الملك إلى حرب رجع منها الملك مظفرا، فخرج أهل المدينة للقائه، وبرزت النساء يعزفن بالمعازف ويزغردن فرحا، وحملت سميراميس نفسها على محفة يرفعها أربعة من العبيد السود وتسايرها فيها وصيفتان صبيحتا الوجه ناعمتا البشر، هذه راكعة وراءها تروح لها لترد عنها لذعات الشمس، وتلك ساجدة أمامها تلبي رغباتها.
وكان الملك على مركبته الذهبية تجرها جياد الخيل، يخفق فوق رأسه العلم الآشوري، ويسير إلى جانبه على فرس القائد منيوتس، وتحيط بهما كوكبة من القواد، فحانت من الملك التفاتة فوقعت عينه على سميراميس في محفتها، وكانت في اتكاءتها على المساند الحريرية، والتفاتتها، وزينتها، وتألق طلعتها، أغرى ما تكون امرأة وأسلبها للعقول، فعلقت عينا الملك عليها، وأحست به فرنت إليه في دلال وفتور، فأصابت مقلتاها مكان الشغاف من قلبه، فالتفت إلى القائد منيوتس وسأله: من تكون هذه المرأة؟ فشعر منيوتس بدنو الكارثة، وأدرك أن سميراميس حلت في عيني الملك، فصمت على ألم متظاهرا بأنه لم يسمع، فكرر الملك السؤال فلم ير القائد مناصا من الجواب؛ لأن الملك متى أراد شيئا لا يمكن أحدا مخالفته، والويل لمن يخالفه، فأجاب: هذه زوجتي يا مولاي.
دخل الملك قصره وتفرق الجند والناس، فأرسل إلى منيوتس يقول له: إن سميراميس حلت في عيني الملك فهو يريد أن يراها في قصره بين محظياته، فصعق القائد ولبث حائرا لا يدري ما يفعل، ورأت سميراميس حاله فأشارت عليه أن يلبي رغبة الملك وهي تسعى في البلاط بما أوتيت من فطنة ودهاء لعلها تقنع الملك بإرجاعها إليه، فنزل القائد عند إشارتها حزينا يائسا، ولما أبصرها خارجة من القصر في محفتها تشع كالكوكب اسودت الدنيا في عينيه وضاع عقله، فاستل سيفه واتكأ بصدره على رأسه فخرج من ظهره، وسقط يتشحط بدمائه.
وما تراه يهم سميراميس إذا قيل لها إن زوجها انتحر يأسا؟ فهي لم تكن تحبه ولا تحب أحدا سواه، وإنما كانت امرأة شهوانية نهمة للملذات والسيطرة، فسارت إلى بلاط الملك، ونزلت في مقصورة فخمة أعدت لها، وجعلها الملك أولى حظاياه. ولم يطل الزمان حتى صارت بحذقها، وبضروب إغرائها، نافذة الأمر عنده، حتى إنه لولوعه بها كان يحملها معه في حروبه، وقد مكنته مرة بحسن إرشادها وشجاعتها من الاستيلاء على مدينة كان يحاصرها، فعظمت في عينيه وتزوجها فكانت أعز نسائه على قلبه. وولدت سميراميس للملك ولدا سماه نينياس، نشأ نشأة حربية شأن أبناء الآشوريين كلهم.
وكانت الثورات في البلدان التي تحت السيطرة الآشورية متوالية؛ لأن الشعب الآشوري كان شعبا خشنا يعبد القوة ويحتقر الضعف ويقسو على المغلوب، وكان نيره أثقل نير وأضيقه؛ لأن حكومته كانت عسكرية لا تحسن إدارة البلدان التي تخضعها بغير التنكيل والإرهاب. فكانت سميراميس ترافق زوجها الملك لقمع الثورات والفتن، ولم تكن لتتنازل عن أناقتها، وكيف يمكنها الذهاب إلى الحرب في ثيابها الفضفاضة؟ فابتدعت ثوبا أنيقا يمكنها معه أن تقضي سائر حاجات الحياة، وأن تركب الخيول وتحارب دون أقل ارتباك، فانتشر زي هذا الثوب بين نساء سائر الشعوب التي خضعت لسلطان سميراميس.
وصحبت سميراميس مرة الملك نينوس إلى بلاد الطورانيين الثائرين عليه، وبعد أن ظفرا بهم وفتحا مدينتهم انتقم نينوس منهم انتقاما وحشيا، فسلخ جلود كثيرين منهم وهم أحياء، وعلق جلودهم على جدران بناها أمام أبواب المدينة، ثم قطع رءوسهم ونظمها في حبل على شكل عقد، وحكم على من أبقاه حيا من الرجال أن يأكلوا لحوم أبنائهم وبناتهم، ومن أبى قطع أنفه وأذنيه وشفتيه، ثم انتزع آلهة المدينة وكنوزها وعاد إلى عاصمته.
رأت سميراميس هذه الفظائع فلم تقبلها نفسها وكرهت زوجها، وسميراميس لم تكن آشورية الأصل لتكون فيها الروح الآشورية الفظة، وإنما هي بنت إلهة فاضلة عادلة حكيمة، وقد ربتها الحمائم الوديعة، وكانت منذ زمن تصبو إلى السيطرة وحدها؛ لأن نفسها كانت تأبى أن تكون الثانية في المملكة، وأن تظل مغلولة اليدين أمرها مردود إلى أمر زوجها، فعزمت على أن تتخلص منه ليخلو لها الجو فتفعل ما تشاء.
وكان نينوس لشغفه بها ورؤيته ما هي عليه من شجاعة وذكاء قد أشركها في إدارة بعض شئون المملكة، وذات مساء بينما كان جالسا في مقصورتها يتحبب إليها وتملكه بدلالها وشتى حيلها، شعرت بأنها قد استعبدته، فطلبت منه أن يسلمها سلطته كلها دقيقة واحدة، فأجاب طلبتها وعهد إليها بالسلطة المطلقة، فما كان منها إلا أن أمرت بالقبض عليه وقتلته وملكت مكانه، ولما علم الشعب بما فعلته هاج وتألب، جماهير تزاحفت إلى القصر تريد الفتك بها والثأر بالملك، وجاء سميراميس النبأ وهي تستحم فلم تذعر ولم ترتعد، وإنما خرجت من حمامها نصف عارية، وشعرها منفوش، وغدائرها تنوس على كتفيها، وأطلت من شرفة القصر، فلما رأوها شدهوا فصمت ضجيجهم وسجدوا لجمالها سجدة رجل واحد، ثم تفرقوا وهي عندهم في مقام إلهة.
وانصرفت سميراميس بعد أن توطد ملكها على عبادة الشعب لها إلى الشئون العمرانية، فبنت على ضفتي الفرات مدينة بابل أجمل مدينة في الشرق، بل في العالم كله وأشهرها، وسورتها بسور عريض تسير مركبتان معا على سطح جداره، وشيدت صرحا لها زينته بأجمل ما وصل إليه الفن الشرقي من النقوش والتخريم والترصيع، وأنشأت الحدائق المعلقة التي عدت بين عجائب الدنيا السبع، وهي كناية عن جنائن جعلتها على أبراج مرتفعة ارتفاعا شاهقا، ورفعت إليها ماء الفرات بأنابيب تدفعه فيها مدافع آية في الصنعة والإحكام، وجعلت مدينتها مركز تجارة آسيا تلتقي فيها الطرق التي تنبعث إلى بلاد العرب ومصر والهند وأرمينية وآسيا الوسطى، وأنشأت مناسج اشتهرت بنسيجها البابلي في ألوانه الزاهية، على تطريز صور، ورسوم أزهار ونجوم وحيوانات خرافية، وبنت للإله بيلوس هيكلا ضخما فيه ثلاثة تماثيل من ذهب، وأقامت في فنائه برجا عاليا يناطح السحاب، ومدت جسرا على الفرات يصل شطري المدينة أحدهما بالآخر، وانتزعت من مياهه ترعا وجداول جرت منها المياه إلى الأبنية والجنائن والبساتين، وشقت بحيرة تتسرب إليها مياه النهر الطاغية، فلا تتدافع إلى المدينة، وتوقع فيها الخراب.
بعد أن أتمت سميراميس أعمالها ومنشآتها العمرانية تحولت إلى الفتوح، فدوخت البلدان التي جاهرتها بالعصيان، وزحفت في جيش ضخم فأخضعت آسيا وميديا وفارس وأرمينية وفينيقية ومصر وليبية، ثم سارت إلى الهند لمحاربة ملكها منيلة وفتح ورشاقة الجسم ولطف الشمائل، محاسن لم تخلعها الآلهة قبلها إلا على سميراميس، ولم تخلعها على بنت سواها بعدها، وكان مما لا معدى عنه أن يلتقي الولدان كل يوم في الفناء المنبسط أمام داريهما، فيتعارفا ويتوادا ويلعبا بالألاعيب الصبيانية البريئة، ولم يكن أهلهما ليروا أمرا غريبا في اجتماعهما ولعبهما معا فقديما ما كان الصبيان والصبيات يجتمعون ويلعبون، ولا يخشى أهلهم محذورا بينهم.
مرت الشهور والسنون، فشب بيرام ونهدت تسبا، وتحول ذاك الود الصبياني من نفسه إلى حب فتوي تؤرث لواعجه عاطفة الفتوة المحتدمة، ويبلوره خيال الشباب اللازوردي الذي لا يقيده عقل، ولا يصقله منطق، وكان هذا الحب يتمكن من يوم إلى يوم حتى ملك على الفتيين قواهما وحواسهما، فكان الواحد منهما لا يقوى على فراق صاحبه هنيهة، وإذا جنهما الليل انصرفا على عناق طويل وقبلة حنون، وانطلق كل إلى سريره وطيف حبيبه يرف عليه بأجنحة الأماني الوردية.
وبقيا على هذه الحال زمنا غير يسير، لا يشعر بهما أحد ولا يدري بهما أهلهما، غير أن النميمة إلهة خبيثة، همها تهديم الآمال وزرع بذور الآلام، مسخ مخيف يبتدئ صغيرا هزيلا يرتجف خوفا على حياته، ولكنه لا يكاد ينطلق حتى ينمو ويقوى، يسير خفيف الرجل سريع الجناح باثا عيونه وألسنته وآذانه الكثيرة في كل مكان، فيتنصت على الأبواب، ويختبئ في الكوى والمنعطفات، لا تنام عيونه ولا تصمت أفواهه، لا في ضياء النهار، ولا في ظلام الليل، حتى تقع عينه على مشهد أو تسمع أذنه خبرا فيسير به مكبرا له ناشرا إياه في كل مكان، هذه الإلهة الخبيثة كانت سبب مأساة بيرام وتسبا، فقد تمثلت في فتاة تدعى أورانيا تصاقب دارها الفناء الذي يجتمع فيه العاشقان معتقدين أن لا رقيب عليهما فيه، فيتبادلان نجاوى الهوى ويبتردان بحر القبل، وكانت أورانيا تشاهدهما كل يوم فأكلت قلبها الغيرة، وكيف يكون لتسبا حبيب جميل كبيرام وهي لا تعلوها في ذروة الجمال؟ فطفقت كلما جلست إلى صديقة لها من بنات الحي تخبرها بعشق بيرام وتسبا، وتعظم لها الأمر، فتنقل تلك الخبر إلى غيرها مكبرا، وهذه إلى أخرى حتى وصل إلى والدي تسبا وبيرام فجن جنونهما؛ لأن ولديهما دنسا الأخلاق البابلية، وداسا تقاليد الشعب البابلي التي لا تأذن لشاب أن يجتمع بفتاة إلا بعد أخذها من سوق الزواج، فأسرع الوالدان إلى حيث قيل لهما إن العاشقين يجتمعان، فأدركاهما يتعانقان عناق فراق على أمل من لقاء. أدركاهما يتبادلان قبلة الحب البريء، فتأثما وخافا الفضيحة والعار، خافا أن يلعنهما البابليون وتغضب عليهم الآلهة، فالتقاليد عندهم شرائع إلهية، والموت جزاء من يستهين الشرائع الإلهية، فأمسك تسبا والدها من شعرها وجرها إلى داره وهو يلعنها، ودفع بيرام والده أمامه وهو يشتمه، وحرما على العاشقين أن يجتمعا أو أن يكلم أحدهما الآخر، منعاهما اللقاء والتشاكي، ولكنهما لم يستطيعا أن يمنعاهما التناجي والكلام بالإشارات من بعد. أرادا أن يخمدا نار ذاك الحب فزاداها اشتعالا، فكان العاشقان كلما ضيق عليهما وأرغما على قمع حبهما وكتم لوعتهما اضطرمت لواعجهما وتأجج لهيب غرامهما.
وكان في الجدار الذي يفصل غرفتي بيرام وتسبا، شق قديم، منذ بني الجدار، لم ينتبه إليه أحد، ولا يعرفه أحد، فلم تشأ إلهة الحب، وهي إلهة ترأف بعبادها وتسهل لهم سبل الوصال، لم تشأ هذه الإلهة الحنون أن يظل العاشقان معذبين ليس لهما إلا التخيل والنجوى، فهدتهما إلى هذا الشق، فكانا يجلسان إليه، كل في غرفته، ويتشاكيان آلام قلبيهما ويغمغمان آيات هواهما، يقعد إلى الجدار كل من جهته، ويتلقى، ملء روحه، أنفاس حبيبه الطيبة على قلبه، ويخاطب الجدار قائلا له: ما أقسى فؤادك يا جدار! وما أصلب كبدك! أيلذك أن تلبث حاجزا بيننا؟ وما يضرك لو تركت جسمينا يجتمعان؟ فإن تكن ترى اجتماعنا كثيرا علينا فاسمح ولا تبخل، بأن نتبادل القبل، ولكن مهما تكن قسوتك علينا، ومهما سددت أذنيك عن شكوانا، فإننا لا ننكر جميلك علينا، فلولاك لم يستطع كلام أحدنا أن يصل إلى أذني صاحبه.
وهكذا كانا يظلان على شكوى وتهامس حتى يدجو الليل ويحين وقت الرقاد، فيودع الحبيب حبيبه بأعذب الألفاظ وأرقها ويقبلان شق الجدار وينصرفان، ولا يكاد الفجر ينبثق ويطرد ضياؤه نجوم الليل، وترتشف أشعة الشمس قطر الندى عن ثغور الأزهار، حتى يعودا إلى موعدهما.
غير أن هذه الشكاوى المهموسة، والزفرات المصعدة خفية في أذن الجدار الصماء، لم تكن لتشفي ما بالعاشقين من آلام، ولا لتخفف من لاعج غرامهما، فاتفقا ذات يوم، وقد أخذ اليأس منهما كل مأخذ، على أن يغافلا أهلهما ليلا، ويخدعا حراس السور، ويجتازا أبواب المدينة ويفرا إلى ظاهرهما، وتواعدا على اللقاء عند قبر نينوس الملك، لئلا يتيها فيضيع كل منهما حبيبه.
وكان يظلل قبر نينوس زوج سميراميس شجرة توت كبيرة، ثمرها أبيض كفلذ الثلج، تنهض على حافة عين باردة الماء، فاتعدا على اللقاء تحتها يستظلان بظلالها عن عيون الليل.
اتفقا على هذه الخطة الجريئة، وافترقا عن قبلة اللقاء لا عن قبلة الوداع، وأي لقاء مفجع سيكون لقاؤهما؟! ولما سكت الليل وغفلت العيون نهضت تسبا من سريرها وقنعت رأسها ووجهها بمنديل حريري من نسج بابل، ومشت في خفة تتلمس الجدران لتستهدي، تطأ الأرض بحذر خشية أن تقرع قدماها شيئا ينبه صوته والديها، فيشعرا بهمس خطواتها، حتى خرجت من الدار، فتنفست طمأنينة، سارت إزاء السور إلى أن بلغت الأبواب، وكانت إلهة الحب قد بعثت إيريس رسولة الإلهات، فهبطت بين الحراس وشغلتهم بغنجها ودلالها، فنسوا الأبواب مفتوحة فانسلت منها تسبا انسلال النور من خصاص النوافذ، ومضت تتعثر بين غدائر الظلام المنسدلة، يجب قلبها كلما أحست نأمة، أو آنست حسا فتتردد، فيغوثها الحب، ويمسها بصولجانه السحري، فيلهمها الشجاعة فتمضي في سيرها، ولم تصل إلى قبر نينوس حتى أطل عليها القمر من صدر البرية، فلجأت إلى ظل التوتة المخيمة عليه، وملأت كفيها من زلال العين، فغسلت وجهها وشربت ثم اتكأت على صفائح القبر تنتظر بيرام.
وبينما كانت العذراء البابلية في انتظار حبيبها إذا بها تسمع زئيرا دوت منه البادية ورددت صداه الآفاق، فرعبت وأخذتها الرعدة، وقفزت تسير على غير هدى، فانتحت غابة قريبة واستترت مذعورة بين أدغالها، وكانت في نفرتها قد أسقطت منديلها الحريري عن كتفيها، فلم تجرؤ على العودة لأخذه فتركته حيث سقط.
وكان هذا الزئير صوت لبؤة افترست ثورا، فأخذها العطش فجاءت إلى العين التي تعودت الشرب منها، فولغت في مائها حتى ارتوت، ثم ولت قافلة إلى الغابات، فعثرت في مرتها بالمنديل فخيل إليها أنه عدو عنيد فهرت غضبا، ومزقته بأنيابها وبراثنها ولطخت قطعه بدم الثور الذي كان يلوثها.
لم تتوار اللبؤة في الغابات حتى وصل بيرام موافيا عذراءه إلى الموعد، وكانت تسبا ما برحت مختبئة في الأدغال ترتجف خوفا من أن ترتد اللبؤة وتكشف مكانها، فرأى بيرام في ضوء القمر آثار وحش مرتسمة على التراب المندى، فارتعش واصفر وجهه وخفق قلبه خشية على تسبا من أن تكون الوحوش قد فاجأتها وفتكت بها، ولم يسر إلا خطوات حتى شاهد المنديل الممزق المخضب بالدم، وكان يعرف أنه منديل تسبا، وهل يخفى على المحب شيء من ثياب حبيبه؟ فصك جبهته، وضرب صدره وصاح صيحة اللائع: يا ليل تبا لك يا ليل وتعسا! شهدت مصرع تسبا، وستشهد مصرع محبها التاعس، إن تسبا كانت أحق مني بطول الحياة، ولكن ربة القدر ربة عمياء تضرب ضربتها على غير هدى، ولا ترى من صرعت، قتلت تسبا في ريق صباها، وإبان تفتق أزرار بهاها ... لا يا تسبا لم تقتلك ربة القدر، وإنما أنا الذي قتلتك ... ألست الذي حملك حبه الملح النهم على أن تغادري أمن بيتك إلى حيث تتساور المفازع والأهوال؟ ولماذا لم آت قبلك؟ إذا لكنت دونك فريسة ذاك الوحش الظلوم، أيتها الأسود الضارية لماذا لا تنقضين علي؟ تعالي ومزقي جسمي مزقا مزقا، عاقبيني على جريمتي بتقطيعك أحشائي بأنيابك المسنونة، أيتها الوحوش الخادرة في هذه الغابات الغبياء هلمي إلي وافترسيني، فقد حق علي الموت نهشا وتمزيقا، غير أني لن أنتظر مجيئك إلي لتذيقيني كأس المنون جرعات مرة، فالجبان وحده يدعو الموت وينتظر مأتاه، وأنا لست جبانا.
ثم تناول منديل تسبا، وحمله إلى ظل الشجرة يقبله باكيا حتى بلله بدموعه، هناك انتضى خنجره من قرابه العاجي، وخاطب المنديل قائلا: تقبل يا منديل الحبيب دمي الذي تسفكه يدي حسرة على صاحبتك. وطعن صدره بالخنجر، ثم انتزعه من الجرح ورمى به جانبا، فنفر دمه سخينا واندفق على أصول التوتة فنهلته، فتلونت أثمارها البيضاء بلون قرمزي، واستلقى بيرام قرب جذعها يضم المنديل إلى صدره الدامي ويعالج سكرات الموت.
وكانت تسبا قد أمنت عودة اللبؤة، فخرجت من مخبأها، وأسرعت الخطى خائفة أن يكون بيرام قد أتى ولم يرها، فهو ينتظرها وهي لا تريد أن تتأخر عليه، فجعلت تبحث عنه بقلبها وعينيها، تشتاق أن تراه لتخبره بالخطر الذي واثبها، فانتهت إلى العين فعرفت المكان، ولكنها أنكرت لون أثمار التوتة، تركتها بيضاء فإذا بها تجدها حمراء كالدم، فبهتت وسألت نفسها: أتراها إياها؟ وفيما هي متريبة تدير عينيها فعل الحائر، أبصرت على جذع التوتة هيكلا مرتميا، فدنت منه متخوفة، فوقعت عيناها، ويا لهول ما وقعت عليه! وقعت على جثة بيرام لا تزال نابضة بين الدماء، فطار لبها وكمد لونها وارتجفت كالورقة في مهب العاصفة، عرفت جسم من تحبه ومن داست التقاليد من أجل حبه، وخاطرت بروحها في سبيل هواه، فخفقت بكفيها الناعمتين ذراعيها البريئتين خفقات مرنة، وقطعت شعرها بأناملها الطرية، وارتمت على جسم بيرام الدامي تحتضنه وتقبل جرحه وتمزج دموعها بدمائه، تقبل ذاك الوجه البارد كالجليد وتصيح به: يا بيرام! يا حشاشة كبدي! أي قدر قاس انتزعك مني؟ أجبني يا بيرام! لماذا لا تكلمني؟ أنا تسبا قربك فاسمع صوت قلبي، ارفع رأسك قليلا وافتح مقلتيك وانظر إلى آلامي ولوعتي. فاستفاق بيرام على نداء تسبا اللائعة، تلك الاستفاقة التي يسمونها استفاقة المنية، ورنا إليها رنوة ملأى بمعاني الحب والحنان واليأس، ثم أطبق عينيه إطباقة لا انفتاح لهما بعدها، فصرخت تسبا صرخة الثكلى أفقدها المصاب عقلها، وأخذت تقلب جسم بيرام في حركة المجنون، وتحنطه بالقبل والدموع، وإذا بها ترى منديلها الممزق المخضب بالدم، وقراب الخنجر الفارغ، فأدركت سر موت حبيبها، وهدأت تخاطبه بحزن واستسلام قائلة: إن يدك يا بيرام هي التي قتلتك حزنا علي، لتوهمك أن اللبؤة قد افترستني! ولكن يدك غير مجرمة في قتلك، وإنما أن المجرمة الوحيدة؛ لأن حبي هو الذي سفك دمك، فإن يكن هذا الحب قوى يدك فطعنت صدرك بخنجرك، فأنا لي أيضا يد قوية وفي قلبي حب يقويني لأمزق بخنجرك أحشائي، وأتبعك إلى ما وراء هذه الحياة. إن الموت وحده كان في قدرته أن ينتزعك مني فأدركك الموت، وسأتحداه وألتحق بك إلى حيث لا تفرقنا يد مفرق، فيا أبت المنكود الحظ، ويا أيها الوالد التاعس، والد حبيبي، إني أرفع إليكما رجاء عاشقين جمعهما الحب الأمين في مصير واحد، فارحماهما واجعلاهما يستريحا في قبر واحد، وأنت أيتها التوتة التي شهدت مصرع حبيبي وستشهد مصرعي، فلن تظلل بعد هنيهة إلا جثتين يلفهما الموت معا بملاءته السوداء، احفظي أثر استشهادنا في الحب، واحملي حتى الأبد أثمارا سوداء حدادا علينا، أثمارا سوداء تشهد بأن العاشقين المشئومي الطالع: بيرام وتسبا، قد سقياك دماءهما التي سفكتها يداهما.
قالت هذا وتناولت الخنجر من على الأرض ودم بيرام لا يزال عليه فاترا، وغرزته بين ثدييها، فسقطت فوق بيرام جثة هامدة.
حمل الإله النسيم رجاء تسبا إلى آذان الآلهة وآذان والدها ووالد بيرام، فرأف بها الآلهة وجمعوا روحها وروح بيرام، روحي شهيدي الحب جمعوهما معا في فردوسهم، حيث الربيع الأبدي المرصع بالورود والزنابق الطيبة الشميم، هناك في نهار دائم ونور نقي ولذة لا تنقضي يستظلان أشجارا حملها البخور وثمارها تفاح ذهبي، وينهلان من سلسبيل الآلهة تحيط بهما غبطة خالدة وفرح لا يزول، وأحرق والداهما جسميهما ووضعا رمادهما في إناء واحد دفناه في قبر مزروعة حوله أزاهير زكية العرف جميلة المرأى، ولبست التوتة ثوب حداد أبدي فهي منذ ذلك اليوم لا تثمر إلا أثمارا سوداء. (6) سليمان وبلقيس
حدثتنا توابع الجن قالت: كان في العهد القديم على بني إسرائيل ملك يقال له داود، عالي المكان في الأرض وعند الرب إلهه، مبسوط السلطان، وكان له ولد يقال له سليمان جمع إلى الذكاء والفطنة والحكمة حسن الشمائل وجمال الصورة، فكان يفضله على سائر إخوته مع أنه كان أصغرهم سنا. وذات يوم شعر داود بأن شمس حياته آذنت بالمغيب، فاستدعى إليه سليمان وقال له: يا بني، إن أيامي على الأرض صارت قليلة، وإني لأحس بأن موتي قريب، وقد استدعيتك لأستخلفك من بعدي على مملكة إسرائيل؛ لأني وجدتك أهلا لذلك، فقبل سليمان يدي أبيه ورأسه وبكى حزنا لدنو أجل والده، ثم انصرف وكتم أمره، وتزوج امرأة واستتر عن الناس، وأقبل على العبادة والعلم، ورأت امرأته قعوده عن الكدح في سبيل العيش، فقالت له في أحد الأيام: بأبي أنت وأمي ما أكمل خصالك وأطيب رائحتك. ولا أعلم لك خصلة أكرهها إلا أنك في مئونة أبي، فلو دخلت السوق فتعرضت لرزق الله لرجوت ألا يخيبك الله. فقال سليمان: إني ما عملت عملا منذ كنت ولا أحسنه، ثم دخل السوق صبيحة يوم فلم يقدر على شيء، فرجع وأخبرها فقالت: غدا يكون إن شاء الله. فلما كان اليوم الثاني مضى سليمان حتى انتهى إلى ساحل البحر، فإذا هو بصياد يلقي شبكته، فقال له سليمان: هل لك أن أعينك وتعطيني شيئا؟ قال: نعم. فأعانه، فلما فرغ أعطاه سمكتين، فأخذهما وحمد الله تعالى، وشق بطن إحداهما، فإذا هو بخاتم في بطنها فأخرجه ولبسه في أصبعه، فعكفت عليه الطير والريح، وخضعت له الجن والشياطين والعفاريت، ووقع عليه بهاء الملك وسناه.
ولم يلبث داود الملك أن مات، فقام سليمان مقامه في مملكة إسرائيل، وساس الرعية بالعدل، ورأى سليمان في نفسه حاجة إلى ما يوقع هيبته في نفوس مرتكبي الإثم، فأمر الجن بأن يتخذوا له كرسيا ليجلس عليه للقضاء، وأن يصنعوه بديعا مهيبا بحيث لو رآه مبطل أو شاهد زور ارتعد من هيبته، وكان بين الجن رجل صناع يقال له صخر. اشتهر ببراعته ودقة صنعته، فصنع لسليمان كرسيا من أنياب الفيل، وزينه باليواقيت واللؤلؤ والزبرجد، وحفه بأربع نخلات من ذهب شماريخها الياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر، وعلى رأس نخلتين منها طاوسان من ذهب، وعلى الأخريين نسران من ذهب، وجعل بين جنبي الكرسي في أسفله أسدين من ذهب، وعلى رأس كل واحد منهما عمودا من الزبرجد الأخضر، وعقد على النخلات دوالي من الذهب الأحمر، فإذا أراد سليمان أن يصعد بسط الأسدان له ذراعيهما، وإذا وضع رجله على الدرجة السفلى يستدير الكرسي بما فيه دوران الرحى، وينشر النسران والطاوسان أجنحتها، ويبسط الأسدان ذراعيهما، ويضربان الأرض بذنبيهما، وكذا يفعلان في كل درجة يصعدها، فإذا استوى في أعلى الكرسي أخذ النسران تاجه فوضعاه على رأسه، وإذا قعد أظله النسران بأجنحتهما ثم يستدير الكرسي بما فيه النسران والأسدان، وينضح الطاوسان على رأسه المسك والعنبر، فيتناول سليمان حمامة من الذهب فيها التوراة، فيقرأها على الناس، ويقضي فيهم بحسب ما ترسمه.
ولم يكن الإنس وحدهم يحتكمون إلى سليمان، وإنما كان يحتكم إليه الجان فيقضي بينهم، ويحتكم إليه الطير والوحوش والبهائم، وقد آتاه الله فهم منطقها، فيقضي بينها بالحق، وكان يفسر كل صوت سمعه من أصوات الطير: فالقمري يقول في تغريده: سبحان ربي الأعلى الوهاب. ويقول النسر: يا ابن آدم، عش ما شئت آخرك الموت. وروي أنه سمع فاختة تصيح، فأخبر أنها تقول: ليت الخلق لم يخلقوا. وأنه مر ببلبل يصوت ويترقص فقال: يقول: إذا أنا أكلت نصف ثمرة فعلى الدنيا العفاء.
ونال سليمان من المجد والسلطان ما لم ينله ملك من ملوك زمانه، وعظم جنده حتى كان معسكره مائة فرسخ في مائة فرسخ: خمسة وعشرون فرسخا للإنس، وخمسة وعشرون للجن، وخمسة وعشرون للطير، وخمسة وعشرون للوحوش، وكان حرسه اثني عشر ألف فارس، ومركباته الحربية ألفا وأربعمائة مركبة. ولم يكن يخرج إلى حج أو غزو إلا حمل معه زوجاته وسراريه، وسار في جنده وحشمه وخدمه وكتابه ومطابخه ومخابزه وتنانير الحديد والقدور العظام، ورأى ما في نقلة هذه الأثقال والأحمال من صعوبة، فأمر الجن فصنعوا له بساطا ذهبا في إبريسم فرسخا في فرسخ، ووضعوا في وسطه سريرا يجلس فيه وحوله كراسي من ذهب وفضة، فيقعد الأنبياء على كراسي الذهب والعلماء على كراسي الفضة وحولهم الناس والجن والشياطين، وتظلله الطير بأجنحتها لئلا تقع عليه الشمس، وترفع ريح الصبا البساط فتسير به مسيرة شهر بالغداة ومسيرة شهر بالعشي.
غير أن هذا البساط لم يكن ليسع معسكره ودوابه وآلة حربه حينما كان يذهب إلى الغزو، فكان يأمر بأن تضرب خشب فينصب على الخشب سريره، ويحمل عليها الناس والدواب وآلة الحرب، حتى إذا حمل ما يريد أمر العاصف من الريح، فدخل تحت تلك الخشب فحملها، فإذا استقلت أمر سليمان الرخاء، فمرت به شهرا في غدوته وشهرا في روحته، فيطبخ الطباخون ويخبز الخبازون ويطعم الأهل والحشم والخدم والجنود والدواب، هذا والريح تهوي به هويا إلى حيث أراد.
وكان سليمان تقيا ملأ قلبه حب الله وخوفه، فبنى هكيلا للرب في أورشليم، بناء فخما جميلا زانه بالعاج والجواهر الكريمة والذهب والفضة والبلور، وأخشاب لبنان من أرز وسرو وصندل، وبنى كذلك لسكناه منزلا من أرز لبنان سماه غابة الأرز، وبيتا من قوارير مرتفعا على الخشب لزوجاته وسراريه، ولما فرغ من بناء بيت المقدس عزم على الخروج إلى أرض الحرم، فتجهز للمسير واستصحب من الإنس والجن والشياطين والطيور والوحوش ما يبلغ معسكره فرسخا في فرسخ، فحملتهم الريح على بساطه، فوافى الحرم وحج وأقام فيه ما شاء الله، وكان ينحر في كل يوم مقامة خمسة آلاف ناقة ويذبح خمسة آلاف ثور وعشرين ألف شاة.
وبعد أن قضى حجه سافر نحو اليمن، فوافى صنعاء وقت الظهيرة، فرأى أرضا حسناء تزهو خضرتها فأعجبته نزاهتها، فأحب النزول فيها ليصلي ويتغدى، فهبطها ببساطه، ودخل وقت الصلاة، وكان سليمان قد نزل على غير ماء، فسأل الإنس والجن والشياطين عن الماء فلم يعلموا، وكان الهدهد - وهو رائد سليمان وقافيه - لأنه يحسن طلب الماء، قد قال في نفسه، حين نزل سليمان في تلك الأرض الحسناء: إن سليمان قد اشتغل بالنزول، فأرتفع إلى السماء وأنظر إلى طول الأرض وعرضها. فارتفع فنظر يمينا وشمالا، فرأى بستانا نضرا في أرض اليمن، فمال إلى الخضرة فوقع فيه، فإذا بهدهد هنالك فهبط عنده، وكان اسم هدهد سليمان يعفور واسم هدهد اليمن عنفير، فقال عنفير اليمن ليعفور سليمان: من أين أقبلت وأين تريد؟ قال: أقبلت من الشام مع صاحبي سليمان بن داود. قال: ومن سليمان؟ قال: ملك الجن والإنس والشياطين والطير والوحوش والرياح. صاحب الخاتم المرصود ورب بساط الريح، فمن أين أنت ؟ قال: أنا من هذه البلاد. قال: ومن ملكها؟ قال: امرأة تدعى بلقيس. فإن كان لصاحبك ملك عظيم فليس ملك بلقيس دونه، فإنها ملكة اليمن كلها وتحت يدها اثنا عشر ألف قائد تحت كل قائد مائة ألف مقاتل، وقومها مائة ألف قيل، مع كل قيل مائة ألف مقاتل. فهل أنت منطلق معي حتى تنظر إلى ملكها؟ قال يعفور: أخاف أن يتفقدني سليمان في وقت الصلاة إذا احتاج إلى الماء. قال عنفير: إن صاحبك ليسره أن تأتيه بخبر هذه الملكة. فانطلق يعفور ونظر إلى بلقيس وملكها وتعرف أمرها، وما رجع إلى سليمان إلا وقت العصر.
وكان سليمان قد تفقد الهدهد؛ لأنه احتاج إلى الماء لأجل الوضوء والهدهد رائده، ولأن الهدهد قد أخل بالنوبة؛ فإن سليمان كان إذا نزل منزلا يجله وجنده الطير من الشمس، فأصابته الشمس من موضع الهدهد إذ وقعت نفحة منها على رأسه، فنظر فرأى موضع الهدهد خاليا فدعا النسر، عريف الطير، فسأله فقال النسر: أصلح الله الملك ما أدري أين هو وما أرسلته مكانا. فغضب سليمان عند ذلك، وقال: لأعذبنه عذابا شديدا، ثم دعا العقاب، سيد الطير، فقال: علي بالهدهد الساعة. فرفع العقاب نفسه دون السماء حتى التزق بالهواء، ونظر إلى الدنيا كالقصعة بين يدي الآكل، ثم التفت يمينا وشمالا، فإذا هو بالهدهد مقبل من نحو اليمن، فانقض نحوه يريده، فلما رأى الهدهد ذلك علم أن العقاب يقصده بسوء فناشده فقال: بحق الذي قواك وأقدرك علي إلا رحمتني ولم تتعرض لي بسوء. فولى عنه العقاب وقال له: ويلك، ثكلتك أمك! إن نبي الله قد حلف أن يعذبك أو يذبحك، ثم طارا متوجهين نحو سليمان، فلما انتهيا إلى المعسكر تلقاه النسر والطير، فقالوا له: ويلك أين غبت في يومك هذا؟ فلقد توعدك نبي الله. وأخبروه بما قال سليمان. فقال الهدهد: وما استثنى رسول الله؟ قالوا: بلى، قال: أو ليأتيني بسلطان مبين. قال يعفور: نجوت إذا. ثم انطلق العقاب والهدهد حتى أتيا سليمان وكان قاعدا على كرسيه، فقال العقاب: قد أتيتك به يا نبي الله. فلما قرب الهدهد طأطأ رأسه وأرخى ذنبه وجناحيه يجرها على الأرض تواضعا لسليمان، فلما دنا منه أخذ سليمان برأسه فمده إليه، وقال: أين كنت؟ لأعذبنك عذابا شديدا. قال الهدهد: يا نبي الله، اذكر وقوفك بين يدي الله عز وجل. فلما سمع سليمان ذلك ارتعد فرقا وعفا عنه، ثم سأله فقال: ما الذي أبطأك عني؟ فألهم الله الهدهد أن يقول له: قد أحطت علما بما لم تحط به. قال سليمان: وماذا؟ قال: عجت على سبأ في اليمن، فوجدت ملكة عظيمة في مجدها وسلطانها وجمالها. قال سليمان: ومن هي؟ قال الهدهد: هي بلقيس بنت شرحبيل بن مالك بن الريان. كان أبوها ملكا عظيم الشأن منبسط السلطان، وكان يملك أرض اليمن كلها، ويقول لملوك الأطراف: ليس أحد منكم كفؤا لي، وأبى أن يتزوج فيهم، فخطب إلى الجن فزوجوه امرأة منهم يقال لها ريحانة بنت السكن. قال سليمان: وكيف وصل إلى الجن؟ قال الهدهد: أخبرني هدهد اليمن سبب وصول الملك شرحبيل إلى الجن قال: إن شرحبيل خرج مرة إلى الصيد فوجد حيتين سوداء وبيضاء تقتتلان. وقد ظهرت السوداء على البيضاء. فقتل السوداء وحمل البيضاء وصب عليها ماء حتى أفاقت فأطلقها وعاد إلى داره وجلس منفردا، وإذا بجانبه شاب جميل فذعر شرحبيل، فقال الشاب: لا تخف أنا الحية البيضاء التي أنجيتها. والأسود الذي قتلته هو عبد لنا تمرد علينا وإني مكافئك. قال الملك: وبم تريد أن تكافئني؟ قال الجني: أدلك على الدفائن والكنوز. قال الملك: لا حاجة لي في المال. قال الجني: أعلمك علم الطب. قال الملك: إن الطب قبيح بالملوك. قال الجني: أما وقد أبيت هذين فإن لي بنتا جميلة يقال لها ريحانة. لم يكن في بني آدم مثلها في الجمال، فإن جئت أزوجكها لكن بشرط أن لا تسألها عما تفعل، فإنك إن سألتها عما فعلت ثلاث مرات غابت عنك ولم ترها. فقبل الملك بالشرط وجاءه الجني، واسمه السكن، ببنته ريحانة، فتزوجها ورجع بها إلى منزله، فحملت منه ببنت، ولما ولدتها ظهرت نار فقذفتها فيها، فقال الملك: لم فعلت هذا؟ قالت: أما شرطت لا تسألني عما أفعل؟ فهذه واحدة من الثلاث فاحفظها، ثم ولدت له ابنا، فجاء كلب فوضعته في فيه، فذهب به الكلب فصاح الملك وقال: لم فعلت؟ قالت: ألم نشترط أن لا تسألني عما أفعل؟ فهاتان ثنتان. وكان في ذلك الزمان ملك اسمه ذو عوان بينه وبين شرحبيل عداوة، فاحتال ذو عوان واصطلح مع شرحبيل، وصنع له طعاما ودعاه إليه، فحضره ومعه امرأته ريحانة، فلما وضع الطعام بين يدي الملك ألقت ريحانة فيه الروث، فرفع الملك يده عن الطعام، وقال: لم فعلت؟ فقالت: أما شرطت لا تسألني عما أفعل؟ فهذه الثالثة. وسأخبرك بتأويل ما فعلت. أما النار والكلب اللذان رأيتهما فهما ظئران سلمت إليهما الولدين لئلا يكون لي تعب في تربيتهما، فإذا كبرا يردانهما عليك، وأما الروث الذي ألقيته في الطعام ففعلته لئلا تأكل من ذلك الطعام المسموم فتهلك؛ لأنهم سموه لك، وها أنا ذا أرد عليك بنتك فإن ابنك قد مات عند حاضنته، هذا تأويل ما فعلت. قالت هذا وغابت عن عينيه، وإذا بجويرية قد خرجت من الأرض وهي بلقيس، وانقض شرحبيل بمن كان معه من رجال على عدوه ذي عوان فظفر به، وعاد وبنته إلى مأرب عاصمة ملكه.
وما ترعرعت بلقيس، وصارت امرأة ذات جمال ورأي وتدبير، حتى مات أبوها دون وصية، فطمعت بالملك ولم يكن له ولد غيرها، وطلبت من قومها أن يبايعوها فأطاعها قوم وأبى آخرون، وملكوا عليهم رجلا يقال إنه ابن أخ لأبيها. وكان هذا الملك فاحشا خبيثا فاسقا أساء السيرة في أهل مملكته حتى كان يمد يده إلى حرم رعيته ويفجر بهن، ولم يكن يبلغه عن بنت جميلة إلا أحضرها وهتكها، فأراد قومه خلعه فلم يقدروا عليه، فلما رأت بلقيس ذلك أدركتها الغيرة، وكان قد طلب منها الحضور إليه، فأرسلت تقول له: بل احضر أنت إلي. فلما جاءها عرضت نفسها عليه، فأجابها: ما منعني أن أبتدئك بالخطبة إلا اليأس منك. فقالت: لا أرغب عنك فإنك كفؤ كريم، فاجمع رجال قومي واخطبني إليهم. فجمعهم وخطبها فقالوا: لا نرى تفعل. فقال: بلى إنها قد رغبت في. فذكروا ذلك لها فقالت: نعم. فزوجوها به، فلما زفت إليه خرجت في أناس كثيرة من حشمها وخدمها، وعند المساء اختلت به وسقته الخمر حتى سكر فحزت رأسه، وانصرفت إلى منزلها من الليل، ولما أصبحت أمرت بأن يعلق رأسه على باب دارها، ثم أرسلت إلى وزرائه وأحضرتهم وقرعتهم، وقالت لهم: أما كان فيكم من يأنف لكريمته أو لكرائم عشيرته؟ ثم أرتهم إياه قتيلا، وقالت: اختاروا رجلا تملكونه عليكم. فأدركوا أن زواجها بالملك لم يكن إلا غدرا وخديعة، وأجابوها قائلين: لا نرضى غيرك. وملكوها عليهم، فجلست على سرير الملك مكان أبيها فأطاعها الملوك، وكانت تجلس من كل أسبوع يوما للحكومة، وتحجب عن الناس بأن تلقي ستورا رقيقة دونهم بحيث تراهم ولا يرونها، والناس وقوف في حضرتها مطرقون رءوسهم من هيبتها، وإذا كان لأحد عندها حاجة يسجد لها أولا، ثم يعرض حاجته في حضرتها فتحكم بها، وإذا فرغت من الحكومة وانصاف المظلوم من الظالم تدخل بيتها السابع وتغلق الأبواب وتحرسها ألوف الحراس.
وبلقيس وقومها مجوس يعبدون الشمس، وقد بلغ من عزتها أن جعلت لنفسها عرشا عظيما فخما ثمانين ذراعا في ثمانين طولا وعرضا، كله من ذهب وفضة مرصع بأنواع الجواهر والدر والياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر، وقوائمه من ياقوت أحمر وأخضر ودر وزمرد، وعليه سبعة أبيات على كل بيت باب مغلق.
ولما فرغ الهدهد من كلامه قال سليمان: سننظر أصدقت فيما أخبرت أم كنت من الكاذبين. ثم كتب كتابا صورته: من عبد الله سليمان بن داود إلى بلقيس ملكة سبأ. بسم الله الرحمن الرحيم، والسلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فلا تعلوا علي وأتوني مسلمين. وطبعه بالمسك وختمه بخاتمه وقال للهدهد: اذهب بكتابي هذا فألقه إلى بلقيس وقومها، ثم تول وتنح عنهم إلى مكان قريب بحيث تراهم ولا يرونك، ليكون ما يقولون بمسمع منك ومرأى. فأخذ الهدهد الكتاب بمنقاره وطار به .
وكانت بلقيس في عاصمتها مأرب، وهي من صنعاء على ثلاثة أيام، فوافاها الهدهد في قصرها وقد أغلقت الأبواب، وكانت إذا رقدت غلقت الأبواب وأخذت المفاتيح فوضعتها تحت رأسها، فأتاها الهدهد وهي مستلقية على قفاها راقدة، فدخل عليها من كوة، وألقى الكتاب على نحرها بحيث لم تشعر به وتوارى في الكوة، فانتبهت بلقيس فزعة ورأت الكتاب وكانت قارئة، فلما رأت الختم ارتعدت؛ لأن ملك سليمان كان في خاتمه، وعرفت أن الذي أرسل الكتاب أعظم ملكا منها، فجمعت الملأ من قومها فجاءوا فأخذوا مجالسهم، وقالت لهم خاضعة خائفة: أيها الملأ، إني ألقي إلي كتاب كريم حسن مضمونه وما فيه. يا أيها الملأ أفتوني وأشيروا علي. قالوا: نحن أولو قوة وأولو بأس شديد، والأمر إليك، فانظري ماذا تأمرين. قالت: إني مرسلة إليه بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون بقبولها أو ردها. فإن كان ملكا قبلها وانصرف عنا، وإن كان نبيا ردها ولم يرض منا إلا أن نتبعه على دينه. فبعثت خمسمائة غلام عليهم ثياب الجواري وزيهن وحليهن، وخمسمائة جارية عليهن زي الغلمان. أرسلتهم على خيول مسومة سروجها من الذهب، وجعلت في سواعدهم أساور من ذهب، وفي أعناقهم أطواقا من ذهب، وفي آذانهم أقراطا وشنوفا مرصعات بأنواع الجواهر. وأرسلت ألف لبنة؛ خمسمائة لبنة من ذهب وخمسمائة من فضة، وتاجا مكللا بالدر والياقوت، وبعثت بالمسك والعنبر والعود، وبحقة فيها درة ثمينة عذراء غير مثقوبة، وجزعة مثقوبة معوجة الثقب، يحملها رسل من قومها أصحاب رأي وعقل أمرت عليهم رجلا من أشراف قومها يقال له المنذر بن عمرو. وكتبت كتابا فيه نسخة الهدايا، وقالت فيه: إن كنت نبيا فميز بين الوصفاء والوصائف، وأخبر بما في الحقة قبل أن تفتحها، واثقب الدرة ثقبا مستويا، واسلك في الخرزة خيطا من غير علاج إنس ولا جان. وأمرت الغلمان وقالت: إذا كلمكم سليمان فكلموه بكلام تأنيث وتخنيث يشبه كلام النساء. وأمرت الجواري أن يكلمنه بكلام فيه غلظة يشبه كلام الرجال، ثم قالت للمنذر: إن نظر إليك نظر غضبان فهو ملك فلا يهولنك منظره، وإن رأيته بشاشا لطيفا فهو نبي.
وكان الهدهد يسمع ما دار من الحديث، ولما وعاه كله انطلق مسرعا ليخبر سليمان، فسبقه جبريل وأخبر سليمان بالحال، فأمر سليمان الجن فضربوا لبنات الذهب والفضة وفرشوها في ميدان بين يديه طوله تسعة فراسخ، وجعلوا حول الميدان حائطا شرفه من الذهب والفضة، وأمر الشياطين فأتوا بأحسن الدواب في البر والبحر، فربطوها عن يمين الميدان وعن يساره على لبنات الذهب والفضة، وألقوا علوفتها فيها، وأمر بأولاد الجن فأتوا خلقا كثيرا، وأقاموا عن اليمين وعن اليسار. ثم قعد سليمان في مجلسه على سريره ووضع له أربعة آلاف كرسي عن يمينه ومثلها عن يساره، واصطفت الشياطين صفوفا فراسخ، والوحوش والسباع والطير صفوفا فراسخ، فلما دنا الرسل ووصلوا إلى معسكره والميدان، ورأوا عظمة شأنه وملكه والدواب التي لم تر عيونهم مثلها تروث على لبن الذهب والفضة، تقاصرت إليهم أنفسهم، وكان سليمان لما أمر بفرش الميدان بلبنات الذهب والفضة، أمرهم أن يتركوا على طريق الرسل موضعا على قدر اللبنات التي معهم، فلما رأت الرسل موضع اللبنات خاليا وكل الأرض مفروشة خافوا أن يتهموا، فطرحوا كل ما كان معهم في ذلك المكان، ولما نظروا إلى الشياطين رأوا منظرا عجبا ففزعوا، فقال لهم الشياطين: جوزوا فلا بأس عليكم. وكانوا يمرون على كردوس من الجن وكردوس من الإنس وآخر من الطير وغيرها من السباع والوحوش حتى وصلوا بين يدي سليمان، فنظر إليهم نظرا حسنا بوجه طلق، ثم قال لهم: ما وراءكم؟ فأخبره المنذر رئيس القوم وأعطاه كتاب الملكة، فنظر فيه وقال: أين الحقة؟ فأتي بها فحركها، فجاء جبريل، لا يراه أحد، فهمس في أذنه وأخبره بما فيها، فقال سليمان: إن فيها لدرة ثمينة غير مثقوبة وجزعة مثقوبة معوجة الثقب. فقال الرسول: صدقت، فاثقب الدرة وأدخل الخيط في الخرزة. فقال سليمان: من لي بثقبها؟ وسأل الإنس والجن فلم يكن عندهم علم ذلك، ثم سأل الشياطين فقالوا: أرسل إلى الأرضة. فجاءت الأرضة فأخذت شعرة في فيها، ودخلت في الدرة ثم خرجت من الجانب الآخر. فقال لها سليمان: ما حاجتك؟ فقالت: تصير رزقي في الشجر. قال: لك ذلك. ثم قال: من لهذه الخرزة يسلكها في الخيط؟ فقالت دودة بيضاء: أنا لها. فأخذت الدودة البيضاء الخيط بفيها، ودخلت الثقب حتى خرجت من الجانب الآخر. فقال لها سليمان: ما حاجتك؟ قالت: تجعل رزقي في الفواكه. قال: لك ذلك. ثم دعا بالماء وعرضه على الغلمان والجواري ليغسلوا أيديهم. فكانت الجارية تأخذ الماء في يدها وتجعله في الأخرى، ثم تضرب به وجهها، والغلام كما يأخذ الماء يضرب به وجهه، فميز بذلك سليمان بين الوصفاء والوصائف، ثم رد الهدية وقال للمنذر: ارجع إليهم، فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولا طاقة، ولنخرجنهم من سبأ أذلة بذهاب عزهم وهم صاغرون أسرى مهانون.
قالت التوابع: ولما رجع الرسل إلى بلقيس بالهدايا التي ردها سليمان وقصوا عليها القصة، قالت: هو نبي، وما لنا به طاقة. وبعثت إلى سليمان إني قادمة إليك بملوك قومي؛ لأنظر ما الذي تدعو إليه. ثم جعلت عرشها في آخر سبعة أبيات بعضها في بعض، في آخر قصر من سبعة قصور لها، وأغلقت دونه الأبواب، ووكلت به حرسا يحفظونه، وشخصت إلى سليمان بجيشها اللهام حتى وصلت على مسيرة فرسخ منه، فخرج سليمان ذات يوم على سرير ملكه، فرأى رهجا قريبا منهم، فقال: ما هذا؟ قالوا: بلقيس نزلت منا بهذا المكان.
وكان الجن قد علموا أن بلقيس آتية سليمان، وأنه ربما تزوجها فتفشي له أخبار الجن؛ لأنها جنية تربت عندهم، وخافوا أن يولد له منها ولد فتجتمع له فطنة الإنس والجن، فيخرجوا من ملك سليمان إلى ملك أشد منه لا ينفك عن تسخيرهم من بعد أبيه، فعزموا على أن يحولوا بين بلقيس وسليمان، فجاءوا سليمان وأساءوا القول فيها أمامه وقبحوها له، وقالوا: إن في عقلها شيئا وهي شعراء الساقين ورجلها كحافر الحمار. فأراد سليمان أن يختبر عقلها، كما فعلت هي بالوصفاء والوصائف، وأن يتعرف ساقيها ورجلها، ويريها بعض العجائب الدالة على عظيم قدرته وصدقه في دعوى النبوة، فأقبل على جنده فقال: يا أيها الملأ، أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين؟ فقال صخر الجني، وكان بمنزلة جبل يضع قدمه عند منتهى طرفه: أنا آتيك به قبل أن تقوم من مجلسك للحكومة - وكان سليمان يجلس إلى نصف النهار - وإني على حمله لقوي أمين لا أختزل منه شيئا ولا أبدل به آخر. قال سليمان: أريد أسرع من هذا. فتقدم آصف بن برخيا وزيره على الجن، فقال له سليمان: ائتني بعرشها. فقال برخيا: آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك، مد عينيك حتى ينتهي طرفك ثم أعده. فمد سليمان عينيه نحو اليمين ثم ردهما فإذا عرش بلقيس بين يديه، ذاك أن آصف بن برخيا كان مؤمنا، فدعا الله فبعث الله الملائكة فحملوا السرير من تحت الأرض يخدون بطنها خدا حتى انخرقت الأرض بالسرير بين يدي سليمان.
ولما رأى سليمان العرش بين يديه قال: نكروه لها، غيروا هيئته وشكله واجعلوا مقدمه مؤخره وأعلاه أسفله، وضعوا الجوهر الأخضر مكان الأحمر والجوهر الأحمر مكان الأخضر ننظر هل تهتدي إلى معرفة عرشها وقد خلفته في مأرب وراءها مغلقة عليه الأبواب موكلة به الحراس؟ أو تهتدي إلى الجواب الصواب إذا سئلت عنه أو لا، ثم أمر فبنوا له صرحا صحنه من زجاج أبيض مملس تحته زجاج أخضر عليه تماثيل حيتان البحر وأسماكه وضفادعه، حتى أن كل من نظر إليه ظنه لجة، ونصب سريره في صدره.
وجاءت بلقيس فترجلت، ومشت إلى الصرح فقادها آصف ابن برخيا إلى حيث وضع عرشها وسألها: أهذا عرشك؟ فنظرت إليه فعلمت أنه عرشها ولكنها أرادت أن تشبه عليهم كما شبهوا عليها، فقالت: كأنه هو. وقد أجابت أحسن جواب، ولم تقل: هو. لاحتمال أن يكون مثله، وذلك لاكتمال عقلها. قال آصف: فادخلي الصرح. فلما دخلته رأت صحنه فحسبته لجة فكشفت عن ساقيها لتخوضها، وقالت في نفسها: إن سليمان يريد أن يغرقني وكان القتل علي أهون. فلما رآها سليمان رأى أحسن الناس ساقا وقدما إلا أنها شعراء الساقين، فصرف بصره عنها ثم قال لها: إن ما تظنين ماء صرح ممرد مستو من قوارير. وأراد سليمان أن يتزوجها، فكره شعر ساقيها، فعملت له الشياطين النورة والحمام، فكانت النورة والحمام منذ ذلك اليوم. فطلت بلقيس ساقيها فسقط شعرهما، ثم تزوجها سليمان وأقرها على ملكها وأمر الجن فابتنوا لها في أرض اليمن ثلاثة حصون لم ير مثلها ارتفاعا وهي: بينون وسلحين وغمدان. وولدت بلقيس لسليمان غلاما سماه داود مات في حياة أبيه، ثم ماتت بلقيس قبل سليمان، في الشام، فدفنها في تدمر وأخفى قبرها عن الناس. ولما قضى الله على سليمان الموت مات وهو قائم على عصاه، ومكث حولا ميتا والجن يعملون تلك الأعمال الشاقة التي كلفهم إياها، يعملونها على عادتهم لا يشعرون بموته حتى أكلت الأرضة عصاه فخر على الأرض، فتبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين.
ولما كشف الجن موته، بعد أن دلتهم عليه دابة الأرض، أقبل رجل منهم فسلك تهامة حتى إذا كان في جوف اليمن صرخ بأعلى صوته: يا معشر الجن، إن سليمان قد مات فارفعوا أيديكم. فرفعوا أيديهم وتفرقوا.
القسم الثاني
(1) أدونيس وعشتروت
المقدمة
لم يكن أدونيس وعشتروت إلهين فينيقيين حسب، وإنما كانت عبادتهما مزدهرة في كل الأصقاع التي أثر فيها الفكر الفينيقي والمدنية الفينيقية، ويعتقد المستشرق ج. فرايزر في كتابه «أدونيس» أن عبادة هذا الإله نشأت عند الشمريين، ثم انتقلت إلى بابل فإلى فينيقية في القرن السابع قبل المسيح.
واسم أدونيس الأصلي «تموز»، ومعناه في اللغة الشمرية: «الابن الحقيقي للماء العميق»، أما لفظة «أدونيس أو أدون» فسامية معناها «سيدي» كانوا يلقبون بها «تموز» احتراما له، فجعلها اليونانيون علما لهذا الإله، وتناسوا اسمه الأصلي.
ويزعم القبرسيون القدماء أن أدونيس هو ابن ملكهم سينيراس، وهذا الملك هو الذي وضع شريعة الزناء المقدس في معبد أدونيس وفينوس، في جزيرة بافوس، الواقعة من قبرس في جنوبها الشرقي، وقد تولى أدونيس الملك بعد أبيه، وليس اسمه إلا لقبا حمله كل أبناء الملوك الفينيقيين في جزيرة قبرس.
وأدونيس هو أحد الآلهة الذين رمزوا إلى القوات المنتجة في الطبيعة، وقد اعتبروه روح الحقل، ويوائم موته وبعثه تبدل الفصول أو تواري الحياة النباتية في الشتاء وظهورها في الربيع، ومغزى خرافته هو الكفاح بين قوات الحياة وقوات الموت، بين العالم الأرضي وعالم تحت الأرض، حتى إنهم زعموا أن سيطرة الحب تقف في أثناء غياب أدونيس في الجحيم، فينقطع البشر والحيوانات عن إنتاج الجنس، وتهدد الحياة كلها بالفناء.
أما عشتروت فإلهة أشركها عبادها في كل الأعمال الجنسية في المملكة الحيوانية، فهي المولدة لكل شيء والممثلة لقوة توليد الطبيعة، وليست عشتروت إلا عشتار البابلية وأفروديت اليونانية وفينوس الرومانية والزهرة العربية، فأسطورة أدونيس إذا شمرية بابلية فينيقية قبرسية يونانية رومانية، وقد استلهمها الشعراء منذ الزمان القديم وتغنوا بها وتفننوا في تلوين صورها ما شاء لهم خيالهم.
المعجم
الشمريون:
شعب كان في فجر التاريخ ينزل في السهول المنبسطة بين دجلة والفرات قرب الخليج الفارسي، وقد أصيبت بلادهم قبل المسيح بثلاثة آلاف سنة بطوفان عرف في التاريخ بالطوفان الشمري، فاجتاحها وهدم مدنها التي كانت في ملء ازدهارها، ولكنها لم تلبث أن عادت إليها الحياة، وانبعثت مدنها وفيها «نيبور» المدينة المقدسة، ثم أخذت تطغى عليها رمال البحر، فكافحت طغيانها فلم تستطع ردها، حتى تلاشت نفسا في نفس، وبادت مدنيتها ونشأت على أنقاضها المدنية البابلية.
فينوس:
هي بنت جوبيتر والحورية ديونه بنت أورانوس (السماء) وريا (الأرض)، وكانوا يزعمون كذلك أنها تولدت من زبد البحر، فخرجت منه في صدفة لؤلؤية عارية ترفع بيديها شعرها الطويل المبلل، ومعنى اسمها الغرام أو الوصال والعرب يسمونها الزهرة، ويسميها الفينيفيون عشتروت، وقد سميناها - في الأسطورة - فينوس حينما كان مدار عملها خارج لبنان، ثم سميناها عشتروت منذ اجتمعت بأدونيس في أفقا حتى آخر الأسطورة، وعشتروت أو فينوس هي إلهة الحب والتهتك وربة الجمال.
كوبيدون:
هو إيروس اليوناني، إله الحب، وكانوا يمثلونه ولدا أشقر جميلا مجنحا مسلحا بقوس، وحاملا على كتفه جعبة ملأى بالسهام، وعيناه معصوبتان يرمي القلوب بسهامه، فتقع حيث اتفق لها الوقوع.
المر:
مادة صمغية عطرية كان عباد أدونيس يحرقونها في معابده؛ لأنها دموع الشجرة التي تحولت إليها أمه.
فرسفين:
ملكة الجحيم. ومعنى اسمها مميتة، جلابة الموت. أبوها زفس «جوبيتر» وأمها ذيتيمير «سيريس» أي الأرض الوالدة إلهة الزروع والخصب والحصاد.
ديانا:
أو فيبه. كانت إلهة تمثل القمر. إلهة برية تطوف في الغابات والجبال الموحشة تصحبها عصبة من الحوريات.
قبرس:
لفظة يونانية معناها حناء. (2) أسطورة أدونيس والشعراء
نثبت على الصفحات التالية ما أوحته هذه الأسطورة إلى الشعراء في بعض الآداب العالمية.
في الأدب البابلي
نواح القيثارات على تموز
لما توارى ناحت هاتفة: يا ولدي!
لما توارى تنهدت زافرة: يا سيدي!
لما توارى ارنت معولة: يا سروري ودليلي!
لما توارى أنت حسرة.
أرسلت أنتها في «إيانا» بين الجبال والأودية.
عويل أسرة لا رب لها، هكذا عويلها.
نواح مدينة لا سيد لها، هكذا نواحها.
تنوح على العشب لا جذور له.
تنوح على القمح لا سنابل له.
بقي بيتها لا فرح فيه.
هي امرأة منهوكة وولد ملول ذوى قبل أوانه.
تبكي النهر الكبير حيث لا تنمو صفصافة.
تبكي حقلا لا ينبت قمح ولا عشب فيه.
تبكي غديرا هجرته الأسماك.
تبكي بقاعا عارية من القصب.
تبكي الغابات غاب الأثل عنها.
تبكي السهل لا ينهض السرو فيه.
تبكي البستان الظليل لا قفير فيه ولا كرمة.
تبكي المروج المعراة من الأزهار.
تبكي قصرا غادرته الحياة الطويلة.
في الأدب الإنكليزي
لقاء فينوس وأدونيس لشكسبير
ما كادت الشمس تستقبل بوجهها القرمزي آخر وداع من الفجر الباكي حتى مضى أدونيس بخديه الورديين إلى الغاب، كان يحب الصيد ويهزأ بالحب، ومشت عشتروت الكئيبة إليه، ودنت منه بجرأة العاشق قائلة: أنت يا من أنت أجمل مني بثلاث مرات، يا زهرة المرج الطرية التي لا شبيه لطيبها، أنت الذي يكسف حسنه حسن حوريات الماء. يا ألطف الخلق! إنك أشد بياضا من الحمام وأكثر احمرارا من الورد، والطبيعة التي صورتك تناقض نفسها في قولها: إن العالم ينتهي بانتهاء حياتك.
تنازل أيتها الآية العجيبة وترجل عن جوادك واربط في سرجه عنانه المحبوك من فوق رأسه المتعجرف، وإذا أصغيت إلي وأوليتني هذه المنة علمتك ألف نجوى لذيذة عذبة. تعال واجلس حيث لا أفعى دنست الأرض، وحين تقعد أغمرك بالقبل، لماذا أنت مطبق شفتيك لا تشبعهما من القبل، تجوعهما مع أنهما خصبتان بالنضارة؟
قالت هذا وأمسكت كفه الممتلئة حياة وهي ترتجف غراما، ثم جمعت قواها وهي في ملء اضطرابها لتحدره عن فرسه، أمسكت لجام الفرس بيد، وبالأخرى ذاك الصبي الطري وقد احمرت وجنتاه حياء وأظهر بحركة من شفتيه نفوره، كانت عشتروت الممتلئة شهوة محمرة كالجمرة لاشتعالها بحرارة الحب، وكان هو باردا محمر الوجه من الخجل، ربطت فرسه وحاولت ربطه بقوتها البدنية لا باستسلامه إليها.
من قصيدته «أدونيس»
في الأدب الفرنسي
بكاء فينوس على أدونيس للافونتين
إن حبي لم يستطع أن يحببك بالحياة، تتركني أيها القاسي، فعلى الأقل أظهر أنك تحس وداعي المحزن، انظر بأي ألم أصيبت حبيبتك، ويلاه! بكيت كثيرا ولكنه لا يسمع نواحي، إن ليلا أبديا يكرهه على تركي، فلا دموعي ولا تنهداتي تستطيع إمساكه، وليتني أقدر أن أتبعه إلى تلك الأماكن المظلمة.
أيها المقدور إذا كنت قد شئت أن تراه يفنى سريعا، أترى من الواجب إكراهي على أن لا أموت أبدا؟
يا فينوس التاعسة، ماذا تفيدك هذه الدموع؟ تبجحي الآن بسلطان مفاتنك! إنها لم تستطع أن تعصم حبك من الموت.
الوداع إذا يا ذا النفس الجميلة!
احمل إلى ما بين الأموات هذه القبلة المشتعلة.
إنني لن أراك أبدا، فالوداع يا أدونيس العزيز.
من قصيدته «أدونيس وعشتروت»
في الأدب اللبناني
من خطاب على لسان أدونيس لهكتور خلاط
ما دام جسدي سيتحول يوما إلى تراب، أود ساعة أنحدر إلى الجحيم، أن أجتاز بخطوة المتكبر عتبة القبر الباردة، حتى لا يبدو للفانين ميت أجمل مني. وحينما تستعاد ذكرى صورتي المتنائية، بشرية كانت أو فوق البشرية، وهمية أو حقيقية، فعذارى صيدون وغرانيق صور يحلمون بأن يسيروا في موكبي الذهبي، وهم موقنون من أنهم في اتباعهم أثري يصلون، دون عائق، إلى الشواطئ المعتمة التي تحوم عليها الأطياف الشاحبة، والشعراء الخلص، الذين لا يؤمنون بسوى الحلم، يجهدون أن يتغنوا في شعرهم، برزيئتي على قيثارتهم المجنحة، باذلين قواهم في إذاعة اسمي على كل ريح.
وهكذا حين أنام نومة الأبد كاسف اللون مشوها متجلي الصورة تمجدني أناشيد البحارة، وتبكي علي شبابات الرعيان، وأتخذ موضوعا يتبارى فيه الشعراء والنائحات، وتغمرني الطيوب والأشعار المتعالية حتى النجوم المنطفئة، أكون، لضيق جسدي عن استيعاب روحي، قد خلعت ثوبي البشري وأنا مكلل بالنضار وفي يدي سعفة نخل وجثماني مكفن بالأرجوان تحت أرزة نفسها أبدية الاخضرار، خلعت ثوبي البشري هاربا من هذا العالم الباطل لأصير إلهيا.
من قصيدته «أدونيس»
وصف أدونيس
للدكتور حبيب ثابت
يا إله الجمال والحب والسحر
حلالا ويا حبيب العذارى
جاءك الكون ساجدا وتمنى
لو يصير الجمال ربا فصارا
مسح الليل خصلتيه بعينيك
مرارا حتى أغار النهارا
والنجوم الزهراء في جبهة الش
رق تمنت لو أصبحت لك دارا
وتمنى الشقيق في كل واد
لو تملى من وجنتيك احمرارا
وتمنى الحمام في كل طوق
لو تهادى عن جانبيك وطارا
وتمنى الغصن المصفق لو سا
ر صباحا إلى حماك، فسارا
أنت يا جمرة القلوب على الشوق
ويا قبلة الهوى كيف دارا
جعلوا الشعر في جمالك غمزا
والقوافي المؤنثات ستارا
من قصيدته «عشتروت» (3) قدموس وأوروبا
المقدمة
أسطورة قدموس فينيقية يونانية يمثل فيها زفس، رب أرباب الأولمب وإله المطر والريح والصاعقة، وزوجته هيرا الإلهة الحامية للزواج، دورا عظيما، ثم تبناها الرومان فجعلوا جوبيتر وزوجه جونون يحلان فيها محل زفس وهيرا، وقد ذكر هذه الأسطورة كثيرون من المؤرخين منهم هيرودوت وسيك وبوسانيا ونقولا الدمشقي، ونظمها كثيرون من الشعراء شعرا، وأشار إليها هوميروس، وقصها الشاعر اللاتيني أوفيد بين الأساطير التي نظمها في كتابه «التحول». وقدموس فيها بطل لبناني أبوه آجينور ملك صور، وأوروبا أخته، وهو عند علماء الميثولوجيا رمز تأثير حضارة الفينيقيين وثقافتهم في حضارة الإغريق وثقافتهم الفطريتين، ثم في حضارة أوروبا وثقافتها، وإليه يعزى نشر العمران في تلك الأصقاع، وإذاعة فنون بناء المدن وكدن الثيران إلى المحاريث، والفلاحة، واستثمار المعادن والمناجم، واختراع الأبجدية ونقلها إلى اليونان، وينسب إليه كذلك كل ما يتعلق بما اقتبسته الحضارة الإغريقية من الحضارة الفينيقية.
المعجم
قدموس:
لفظة يونانية معناها: القاهر المظفر، وأوروبا لفظة سامية أصلها عروبا ومعناها الغرب، ويقول هيرودوت: إن أوروبا الفينيقية هي التي أعطت القارة الأوروبية اسمها؛ لأن هذه القارة لم يكن لها اسم في ذلك الزمان البعيد.
زفس:
هو جوبيتر الرومان ومعنى اسمه: المحيي أو الهواء الأعلى، ويسميه العرب المشتري.
هيرا:
هي جونون الرومان ومعنى اسمها: الاتحاد الزوجي ورئيسة المجتمع. وهي أخت زفس وزوجته.
أوفيد:
واسمه نازون من أسرة ستيفاليه، ولد في سولمون عاصمة مملكة أستوريا في إيطاليا، سنة 43ق.م. وكان مولده في عهد المثلث الروماني: أوكتافيوس، وأنطوان، وأوريبيدس، عهد الدسائس والخيانات والجرائم والحروب. ودرس على الخطيب الروماني ميسالا، ونبغ في الشعر حتى قال عنه سينيكا: إنه الشاعر العبقري الفتان. كان شاعر الشبيبة السعيدة، شاعر الأمل والحب الطروب والجمال والتهتك والمرح والأناقة، وكان العاشق الحقيقي في الجاهلية اللاتينية، يحب الحياة ضحاكة ويسعد بحياته معتقدا أن الشباب أبدي، وكان في أول أمره يتمتع بعطف الإمبراطور أوغسطوس، غير أن هذا الإمبراطور لم يلبث أن نفاه، في السنة التاسعة للمسيح، لأمر لا يزال سرا، فترك روما وزوجته وابنته بيريلا وسافر باكيا شاكيا إلى بلاد السيت، شمالي البحر الأسود، بلاد الجيت والسرمات البرابرة، ومات هنالك سنة 16 للمسيح.
وبينما كانت الإمبراطورة كاترين الروسية العظيمة تسيح في مملكتها الواسعة عثرت بين خرائب مدينة «القتل» التي سميت بهذا الاسم؛ لأن الخرافات تقول: إن الساحرة ميدي مزقت هنالك جسد أخيها، عثرت الإمبراطورة على قبر مهمل، فوقفت قربه حالمة، وأرادت أن تعرف من يرقد فيه بين العواسج، فقيل لها: إنه شاعر روماني منسي اسمه. وكانت كاترين تعرف تاريخ إمبراطوريتها، وهي تلميذة فولتير وصديقته، فعرفت أنه قبر أوفيد فترقرقت دمعة في عينيها، دمعة مجيدة بليغة في عيني امرأة لم تكن تبكي إلا نادرا، وهكذا بعد ثمانية عشر قرنا غسلت الإمبراطورة المطلقة السلطة بدمعتها خطيئة أوغسطوس الإمبراطور المطلق السلطة.
فينيقية:
بلاد البلح .
بوصيدون :
هو نبتون الرومان، أخو زفس وآذيس (بلوتون الرومان)، ومعنى اسمه غير المنظور، وكلهم أبناء قرونوس أي المتمم (زحل العرب وساتورن الرومان) إله الزمان، اقتسموا الكون فكان لزفس السماء والأرض، ولآذيس الجحيم فهو إله الظلمات والسافلين، ولبوصيدون البحر ذو الزبد الأبيض، ويرمز بوصيدون الفينيقي إلى ازدهار ملاحة الفينيقيين الحربية والتجارية.
مركور:
هو هرمس اليونان وعطارد العرب، أبوه جوبيتر وأمه الحورية مايا، كان رسول الآلهة إلى الأرض وإله البلاغة والتجارة واللصوصية وحامي الطرق، وكان معهودا إليه بأن يقود نفوس الموتى إلى الجحيم، وقد مثلوه لابسا قبعة ذات جناحين وفي رجليه حذاء لكل فرد منه جناحان.
الأولمب:
جبل بين مقدونيا وتساليا كانوا يزعمون أنه مقام الآلهة، أما عرش زفس رب الآلهة فلم يكن فيه، وإنما كان على قمة جبل أيدا (المشرق) في جوار طروادة.
أكريت:
معنى اسمها المعتدلة.
أبولون:
إله النور والفنون الجميلة والكهانة عند اليونان والرومان، أبوه جوبيتر وأمه لاطونة (الليل) وهو وأخته ديانا إلهة الصيد توأمان، كان له معبد في دلف على سفح جبل البرناس مبني مقدسه فوق شق من الأرض ينبعث منه بخار يحدث لمتنشقه سكرا موقوتا، فكانوا يقعدون فوقه نساء لا تقل سن الواحدة منهن عن الخمسين ويسمونهن بيثي، وكانت هؤلاء النسوة هواتف أبولون يعلن إرادته ويتعاقبن في القعود فوق الشق في المقدس السري بعد أن يتطهرن بأن يشربن من ماء ينبوع كاسوتيس ويعلكن أوراق غار، وكانت الواحدة منهن تجلس فوق الشق على كرسي ذي ثلاث قوائم، ويقعد قربها كاهنان، فإذا أخذتها النشوة وجعلت تهذي، التقط الكاهنان هذيانها وفسراه شعرا بأمور معقولة، على أنهم كانوا إذا أشكل عليهم شيء أجابوا عنه بجواب مبهم، وكثيرا ما كان أصحاب المآرب من كبار الناس يتفقون والكهنة على مبلغ من المال ليأخذوا منهم ما يريدونه من جواب على أسئلتهم، واسم أبولون معناه الهدام ويلقبونه بفيبوس أي المنير.
المريخ:
هو آريس اليونان ومارس الرومان، أبوه جوبيتر وأمه جونون، وهو إله الحرب والقتل والتدمير ومعنى اسمه اليوناني «الحرب».
الثعبان:
مأخوذ وصفه مع بعض تصرف عن أوفيد.
آثينا:
وتلقب بفالاس، هي مينرفا الرومان تولدت من دماغ جوبيتر، كانت إلهة الحرب والحكمة والفنون والعدل والصحة العقلية والبدنية، إلهة عذراء حامية الأسرة والمدن.
علمت اليونانيين زراعة الزيتون، وكانت بارعة بالنسج، وخصص بها من الطيور البومة، كانوا يمثلونها فتاة جميلة على رأسها خوذة وفي يديها حربة وترس، وعلى صدرها درع من جلد المعزاية أمالته التي غذت جوبيتر بلبنها.
تريتون:
هو ابن بوصيدون (نبتون) إله البحر، وأمفيتريت بنت الأوقيانوس الإله الذي لا إله فوقه إلا زفس، ومعنى اسمه السريع الجري.
هيفست:
معناه براق، هو فولكان الرومان، إله النار ومثير البراكين والصواعق وحداد الآلهة.
أكتيون:
ربيب خيرون (الأدنى) القنطور (مثير الثيران) الشهير، والقنطور رجل حتى أسفل بطنه بمؤخرة فرس ذكر وأربع قوائم، وخيرون هو ابن قرونوس وأخو زفس وأمه فيليريا بنت الأوقيانوس، أحبها قرونوس إله الزمان ففاجأته وإياها زوجه ريا (الأرض) والدة زفس وهيرا، ففرت فيليريا إلى الجبال، وولدت خيرون، فسكن هذا في مغارة في سفح جبل بليون، وكان يتميز من سائر القناطرة بطبيعته المحسنة وحبه للعدالة وعنايته بالجرحى والمرضى، ويعتبر أنه أحد مخترعي الطباعة.
ديانا:
أرطميس اليونان وتلقب فيبه، إلهة الصيد، إلهة عذراء شديدة المحافظة على عذرتها وهي ابنة جوبيتر ولاطونه وأخت أبولون.
بان:
معناه الريح، هو ابن مركور ورب الرعاة والقطعان يمثلونه برأس رجل له قرنان وأسفل جسمه يشبه جسم التيس، ويضعون في يده عصا.
نيفيله:
إلهة ثنوية.
فريكسوس وهله:
كانت تبغضهما أينو زوجة أبيهما أتاماس، فأرسلت لهما أمهما نيفيله خروفا ذا جزة ذهبية فحملهما وطار بهما في الهواء، فزلت هله عن ظهره، وسقطت في البحر، فحمل اسمها «هلسبونت» (الدردنيل)، أما فريكسوس فنزل في بلاط أتيس ملك كولخيد وذبح الخروف قربانا لجوبيتر، وأهدى جزته الذهبية للملك أتيس. (4) مينوس وأريان
المعجم
مينوتور:
معناه نصف ثور.
إيريس:
رسولة جونون، ومعنى اسمها عاقدة، وهي من الإلهات الثنويات، كانت تحمل رسائل جونون إلى الأرض، فتنحدر في شكل قوس ملون بأجمل الألوان.
باخوس:
هو ذيون اليونان إله الخمر والكرمة والطرب واللهو، كان عباده يمثلونه وعلى رأسه قرنان؛ لأنه كان في رحلاته يلبس جلد تيس؛ ولذلك كانوا يقربون له التيوس في الأعياد الباخوسية، وقد أعطي اسم التيس الأناشيد التي كانت تنشد إكراما لهذا الإله، فقيل لها «تراجيدي»، ومعنى هذه اللفظة «أنشودة التيس»، ثم إن الشاعر اليوناني تسبس أدخل على هذه الأناشيد الحوادث المحزنة فكان ذلك أصل التراجيدي التي نسميها بالعربية المأساة، كما كان تمثيل الأسرار المقدسة عند مسيحيي إسبانيا الأقدمين أصل المسرح الأوروبي. (5) ديدون الصورية
المقدمة
يعتبر بعض المؤرخين ديدون الصورية بانية قرطاجنة شخصا أسطوريا ولدته مخيلة الشعب الفينيقي، ويراها آخرون شخصا حقيقيا غامر مغامرة جريئة أدت إلى تأسيس تلك المستعمرة الفينيقية في الشمال الأفريقي، المستعمرة التي ملأ شعبها التاريخ العالمي بأعماله الحربية وبطولته وسيطرته التجارية زمنا طويلا.
وأسطورة ديدون فينيقية مغربية تبتدئ في صور وتنتهي في قرطاجنة، واسم ديدون الأصلي عليشار وليس «ديدون» ومعناه «الهاربة أو اللاجئة» إلا لقبا لها لقبت به بعد فرارها من صور على أثر فتك أخيها بغماليون بزوجها سيشاربعل.
وفي قتل بغماليون لسيشاربعل قولان: أحدهما أن سيشاربعل كان ذا ثروة عظيمة فطمع فيها بغماليون وقتله ليستأثر بها. والقول الثاني أن بغماليون كان مهملا شئون المستعمرات الفينيقية في أفريقية، ولم يكن يهتم بتدارك الاستعمار اليوناني في تلك الأصقاع، الذي كان يزاحم صور، سيدة التجارة والبحار في ذاك العهد، في مستعمراتها الأفريقية ويهدد تجارتها في جنوب أوروبا، ونفوذها الأدبي والفني، فرأى سيشاربعل، وهو أكبر كهنة ملكرت وأول شخص في المدينة بعد الملك، أن في عمل بغماليون هذا خيانة لمصالح صور وتفريطا فيها، فألف حزبا من الغاضبين على سياسة بغماليون، ودعاهم إلى تأسيس مركز قومي في الشمال الأفريقي من المغرب ليكون قاعدة تحمي السواحل، فعرف بغماليون بذلك وتوقع شرا، فدس من رجاله من اغتال بعض رجال الحزب المعارض، ثم اغتال صهره زعيم المعارضة، فتزعمت زوجته عليشار الحزب وفرت بأصحابها وأموال زوجها وأموال مبعد ملكرت، ونزلت في بروجيتانه، قرب تونس، في مكان يعرف اليوم بدوار الشط، وبنت حصن برسا على تلال جون البحر ، وعلى مقربة من أوتيكا لتزاحمها وتنتزع منها السيادة، فكان ذلك الحصن نواة لقرطاجنة، ولكن عليشار لم تتمتع بثمرة عملها العظيم؛ لأن يارباس، ملك جيتول وزعيم القبائل البربرية، أراد الزواج بها فأبت وقتلت نفسها تخلصا منه.
وقد زعم فرجيل الشاعر اللاتيني أن ديدون انتحرت حزنا لفراق حبيبها إنياس الأمير الطروادي، وذاك أن إنياس بن أنخيز وفينوس، إلهة الجمال والحب، فر بعد سقوط طروادة بيد الإغريق، مع جماعة من الطرواديين فتقاذفت سفنهم العواصف حتى قذفت بهم إلى شواطئ قرطاجنة، فذهب إنياس إلى بلاط ديدون يستأذنها البقاء في أرضها إلى أن تجتمع سفنه التي بعثرتها العواصف فيرحل عنها، فأخذت ديدون بجماله وبطولته وأحبته، وعطفت جونون ربة الأولمب على حبها، فأخرجتهما معا إلى الصيد، ثم فجأتهما بعاصفة شديدة فلجآ إلى مغارة، وهناك باركت جونون زواجهما.
لكن فينوس أم إنياس لم ترض عن هذا الزواج؛ لأنها كانت تخشى أن يبقى ابنها في قرطاجنة، وهي تعده لإنشاء الشعب اللاتيني العظيم، فشكت أمرها إلى والدها جوبيتر، فأرسل ابنه مركور فحول فكر إنياس عن حب ديدون، وبين له عظم الرسالة التي سوف تتم على يديه، فأبحر إنياس، على دموع ديدون وتوسلاتها، قاصدا إلى إيطاليا، فنزل بديدون حزن شديد أدى بها إلى الانتحار. وفي زعم فرجيل هذا كذب على التاريخ بثلاثمائة سنة ونيف، فإن الدكتور شوش ديدلبرغ بعد درسه زمان كسوف الشمس الذي وصفه هوميروس في إنياذته، ومقابلته إياه بأزمنة الكسوفات التي تعاقبت بعده، تمكن من تحديد بداية حرب طروادة في سنة 1197ق.م. ونهايتها بسقوط المدينة في يد الإغريق في سنة 1187، في حين أن بناء قرطاجنة كان بين سنة 860 و883، ولا يمكن أن يكون إنياس قد عاش هذا العمر الطويل، إلا إذا كانت أمه فينوس قد منحته الخلود، وهذا لا أثر له في الميثولوجية اليونانية.
المعجم
صور:
لفظة فينيقية معناها الصخرة، ويزعمون أن صور بنيت سنة 1252ق.م. ويقول المؤرخ اللاتيني جوستين: إن الصيدونيين الذين كانوا يحاربون في طروادة بنوها بعد رجوعهم إلى بلادهم.
قرطاجنة:
بنيت سنة 883ق .م. على الشاطئ الغربي من تونس الحالية على أنقاض مدينة صيدونية قديمة كان اسمها غامبه، في صدر جون عرف قديما بجون قرطاجنة، ويعرف اليوم بجون تونس، ويقول بعض المستشرقين: إن اسمها الفينيقي «قريتا حادت»، ومعناه «القرية الحديثة»، ويرجح الأب يوحنا شديد الكاهن الماروني العالم باللغات الشرقية أن اسمها الفينيقي «قريتا جنتا» ومعناه «قرية الجنات»؛ سميت به لكثرة ما هناك من جنان وبساتين، بدليل أن تونس تلقب من أجل ذلك ب «الخضراء»، وقد سماها اليونان «كارشيدون»، وسماها الرومان «قرطاجنة» وهذا الاسم تبناه العرب.
الملك الفينيقي:
كان الفينيقيون يسمون ملك المدينة أو حاكمها «شقطيم».
إيزابل الصورية:
تزوجها آخاب ملك إسرائيل، فولدت له عثلية التي وضع الروائي الفرنسي راسين من أجلها مأساة «أتالي»، بنت عثلية لبعل الفينيقي هيكلا في السامرة عاصمة ملك زوجها، ونشرت فيها عبادة عشتروت. (6) سميراميس البابلية
المقدمة
تختلف الروايات بشأن سميراميس ملكة بابل، فالمؤرخون القدماء أمثال هيرودوت وستيزياس وديودور وجوستين يتكلمون عليها كملكة تاريخية، ويجعلونها في منزلة سامية تضارع منزلة سيزوستريس في التقاليد المصرية، ويعزون إليها أروع المباني والمنشآت البابلية وأفخمها، وقد زوجوها الملك نينوس مؤسس نينوى، ونسبوا إليهما معا فتوحا عظيمة.
ويقول هيرودوت: إن سميراميس كانت قبل نيتوكريس ملكة بابل الشهيرة بخمسة أجيال، تملكت نحو سنة 755ق.م. ويظهر من هذا القول أن هيرودوت يعتبر الجيل ثلاثين سنة؛ لأن نيتوكريس هي أم نبو كدنصر تملك على بابل من سنة 604 إلى سنة 561، فتكون سميراميس قد تقدمت نيتوكريس بزهاء مائة وخمسين سنة.
ويزعم بعض المؤرخين أنها كانت قبل المسيح بألفي سنة، وأنها ملكت اثنتين وأربعين سنة، وماتت في عام 1964، ولكن الأكثرين يوافقون هيرودوت على أنها كانت في القرن الثامن ...
وليس نينوس الذي زوجوها إياه إلا تشخيصا لمدينة نينوى، أي أنهم توهموا من نينوى شخصا سموه نينوس، ومسحة سميراميس الميثولوجية أظهر في أقوال المؤرخين من مسحة نينوس، فقد جعلوا أمها «ديركيتو» الإلهة السمكة، وجعلوا الحمائم تغذيها، ولكننا إذا نظرنا إلى ما قاله هيرودوت وستيزياس عنها نرى أنها في قول الأول أقرب إلى التاريخ وفي قول الثاني أقرب إلى الأسطورة.
ويرجح المؤرخون المتأخرون أن أسطورتها حيكت على أصل تاريخي، فقد كشف السر رولنسون، البحاثة الإنكليزي في الآثار الآشورية، تمثالين كتب عليهما بالقلم المسماري ما ترجمته:
إن هذين التمثالين تقدمة من حاكم آشوري للمعبود ينبو ليرعى الملك إيفالوش وزوجته سموراميت، ويطيل أيام ملكه، ويلقي السلام في بيته وبلاده وينصر جيوشه.
والملك إيفالوش هو ابن الملك جاماسب، وخلفه على عرش آشور ملك من سنة 800 إلى سنة 781ق.م. ولما كان ذكر الملكة مع الملك في كتابة على تمثالين يراهما الناس مما ينافي العادات الشرقية المرعية في تلك العصور، فقد استنتج من التنويه باسم سموراميت أن هذه الملكة كانت ذات شأن خطير وأن زوجها الملك لا بد من أن يكون قد أشركها في إدارة شئون المملكة.
وورود اسمها دون أية امرأة غيرها في تاريخ الآشوريين حمل مؤرخي اليونان ومخرفيهم على إطراء جمالها والإشادة بصفاتها ومآتيها، وعلى تحريف اسمها فسموها سميراميس، ولا يعارض هذا قول هيرودوت إنها أميرة بابلية، فقد تكون سموراميت أميرة بابلية الأصل تزوجها الملك إيفالوش ليؤيد سلطته بواسطتها على الولايات الجنوبية، فأشركها في ملكه فشيدت في بابل تلك المباني العظيمة.
غير أن المنقبين عن الآثار الآشورية يرون أن سميراميس إلهة أسطورية شرقية، هي عند البابليين كفينوس عند الرومان، ويقال: إن اسمها الآشوري «شاميرام» ومعناه «حمامة» سميت به لتوهمهم أن الحمائم احتضنتها وغذتها، وقيل: بل اسمها هو اسم إلهة آشورية قديمة كانوا يعتبرونها وسيطا أسمى بين مبدأي الخير والشر، ويرونها رمز الحب والسعادة وفرح الرجال والظفر في الحرب، ويرى آخرون أن اسمها مأخوذ من اللفظة السنسكريتية «سميراما» ومعناها «المحب»، وأسطورتها رمز إلى عهد القوة الآشورية وتوسعها العظيم، وإلى مدنية السلالة الملكية الآشورية.
المعجم
دجلة والفرات:
طول دجلة 1850 كيلومترا وطول الفرات 2350، وينبع دجلة في جبل نيفاتيس قرب مناجم سيوان في جبال أرمينية غير بعيد عن المكان الذي ينبع فيه الفرات، ويلتقي النهران قرب قرية القرنة، فيؤلفان شط العرب الذي يزيد طوله على 160 كيلومترا خطا مستقيما، واسم دجلة في الآشورية أيديجلات واسم الفرات بوراتو .
بابل:
لفظة بابلية معناها «باب الإله»، ولها معنى آخر هو التبلبل، ولعل للاسم علاقة بأسطورة تبلبل الألسنة.
بيلوس:
هو أنليل الشمريين وبعل الفينيقيين أصله شمري ثم صار إلها ساميا، ومعنى اسمه السيد، وهو إله العالم البشري ومقرر مصيره. (7) بيرام وتسبا
المقدمة
هذه أسطورة شرقية بابلية نشأت حوادثها في منزلين متلاصقين في جوار السور العظيم الذي سورت به سميراميس مدينة بابل، وانتهت في ظاهر المدينة تحت شجرة من التوت الأبيض قرب عين ماء تجاور قبر نينوس الملك، انتهت بمصرع عاشقين انتحر كل منهما أسى على صاحبه، وسقى دمهما عروق شجرة التوت الأبيض، فتحولت إلى توتة حمراء أو ما نسميه بالتوت الشامي، ولبست أثمارها البيضاء ثوب السواد حدادا على العاشقين، ولا تزال تحد عليهما إلى ما شاء إلهة الحب والأساطير.
وأول من ذكر هذه الأسطورة أوفيد الشاعر اللاتيني في كتابه «التحول»، ولا بد من أن يكون قد استقاها من ينبوع بابلي، بيد أن ما بقي من الكتابات البابلية لا يشير إليها.
وقد وضع الروائي الفرنسي تيوفيل ده دفيو في هذه الأسطورة مأساة دعاها بيرام وتسبا، ونقلت إلى العربية ومثلت مرارا، وعلى بحثي في المكاتب لعلي أقع على نسخة منها، وسؤالي غير واحد من قدماء الأدباء لأعرف من هو معربها، لم أصل إلى ما أردته.
وللشيخ عبد الله البستاني قصيدة سماها الفرصاد أي التوت الشامي سرد فيها حوادث هذه المأساة الفاجعة. (8) سليمان وبلقيس
المقدمة
ولد سليمان لداود ملك إسرائيل من بتشابع امرأة أوريا التي أخذها داود امرأة له بعد أن فتك بزوجها، واسم سليمان عبري ومعناه «ذو سلام» وأصله في العبرية «شليم» والألف والنون للنسبة، وكانت مملكة والده تمتد من نهر الفرات إلى تخوم مصر ومن البحر المتوسط إلى خليج العقبة، وقد ازدهرت هذه المملكة وزادت اتساعا في أيام سليمان، وامتدت تجارتها حتى بلغت أوفير في نواحي الهند، وعقد سليمان معاهدة تجارية مع حيرام ملك صور، واستمد مساعدته لبناء هيكل أورشليم، فأمده من لبنان بالصناع وبخشب الأرز والسرو والصندل.
وبنى سليمان مدنا كثيرة للخزن، وبنى تدمر في البادية، بين الشام والفرات، محطة لقوافله، وحماية لها من غارات العرب الرحل، ولكي يأخذ مكوسا على أصناف التجارة التي كانت تجتاز مملكته.
أما بلقيس فيقول مؤرخو العرب: إنها بلقمة بنت شرحبيل بن مالك بن الريان، ويتصل نسبها بيعرب بن قحطان. وضربوا بها المثل في المجد والعزة والجمال.
وأسطورة سليمان وبلقيس التي نحن في صددها عربية صميم، وهي وإن اتفقت في أصولها وما جاء في الكتب المنزلة وأقوال المؤرخين، تتباين وإياها في أمور كثيرة، ولا عجب فللخيال في الأساطير المقام الأول، ولولاه لما كان فيها متعة ولذة.
والكتب المنزلة نفسها تتباين في صفات سليمان، ولكنها تتفق على أن الله آتاه الحكمة والمجد والغنى، فتقول التوراة: إن سليمان طلب من الله أن يهبه قلبا فهما ليحكم بين شعبه ويميز بين الخير والشر، وتجلى له الرب في الحلم، وقال له: «ها أنا ذا قد أعطيتك قلبا حكيما فهما، حتى إنه لم يكن قبلك مثلك ولا يقوم بعدك نظيرك، وأيضا ما لم تسله قد أعطيتك إياه الغنى والمجد حتى لا يكون رجل مثلك في ملوك كل أيامك.»
ويقول الإنجيل: «ملكة التيمن (اليمن) أتت من أقاصي الأرض لتسمع حكمة سليمان.»
وفي سورة سبأ في القرآن: (وسخرنا)
لسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر وأسلنا له عين القطر ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير .
وفي سورة النمل:
وورث سليمان داوود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين * وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون .
واسم ملكة سبأ في الأسطورة وأقوال المؤرخين هو بلقيس، أما الكتب المنزلة فلا تعطيها اسما، ففي الفصل العاشر من سفر الملوك الثالث في التوراة: «وسمعت ملكة سبأ بخبر سليمان واسم الرب، فقدمت لتختبره بأحاجي» والإنجيل يدعوها ملكة التيمن، والقرآن يذكر أنها ملكة سبأ:
وجئتك من سبإ بنبإ يقين * إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم
وكلها تتفق على الإشارة إلى مجد ملكة سبأ وعزتها.
والأسطورة والمؤرخون يزوجون سليمان ببلقيس، أما الكتب المنزلة فلا تذكر شيئا من ذلك، فالتوراة تكتفي بقولها: «وأعطى سليمان ملكة سبأ كل بغيتها التي سألتها فوق ما أعطاها من العطايا على حسب كرم الملك سليمان، وانصرفت وذهبت إلى أرضها وعبيدها»، وليس في الحواشي المعلقة على سفر الملوك الثالث ما يفسر المراد من إعطائه إياها كل بغيتها، وربما أريد بذلك أنه أعطاها ما ابتغته من تفسير الأحاجي التي حملتها معها، وبعيد أن تكون قد ابتغت منه أن يتزوجها، والفصل الحادي عشر من سفر الملوك الثالث يعد زوجات سليمان سبعمائة زوجة وثلاثمائة سرية، ولا يذكر بلقيس ولا ذكرتها الفصول الأخرى، فلو كان سليمان قد تزوجها لذكرت التوراة ذلك كما ذكرت زواجه ببنت فرعون، ولم تكن بنت فرعون بأعز من بلقيس. والأسطورة تسخر الجن لسليمان فيبنون له تدمر، قال النابغة الذبياني في داليته «يا دار مية»:
إلا سليمان إذ قال الإله له
قم في البرية فاحددها عن الفند
وخيس الجن أني قد أذنت لهم
يبنون تدمر بالصفاح والعمد
أما التوراة فتقول: «وبنى سليمان ... وتدمر في البرية.» ولا تذكر أن الجن بنوها له، وليس في القرآن ما يشير إلى ذلك. وسليمان في التوراة إسرائيلي وهو في القرآن والأسطورة مسلم دعا ملكة سبأ إلى الإسلام، فأجابت دعوته، وهو يموت في الأسطورة مخلصا قلبه للرب، ولكنه في التوراة: «أزاغت نساؤه قلبه وملن بقلبه في شيخوخته إلى اتباع آلهة غريبة، فلم يكن قلبه مخلصا للرب إلهه وتبع عشتاروت إلهة الصيدونيين»، وجائز أن يكون قد تاب قبل موته ورجع إلى ربه. ومهما يكن من أمر فالكتب المنزلة والأسطورة تتفق على أن سليمان كان رجلا حكيما وملكا عظيما في ملوك أيامه.
المعجم
فرعون:
الذي تزوج سليمان بنته هو في رأي المستشرق ماسبرو ملك الدلتا «سبيناكيز».
سليمان:
تولى الملك على إسرائيل سنة 1016ق.م.
أورشليم:
معناها مدينة السلام.
القيل:
كان هذا اللقب في اليمن لقب الملك دون الملك الأعظم.
بلقيس:
اختلف المؤرخون في زمن موتها، فقال بعضهم: إنها ماتت قبل سليمان. وقال آخرون: إنها ماتت بعده بسبع سنوات وسبعة أشهر، ولا نعلم لماذا خص المؤرخون والأسطورة بلقيس بعدد «سبعة»؟ فأبياتها سبعة وأبوابها سبعة وقصورها سبعة وعاشت بعد سليمان سبع سنوات وسبعة أشهر. ويقولون: إنها دفنت تحت حائط في مدينة تدمر، ولم يعلم أحد بموضع قبرها إلى أيام الوليد بن عبد الملك. خبر أبو موسى بن نصر قال: بعثت في خلافته (الوليد بن عبد الملك) إلى مدينة تدمر ومعي العباس ابنه، فجاء مطر عظيم، فانهار بعض حائط المدينة، فانكشفت الأرض عن تابوت طوله ستون ذراعا متخذ من حجر أصفر كأنه الزعفران مكتوب عليه: هذا مدفن تابوت بلقيس الصالحة زوجة سليمان بن داود دفنت ليلا تحت حائط بمدينة تدمر، ولم يطلع على دفنها إنس ولا جان إلا من دفنها. فرفعنا عنها غطاء التابوت وإذا هي غضة كأنها دفنت في ليلتها، فكتبنا بذلك إلى الوليد، فأمر بتركه في مكانه وأن يبنى عليه بالصخر والمرمر. ويستدل من كلام أبي موسى أن الكتابة كانت بالعربية (؟).
المصادر
(1) العربية
مروج الذهب للمسعودي.
تاريخ الخميس للقاضي الديار بكري.
دائرة المعارف العربية للبستاني. (2) الغربية
الإلياذة لهوميروس:
تعريب سليمان البستاني.
Virgile :
L’Enéide.
Ovide :
Les métamorphoses.
Ovide :
Les amours.
Euripide :
Tragédies.
J. Frazer :
Adonis.
Louis Menard :
Histoire des Anciens Peuples d’Orient.
:
Dictionnaire de la Mythologie et des Antiquités Grecques et Romaines.
Larousse du 20ème siècle .
وما ورد في تضاعيف الكتب العربية والفرنسية من أقوال مؤرخي الشعوب القديمة أمثال: بيروز الكلداني، وسنكنيتن البيروتي، وفيلون الجبيلي، وستيزياس وديودور اليونانيين، وجوستين اللاتيني، والمستشرق رولنسون الإنكليزي.
Unknown page