إن هذه النقطة - عندي - بالغة الأهمية في أسس «التفكير العلمي»؛ لأننا إذا تبيناها أجلى بيان، وإذا هضمناها وتمثلناها - كانت خير عون لنا على إقامة النظرة العلمية السديدة القويمة المتسامحة بطبعها؛ وذلك لأن البناءات العقائدية كلها قائمة على هذا الأساس «الرياضي» في نهج التفكير؛ إذ لكل بناء منها فروضه الأولى الخاصة به، ومن تلك الفروض المسلم بصوابها عند أصحابها، تنتج النتائج؛ فإذا وجدنا أنفسنا إزاء عدة بناءات عقائدية (في دنيا السياسة أو الاجتماع أو غيرهما) لكل منها أساسه الأول الذي اشتقت منه مجموعة الاعتقادات أو مجموعة الافكار أو القواعد، ثم وجدنا في الوقت نفسه أن كلا منها على حد سواء قد أصاب في الاستدلال المنطقي، فاستخرج نتائجه من أصوله استخراجا سليما - كان من غير الجائز بعد ذلك علميا أن نفاضل بين البناءات من الوجهة النظرية الصرف، وإنما تكون المفاضلة - إذا شئنا - على أساس المنفعة العملية بالنسبة إلى حالات جزئية بعينها.
وابتغاء مزيد من التوضيح نقول : افرض أن أديبين من أدباء القصة، كتب كل منهما قصته عن جزيرة غير مأهولة، فاختار أحد الأديبين لقصته أن ينزل بها رجل واحد ثم راح يتعقب حياته على الجزيرة ليرى كيف تكون أحداثها، على حين اختار الآخر أن ينقطع الطريق - لا برجل واحد - بل بركاب سفينة يبلغ عددهم بضع عشرات من الأفراد؛ وراح بدوره يتقصى بخياله تفصيلات حياتهم على الجزيرة المعزولة كيف يمكن أن تكون، ثم أراد ناقد أدبي أن يقوم دقة الخيال عند كل من الأديبين؛ فهل يجوز لمثل هذا الناقد أن يحاسب كلا من الأديبين إلا على أساس فرضه الأول؟ فالأديب الذي افترض وجود رجل واحد عليه أن يلتزم هذا الفرض فيما يعرض له من تفصيلات قصته، فإذا زعم - مثلا - أن هذا الفرد الواحد قد أقام على الجزيرة هرما كهرم خوفو في الجيزة، قال الناقد عنه إنه مختل الخيال؛ لأن رجلا واحدا لا يستطيع ذلك بمفرده، وكذلك الحال بالنسبة للأديب الآخر الذي جعل نقطة ابتدائه مجموعة كبيرة من الأفراد، فإن الناقد يضع ذلك الإطار العام في اعتباره، عندما ينظر إلى إمكان ما يحدث أو عدم إمكانه. (4) ووقفة أخرى عند المنهج التجريبي
وها هنا قد نطيل الوقوف بعض الشيء؛ لأن هذا الضرب من التفكير، الذي هو محور العلوم الطبيعية وما يجري مجراها من حيث منهج السير، هو عادة ما يشغل أذهان الناس إذا ما ناقشوا أمرا يتصل «بالتفكير العلمي»؛ إنهم قلما يتذكرون أن عملية استخلاص النتائج من الفروض، أيا كانت تلك الفروض، أيضا تفكير علمي ذو أهمية بالغة في تاريخ الإنسان العقلي، وفي مواقفه العلمية في شتى الميادين؛ أقول إن الناس قلما يتذكرون ذلك، ولا يشغلهم في المقام الأول إلا ذلك الضرب من التفكير العلمي الذي ينصب على الطبيعة وظواهرها، وإنه لمما يسترعي النظر، أنه بينما كان التفكير الرياضي (بالمعنى الواسع لهذه العبارة؛ أي المعنى الذي يصدق على أية عملية فكرية تشتق نتائج من فروض) أقول إنه بينما التفكير الرياضي ضارب في القدم إلى جذور التاريخ، نرى التفكير العلمي بمعناه التجريبي الطبيعي حديث الولادة، حديث الظهور؛ فيمكن القول بصفة عامة إن الفكر اليوناني القديم بأسره، وما تلاه على مدى قرون العصور الوسطى، كان «رياضيا» في منهجه؛ بمعنى أنه كان فكرا يضع بين يديه أصلا أو أصولا مسلما بها، ثم يأخذ في استخراج ما يترتب عليها من حقائق مستنتجة.
فهكذا كان التفكير الفلسفي عند اليونان الأقدمين وعند من جاءوا بعدهم حين كان على الفيلسوف أن يضع لنفسه «مبدأ» يتخذه بمثابة الينبوع الذي تنبثق منه كل أجزاء النسق الفلسفي الذي يقيمه؛ على أن هذه الأجزاء إنما يكون صوابها أو بطلانها بالنسبة إلى لزومها أو عدم لزومها عن الأصل المبدئي المفروض؛ وعلى هذا الأساس نفسه أقام أرسطو أصول «منطقه» الصوري؛ فما المنطق الأرسطي في صميمه إلا عملية قياسية تتصدرها مقدمات لننتزع منها النتيجة، فلا نقول عن هذه النتيجة إنها صحيحة إلا إذا وجدناها مولدة من تلك المقدمات تولدا يلتزم قواعد القياس؛ وإذا قلنا «المنطق الأرسطي» فقد قلنا - على وجه التقريب - الفكر البشري كله على مدى ما يقرب من عشرين قرنا بعد أرسطو؛ فلا غرابة أن دراسة هذا المنطق الأرسطي كادت تكون شرطا ضروريا لكل مثقف في تلك العصور، كائنا ما كان اتجاهه، طبيبا كان، أو فقيها، أو ناقدا أدبيا، أو ما شئت من منحى في حياة الناس الفكرية.
كان التفكير على النهج الرياضي - إذن - قديما قدم التاريخ الفكري، وأما التفكير على النهج التجريبي، فلم يتبلور في تيار تكون له السيادة الشاملة في الحياة العلمية كلها، إلا خلال النهضة الأوروبية في القرن السادس عشر أو ما يقرب منه، وأعود فأكرر ما أسلفت قوله، من أن استثناءات فردية قد سبقت ذلك التاريخ، وعلى الخصوص في الحضارة العربية، التي شهدت أعلاما بارزين في ميدان العلم التجريبي من طب وكيمياء وملاحة وغير ذلك، لكن ذلك كله لم يصبغ العصر في عمومه بطابعه، ولبث العصر مطبوعا بالطابع الرياضي الذي يشتق النتائج من المسلمات، في أهم الجوانب التي كان لها أعظم الشأن في حياة الناس، كاللغة والفقه وعلم الكلام؛ وإن القرون الأربعة الأخيرة، التي نطلق عليها اسم «العصور الحديثة» إنما تتميز بتلك النقلة في منهج التفكير العلمي الخاص بالطبيعة وما فيها، من نهج رياضي إلى نهج آخر تجريبي يقوم أول ما يقوم على مشاهدة ما يجري في عالم الواقع؛ ليقترح العلماء نظريات في ضبط الطريقة التي تطرد بها أحداث ذلك العالم الواقعي؛ فتكون منها قوانين العلوم.
فما أهم خصائص هذا الضرب من التفكير العلمي؟ لقد ذكرنا منها اثنتين فيما سبق، هما: التجريد والتعميم، وهما ضفتان لا تثيران المجادلة بين الناس كلما كان النقاش دائرا حول التفكير العلمي وأسسه، فنتركهما لننتقل إلى خصائص هامة أخرى: (4-1) تحويل الكيف إلى كم
من حق القارئ علينا - قبل أن نمضي في الحديث عن هذه الخاصة من خصائص التفكير العلمي - أن نحدد له المعنى المقصود بهاتين الكلمتين الهامتين في ميدان الفكر الفلسفي كله (وأحد جوانبه «فلسفة العلوم» التي نحن الآن بصدد الحديث عنها)؛ أما «الكيف» فنشير به إلى صفات الأشياء التي قد نذكرها إذا ما سئلنا عنها سؤالا يبدأ بكلمة كيف؟ لكن ذلك القول وحده غير كاف للتوضيح، فنقول:
هنالك مستويان لإدراك الإنسان لبيئته، يرتبط أحدهما بالآخر ارتباط الأدنى بالأعلى، أو ارتباط الخطوة الأولى بالخطوة التالية في مراحل السير، وهما مستوى الإدراك الذي نتعامل على أساسه في حياتنا العملية، ومستوى الإدراك الذي نرتفع إليه في حياة البحث العلمي في صوره المتقدمة، كالتي نراها في علوم الفيزياء والكيمياء. وأما في المستوى الأول الذي يتعامل الناس فيه بعضهم وبعض في حياتهم اليومية، فإن المدار عندئذ يكون هو الإشارة إلى الأشياء والحوادث بأوصافها الظاهرة للحواس، أو بمنافعها وطرائق استخدامها في الحياة العملية، فيقال: ماء، وكرسي، وشجرة، وملعقة، وملح، وورق، وهواء، وثياب، وطعام ... إلخ إلخ، فإذا أمعنت في النظر في هذه الأسرة الضخمة من ألفاظ اللغة كما يستخدمها الناس في شئون حياتهم اليومية - وجدتها في حقيقة أمرها ذوات دلالات تتناول الأشياء والكائنات في جملتها لا في عناصرها التحليلية، فيؤخذ «الماء» وكأنه كائن لا ينحل إلى عنصريه من أوكسجين وهيدروجين؛ لأنه وهو «ماء» مركب على نحو ما نألفه في حياتنا يستخدم في أغراضنا المختلفة المتعلقة به، كالشرب والغسل والري والسباحة وغير ذلك؛ حتى إذا ما تناوله علم الكيمياء، لم يجعله «ماء» على النحو المركب الذي نعرفه، بل يظل به تحليلا في أنابيبه ومخابيره إلى أن يصل إلى وحداته الكيماوية البسيطة، وطرائق تفاعلها التي عن طريقها يصبح الماء ماء؛ فقد نقرأ كتب الكيمياء وكتب الفيزياء فلا تعثر فيها على كلمة «ماء»؛ لأنها كلمة غير علمية، مع أنها هي الكلمة التي لا كلمة سواها في ميدان استعمالها اليومي، فإذا قلت في حديثك «ماء» كنت تشير إلى هذه المادة من جانبها «الكيفي»، أما إذا حولها العلم إلى «2 يد 1» (أي إلى ذرتين من الهيدروجين وذرة واحدة من الأوكسجين تفاعلت كلها معا فكونت ذرة من الماء) فها هنا يكون التناول من الجانب الكمي؛ والجانب الأول للحياة الجارية، والجانب الآخر للبحث العلمي.
وكذلك ليس من لغة العلم المتقدم أن يقول: كرسي، وملعقة ... إلخ، فهذه عنده إنما هي آخر الأمر مركبات من عناصر يستطيع علم الكيمياء أن يعينها، كما يستطيع علم الفيزياء أن يردها إلى ذرات تختلف باختلاف كهاربها؛ فإذا قلنا عن لغة الحياة الجارية إنها تعتمد في إشارتها إلى الأشياء على كيفياتها؛ أي على طرائق وقعها على الحواس وقعا مباشرا، وطرائق استخدامها والانتفاع بها في الحياة المشتركة بين الناس - فإننا نقول عن لغة العلم إنها تعتمد أول ما تعتمد، لا على «الأشياء» في جملتها، ولا على «الكائنات» وهي مركبة، بل على تحليلها إلى مقوماتها، مدخلة في تلك المقومات مقاديرها التي دخلت بها في حالة التركيب؛ وواضح أن زاوية الإدراك الكيفي للأشياء لا تفيد أحدا في صنع هذه الأشياء إذا أراد صنعها؛ وأما زاوية الإدراك الكمي للمقادير التي أضيف بها كل عنصر في تركيب الأشياء - فيمكن من أراد، ومن كانت له الدراية والقدرة، تمكنه من صنع الشيء إذا أراد صنعه؛ فمثلا لو أخذ الناس يكررون كلمة «ماء» في دنيا الاستعمال اليومي، ملايين المرات بعد ملايينها، فلن يستطيع عالم الكيمياء، من هذه الكلمة وحدها، أن يصنع في معمله ماء إذا شاء؛ أما إذا استبدلنا بكلمة «ماء» اسمها العلمي المؤسس على التحليل وعلى معرفة الكم، فقلنا «2 يد 1» عرف عالم الكيمياء كيف يصنع قطرة الماء، بأن يضيف هذه العناصر المذكورة، وبمقاديرها المحددة، وفي تفاعلها، فإذا بين يديه قطرة الماء المطلوبة بعد أن لم تكن.
ليس مما يفيد البحث العلمي في شيء أن تقول مثلا (كما نقول في أحاديثنا الجارية) إن أوجه النقص في مجتمعنا هي «الفقر» و«الجهل» و«المرض» لأن هذه الألفاظ الثلاثة، على أهميتها في الأحاديث اليومية، وفي البيانات السياسية، وفي التحقيقات الصحفية، هي في تلك المجالات «اللاعلمية» توقظ الانتباه وتثير الاهتمام؛ وأما حين يبدأ العلم في معالجة موضوعاتها؛ فإن اللغة الكيفية المذكورة في مجالات الإثارة والإيقاظ، لا بد لها أن تتحول إلى لغة كمية حتى يمكن العلم المنتج أن يسير على طريقه المنهجي الدقيق؛ فلا تصبح كلمة «فقر» هي المطلوبة عندئذ، بل المطلوب هو ترجمتها ترجمة عددية، كأن نقول إن متوسط دخل المصري الآن مائة جنيه في العام، وهو متوسط إذا قيس إلى مستوى متوسطات الدخل في العالم، جاء في شريحتها الدنيا، ثم ماذا؟ ثم لا بد كذلك أن أردف هذا التصور العددي بتصور عددي آخر، وهو الحد الأدنى لمتوسط الدخل كما نريد له أن يكون، فإذا كان هذا الحد الأدنى المطلوب مائتي جنيه في العام، عرفنا أن زيادة الدخل القومي المطلوبة مقدارها نحو أربعة آلاف مليون جنيه؛ بهذا أكون قد وضعت النقطة الأولى في التخطيط العلمي؛ لأنني في ضوء هذا المبلغ المطلوب، أمضي في تصور المشروعات المختلفة التي يمكن أن تعود على الأمة بدخل كهذا؛ وهكذا نرى أن الشرط الضروري الأول في أي تفكير علمي منتج، هو تحويل اللغة الكيفية إلى ما يعادلها بلغة الأعداد.
Unknown page