ولم يكن استسلام أولئك المساكين إلى الشيخ عباس وخوفهم قساوته صادرين عن ضعفهم وقوته فقط، بل كانا ناتجين عن فقرهم واحتياجهم إليه؛ لأن الحقول التي كانوا يحرثونها والأكواخ التي يسكنونها كانت ملكه وقد ورثها عن أبيه وجده مثلما ورثوا الفقر والتعاسة من آبائهم وجدودهم، فكانوا يفلحون الأرض ويزرعونها ويحصدونها تحت مراقبته ولا يحصلون لقاء أتعابهم وجهادهم إلا على جزء من الغلة لا يكاد ينقذهم من أظافر الجوع، قد كان أكثرهم يحتاج الخبز قبل انقضاء أيام الشتاء الطويلة فيذهب إليه الواحد بعد الآخر ويتضرع أمامه باكيا مستعطفا لكي يقرضه دينارا أو مكيالا من الحنطة فكان الشيخ عباس يجيب سؤالهم مسرورا لعلمه بأنه سيستوفي الدينار دينارين ومكيال الحنطة مكيالين عندما تجيء أيام البيادر والموسم. وهكذا كان يبقى أولئك التعساء مثقلين بديون الشيخ عباس مكبلين بحاجتهم إليه خائفين غضبه طالبين رضاه.
2
قدم الشتاء بثلوجه وعواصفه وخلت الحقول والأودية إلا من الغربان الناعية والأشجار العارية، فلزم سكان تلك القرية أكواخهم بعد أن أشبعوا أهراء الشيخ عباس من الغلة وملأوا آنيته من عصير الكروم وأصبحوا ولا عمل لهم يفنون الحياة بجانب المواقد متذكرين مآتي الأجيال الغابرة مرددين على مسامع بعضهم حكايات الأيام والليالي.
انقضى كانون الأول (دسمبر) وقضى العام العجوز متنهدا أنفاسه الأخيرة في الفضاء الرمادي وجاءت الليلة التي يتوج فيها الدهر رأس عام الطفل ويجلسه على عرش الوجود.
توارى النور الضئيل وغمرت الظلمة البطاح والأودية وابتدأت الثلوج تنهمر بغزارة العواصف تصفر وتتسارع ملعلعة من أعالي الجبال نحو المنخفضات حاملة الثلوج لتخزنها في الوهاد فترتعش لهولها الأشجار وتتململ أمامها الأرض فمزجت الأرياح بين ما تساقط من الثلج في ذلك النهار والساقط منه في تلك الليلة حتى أصبحت الحقول والطلول والممرات كصفحة واحدة بيضاء يكتب عليها الموت سطورا مبهمة ثم يمحوها، وفصل الضباب بين القرى المنثورة على كتفي الوادي وتوارت الأنوار الضئيلة التي كانت تشعشع في نوافذ البيوت والأكواخ الحقيرة، وقبضت الرعبة على نفوس الفلاحين وانزوت البهائم بقرب المعالف واختبأت الكلاب في القراني ولم يبق سوى الريح تخطب وتضج على مسامع الكهوف والمغاير فيتصاعد صوتها الرهيب من أعماق الوادي تارة وطورا ينقض من أعالي قمم الجبال، فكأن الطبيعة قد غضبت لموت العام العجوز فقامت تأخذ بثأره من الحياة المختبئة في الأكواخ وتحاربها بالبرد القارس والزمهرير الشديد.
ففي هذه الليلة الهائلة وتحت هذا الجو الثائر كان فتى في الثانية والعشرين من عمره يسير على الطريق المتصاعدة بتدرج من دير قزحيا
1
إلى قرية الشيخ عباس وقدأ يبس البرد مفاصله وانتزع الجوع والخوف قواه وأخفت الثلوج ثوبه الأسود كأنها تريد أن تكفنه قبل أن تميته، فكان يخطو إلى الأمام والأرياح تصده وترجعه إلى الوراء كأنها أبت أن تراه في منازل الأحياء، وتتشبث الطريق الوعرة بأقدامه فيسقط ثم ينهك ثم يصرخ بأعلى صوته مستغيثا ثم يخرسه البرد فيقف صامتا مرتجفا فكأنه العناصر المتحاربة كالأمل الضعيف بين اليأس الشديد والحزن العميق، أو كعصفور مكسور الجناحين سقط في النهر فحمله التيار الغضوب إلى الأعماق.
وظل الشاب سائرا والموت يتبعه حتى خارت قواه وانحطت عزيمته وتجمدت الدماء في عروقه فارتمى على الثلوج.
وصرخ صوتا هائلا هو بقية الحياة في جسده: صوت خائف قد رأى خيال الموت وجها لوجه، صوت منازع قانط أتلفته الظلمة وقبضت عليه العاصفة لترمي به إلى الهاوية، صوت محبة الكيان في فضاء العدم.
Unknown page