كنت أستغرب وقتها كيف يمكن لشاعر أن يكتب قصيدة ليمدح خليفة، أو شخصا لا يعرفه، أو يصف ناقة في الصحراء، فيما ذاته غائبة عن ذلك تماما، طبعا يمكن تفسير ذلك بقوة الشاعرية وتحليق الخيال. وطبعا كانت تلك الأسئلة قد أجيب عنها من زمن ولم أكن أعلم ذلك . حين انتقلت للدراسة في المرحلة الإعدادية في مدينة مجاورة، فتح أمامي أستاذي الشاعر بهاء الدين رمضان، الذي صار صديقا أفتخر وأعتز به، عالما آخر من الشعر، وجدت أنه يستوعب طاقة شعرية أكبر، ويسمح للذات بالخروج والحديث أكثر. كان ذلك عالم قصيدة التفعيلة ثم النثر بعد ذلك، ومن خلاله تعرفت على عوالم شعراء آخرين، جدد.
كان الأستاذ بهاء وقتها يدرس لي مادة الأدب والنصوص، وكان يشرح لنا في الحصة قصائد عنترة بن شداد وعمرو بن كلثوم والنابغة الذبياني، والشعر الأندلسي، وبعد أن تنتهي الحصة، يحدثني عن القصيدة الجديدة، التفعيلة والنثر، وأزوره في منزله ليعطيني دواوين لشعراء من جيلي الثمانينيات والتسعينيات، فبدأت كتابة قصيدة التفعيلة.
كان عالما مختلفا، وكتابة مختلفة وجدت أنها تشبهني، وأدين للأستاذ بهاء حتى الآن بأنه دلني على الطريق. بعد أن انتقلت للقاهرة، وشعرت بتضاؤل ذاتي وسط ذوات الآخرين الكثيرة، شعرت بأنني هش في ماكينة عملاقة، بلا شيء يحميني، كانت قصيدة النثر التي ترادف قصيدة الذات بالنسبة إلى التجربة في ذلك الوقت، قصيدة النثر هي الحماية الحقيقة لي، قصيدة الذات هي التي تجعلني أستطيع أن أقف وأقول للبنايات العالية المحملقة في، وفي زحام المترو والحافلة: ها أنا ذا، كانت قصيدة الذات، هي بمنزلة حبل الإنقاذ، قبل أن أتحول إلى لاشيء، تدهسني المدينة مثلما تفعل مع الكثيرين كل يوم.
يمكن القول، إنني بدأت البحث عن القصيدة التي تمثلني، القصيدة التي تشبهني، قرأت عشرات بل مئات التجارب، المصرية والعربية والمترجمة، للإجابة عن سؤال القصيدة. وما هي القصيدة، من أين تنبع الشاعرية؟ وربما كانت الإجابة في كلمة واحدة، أقرب إلي من حبل الوريد: الذات.
ثمة أشياء هنا لا بد من التنويه إليها، أولها أن الكتابة عن الذات، كما أتخيلها، لا تعني الانكباب على النفس، وكتابة جملة مغلقة، لا يفهمها حتى من يكتبها، بل هي الانفتاح على الآخر؛ حيث الهم الممتد بطول وعرض الكرة الأرضية؛ الألم الذي ألمسه في صدر طفل في غابات أفريقيا، وأرملة في فيضان الهند، وعجوز في إعصار الفلبين؛ الألم الذي يجمعنا كلنا هو الذات، الذات المفردة بصيغة الجمع.
الوصول إلى هذا المعني يعني المرور بتجارب آخرين، ولعلي هنا أستحضر ما ذكره الشاعر الأمريكي تشارلز سيميك، حينما ذكر أنه بدأ كتابة الشعر «حين رأيت أن الفتيات الجميلات ينجذبن إلى الفتيان الذين يكتبون لهن القصائد الحزينة»، لكن مع الزمن تبدلت أسباب الكتابة لديه، فيقول في أحد حواراته ويعدد ذكر أسماء الشعراء المعاصرين الذين تأثر بهم في بداية حياته الشعرية من أمثال إليوت وباوند، إن الشاعر الذي وجد علاقة خاصة به في بداية حياته الشعرية كان هارت كراين؛ وذلك بسبب الغموض في شعره، ويوضح «شعرت أن هذا الشعر العصي تماما على الفهم هو شكل أرقى من الشعر»، وبدأ وقتذاك يقلد كراين «مستعينا بكل الألفاظ الصعبة الممكنة من قاموس المترادفات حتى أصل إلى مرحلة لا يمكن لأحد، بما فيهم أنا، فهم شيء من القصيدة.» لكنه يضيف: «الحمد لله أن هذه القصائد لم تعد موجودة.»
سيميك الذي أصدر أكثر من 20 مجموعة شعرية، تتميز بالبساطة والوضوح والعمق، وصل إلى هذه القناعة بعد تجربة الغموض، لتدور قصائده في النهاية حول الذات، وحول التفاصيل الصغيرة حولنا التي قد لا تلفت نظر أحد، مثل الشوكة، والملعقة، لكن تجربته التي ذكرها سابقا، ربما تشبه تجربة القصيدة المصرية، التي بدأت عمودية، ثم تفعيلة، ثم مرت بمرحلة الغموض الملغز في بعض الأحيان، مع بعض شعراء السبعينيات، ثم لتنفتح على العالم وعلى ذاتها في الأجيال التالية.
الشيء الثاني الذي أود التنويه إليه، هو أن الأمر لا يعتمد فقط في قصيدة الذات على كتابة قصيدة ذاتيه، بل على استحضار صور شعرية خاصة بتلك الذات، وهنا أستحضر مقولة الشاعر الأمريكي إيه آر أمونيز «كان ذلك حين توفي أخي الذي يصغرني بسنتين ونصف، ولم يكن تجاوز السنة ونصف السنة، وجدت أمي بعد أيام قليلة من موته آثار قدميه في الباحة، وحاولت بناء شيء حولها لتقيها هبوب الريح، تلك هي الصورة الشعرية الأقوى التي عرفتها»، فحتى الصورة الشعرية تخلت عن ردائها القديم ولم تعد تشبيه الحبيبة بالقمر، والأعين بأعين الغزلان، الصورة هنا هي ذاتك، أو انعكاس ذاتك على الأشياء التي تحيط بك، هي التي تمس قلب قارئك الذي لا تعرف أين هو الآن، وتجعله يشعر أن هذا حدث له وأنه رآه.
الشيء الثالث الذي أود التنويه إليه، هو أن قصيدة الذات كان من الضروري أن تصعد مع صعود ذات الفرد في العصر الرقمي الذي نعيشه، فمع دخول عصر الفرد وبعد أن أصبح حاضرا في كل تفاصيل الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية، وأعني به، مع انتشار الإنترنت، بداية من عصر التدوين والصحفي الشعبي وانتهاء بمواقع التواصل الاجتماعي، والمواقع التي تتيح للقراء العاديين التعبير عن ذاتهم والكتابة، وإمكانية تعليق القارئ على قصيدة أو قصة ومعارضتها لو استخدمنا المصطلح التراثي في نفس الوقت، هذا التواجد المكثف كسر جزءا من الهالات المقدسة للأشياء، ليس فقط في عالم السياسة، الذي جعل الأفراد للقيام بثورات شعبية أطاحت بديكتاتوريات ظن بعضها أنه خالد فيها، بل انعكس على التواصل والكتابة، وعزز من مفهوم الذات بشكل أكبر، وساهم في انتشار الكتاب الجدد، بكتابتهم الجديدة، وأصبحت الذوات أكثر قربا وتشابها، ورغم البون الشاسع بين بعض هذه العوالم على مواقع التواصل الاجتماعي، وخصوصا فيس بوك، فإن الأمر يبدو جديرا بالدراسة والمتابعة، وهو ما حول محمود درويش في النهاية لشاعر شعبي، ولا سيما بعض قصائده التي يمكن اعتبارها قصائد ذات، وجعل شعراء آخرين يكتبون ذواتهم نجوما لدى فئة لم يكن متخيلا في يوم أنها ستهتم بالقراءة، وقراءة الشعر تحديدا.
صعود نجم الذات، في عالم الإنترنت، ومواقع التواصل الاجتماعي، عزز من كتابة الذات، التي صارت توزع الهم المشترك على الكثيرين، ويتناقلونها، كأنها تعبر عن حالتهم. ورغم وجود الكثير من «الغث» بين هذا، فإن هناك «السمين» أيضا الذي يدعو بقوة لدراسة هذه الظاهرة.
Unknown page