وتوقفت، وتوقف التومرجي عن سرحانه، واستدار ليلقي ببقية سيجارته خلسة، ثم عاد ينظر إلي من جديد، وقد زال الحرج الكثير الذي شعر به طيلة أنفاسه المختلسة.
وسادت فترة صمت كنا نتسمع خلالها عويل عجلات «الترولي» وهو ينساب قادما إلينا عبر الممر الطويل.
ودلف رجل الإسعاف إلى حجرة الاستقبال، وقال وهو يكاد يلهث: حالة ضرب نار يا بيه! واحد ظابط اغتالوه في الروضة! ضرب نار! ضابط! اغتيال!
لم أعد نفسي حينئذ لصبغة اليود وماسك الإبر والخيط، فقد اختفى من شخصيتي تماما عامل الحياة، وطفحت تلك الكلمات القلائل فوق ذهني يدفعها بركان يختزنه شعوري عن الاغتيال والظلام وضرب النار.
وقبل أن أستعيد نفسي، انساب «الترولي» إلى الحجرة في نفس اللحظة التي مزقت فيها سكون المستشفى كله صرخة مدوية طويلة صادرة من الأدوار العليا.
وغادرت المقعد في لهفة وانكببت على الجريح أراه وأرى النار التي أتت عليه.
والحق أنني لم أر ما حدست رؤيته؛ فقد كان الرجل يرقد في ثقة، وقد أسبل عينيه وشبك ذراعيه فوق صدره وزم شفتيه، واسترعتني ملامحه، كانت فيها مصرية، مصرية من ذلك النوع الذي يوقظ فيك مصريتك، ويجعلك تعشقها من جديد. وكان أسمر، تلك السمرة التي إذا ما تمعنت فيها وجدت في صفائها تاريخ شعاعات الشمس المجيدة التي صنعت الحضارة على جانبي النيل، وكان شاربه الأسود الكث يلون تلك السمرة، وتستشف منه رجولة، رجولة تبعث القشعريرة في الرجال، وكان جسده صلبا شاهقا، وعنقه ممتلئة غليظة، كان يضج بالحياة والفتوة. ومع هذا يقولون مضروب بالنار.
وقفت أحدق فيه ولا أتحرك، ولم أعد إلى نفسي إلا حين هم بالكلام؛ إذ ملت عليه ألتقط الكلمات، وإذا بي أقول في صوت مستنكر هامس: إيه؟! قتلوك؟!
ومضى في نفس صوته المملوء المنخفض الرنان يقول: قتلوني في الضلمة، ضربوني بالنار، هنا في ضهري.
وسألته، وأنا ملسوع دهش: مين، مين هم؟!
Unknown page