وقد حانت. •••
كان مرسي أبو إسماعين قد مضت أيام على خروجه من الحجز، ولكنه لم يمكث في البلد إلا يوما واحدا، ثم غادرها إلى حيث لا يعرف أحد. ويومها كان الناس يتدبرون في ملل ماذا يطبخون ليلة النصف من شعبان، وفوجئ الذين خلفهم النهار في البيوت بالهجانة، وهي تجري هنا وهناك هالعة. وما أثار جريانهم الخوف بقدر ما أثار الاستغراب، فما كانوا يرتدون بدلهم أو أحذيتهم الثقيلة، وليس في أيديهم كرابيج، وإنما حفاة عراة، وقد نكشت شعورهم السوداء الغامقة.
وحسب الناس أن شيئا خطيرا قد حدث، أو أن حريقا شب، فلم يتمالكوا أنفسهم، وجرى البعض وراءهم. غير أن الخبر عرف في النهاية، واتضح أن عبد السلام النجار هو الذي وقف لهم على رأس الشارع، والورداني هو الذي أحضر السلمين وربطهما معا، ثم صنع منهما قنطرة وصلت حائط الدوار بحائط بيت أبو حسين، وبقية الرجال كانوا على السطح، وكان مع عبد المجيد سكينة طويلة بحدين، ومع الورداني بلطة، ومع صالح بندقية ميزر، وكان مع أبو حمد شمروخة الذي ما رفعه مرة إلا وكسر به رأس.
والمهم أن مرسي أبو إسماعين الشارب من لبن أمه هو الذي تسلل وحده إلى الغرفة التي ينام فيها الهجانة في النهار، وخرج حاملا بنادقهم.
وقص الرواة وشهود العيان ما جرى بعد هذا، وكيف تذلل الطغاة إلى العمدة، وكادوا يقبلون مداسه، وكيف بكى جاسر وهو يستعطف الرجل ويرجوه أن يعثر لهم على البنادق حتى لا يروحوا في ألف داهية. واختلفت الروايات في رد العمدة، ولكنها اتفقت على أن الرجل استعبط عليهم وأفهمهم أن الأمر قد خرج من يده، مع أنه يعرف، وكل الناس يعرفون من هم أولاد الحلال الذين فعلوها.
ويسكت الرواة، فالبقية قد شاهدها كل الناس، حين انقلب المركز والنيابة، وجاء ضباط من المديرية، وارتبكت الدنيا، ولم يتوقف التليفون عن الرنين.
وانتهى اليوم وقد سيق الهجانة محروسين.
وحين أقبل الليل كان عشرة من أهل البلد قد غيبهم المركز، والمباحث تقص الأثر وراء أبو إسماعين، والقهوة لا تزال مغلقة، والناس تتساءل في قلق عما يحدث غدا، وهل يجيء هجانة آخرون، أم يكتفي الحكام بالذي مضى؟
ورغم هذا فقد أوقد الناس المصابيح، ورأوا النور في الليل وقد اشتاقوا إلى النور، وأذن المغرب والعشاء، وامتلأ الجامع بالمصلين، وانطلقت الضحكات لأتفه الأسباب، وبلا أسباب، ولعب الطلبة والتلامذة الكرة في ضوء القمر، وانتشرت مواكب الصغار تجوب القرية مهللة فرحانة، وأحدهم يهتف بأغنية خارجة عن الهجانة والباقون يردون، حتى الصبايا لم يخجلن، فرحن يرددنها هن الأخريات، وتتوقف المواكب عند السامر الذي أحياه عبد الغني، وقد تحزم بمنديله، وكشف رأسه عن عمد فبانت حمرتها، وهو يرقص، وعمك دعدور يطبل له على طشت النحاس، والشارع قد ازدحم بالضاحكين المصفقين وهم يردون على عبد الغني ويقولون:
أهي ليلة يا جميل.
Unknown page