وبعد أن ألقى بتعليماته لنبقة، وهمس له أن لا يدعهما يلعبان إلا عشرتين فقط، خرج وقفل الباب وراءه. •••
قبل شروق الشمس، كان المعلم يأخذ طريقه إلى القهوة وهو يتمتم بختام صلاة الصبح، ويده ترفع ثوبه من خلفه، ويده الأخرى تحرك مسبحته الكهرمان في رزانة وخشوع.
وحين فتح الباب بمفتاحه كانت القهوة يسودها ظلام تخرقه خيوط من ضوء ما قبل الشروق التي تنفذ من الثقوب الكثيرة في نافذتيها، وفي حائطها نفسه. وكان هواؤها ثقيلا فيه دخان، وله رائحة، وكان الكلوب مطفيا، والأرض عليها أكوام من تفل الشاي، وقشر السوداني، وورق المعسل الفارغ، وفيها برك صغيرة من ماء أسود حالك.
وكان نبقة راقدا يشخر على كنبة طويلة، وقد تعرت ساقاه، وتعلقت إحداها في الهواء.
وعلى المنضدة الأبلكاش، كان هناك مليم وحمودة، وقد ألصقا رأسيهما ليستطيعا رؤية الأوراق على ضوء اللمبة «أم ساروخ» ولهيبها يتلاعب وينفث هبابه فيسود وجهيهما، ويلتهم ما شاء من شعر حمودة النافر في كل اتجاه. وكان الأستاذ هناك أيضا، وقد ربع يديه، ووضع فوقهما رأسه، مائلا إلى اليمين ليلمح أوراق حمودة، ثم مرتدا إلى اليسار ليرى ما عند مليم.
ويبدو أن أحدا لم يحس بمقدمه، أو إن كانوا قد شعروا فإنهم لم يبالوا بالقادم، ولا بمن يكون، ولكنهم أفاقوا تماما على صوت المعلم، وقد عادت هامته إلى الارتفاع، وجحظت عيناه على آخرهما في غضب واستنكار ودهشة: يا فتاح يا عليم، هو أنا حقلبها قمار، هو انتو موظفين يا ولاد الكلب يا جعانين، واد يا مليم، واد يا حمودة، فز أنت وهوه عمى في عينك منك له، أصل العيب مش عليكو، العيب على الصايع دهه.
وشد المعلم نبقة من رجله المعلقة في الهواء فرماه على الأرض، وصحا الولد شاهقا هالعا، ولكنه لم يمهله فانهال عليه بكفه ومسبحته وبلغته وقدميه.
وهنا فقط تحرك الثلاثة الذين كانوا واجمين مسمرين على مفاجأتهم الأولى، وكأنهم ضبطوا متلبسين، ولا أمل لهم في نجاة. كان أولهم الأستاذ الذي انسل كالنسمة مغادرا القهوة، وتبعه مليم وحمودة، وكل منهما يجر نفسه جرا وعيناه مطفأتان محمرتان فيهما تعب مريض، وقد تجمعت نقط بيضاء جافة على أركانهما، ووجهه ممتقع أصفر يختلط فيه الإنهاك بهباب المصباح. وليس في رأسيهما إلا طوابير من العشرات الطيبة والأولاد ومئات البصرات. وامرأة حمودة وبناته وصفائح مليم والغربية بلده.
ومضيا على غير هدى في الضوء الرمادي الباهت.
المكنة
Unknown page