أرخص ليالي
نظرة
الشهادة
على أسيوط
أبو سيد
ع الماشي
الهجانة
الحادث
رهان
5 ساعات
Unknown page
الأمنية
أم الدنيا
المرجيحة
المأتم
حصة
مشوار
بصرة
المكنة
شغلانة
مظلوم
Unknown page
في الليل
أرخص ليالي
نظرة
الشهادة
على أسيوط
أبو سيد
ع الماشي
الهجانة
الحادث
رهان
Unknown page
5 ساعات
الأمنية
أم الدنيا
المرجيحة
المأتم
حصة
مشوار
بصرة
المكنة
شغلانة
Unknown page
مظلوم
في الليل
أرخص ليالي
أرخص ليالي
تأليف
يوسف إدريس
أرخص ليالي
بعد صلاة العشاء كانت خراطيم من الشتائم تتدفق بغزارة من فم عبد الكريم، فتصيب آباء القرية وأمهاتها، وتأخذ في طريقها الطنطاوي وأجداده.
والحكاية أن عبد الكريم ما كان يخطف الأربع ركعات حتى تسلل من الجامع، ومضى في الزقاق الضيق، وقد لف يده وراء ظهره، وجعلها تطبق على شقيقتها في ضيق وتبرم، وأحنى صدره في تزمت شديد، وكأن أكتافه تنوء بحمل «البشت» الثقيل الذي غزله بيده من صوف النعجة.
ولم يكتف بهذا، بل طوى رقبته في عناد وراح يشمشم بأنفه المقوس الطويل الذي كله حفر سوداء صغيرة، ويزوم، وقد أطبق فمه، فانكمش جلد وجهه النحاسي الأصفر، ووازت أطراف شاربه قمم حواجبه التي كانت ما تزال مبللة بماء الوضوء.
Unknown page
والذي بلبل كيانه، أنه ما إن دخل إلى الزقاق، حتى ضاعت منه ساقاه الغليظتان المنفوختان، ولم يعد يعرف موضع قدميه الكبيرتين المفلطحتين اللتين تشقق أسفلهما، حتى يكاد الشق يبلع المسمار، فلا يبين له رأس.
ارتبك الرجل رغم القسوة التي ضم بها نفسه؛ لأن الزقاق كان يمتلئ بصغار كالفتافيت يلعبون ويصرخون، ويتسربون بين رجليه، ويسرح واحد من بعيد وينطحه، ويشد آخر «البشت» من ورائه، ويصيبه شقي بصفيحة في أصبع قدمه الكبير النافرة عن بقية أصابعه.
ولم يستطع إزاء هذا كله إلا أن يسلط عليهم لسانه، فيخرب البيوت فوق رءوس آبائهم وأجدادهم، ويلعن الداية التي شدت رجل الواحد منهم، والبذرة الحرام التي أنبتته.
ويرتعش عبد الكريم بالحنق، وهو يسب ويمخض ويبصق على البلد الخائب الذي أصبح كله صغار في صغار، ويتساءل، و«بشته» يهتز، عن معمل التفريخ الذي يأتي منه من هم أكثر من شعر رأسه، ويزدرد غيظه وهو يطمئن نفسه أن الغد كفيل بهم، وأن الجوع لا محالة قاتلهم، و«الكوريرة» سرعان ما تجيء فتطيح بنصفهم.
وتشهد عبد الكريم وهو يشعر براحة حقيقية حين خلف النحل وراءه في الزقاق، وأصبح يشرف على الواسعة التي تحيط بالبركة في وسط البلد.
وانبسط الظلام الكثير أمامه؛ حيث تعشش البيوت المنخفضة الداكنة، وترقد أمامها أكوام السباخ كالقبور التي طال عليها الإهمال، ولا شيء بقي يدل على الأحياء المكدسين تحت السقوف إلا مصابيح متناثرة في الدائرة المظلمة الواسعة، وكأنها عيون جنيات رابضات يقدح منها الشرر، ويأتي نورها الأحمر الداكن متبخترا من بعيد؛ ليغرق في سواد البركة.
وتشتت بصر عبد الكريم في الظلام الفاضي، ودار برأسه هنا وهناك، ورائحة الماء الصدئ في المستنقع تتلوى مع تقوس خياشيمه. وفي الحال شعر بالضيق يكتم فتحات أنفه، فشدد من قبضة يده، وزاد انحناؤه، وكاد يرمي «بالبشت» على حافة البركة.
وكان ما ضايقه وكتم أنفاسه شخير الأرانب أهل بلده، وهو يمتد مع انتشار الظلام، ولحظتها كان ما يلهلب سخطه أكثر هو طنطاوي الخفير، وكوب الشاي «الزردة» التي عزم عليه بها في حبكة المغرب، والتي لولا دناوته، وجريان ريقه عليها، ما ذاقها.
وتمشى عبد الكريم في الواسعة وأذنه لا تسمع حسا ولا حركة، ولا حتى صيحة فرخة، وكأنه وسط جبانة، وليس في رحاب بلدة فيها ما فيها من خلق الله.
وحين بلغ منتصف الواسعة توقف، وكانت لوقفته حكمة، فهو إذا أطاع ساقيه ومشى، أصبح بعد خطوات قليلة في قلب بيته، وإذا أغلق دونه باب الدار، كان عليه أن يخمد أنفاسه وينام. وهذه اللحظة لم تكن في عينيه قمحة واحدة من النوم، بل كان مخه أروق من ماء «الطرمبة»، وأصفى من العسل الأبيض، ولا يهمه السهر، ولو لهلال رمضان.
Unknown page
وكل هذا بسبب دناوته، وسواد الشاي في الكوب، وأفعوانية طنطاوي، وبسمته الزرقاء، ودعوته التي لم يفكر في رفضها.
ليس هناك نوم؟ طيب.
ورجال البلدة الخناشير قد انكفئوا يغطون من زمان، وتركوا الليل لصغارهم الملاعين ، فماذا يفعل عبد الكريم؟
يسهر؟ وأين يسهر؟
صحيح؟! أين يسهر؟
هل يلعب «الاستغماية» مع الأولاد؟
أو تزفه البنات وهن يقلن: يا ابو الريش انشالله تعيش؟ صحيح أين يسهر؟ وهو أنظف من الصيني بعد غسيله، وليس معه قرش صاغ واحد، حتى يذهب إلى «غرزة» أبو الإسعاد، ويطلب القهوة على البيشة، ويتبعها بكرسي الدخان، ويجلس ما شاء بعد ذلك على ريحة القهوة والكرسي، يراقب حريفة «الكوتشينة» من صبيان المحامين، ويستمع إلى ما لا يفهمه في الراديو، ويضحك ملء قلبه مع السباعي، ويلكز أبا خليل وهو يقهقه، ثم ينتقل إلى مجلس المعلم عمار مع تجار البهائم، وقد يشارك في الحديث عن سوقها التي ركدت ونامت.
ليس معه قرش! جازاك الله يا طنطاوي!
وهو لا يستطيع أن يخطف رجله إلى الشيخ عبد المجيد؛ حيث يجده متربعا والمدفأة أمامه، والكنكة النحاسية تغلي وتوشوش على مهل، والشيحي جالس بجواره، يقص بكل ما في صوته من رنين، ما حدث في الليالي التي شاب لها شعره، والأيام التي انقضت وأخذت معها بضاعته من عقول الناس القدامى الفارغة الطيبة، وجعلته يتوب عن النصب والسرقة، وقلع الزرع على أيدي النماردة من سكان هذا الجيل.
لا يستطيع أن يتنحنح ويطرق باب الشيخ عبد المجيد؛ لأنه أول الأمس فقط، دفع الرجل من فوق مدار الساقية، فأوقعه في الحوض، وأضحك عليه الشارد والوارد، لما دب الخلاف بينهما على مصاريف إصلاح الساقية، ومن ساعتها ولسان الشيخ لا يلافظ لسانه.
Unknown page
كان الشيطان ساعتها شاطرا، ولكن طنطاوي بدعوته أشطر، الله يخرب بيتك يا طنطاوي.
وماذا عليه لو سحب عصاته «المشمش» ذات الكعب الحديد، ومر على سمعان، وانطلقا إلى عزبة البلابسة، فهناك سامر، وليلة حنة، وغوازي، وشخلعة، وعود، وهات إيدك ...
وإنما من أين يا عبد الكريم «النقطة»؟ ثم المساء قد دخل، ويجوز أن سمعان ذهب يصالح امرأته من خالها والطريق خائنة، والدنيا كحل.
يا ناس، لماذا هو الخائب الساهر وحده؟ وطنطاوي لا شك قد استنظف مصطبة رقد عليها في «دركه»، وراح في النوم، نامت عليه البعيد أثقل حائط.
وماذا يحدث لو عاد إلى بيته هكذا كالناس الطيبين، ولكز امرأته فأيقظها، وجعلها تنير المصباح، وتمسح زجاجته، وتشعل الموقد، وتسخن له رغيفا، وتحضر الفلفل الباقي من الغداء، وحبذا لو كان قد بقي شيء من الفطيرة التي غمزتها بها أمها في الصباح، وآه لو صنعت له بعدها كوزا من الحلبة، وجلس كسلطان زمانه يرقع الثلاثة مقاطف التي بليت مقاعدها، ويصنع لها آذانا وقد تملصت آذانها.
ماذا يحدث بالله إذا كان هذا؟
هل تنتقل المحطة من مكانها؟
وهل يعمل العمدة ليلة لوجه الله؟
وهل تنطبق السماء على جرن القمح؟
أبدا، لن يحدث شيء من هذا.
Unknown page
ولكنه أعرف الناس بامرأته، وأعرف من شمهورش برقدتها كزكيبة الذرة المفروطة، وقد تبعثر حولها الصغار الستة كالكلاب الهافتة، ولن تصحو حتى لو نفخ إسرافيل في نفيره، وإذا تفتحت ليلة القدر وقامت، فماذا تفعل؟
أهو يحاول الضحك على نفسه؟
وهل الذي يزمر يغطي ذقنه؟
المصباح بالعربي ليس فيه «جاز» إلا ما يملأ نصفه، والمرأة في حاجة إليه كله لتعجن وتخبز طول الليلة الآتية إذا عاش أحد، ثم الأولاد لا ريب قد جاعوا ساعة المغرب، وأكلوا الفلفل بآخر رغيف في «المشنة».
وهل تبقى فطيرة الصبح لتنتظر سهرته؟ وعليه أن يطمئن نفسه، فلك الحمد، ليس في داره حلبة ولا سكر، ولا يحزنون.
ولن يستطيع طول عمره أن يحظى بكوب مثل التي لحسها لحسا عند طنطاوي.
الله يجحم روحك يا طنطاوي يا ابن زبيدة. •••
ولو أن أحدا عن له أن يقضي حاجته في الواسعة، ورأى عبد الكريم في وقفته، مزروعا كزوال المقاتة أمام وجه البركة الداكن، لظن في التو أن الرجل مسه شيطان أو لبسته شيخة.
وعبد الكريم معذور، فالحيرة التي كان فيها أوسع منه، والمسألة أنه رجل على نياته، لا يقرأ الليل ولا يكتبه، والجيب خال، والليلة شتاء، والشاي يكوي رأسه، وجهلة السهر من أمثاله قد غيبهم النوم من سنة مضت في سابع أرض.
طالت من أجل ذلك حيرة الرجل، وطال وقوفه، وأخيرا فعلها وقر قراره.
Unknown page
وقطع الباقي من الواسعة في استسلام، وقد رأى أن يقضي ليلته كما اعتاد قضاء البارد من لياليه.
وأخيرا استقر في وسط داره، وقد أغلق الباب بالضبة وراءه، وتخطى أولاده وهو يزحف في الظلام على قبوة الفرن حيث يتناثرون، ومصمص بشفتيه وهو يئن منهم ومن الظلام، ويعتب بينه وبين نفسه على الذي رزقه بستة بطون تأكل الطوب.
وكان يعرف طريقه، فطالما علمته ليالي البرد الطريق، وعثر آخر الأمر على امرأته، ولم يزغدها، وإنما أخذ يطقطق لها أصابع يديها، ويدعك قدميها اللتين عليهما التراب بالقنطار، ويزغزغها في خشونة بعثت اليقظة المقشعرة في جسدها.
وصحت المرأة على آخر لعنة أصابت طنطاوي في ليلته، وسألته في غير لهفة وفمها يملؤه التثاؤب عما جناه الرجل، حتى يسبه في عز الليل.
فقال وهو ينضو ثيابه، ويستعد لما سيكون: هه، الله يخرب بيت اللي كان السبب. •••
بعد شهور كانت النساء كالعادة يبشرنه بولد جديد، وكان هو يعزي نفسه على السابع الذي جاء في آخر الزمان، والذي لن يملأ طوب الأرض بطنه هو الآخر.
وبعد شهور وسنوات كان عبد الكريم لا يزال يتعثر في جيش النمل من الصغار الذين يزحمون طريقه في ذهابه وأوبته، وكان لا يزال يتساءل كل ليلة أيضا، ويداه خلف ظهره، وأنفه يشمشم حوله عن الفتحة التي في الأرض أو السماء، والتي منها يجيئون.
نظرة
كان غريبا أن تسأل طفلة صغيرة مثلها إنسانا كبيرا مثلي لا تعرفه في بساطة وبراءة أن يعدل من وضع ما تحمله، وكان ما تحمله معقدا حقا؛ ففوق رأسها تستقر «صينية بطاطس بالفرن»، وفوق هذه الصينية الصغيرة يستوي حوض واسع من الصاج مفروش بالفطائر المخبوزة، وكان الحوض قد انزلق رغم قبضتها الدقيقة التي استماتت عليه حتى أصبح ما تحمله كله مهددا بالسقوط.
ولم تطل دهشتي وأنا أحدق في الطفلة الصغيرة الحيرى، وأسرعت لإنقاذ الحمل، وتلمست سبلا كثيرة وأنا أسوي الصينية، فيميل الحوض، وأعدل من وضع الصاج فتميل الصينية، ثم أضبطهما معا، فيميل رأسها هي، ولكنني نجحت أخيرا في تثبيت الحمل، وزيادة في الاطمئنان، نصحتها أن تعود إلى الفرن، وكان قريبا؛ حيث تترك الصاج وتعود فتأخذه.
Unknown page
ولست أدري ما دار في رأسها، فما كنت أرى لها رأسا، وقد حجبه الحمل، كل ما حدث أنها انتظرت قليلا لتتأكد من قبضتها، ثم مضت وهي تغمغم بكلام كثير لم تلتقط أذني منه إلا كلمة «ستي».
ولم أحول عيني عنها، وهي تخترق الشارع العريض المزدحم بالسيارات، ولا عن ثوبها القديم الواسع المهلهل الذي يشبه قطعة القماش التي ينظف بها الفرن، أو حتى عن رجليها اللتين كانتا تطلان من ذيله الممزق كمسمارين رفيعين.
وراقبتها في عجب وهي تنشب قدميها العاريتين كمخالب الكتكوت في الأرض، وتهتز وهي تتحرك، ثم تنظر هنا وهناك بالفتحات الصغيرة الداكنة السوداء في وجهها، وتخطو خطوات ثابتة قليلة، وقد تتمايل بعض الشيء، ولكنها سرعان ما تستأنف المضي.
راقبتها طويلا، حتى امتصتني كل دقيقة من حركاتها، فقد كنت أتوقع في كل ثانية أن تحدث الكارثة.
وأخيرا استطاعت الخادمة الطفلة أن تخترق الشارع المزدحم في بطء كحكمة الكبار.
واستأنفت سيرها على الجانب الآخر، وقبل أن تختفي شاهدتها تتوقف ولا تتحرك.
وكادت عربة تدهمني وأنا أسرع لإنقاذها، وحين وصلت كان كل شيء على ما يرام، والحوض والصينية في أتم اعتدال، أما هي فكانت واقفة في ثبات تتفرج، ووجهها المنكمش الأسمر يتابع كرة من المطاط يتقاذفها أطفال في مثل حجمها، وأكبر منها، وهم يهللون ويصرخون ويضحكون.
ولم تلحظني، ولم تتوقف كثيرا، فمن جديد راحت مخالبها الدقيقة تمضي بها، وقبل أن تنحرف، استدارت على مهل، واستدار الحمل معها، وألقت على الكرة والأطفال نظرة طويلة.
ثم ابتلعتها الحارة.
الشهادة
Unknown page
ما كدت أضع قدمي في قطار حلوان، حتى استرعى انتباهي رجل جالس في آخر العربة، منهمك في مطالعة جريدة.
وتوقفت لحظة، وفي ثانية واحدة كان كل شيء أعرفه عن الرجل قد بدأ يبرق في ذاكرتي كالأنوار الخافتة البعيدة، وأمسك وعيي بخيول واهية تربطني بجزء قديم من حياتي، وراح يجذبها برفق، وفي كل جذبة كنت أستعيد يوما وأياما وسنوات غير قليلة قضيتها في مدرسة دمياط الثانوية، وأستعيد معها أحلام صباي، وسحرية دمياط تتقاذفها وتلهو بها، وأماني مراهقتي وهي تدفعني وحيدا، غريبا، في عالم البلدة الذي يكسوه ضباب شاعري يلف الناس والوحدة والسكون.
وتراجعت بي الأيام إلى مبنى المدرسة الكبير، وحوشها الواسع، وأطفال وشبان صغار يلهون فيه بطرابيشهم التي فقدت معظم خيوط أزرارها، وتثنت جدرانها، وتعود الأيام إلى الفصل الضيق، ومقعدي في أول الفصل، والحفني أفندي مصطفى مدرس الكيمياء يكاد يحتل كل ما بقي في الفصل من فراغ، بكرشه الضخم، ورقبته الغامضة المختفية وراء شحم كثير ينسدل من تحت فكه، ووجهه السمين ذي التجاعيد الغليظة، وسترته التي حال لونها، والتي كانت أصغر بكثير من جسده، وسرواله الذي يحشو فيه ساقيه المنتفختين حشوا فيبدو كشراب طويل، وكلماته البطيئة التي تفصلها فترات حزق طويلة وهو يشرح، حتى إذا ما أخذه الحماس، واستطرد مسرعا في شرحه تتلاحق أنفاسه لاهثة، ويمد يده يخرج منديله المنكوش يمسح به العرق الذي يقطر من حواف تجاعيده.
ومع أن تلاميذ الفصل كان لهم هدوء أهل دمياط، إلا أنهم ما كانوا يستطيعون أن يتمالكوا أنفسهم في حضرة الحفني أفندي، وكان المخضرمون الجالسون في أواخر المقاعد هم أحسن من يقلدونه، وأول من يضحكون عليه إذا أدار ظهره، والبادئين برش الحبر من ريشهم على سرواله حين يمر بين التخت، وهم الذين يلصقون له ذيول الورق الملون في سترته إذا ما هم بمغادرة الفصل، وما كان يكتشف ما حدث له عادة إلا في الحصة الثانية حين يدخل، وفي وجهه صرامة عسكرية، وعلى خدوده احمرار فاقع، وفمه لا ينطق بحرف، وإنما يزغر لنا كلنا، ونحن واجمون صامتون، ويختار أي تلميذ، وغالبا ما يكون من الجالسين في الصفوف الأمامية، ويلعن أباه، ثم يهدأ الحفني أفندي.
ومع ذلك كان يعاملنا كالرجال الكبار، وكثيرا ما كان يقطع الدرس، ويحدثنا عن متاعبه؛ فقد كان يقيم وحيدا في لوكاندة، وكانت عائلته في مصر، فيكلمنا عن الجزار الذي خدعه، وباع له رطل اللحم ثلاثة أرباعه عظام، وخادم اللوكاندة الذي أكل من الباقي قطعتين كبيرتين حين أرسله يشوي اللحمة، وكيف أصبح ذات مرة، فوجد حافظته قد اختفت، وفيها اثنان من الجنيهات.
ويحدثنا عن ابنه الذي يغوي البنات في مصر، والذي رسب ثلاث مرات في السنة الواحدة من أجل هوايته، وعن امرأته التي تأبى أن تسكن دمياط، والتي يرسل لها في أول كل شهر معظم ماهيته.
كنا نسمع منه هذا، ونضحك في بعض الأحيان، ونتظاهر بالحزن في بعضها، وهو لا يشاركنا في كليهما، وإنما كان وجهه يحفل بالاشمئزاز والاشمئناط كمن يعاني من مغص دائم.
وما كان الرجل يلقى تقديرا من أحد؛ فتلاميذه يعبثون به، وزملاؤه يسخرون منه، والناظر يتجهم في وجهه ويلذعه كلما رآه بالنقد، والمفتشون يكتبون عنه أزفت التقارير، بل لا يتورعون عن تجريحه أمامنا في الفصل.
وكنت من المجتهدين الجالسين في أول الصفوف، الذين تهدد اللعنة في أي وقت آباءهم.
وكنت أكره «الشرز» الواحد الذي يرتديه صيف شتاء، حتى كان يخيل إلي أن زغبه الخشن ينغرز في جسدي أنا، وكنت أكره رباط عنقه الذي يلقيه على ناحية نائية من ياقته، وأكره أصابعه الملفوفة القصيرة، وهو يهرش بها كرشه المنبعج، وأكره أسنانه الصفراء بغير دخان، ومنديله المتكرمش المتسخ حين يخرجه من جيبه ويدعك به أسنانه في وسط المعادلة التي يشرحها، ثم يعيد المنديل، ويستأنف الدرس، وكأن شيئا لم يحدث.
Unknown page
مع أني كنت أكره كل هذا منه، إلا أنني كنت أحبه، فوراء جسده التخين القصير، ومشيته المتطوحة، وصراحته، ونظرته الممغوصة، وطربوشه الملقى إلى الخلف في قلة اكتراث، كان وراء هذه طيبة كنا نتحسسها بقلوبنا الصغيرة، فنحبه، ولكن حبي له ما كان يمنعني من المشاركة في الضحك عليه، ولا من سترته، وقد أغرتني ذات يوم فعلقت له فيها ذيلا.
ولا أنسى يوم دخل علينا الفصل، وترنحنا ونحن نقف له، وتناول من تحت إبطه أوراق إجاباتنا في امتحان الفترة، وسكتنا فقد كان كل ما يمت إلى سيرة أي امتحان كفيلا بإشاعة الرهبة فينا، وأفسح له سكوتنا واديا متراميا راح يندد فيه بخيبة تلاميذه، وقلة نفعهم.
وبعد أن التقط أنفاسه الكثيرة اللاهثة التي تعقب حماسه، أشار إلي، وأشاد بإجابتي، وأخرج ورقتي وتلاها كنموذج للإجابة، وأقول الحق سرت في بدني فرحة عظمى أعادت إلي ذكرى اليوم الجليل في حياتي، يوم رأيت نمرتي بين الأرقام الناجحة في امتحان الابتدائية.
ولقبني بعدها زعيم الكيمياء، وسقت أنا فيها رغبة في الاحتفاظ باللقب، مضيت أذاكر كالآلة حتى انتقل الحفني أفندي إلى مدرسة أخرى.
وكان وداعنا له حافلا.
كان كل ما تذكرته مجرد قبضة واحدة سريعة من ذكرياتي، مرت بخاطري، فأشعلت النار في رماد حياة بأسرها، عشتها، ونسيتها، وأصبح بيني وبينها ما يزيد على عشر سنين.
وما إن انتهى الوهج الذي خلفته القبضة، حتى كنت قد عبرت ممر العربة، ووجدت نفسي أقف في آخرها أمام الرجل الذي في يده الجريدة.
وجلست على المقعد المقابل، وسألته في كثير من التهتهة إن كان يذكرني.
ونظر إلي الرجل بنفس نظرته المشمئزة الممغوصة، ولم يقل شيئا، فاستطردت ألحم الكلام في الكلام، وأدخل الثالثة فصل أول في المعادلات وقانون الغازات، وأنبوبة الاختبار التي انفجرت ذات مرة، والرفاعي، والدغيدي، وأحمد مسلم من شطار الفصل.
وبعد كثير بان على الرجل أنه تذكرني، أو بالأحرى تذكر صبيا صغيرا يشبهني كان من تلاميذه. ولم يظهر عليه أنه سر لهذه الذكرى فلا ريب أنه استعاد أذيال الورق الملون، وتأنيب الناظر، وعبث الجميع به.
Unknown page
ولكني انطلقت أحدثه عن الأيام التي مضت، والسنين التي لم تغير في مظهره، ولم تضف إلى علامات العمر فيه علامات جديدة، وحدثته عن الكلمات الصغيرة السريعة التي كان يغمرني بها، والتي أصبحت علامات بيضاء دفعتني قويا في طريق الحياة، وعن التقدير الذي أختزنه له من زمن.
وتعجب قليلا، وبعد أن كان واضحا أنه يضن بالكلام، بدأ يحدثني حديث الإنسان عن المدارس التي تنقل فيها، وعن الوزارة التي تضن عليه بالدرجة، وعن زملائه الذين أصبحوا نظارا، وهو لا يزال مدرسا، وعن امرأته التي طلقها، ونفقتها التي تستغرق مرتبه، وابنه الذي ترك المدارس، وذهب يمثل في السينما.
وسألته عن طلبة هذه الأيام وأنا أضحك، فلم يجبني، وإنما أخرج منديله العتيد من جيبه، ودعك أسنانه، ثم بصق من النافذة.
وذكرته بحكاية زعيم الكيمياء، فابتسم لأول مرة، وأخذ ينصت باهتمام حين قصصت عليه كيف دخلت مسابقة الكيمياء وكنت الأول، وكيف التحقت بكلية الطب وتخرجت، ولي سنين وأنا طبيب.
وحين وصلت إلى هذا الحد، انفجر في ضحكة طويلة اهتزت لها كل أرجاء جسده، وزغدني في كتفي وهو يقول: يا شيخ اتلهي، اتلهي!
وحتى حين أطلعته على بطاقتي الشخصية وأنا أقول له: كل ده بفضلك.
بان عليه حرج كبير، وضرب كفا بكف، وهو يقول: في المدة القصيرة دي، تبقى دكتور! دكتور!
فقلت مرة أخرى: كل ده بفضلك.
وكنت أقولها في حماس الصبي الذي كان في دمياط، وفي رهبة الفتى أمام أستاذه، وفي تلعثم المبتدئ حين يقابل الفنان الذي وصل.
وطول المدة التي أمضاها في مدرستنا ما رأيت الحفني أفندي سعيدا أبدا؛ ولذلك تفرست في ملامحه، وقد بان فيها تعبير بدائي عن سعادة تطرق وجهه ربما لأول مرة.
Unknown page
وأخذ يفرك كفيه، ويطبطب على فخذه، ثم يروح بالجريدة عن وجهه الذي احتلته ابتسامة واسعة بانت لها أسنانه، وقد اسود صفارها القديم.
وبين الفينة والأخرى يردد: والله عال، أهو واحد من دمياط نفع، والله عال، واحد نفع.
وأقول له إننا كلنا نفعنا، ولكنه لم يكن معي، وإنما كان يستغرقه شعور قوي يشيع فيه أحاسيس لا عهد له بها.
وجاءت المعادي، وكاد ينسى أنها محطته، وشد على يدي بحرارة وهو يشكرني بأنصاف كلمات، ولا أدري على أي شيء كان يشكرني، وودعته حتى باب العربة، وابتعد القطار بي، وهو يلوح بيده، وفرحة كبيرة تقلقل خطواته، والابتسامة تتموج في وجهه، وسعادة غامرة تطفح من عينيه.
كان كالطفل الذي نجح لتوه في الشهادة الابتدائية.
على أسيوط
- يا سيدي، والنبي يا سيدي، يا ناس، يا ناس، حرام عليكم، دانا جي من أسيوط، جي ماشي يا ناس، على رجلي، وبقالي هنا سبوع، سبع ليالي بايت، نايم على الرصيف قدام المستشفى، دانا مريض، مريض يا عالم، غلبان يا هوه ، ورجلي ما عدت طايق ريحتها، المدة ضربت في وركي، دا حرام، والنبي دا حرام، واللي خلق النبي دا ما يخلصوش.
وقبل أن تمتد أذرع «التومرجية» القوية تنتزعه، وتعيده من حيث جاء، تململ الطبيب في كرسيه، وقطع الحديث الدائر بينه وبين الحكيمة، واستدار إلى المناكف الجديد.
وعبر الطبيب على الوجه الصدئ الذي أمامه، والذي كله شعرات وفجوات وغضون، عبر في سرعة وفي ملل، فالمترددون على المستشفى كلهم ملبدو الوجوه بغيوم الحاجة والمرض، ولكن الطبيب توقف قليلا، متفرجا، عند ملاءة السرير القديمة التي اسود لونها الأصفر الباهت، وامتلأت بالبقع والخروق، والتي عمم الرجل بها رأسه، وتدلى طرفها بجانب وجهه كذيل ملطخ بالوحل لكلب عجوز.
ورمق الطبيب في قليل جدا من الدهشة رجله الملفوفة في عدد كثير من الخرق والأشرطة والجوارب القديمة من مختلف الألوان والأحجام، وقد كست رجله من قمة أظافرها إلى مفرق فخذيه، فضخمت الرجل وكبرتها، حتى أصبحت كصبي مستقل صغير يرتكز عليه الرجل في ناحية، ويستند في الناحية الأخرى إلى فرع شجرة غليظ ملتو غير مشذب.
Unknown page
انتهى الطبيب من استعراضه في لمح البصر، واستقرت عينه على الشيء الذي يهمه من كل هذا، على ورقة المستشفى البالية المتسخة، وقد استماتت قبضة الرجل عليها. وفي الحال شد منه الورقة، وقلبها في اشمئزاز، ثم انفرجت أساريره فجأة، وزأر في الرجل: يا بني آدم، أنا مش محولك من أسبوع لعيادة الجراحة، إيه اللي جابك هنا تاني؟ هنا يا مغفل حاجة اسمها الاستقبال بس، فاهم؟
وقفز «التومرجي» يشاطر في الزئير ويقول: دا مكتوب له، يحول في عربة كمان، أما ناس ما بتختشيش.
وكاد الرجل أن يبتسم لولا أن وجهه خانه، فبدأ يغمغم: يا خيه يا سعادة البيه، ما الجراحة حولت لباطنية، وباطنية حولت لسرية، وسرية حولت لجدية، وآديني رجعت تاني، وبقالي أسبوع يا سعادة البيه بارقد على الرصيف، وآخ...
ورد الطبيب بسرعة وغضب: طاب، وحاعملك إيه؟ وأنا مالي يا أخي؟ أنا ملزوم؟ أنا ملجأ؟ أنا لوكاندة؟ اسمع، مش عايز دوشة، أنا حاحولك الجراحة تاني في عربية برضه، إنما وشرفي لو شفت وشك بعد كده ...
ورفع الرجل يده الفارغة، وأمال جسده حتى كاد يلمس المنضدة التي يجلس إليها الطبيب، واندفع يقول ولا شيء يوقفه: لا لا لا، والنبي يا بيه، أنا مش عايز علاج واصل، والنبي يا بيه دانا ...
وانفجر الطبيب كالبركان: أمال عايز إيه؟!
وكان انفجاره هو إشارة البدء لأيدي «التومرجية» لكي تلتف في جبروت حول الرجل، وتقتلعه من الغرفة، فناضل بكل ما يملك ضعفه من قوة يحاول تخليص نفسه، وقال في وهن ومسكنة: والنبي يا بيه، والنبي وحياة والدك، مش عايز الجراحة، حولني على بلدي، حولني على سيوط.
أبو سيد
الدنيا كلها سكون، والصوت الوحيد الذي يتسرب إلى الحجرة كان ينبعث من «وابور الجاز» وهو يون في ضعف مستمر واهن، وكأنه نواح طفل عنيد مسلول، ولا يقطع ألون الشاحب البعيد إلا زحف «الكوز» على أرض الحمام، ثم صوته وهو يبتلع الماء ويصبه بعد ذلك في ضوضاء مكتومة.
واستمر الوابور يزن، والكوز يحف ويبتلع وينصب ماؤه، وصفيحة الماء تقرقع، استمرت الأصوات كلها تتضارب وتحلق كالوطاويط في سماء الحجرة، حتى جاد الوابور بآخر أنفاسه، وانطفأ، وعاد المكان إلى سكون الدنيا الثقيل.
Unknown page
ومضى وقت طويل قبل أن يفتح باب الحمام، ويسمع رمضان نقيق «القبقاب» على البلاط وهو يقترب، ويعلو وهو يقترب، حتى دلفت امرأته إلى الحجرة، وأحس بنفسها الذي ليس غريبا عليه يملأ الجو.
وظل «القبقاب» رائحا غاديا، وضوء المصباح ينتقل من مكان إلى مكان، وهمهمة حزينة خافتة تنحدر، وتعلو من فم امرأته مع اقتراب الضوء وابتعاده، ظل هذا يدور ورمضان مغلق عينيه، ومصر على إغلاقهما، ولم ينتفض ويفتحهما إلا على قطرات من الماء البارد تلسع وجهه.
وجمده قليلا مشهد امرأته، وقد وقفت منكوشة الرأس، والمشط الخشبي في يدها، تدكه بين غزارة شعرها الأكرت، ثم تشده بكل ما تستطيع ليحرث طريقه بين الجذور والسيقان، وقد زمت وجهها السمين الخمري اللامع، وارتسمت دقائق التجاعيد حول أنفها السهل الفاطس، وبان النور من عينيها اللتين ضيقتهما في فروغ بال، بينما رذاذ الماء تدفعه جذبة المشط، فيتساقط هنا وهناك، وعلى ثوبها الشيت النظيف ذي الورود الكبيرة الباهتة.
وانتهى جمود رمضان، ثم عاد إلى نومته، وقال في شيء من التحدي وهو يغلق عينيه: مش تحاسبي يا وليه، قزازة اللمبة حطق من الميه، وردت المرأة بكلام مضغوم لم يفسره، ولم يهتم به، فقد عاد يتنفس بعمق، ويكن رجله، ثم يفردها، ويشخر بمطلق إرادته، ثم قرر أن ينام.
وحين كان يجذب اللحاف فوق أكتافه، وارب عينيه، وألقى نظرة أخيرة على زوجته التي كانت يدها تمتد إلى المصباح تمسيه، وشعرها قد تم نظامه، وازدادت لمعته، ووجهها قد ابيض، حتى كادت تختفي تجاعيده في تلك الابتسامة الكبيرة الرائعة التي احتلت وسطه.
وارتعش رمضان، وأسرع يصفق عينيه في عنف؛ فقد كان يعرف من زمان سر هذه الابتسامة، فاليوم يوم الخميس، والليلة ليلة الجمعة.
وأحس الرجل بالسرير ذي الأعمدة الرفيعة يهتز، ويزيق، ثم بامرأته تستوي على السرير، وتدخل تحت الغطاء، وعبقت في الدنيا التي يصنع اللحاف سماءها رائحة المرأة مختلطة برائحة ثوبها الشيت، ورائحة الصابون الرخيص الذي دعكت به جسدها.
وكح رمضان، وكان لا يريد أن يكح، وطال سعاله. وقالت امرأته ووجهها إلى الناحية الأخرى في صوت حنون ذليل: مالك يا سي رمضان؟
ثم سكتت قليلا قبل أن تقول في همس خافت مليء بالإثم: اوعى سيد يكون صاحي. - ولما لم يرد، تنهدت في حرقة تصاعدت من كبدة قلبها، واهتزت أعمدة السرير وهي تستدير لتكمل آهتها، حتى أصبح وجهها يتدفأ بكثير من الحرارة والخشونة المنبعثة من رمضان.
وكان الرجل ساعتها يلهث، ولفح أنفاسه يحملها بعيدا إلى حيث لا يراهما أحد، ثم يلوكها في نشوة ويدغدغ ضلوعها في حنان، ومدت يدها وملست على جبهته اللزجة بالعرق، ثم أرسلت أصابعها تتحسس رقبته الغليظة النافرة العروق، وقالت في صوت خنفته، وأطالت فيه حتى غدا كمواء قطة جائعة: اسم الله عليك يا خويا، اسم النبي حارسك يا ضنايا، وكح رمضان، وكان لا يريد أن يكح، وزام من خلال فمه المطبق، ثم اهتز السرير وهو يستدير ليعطيها ظهره.
Unknown page
وما كانت هذه أول ليلة يستدير فيها، ولا كانت هذه أول مرة يكح فيها ويزوم ويعبس، وهو لا يذكر كم شهرا مضت، وهل بدأت المسألة عقب أيام العيد الصغير أم قبله، وهناك ضباب كثيف بينه وبين البداية، فما فكر في الأمر أبدا ولا اعتبر ما حدث - يوم حدث - بداية لأية نهاية، تماما كما لم يتبين جاره سي أحمد الكمساري في شركة الأوتوبيس أن السخونة التي أصابت ابنته، ممكن أن تكون البداية لنهاية يعزيه فيها الناس على البنت.
والناس على هذه الحال، وكذلك رد ما أصابه في تلك الليلة إلى نوبة البرد التي ألمت به، ومرت أيام. وراح البرد من جسده، وحين استيقظ ذات صباح، ووجد العافية قد ردت إليه، قرر أن يفعلها في نفس المساء.
وانشرح خاطره لقراره ومضى إلى الميدان يردد في انتعاش مطلع الموال الوحيد الذي يعرفه، وتسلم صرة الميدان كما تركها، ووقفت العربات لإشارته كما اعتادت أن تقف، ويده قوية في قفازها الأبيض القديم كما كانت طول عمرها، وبدلته بزرائرها الصفراء اللامعة محبوكة عليه، تبرز أكتافه، وتضيق فوق كرشه فتكوره وتجعله كالبطيخة أمامه، وقبعته يلمع فوقها الدهان الذي لا يفلح في إخفاء كل ما فيها من قذارة وبلى، وقلمه الثابت الثقيل في يده يلتقط نمرة العربة في سرعة الواثق من يومه وأمسه وغده يدونها بخطه الواضح الذي كان يفخر بجماله، كانت الدنيا هي الدنيا، الدنيا التي هنا والتي هو ملكها، كانت لا تزال بخير، ولا يزال يتربع على عرشها، ويحكمها بصفارته، ويعز من يشاء، ويذل من شاء فقط متى لوح بقفازه.
وحين كان يكتب أول مخالفة كان عقله سارحا في الليلة التي سينفض فيها عن نفسه خمول المرض الذي لازمه أسبوعا، ولكن أمور اليوم شغلته، وعيونه الزائغة هنا وهناك تنقر المخالف من تحت حافة القبعة، هذه العيون ألهته عن الخاطر، ولم يتنبه له إلا هناك، حين كان يجاهد في خلع حذائه الميري الثقيل، وقد ألقى بجسده المنهوك على «الكنبة»، وامرأته تلقي إليه بتحيتها الوادعة، ثم تتربع على الأرض وتقول في حماس أطفأت العادة جدته: عنك أنت.
وطوقت يدها اللينة قليلا سمانة رجله، بينما مقدمة حذائه أصبحت مدفونة بين أثدائها، وحينئذ نقر الخاطر فوق رأسه.
ولم يعتبر ما جاء في باله عملا صبيانيا، فراح يزغزغ المرأة بحذائه الثقيل العريض، وهي تضحك، وتنهره، وتدفعه، وتميل إلى الوراء، ثم على جانبها، حتى تكاد تلمس الأرض، وتشدد من قبضتها على عضلات رجله، وترخي القبضة في بطء، وهو قد استمرأ اللعبة، وانتشى وهو يعب من صوت امرأته التي كانت تمطه، وترفعه، ثم تحيله همسا، ونصفها يضحك، ونصفها يتدلل، وكلها تريد وترغب. •••
في ضباب البداية يذكر رمضان هذه الليلة ولا ينساها، فقد حاول في كل دقيقة منها وسالت عليه بحور العرق، وقد أصم شعوره عن العالم، وأصبح هو وامرأته والفراش كل دنياه وتفكيره.
وأزاحته المرأة مرات ومرات، ولعن أباها آلاف المرات، والمعركة تدور وتدور لا تهبط إلا حين يتململ الصبي، حتى يكاد يستيقظ، وتبدأ حين يعود إلى غطيطه، ويعود اللعاب يسيل من جانب فمه.
وهجعت المحاولات قرب الفجر، ونامت المرأة، ولم ينم رمضان.
وليلتها مضت، وليلة أخرى جاءت، وصراع جديد نشب، وثقة رمضان في نفسه ورجولته تستميت وهي تدافع عن نفسها، والواقع وما يحدث يسلب هذه الثقة كل ما تملك.
Unknown page
وأخيرا سلم رمضان بعد ليال، وقال لنفسه في صباح يوم بصوت لا يدري أكان مسموعا أم غير مسموع: لا حول ولا قوة إلا بالله، والله ضعت يا رمضان واللي كان كان.
ولم تكن أول مرة يتحاشى فيها امرأته وهي تقدم له الفطار، وإنما كان يود أن يزيحها في هذا اليوم من أمامه، ثم يسرح ويخبط رأسه في الحائط عله ينفلق، كان شيء غريب يدور فيه، فبالقوة والعافية والعرق والليالي الطويلة كان عليه أن يصدق أنه لم يعد رجلا. وكان هو يأبى أن يصدق، ويكابر هذه الحقيقة، وهو مكسوف خجل كما لو كانوا يزفونه في البلد فوق الحمارة، وهو عاري الجسد وعلى رأسه كومة طين.
ويعود من جديد يقول وكأنه يتلو آية الكرسي ليطرد جنية من الجان: والله ضعت يا رمضان، واللي كان كان.
ويصمت، ثم يقطع لقمة كبيرة من الرغيف ولا يأكلها ويقوم، وينظر من النافذة، ثم يكح ويبصق بصقة كبيرة على العشش التي فوق السطوح أمامه، ويعود إلى جلسته أمام الطبلية، ويسرح في صمت طويل آخر، وهو يحدق في الطعام، ويمضغ صمته حتى يشبع فيرتدي البدلة، وكأنه يخلع كل ملابسه، ثم يتسلل من البيت كحرامي النحاس، وجسده هارب منه، وأطرافه لا يعثر عليها.
وحين يقف وسط الميدان، والعربات تزدحم حوله، والأرض والسماء تتحرك، وهو وحده الواقف الهامد الضائع، حينئذ يشعر بتفاهة هذه المملكة التي له، ويضايقه القفاز الأبيض، ويحس بالقبعة وكأنها حجر الطاحونة يكتم أنفاسه، ويومها لا يقيد محضرا واحدا، وماله هو والمحاضر والمخالفات، فليدع من يخطئ يخطئ، ومن يتحطم يتحطم، ومن يقتل يقتل. وهل هو الذي ينظم الكون؟ لعن الله العربات وأصحاب العربات، والمرور، وكل ما يمت إلى خلية النحل التي يلسعه دويها وصرخاتها.
ولأول مرة في حياته كره بيته، ووجه امرأته النحس، ولم يعد توا إليهما.
وفي خطوات لا يهمه وقعها، ولا أين تقع راح يدق الشارع بحذائه الثقيل، وقد كفأ القبعة فوق جبهته، وامتلأت أخاديد وجهه بالاشمئزاز واليأس، وفك حزامه العريض، وتمنى أن ترحمه عربة نقل وتأكله. ووصل أخيرا إلى باب الإنسان الذي لا يصادق في المدينة إنسانا سواه، وطرق الباب - ونادرا ما كان يطرقه - ولم يفاجأ طنطاوي، وإنما رحب به وسأله عن الصحة، وكالمعتاد عن البلد والقرايب والنسايب، والذي مات، والذي عاش، ومن تزوج، ولكنه فوجئ فعلا حين قطع رمضان أسئلته، وقال في جد: اسمع يا واد يا طنطاوي، عايزين تعميرة.
ولم يكن رمضان يشرب الحشيش كثيرا، ولكنه شرب هذه المرة حتى إن طنطاوي لم يأتمن الطريق عليه، فأصر على مرافقته، ولم يرفض رمضان، ولم يقبل، ولم يرد على أسئلة صاحبه عن السر الذي يكمن وراء سكوته.
وفي الطريق سرح رمضان بعيدا، وأوغل في الزمان والمكان، حتى وصل سكينة جارتهم في بيتهم القديم على الترعة، ثم السنوات القليلة التي أعقبت بلوغه، وكان رمضان يتوقف عن السير، ولا يدري لماذا، ثم تجذبه ذراع طنطاوي فيمشي، ويسرح، ثم يتوقف، حتى خطر له خاطر قاله في انبهار: يكونشي يا ولاد الحشيش ينفع؟!
وانفجر ضاحكا، وقد كف عن المشي، وغمغم الطنطاوي وهو يهز رأسه في رثاء: الجدع انسطل والنبي.
Unknown page
وهم رمضان أن ينطق، وكادت الكلمة تغادر فمه، ولكنه لحق نفسه، وابتلع الكلمة، وابتلع معها ريقه الجاف. وحين جره الطنطاوي من يده عاد حذاؤه يقرع الطريق مرة أخرى. •••
ولم ينفع الحشيش، أبدا.
وعاش رمضان بعد لياليها صامتا، لا يتحدث إلا حين يمد إنسان يده، فيستخرج من جوفه كلاما كالعصارة الفاسدة لا نكهة له ولا معنى، وإنما هو مزيج من الضجر والتبرم يعكره سخط غامق بليد، وامرأته تتكلم، وتكثر من الكلام، وهو لا يتحرك. وعمله في الميدان أصبح علقما يشربه في بطء الساعات التي يقضيها نصف واقف، وتحيته التي طالما انتفض بها لرؤسائه في مرورهم تضاءلت ووهنت، وأصبح ينتزعها من جسده كما ينتزع الناب الفاسد. وأصبح يتخبط في حبل طويل من الأكاذيب التي يقصها على الطبيب، فيمنحه اليوم أو اليومين إجازة يقضيها حيث لا يقضيها.
وعمره ما عاد لبيته إلا ويده مشغولة بشيء، ولو بربطة فجل، فصار يعود ويده خاوية تتأرجح بجانبه، وكأنها ليست من جسده.
وفي ذات عودة، سلم على حماته، وكانت قد حضرت لتوها، وتندى جبين امرأته لبروده وعدم مبالاته، وأكلت النيران قلبها وحديثه لأمها لا يخرج عن: إزيك، سلامات، ثم صمت طويل من صمته البارد، تعقبه سلامات أخرى، حتى ضاقت الضيفة فلم تكد تلهف صلاة العشاء، حتى تمددت على السرير، وهي تئز بآهاتها، وتشكو من مفاصلها.
ولم تمض ساعة حتى كان ممددا بجانب ابنه وامرأته على الحصيرة تحت أقدام الفراش.
وأيقظته حماته حين عثرت به لما قامت تتوضأ قبل الفجر، وحين كانت تخطئ كعادتها وهي تقرأ الفاتحة بصوتها الخشن، كان يسأل نفسه بعدم اكتراث، ترى ما الذي جاء بها؟
وكان الجواب ينتظره في المساء حين تنحنحت الحاجة بعد العشاء، وقد تربعت على الأرض، وأسندت ظهرها إلى الحائط، وانتهت من إحاطة نفسها ورقبتها وصدرها بالمحرمة الكبيرة البيضاء، وبدأت تقول بصوتها المبحوح: بقى يا بني ما خبيش عليك.
والحق أنها أخفت عنه الخطاب الذي أرسلته لها ابنتها من ورائه، وإنما راحت تسوق له القصة في حنكة العجائز. وكام صمته هو الذي شجعها على أخذها دور أمه وأخته، ثم ناصحته حين قالت: وكل عقدة وليها يا ابني حلال، ألف حلال.
عقدة ماذا؟ وحلال إيه؟ وماذا جاء بك؟ ومالك أنت وما أضناك يا ابنة المركوب؟ وبدأت اللعنات التي تنهال من داخله إلى داخله تصنع بصابيص النار التي ألهبت ثورته، فحتى هذه اللحظة لم يكن قد أدخل امرأته في المسألة، ولم يعترض وجودها وشعورها ورأيها طريقه، وهو يترنح في الخرابة وحده، إنه ليس وحده، ومن يدري كم معه الآن؟
Unknown page