Aram Dimashq Wa Israil
آرام دمشق وإسرائيل: في التاريخ والتاريخ التوراتي
Genres
يشد يعقوب الرحال إلى حران، وبينما هو في موقع بيت إيل يظهر له الرب في الحلم، ويجدد معه عهد إبراهيم وإسحاق قائلا: «أنا الرب، إله إبراهيم أبيك وإله إسحاق. الأرض التي أنت مضطجع عليها أعطيها لك ولنسلك ...» وعندما يصل أطراف حران يتوقف عند بئر ليستقي ، وهناك يلتقي بابنة خاله راحيل، التي وردت البئر لتسقي غنمها، فيتعارفان وتقوده إلى البيت، حيث يستقبله لابان أحسن استقبال، فيقيم عنده شهرا يرعى له الغنم. ثم قال لابان ليعقوب: «ألأنك أخي تخدمني مجانا! أخبرني ما أجرتك؟ وكان للابان ابنتان؛ اسم الكبرى ليئة، واسم الصغرى راحيل. وكانت عينا ليئة ضعيفتين، أما راحيل فكانت حسنة الصورة وحسنة المنظر. وأحب يعقوب راحيل فقال: أخدمك سبع سنين براحيل ابنتك الصغرى ...» فوافق لابان على الصفقة، ولبث يعقوب في خدمة خاله سبع سنين آملا في الزواج براحيل. وفي تمام المدة طلب امرأته، ولكن لابان جاء إليه في ليلة الزفاف بابنته الكبرى ليئة، فدخل عليها يعقوب دون أن يعرف. وعندما اكتشف الخديعة في الصباح ولام خاله على ما فعل؛ وعده بالصغرى إن عمل سبع سنوات أخرى لقاء مهرها، فقبل يعقوب وتزوج راحيل بعد أربع عشرة سنة من إقامته في ديار خاله (تك، 28-29).
وبعد أن كبر أولاد يعقوب، وكثرت أمواله ومواشيه قرر العودة إلى ديار أبيه، فحمل زوجتيه وأولاده الأحد عشر وكل مقتنياته وسار يطلب أرض كنعان، ومعه هدية مغرية لأخيه عيسو يسترضيه بها (تك، 30-31). وفي مكان اسمه مخاضة يبوق ظهر له إنسان وصارعه حتى طلوع الفجر حين تمكن يعقوب من خصمه. ولم يكن هذا الخصم سوى يهوه نفسه. فقال له: «أطلقني لأنه قد طلع الفجر، فقال: لا أطلقك إن لم تباركني، فقال: ما اسمك؟ فقال: يعقوب، فقال: لا يدعى اسمك فيما بعد يعقوب، بل إسرائيل؛ لأنك جاهدت مع الله والناس وقدرت. وسأل يعقوب وقال: أخبرني باسمك، فقال: لماذا تسأل عن اسمي؟ وباركه هناك. فدعا يعقوب اسم المكان فنيئيل قائلا: لأني نظرت الله وجها لوجه ونجيت نفسي» (تك، 32: 22-30). في الطريق إلى حبرون، التي يقيم فيها إسحاق، يخرج عيسو للقاء يعقوب، ويتصالح الأخوان، ثم يتابع يعقوب طريقه «وجاء يعقوب إلى إسحاق أبيه إلى ممرا، قرية أربع، التي هي حبرون، حيث تغرب إبراهيم وإسحاق، وكانت أيام إسحاق مائة وثمانين سنة، فأسلم إسحاق روحه ومات، ودفنه عيسو ويعقوب ابناه ... وسكن يعقوب في أرض غربة أبيه» (تك، 33-37).
وقد أحب يعقوب ابنه يوسف أكثر من سائر بنيه؛ لأنه كان ابن شيخوخته «فصنع له قميصا ملونا. فلما رأى إخوته أن أباهم أحبه أكثر من جميع إخوته أبغضوه، ولم يستطيعوا أن يكلموه بسلام ...» ومما زاد في بغضهم له أنه كان يقص أحلاما يراها، تتنبأ له بعلو المكانة بين إخوته وتفوقه عليهم، ومنها الحلم الذي قال فيه: «إني قد حلمت حلما أيضا، وإذا الشمس والقمر وأحد عشر كوكبا ساجدة لي. وقصه على أبيه وعلى إخوته، فانتهره أبوه وقال له: ما هذا الحلم الذي حلمت؟ هل نأتي أنا وأمك وإخوتك لنسجد لك إلى الأرض؟ فحسده إخوته، أما أبوه فكتم الأمر.» وفي إحدى المرات، وبينما كان إخوة يوسف يرعون الغنم في مكان بعيد، أرسله أبوه وراءهم ليستطلع أحوالهم وأحوال القطيع، فلما رأوه قادما من بعيد قال بعضهم لبعض: هو ذا صاحب الأحلام قادم، هلموا نقتله فنرى ماذا تكون أحلامه. ولكنهم بعد مداولة في الأمر قرروا إلقاءه في بئر قريبة جافة، وتركه هناك لمصيره. وبعد تنفيذ مؤامرتهم عادوا إلى أبيهم ومعهم قميص يوسف الملون وعليه دم تيس ذبحوه عند البئر، وقالوا: إن وحشا رديئا قد افترسه، فبكى يعقوب على ابنه أياما كثيرة وبقي في حداد دائم. وأما يوسف فقد انتشله من البئر تجار في قافلة متجهة إلى مصر، فاسترقوه وباعوه لدى وصولهم إلى فوطيفار رئيس الشرط لدى فرعون (تك، 37).
نال يوسف حظوة في عيني مولاه فجعله قيما على بيته وشئونه الخاصة. ولكن زوجة فوطيفار مالت إلى يوسف، وعرضت عليه الوصال فأبى وفاء لسيده، فاتهمته بأنه راودها عن نفسها، فألقاه فوطيفار في السجن. قضى يوسف في السجن فترة طويلة عرف خلالها بالخلق الرفيع والسلوك الحسن، كما اشتهر في السجن بتفسيره للأحلام. وحدث بعد سنين أن الفرعون رأى حلما أقض مضجعه، فدعا جميع الحكماء لتفسير حلمه ولكنهم عجزوا. وكان رئيس سقاة الفرعون سجينا مع يوسف لفترة قصيرة، فتذكر حسن تفسيره للأحلام، وذكره عند فرعون فجاءوا به. فسر يوسف للفرعون الحلم وقال له بأن البلاد ستنعم بسبع سنين من الخصب والرخاء، تتلوها سبع سنين من القحط والجفاف. وأشار على الملك بأن يجعل على الأرض قيما يخزن خمس الغلة في كل سنة من سنوات الوفرة، يكون ذخرا لسنوات الجوع. حسن كلام يوسف عند الفرعون وأحب صاحبه، فأوكله بالمهمة وأعطاه سلطات واسعة لتنفيذها على الوجه الأكمل. جاءت سنوات القحط الذي طال أيضا بلاد كنعان، فأرسل يعقوب أولاده العشرة إلى مصر لشراء القمح منها، وأبقى عنده أصغرهم بنيامين. فجاء الإخوة إلى يوسف الذي كان يشرف بنفسه على توزيع القمح، وسجدوا بين يديه، فعرفهم يوسف ولم يعرفوه. وقال لهم يوسف: من أين جئتم؟ فقالوا: من أرض كنعان لنشتري طعاما، فقال: بل أنتم جواسيس جئتم لتروا عورة الأرض، فقالوا: عبيدك نحن، إننا اثنا عشر أخا بنو رجل واحد، تركنا الصغير عند أبينا، والواحد مفقود، فقال: وحياة فرعون لا تخرجون من هنا إلا بمجيء أخيكم الصغير إلي، فأمتحن صدقكم، وسأبقي واحدا منكم رهينة لدي. فبقي شمعون مقيدا بالأغلال وعاد التسعة إلى أبيهم. وتنتهي القصة بأن يكشف يوسف عن هويته أمام إخوته الأحد عشر لدى عودتهم، ويسامحهم ويطلب منهم أن يأتوا بأبيهم وأولادهم ونسائهم للإقامة في مصر، فقدموا إليه وعددهم سبعون، فأكرمهم وأسكنهم في أرض جاسان، التي نستنتج من مواضع أخرى في النص التوراتي أنها الدلتا الشرقية، فتملكوا فيها وتكاثروا. ومات يعقوب في أرض مصر وعمره مائة وسبع وأربعون سنة (تك، 38-47).
هذه هي الخطوط العامة لعصر الآباء، الذي يدعوه معظم الباحثين بما قبل تاريخ الشعب الإسرائيلي، وذلك لبعده زمنيا، وانقطاعه عن البدايات التاريخية لبني إسرائيل، والتي يراها البعض في دخول الخارجين من مصر أرض كنعان، والبعض الآخر في تشكيل المملكة الموحدة. وسوف ننتقل الآن إلى النقد النصي والتاريخي والأركيولوجي لروايات سفر التكوين، لنعرف الموقع الحقيقي لعصر الآباء. (1) النقد النصي لسفر التكوين
يظهر في سفر التكوين، وأكثر من أي مكان في التوراة، الطابع المميز لعمل المحررين التوراتيين، والذي وصفناه بأسلوب الجمع التراثي. فهؤلاء كانوا جمعة تراث لا مؤرخين، وإن أي دارس مبتدئ لعلم التاريخ يكتشف من القراءة الأولى لسفر التكوين أن ما يرويه لنا من قصص لا يمكن تصنيفه في زمرة الأخبار التاريخية بأي معيار من المعايير، لا من حيث الشكل ولا من حيث المضمون. فلقد عمل المحررون هنا على جمع قصص متعددة النشأة والأصول، وقاموا بربطها إلى بعضها ربطا غير محكم، أبقى على استقلالية واضحة لكل منها، وعلى تناقض بين في أحداثها. ويبدو أن المحرر نفسه كان مدركا للتناقض فيما يورده من أحداث، وأنه قد أبقى على هذه التناقضات مدفوعا برغبته في تسجيل التنويعات كلها التي وصلت إليه للقصة الواحدة، دون محاولة جدية من قبله لإحلال الانسجام فيما بينها، منساقا وراء العقدة القصصية، غافلا عن عنصر التحقيق والتدقيق، الذي يميز جنس الكتابة التاريخية. والأمثلة على ذلك كثيرة، نورد فيما يلي بعضا منها.
في الإصحاح 12 تدور العقدة القصصية حول أخذ فرعون مصر لساراي والدخول عليها، والإغداق على إبراهيم بسببها (12: 14-20)، وذلك دون الأخذ بالحسبان أن المحرر نفسه كان قد قال لنا إن إبراهيم كان في سن الخامسة والسبعين عندما هاجر إلى أرض كنعان (12: 4)، وبالتالي فإن سارة كانت في سن الخامسة والستين، لأن الفارق في العمر بينهما هو عشر سنوات (تك، 17: 17). أما قصة إبراهيم وسارة في جرار، عندما قال إبراهيم عن سارة إنها أخته، فضمها أبيمالك ملك جرار إلى بيته (تك، 20)، فتبدو محشورة حشرا، ودون جهد تحريري، بين قصة بشارة الرب للزوجين المسنين بغلام اسمه إسحاق (تك، 18)، وقصة ولادة سارة لإسحاق وتحقيق البشارة. فعند بشارة الرب كان إبراهيم ابن تسع وتسعين سنة، وزوجته ابنة تسع وثمانين، ولما ولد لهما إسحاق كان إبراهيم ابن مائة سنة، وسارة ابنة تسعين سنة. ولما كانت قصة سارة مع أبيمالك ملك جرار قد جاءت بين قصة البشارة وقصة الولادة، فهذا يعني أن سارة لم تكن فقط امرأة عجوزا في التسعين عندما هم الملك بالدخول عليها، بل أنها كانت حاملة بإسحاق أيضا. وهنا لا نستطيع إلا أن نعجب من إبقاء المحرر التوراتي على هذا التناقض، ونتساءل عما إذا كان النص التوراتي قد أعد أصلا للقراءة، أم كمخطوط ينتظر عملية تنقيحية لم تتم حتى الآن.
وقصة إبراهيم وسارة مع ملك مدينة جرار، عندما قال إبراهيم عن سارة إنها أخته، تتكرر مع إسحاق ورفقة عندما وفد إسحاق على ملك جرار وقال عن رفقة إنها أخته. ونلاحظ في القصتين أن اسم ملك جرار هو أبيمالك، واسم رئيس جيشه هو فيكول، وذلك رغم الفارق الزمني بين الحدثين، والذي يزيد عن الستين عاما. الأمر الذي يدل على أننا أمام قصة واحدة عزيت مرة إلى إبراهيم ومرة أخرى إلى إسحاق. فإلى جانب التشابه العام في بنية الحدثين، وتشابه الشخصيات والأماكن، فإن المحرر يعمد إلى التكرار الحرفي لبعض التفاصيل، وخصوصا فيما يتعلق بالعهد الذي قطعه أبيمالك وإبراهيم لبعضهما، ثم قطعه بعد ذلك أبيمالك وإسحاق. وفيما يلي أقدم النصين للمقارنة:
نقرأ في الإصحاح 26: 26-30 ما يلي: «وذهب إليه من جرار أبيمالك وجماعة من أصحابه، وفيكول رئيس جيشه، فقال لهم إسحاق: ما بالكم أتيتم إلي وأنتم قد أبغضتموني وصرفتموني من عندكم! فقالوا له: إننا قد رأينا أن الرب كان معك، فقلنا ليكن بيننا حلف ونقطع معك عهدا ألا تصنع بنا شرا، كما لم نمسك وكما لم نصنع بك إلا خيرا وصرفناك بسلام، أنت الآن مبارك الرب. فصنع لهم ضيافة، فأكلوا وشربوا، ثم بكروا في الغد وحلفوا بعضهم لبعض.»
وفي الإصحاح 21: 22-24 نقرأ: «وحدث في ذلك الزمان أن أبيمالك وفيكول رئيس جيشه كلما إبراهيم قائلين: الله معك في كل ما أنت صانع، فالآن احلف لي بالله هنا أنك لا تغدر بي ولا بنسلي ولا بذريتي. كالمعروف الذي صنعته إليك تصنع إلي وإلى الأرض التي تغربت فيها. فقال إبراهيم: أحلف. فأخذ إبراهيم غنما وبقرا وأعطى أبيمالك، فقطعا كلاهما ميثاقا.»
Unknown page