الكتب الإلكترونية، هبة العصر
مقدمة لطبعة الأعمال غير الكاملة
فاتحة
مقدمة
الباب الأول: البحث عن إسرائيل التوراتية
1 - الخلفية التاريخية العامة للحدث التوراتي
2 - عصر الآباء
3 - العبودية في مصر، والخروج
4 - إسرائيل في كنعان
5 - المملكة الموحدة لكل إسرائيل
الباب الثاني: إسرائيل التاريخية وآرام دمشق
1 - نظريات في نشوء إسرائيل
2 - إسرائيل التاريخية
3 - الآراميون والخلفية التاريخية العامة لصعود دمشق
4 - إمبراطورية دمشق والعلاقات الآرامية الفلسطينية
5 - العقود الأخيرة لدمشق وإسرائيل ونشوء يهوذا
6 - صعود يهوذا ونهايتها السريعة
خاتمةأفق الخرافة وبداية التاريخ اليهودي
مراجع البحث
الكتب الإلكترونية، هبة العصر
مقدمة لطبعة الأعمال غير الكاملة
فاتحة
مقدمة
الباب الأول: البحث عن إسرائيل التوراتية
1 - الخلفية التاريخية العامة للحدث التوراتي
2 - عصر الآباء
3 - العبودية في مصر، والخروج
4 - إسرائيل في كنعان
5 - المملكة الموحدة لكل إسرائيل
الباب الثاني: إسرائيل التاريخية وآرام دمشق
1 - نظريات في نشوء إسرائيل
2 - إسرائيل التاريخية
3 - الآراميون والخلفية التاريخية العامة لصعود دمشق
4 - إمبراطورية دمشق والعلاقات الآرامية الفلسطينية
5 - العقود الأخيرة لدمشق وإسرائيل ونشوء يهوذا
6 - صعود يهوذا ونهايتها السريعة
خاتمةأفق الخرافة وبداية التاريخ اليهودي
مراجع البحث
آرام دمشق وإسرائيل
آرام دمشق وإسرائيل
في التاريخ والتاريخ التوراتي
تأليف
فراس السواح
الكتب الإلكترونية، هبة العصر
في عام 1970 بدأت الأفكار العامة لكتابي الأول «مغامرة العقل الأولى» تتشكل في ذهني، وعندما بذلت المحاولات الأولى لكتابتها، شعرت بحاجة إلى مراجع أكثر من المراجع القليلة التي في حوزتي، فرحت أبحث في منافذ بيع الكتب، وفي المراكز الثقافية التابعة لوزارة الثقافة السورية، وفي مكتبة جامعة دمشق؛ عن مراجع باللغة الإنجليزية فلم أجد ضالتي، فتأكدت لي استحالة إتمام المشروع وتوقفت عن الكتابة.
وفي عام 1971 قمت برحلة طويلة إلى أوروبا والولايات المتحدة دامت ستة أشهر، رحت خلالها أشتري ما يلزمني من مراجع وأشحنها بالبريد البحري إلى سوريا، وعندما عدت شرعت في الكتابة وأنجزت الكتاب في نحو سنة ونصف. بعد ذلك رحت أستعين بأصدقائي المقيمين في الخارج لإمدادي بما يلزمني من مراجع، وكانت مهمة شاقة وطويلة تستنفد المال والجهد، وكان عمل الباحث في تلك الأيام وفي مثل تلك الظروف عملا بطوليا، إن لم يكن مهمة مستحيلة .
بعد ذلك ظهر الحاسوب الشخصي في أوائل الثمانينيات، ثم تأسست شبكة الإنترنت التي لعبت دورا مهما في وضع الثقافة في متناول الجميع، ووفرت للباحثين ما يلزمهم من مراجع من خلال الكتب الإلكترونية المجانية أو المدفوعة الثمن، فأزاحت هم تأمين المراجع عن الكاتب الذي يعيش في الدول النامية، ووصلته بالثقافة العالمية من خلال كبسة زر على حاسوبه الشخصي.
لقد صار حاسوبي اليوم قطعة من يدي لا أقدر على الكتابة من دونه، مع إبقائي استخدام القلم في الكتابة، لا برنامج الوورد. ولرد الجميل للإنترنت، أردت لطبعة الأعمال الكاملة لمؤلفاتي التي صدرت في 20 مجلدا، أن توضع على الشبكة تحت تصرف عامة القراء والباحثين، واخترت «مؤسسة هنداوي» لحمل هذه المهمة؛ لأنها مؤسسة رائدة في النشر الإلكتروني، سواء من جهة جودة الإخراج أو من حيث المواضيع المتنوعة التي تثري الثقافة العربية.
جزيل الشكر ل «مؤسسة هنداوي»، وقراءة ممتعة أرجوها للجميع!
مقدمة لطبعة الأعمال غير الكاملة
عندما وضعت أمامي على الطاولة في «دار التكوين» كومة مؤلفاتي الاثنين والعشرين ومخطوط كتاب لم يطبع بعد، لنبحث في إجراءات إصدارها في طبعة جديدة عن الدار تحت عنوان «الأعمال الكاملة»، كنت وأنا أتأملها كمن ينظر إلى حصاد العمر. أربعون عاما تفصل بين كتابي الأول «مغامرة العقل الأولى» والكتاب الجديد «الله والكون والإنسان»، ومشروع تكامل تدريجيا دون خطة مسبقة في ثلاث وعشرين مغامرة هي مشروعي المعرفي الخاص الذي أحببت أن أشرك به قرائي. وفي كل مغامرة كنت كمن يرتاد أرضا بكرا غير مطروقة ويكتشف مجاهلها، وتقودني نهاية كل مغامرة إلى بداية أخرى على طريقة سندباد الليالي العربية. ها هو طرف كتاب «مغامرة العقل الأولى: دراسة في الأسطورة» يبدو لي في أسفل الكومة. أسحبه وأتأمله، إنه في غلاف طبعته الحادية عشرة الصادرة عام 1988، التي عاد ناشرها إلى غلاف الطبعة الأولى الصادرة عام 1976، الذي صممه الصديق الفنان «إحسان عنتابي»، ولكن ألوانه بهتت حتى بدت وكأنها بلون واحد لعدم عناية الناشر بتجديد بلاكاتها المتآكلة من تعدد الطبعات التي صدرت منذ ذلك الوقت. وفي حالة التأمل هذه، يخطر لي أن هذا الكتاب قد رسم مسار حياتي ووضعني على سكة ذات اتجاه واحد؛ فقد ولد نتيجة ولع شخصي بتاريخ الشرق القديم وثقافته، وانكباب على دراسة ما أنتجته هذه الثقافة من معتقدات وأساطير وآداب، في زمن لم تكن فيه هذه الأمور موضع اهتمام عام، ولكني لم أكن أخطط لأن أغدو متخصصا في هذا المجال، ولم أنظر إلى نفسي إلا كهاو عاكف بجد على هوايته. إلا أن النجاح المدوي للكتاب - الذي نفدت طبعته الأولى الصادرة عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق في ستة أشهر، ثم تتابعت طبعاته في بيروت - أشعرني بالمسئولية؛ لأن القراء كانوا يتوقعون مني عملا آخر ويتلهفون إليه.
إن النجاح الكبير الذي يلقاه الكتاب الأول للمؤلف يضعه في ورطة ويفرض عليه التزامات لا فكاك منها، فهو إما أن ينتقل بعده إلى نجاح أكبر، أو يسقط ويئول إلى النسيان عندما لا يتجاوز نفسه في الكتاب الثاني. وقد كنت واعيا لهذه الورطة، ومدركا لأبعادها، فلم أتعجل في العودة إلى الكتابة، وإنما تابعت مسيرتي المعرفية التي صارت وقفا على التاريخ العام والميثولوجيا وتاريخ الأديان. وعاما بعد عام، كان كتاب «لغز عشتار» يتكامل في ذهني وأعد له كل عدة ممكنة خلال ثمانية أعوام، ثم كتبته في عامين ودفعته إلى المطبعة فصدر عام 1986؛ أي بعد مرور عشر سنوات على صدور الكتاب الأول، وكان نجاحا مدويا آخر فاق النجاح الأول، فقد نفدت طبعته الأولى، 2000 نسخة، بعد أقل من ستة أشهر، وصدرت الطبعة الثانية قبل نهاية العام، ثم تتالت الطبعات.
كان العمل الدءوب خلال السنوات العشر الفاصلة بين الكتابين، الذي كان «لغز عشتار» من نواتجه، قد نقلني من طور الهواية إلى طور التخصص، فتفرغت للكتابة بشكل كامل، ولم أفعل شيئا آخر خلال السنوات الثلاثين الأخيرة التي أنتجت خلالها بقية أفراد أسرة الأعمال الكاملة، إلى أن دعتني جامعة بكين للدراسات الأجنبية في صيف عام 2012 للعمل محاضرا فيها، وعهدت إلي بتدريس مادة تاريخ العرب لطلاب الليسانس، ومادة تاريخ أديان الشرق الأوسط لطلاب الدراسات العليا، وهناك أنجزت كتابي الأخير «الله والكون والإنسان». على أنني أفضل أن أدعو هذه الطبعة بالأعمال غير الكاملة، وذلك على طريقة الزميلة «غادة السمان» التي فعلت ذلك من قبلي؛ لأن هذه المجموعة مرشحة دوما لاستقبال أعضاء جدد ما زالوا الآن في طي الغيب.
وعلى الرغم من أنني كنت أخاطب العقل العربي، فإني فعلت ذلك بأدوات البحث الغربي ومناهجه، ولم أكن حريصا على إضافة الجديد إلى مساحة البحث في الثقافة العربية، قدر حرصي على الإضافة إلى مساحة البحث على المستوى العالمي، وهذا ما ساعدني على اختراق حلقة البحث الأكاديمي الغربي المغلقة، فدعاني الباحث الأميركي الكبير «توماس تومبسون» المتخصص في تاريخ فلسطين القديم والدراسات التوراتية إلى المشاركة في كتاب من تحريره صدر عام 2003 عن دار
T & T Clark
في بريطانيا تحت عنوان:
Jerusalem in History and Tradition
ونشرت فيه فصلا بعنوان:
Jerusalem during the Age of Judah Kingdom
كنت قد تعرفت على «تومبسون» في ندوة دولية عن تاريخ القدس في العاصمة الأردنية عمان عام 2001، شاركت فيها إلى جانب عدد من الباحثين الغربيين في التاريخ وعلم الآثار، وربطت بيننا صداقة متينة استمرت بعد ذلك من خلال المراسلات، إلى أن جمعتنا مرة ثانية ندوة دولية أخرى انعقدت في دمشق بمناسبة اختيار القدس عاصمة للثقافة العربية، وكانت لنا حوارات طويلة حول تاريخ أورشليم القدس وما يدعى بتاريخ بني إسرائيل، واختلفنا في مسائل عديدة أثارها «تومبسون» في ورقة عمله التي قدمها إلى الندوة. وكان الباحث البريطاني الكبير «كيث وايتلام» قد دعا كلينا إلى المشاركة في كتاب من تحريره بعنوان:
The Politics of Israel’s
فاتفقنا على أن نثير هذه الاختلافات في دراستينا اللتين ستنشران في ذلك الكتاب، وهكذا كان. فقد صدر الكتاب الذي احتوى على دراسات الباحثين من أوروبا وأميركا عام 2013 عن جامعة شيفلد ببريطانيا، وفيه دراسة لي عن نشوء الديانة اليهودية بعنوان:
The Faithful Remnant and the Invention of Religious Identity
خصصت آخرها لمناقشة أفكار «تومبسون»، ول «تومبسون» دراستان الأولى بعنوان:
What We Do and Do Not Know about
والثانية خصصها للرد علي بعنوان:
The Literary Trope of Return - A Reply to Firas Sawah
أي: العودة من السبي كمجاز أدبي - رد على فراس السواح.
الكتاب يشبه الكائن الحي في دورة حياته؛ فهو يولد ويعيش مدة ثم يختفي ولا تجده بعد ذلك إلا في المكتبات العامة ، ولكن بعضها يقاوم الزمن وقد يتحول إلى كلاسيكيات لا تخرج من دورة التداول. وقد أطال القراء في عمر مؤلفاتي حتى الآن، ولم يختف أحدها من رفوف باعة الكتب، أما تحول بعضها إلى كلاسيكيات فأمر في حكم الغيب.
فإلى قرائي في كل مكان، أهدي هذه الأعمال غير الكاملة مع محبتي وعرفاني.
فراس السواح
بكين، كانون الثاني (يناير) 2016
فاتحة
يعتبر كتاب التوراة بالنسبة للباحث في الميثولوجيا وتاريخ الأديان أحد المفاتيح المهمة لفهم آخر حلقات التاريخ الديني في منطقة الشرق القديم. كما يعتبر تاريخ فلسطين مقدمة لا غنى عنها لفهم كتاب التوراة، وتوضيح السياق التاريخي لظهور أسفاره، وفهم الوسط الثقافي الذي أنتجها، والوضع الفكري لمحرريها، وبذلك يغدو تاريخ فلسطين جزءا لا يتجزأ من تاريخ الدين في المنطقة المشرقية.
من هنا جاء اهتمامي الشخصي بهذا التاريخ، وسعيي لكشف غوامضه والتعمق في إشكالياته، وذلك على هامش بحثي الأساسي في الميثولوجيا وتاريخ الدين، ثم تحول الهم الهامشي تدريجيا إلى هم رئيسي، فوضعت كتابي الأول في تاريخ فلسطين عام 1989 وكان بعنوان «الحدث التوراتي والشرق الأدنى القديم». ولكن فيض المعلومات الأركيولوجية الجديدة - الذي تراكم خلال ثمانينيات ومطلع تسعينيات القرن العشرين، والذي أخذ الآن فقط ينتظم في شبكة مفهومة أمام المؤرخ - قد دفع الموضوع مجددا إلى بؤرة اهتماماتي؛ لأن هذه المعلومات الجديدة أخذت تفرش الأرضية اللازمة لإعادة النظر في تاريخ فلسطين، ومسألة نشوء إسرائيل القديمة وزوالها في السياق العام لهذا التاريخ، وفهم علاقة تاريخ إسرائيل بالتاريخ اليهودي، وهي علاقة قد بدأت الآن بالاتضاح على خلفية المعلومات الجديدة، وذلك بعد فترة طويلة من اختلاط البحث التوراتي بالبحث التاريخي، وسيطرة الأول على الثاني.
وبما أن تاريخ آرام دمشق قد تقاطع مع تاريخ مملكتي إسرائيل ويهوذا خلال النصف الأول من الألف الأول قبل الميلاد، وهي الفترة التي شهدت نشوء هذه الممالك الثلاث وحروبها وتحالفاتها واختلاف مصائرها، فقد تهيأت لي فرصة انتظرتها طويلا لأقول في تاريخ مملكة دمشق الآرامية ما لا يعرفه القارئ العربي حتى الآن، بسبب قلة الدراسات التي تعرضت لهذا التاريخ ، وسيطرة وجهة النظر التوراتية عليها، فسلطت الضوء على حقبة مهمة من تاريخ سوريا الآرامية لم يتم حتى الآن إضاءتها والربط بين أحداثها. فلقد جعلت مملكة دمشق من نفسها في تلك الحقبة القوة العظمى الثانية بعد آشور في منطقة الشرق القديم، ودافعت عن استقلال مناطق غربي الفرات في مواجهة آشور فترة طويلة من الزمن، استطاعت خلالها الثقافة الآرامية الناشئة تثبيت أقدامها، وتفتيح إمكاناتها الذاتية. وعندما تهاوت دمشق، وانهارت الممالك الآرامية سياسيا أمام آشور، قامت هذه الثقافة بالاستيلاء على غازيها من الداخل، فتكلمت آشور الآرامية بدلا عن لغتها، وعندما شرب الفاتح الآشوري من الكأس التي سقاها للشعوب المغلوبة، وورث الكلدان ثم الفرس فيما بعد أملاكه الغربية، شمل المدى الجغرافي للثقافة الآرامية المنطقة الممتدة من حدود الهند إلى البحر المتوسط، فيما يدعوه المؤرخ أرنولد توينبي بالعالم السوري.
ورغم أن اهتماماتي الأصلية بالميثولوجيا وتاريخ الأديان كانت وراء إنجازي هذا الكتاب، إلا أن القارئ سوف يلاحظ منذ البداية أن المسألة الدينية لم تأخذ أكثر من الحيز اللازم لها، فهذه الدراسة تبقى حتى النهاية ضمن إطار البحث التاريخي الصرف، وذلك في كل ما يتعلق بالمرجعية والمقتربات والمنهج. وهي تعتمد أحدث المعلومات التي قدمها علم الآثار وعلم التاريخ والعلوم المساعدة الأخرى، خلال سبعينيات وثمانينيات ومطلع تسعينيات القرن العشرين، وهي معلومات مختلفة جذريا، وتضع بين أيدينا المقدمات اللازمة للانعطاف نحو آفاق جديدة في كتابة تاريخ فلسطين.
مقدمة
لعل أهم ما تكشفه أمامنا المعلومات الجديدة المتوفرة خلال ربع القرن الماضي هو استقلال الصورة التاريخية لإسرائيل عن صورتها التوراتية استقلالا دفع بعض المؤرخين الجدد إلى الدعوة لوضع الرواية التوراتية بكاملها على الرف، وكتابة تاريخ فلسطين - خلال الحقبة التي تغطيها أحداث التوراة - بمعزل عن النص التوراتي والخبر التوراتي الذي فقد لديهم كل مصداقية تاريخية، وبذلك يتحول كتاب التوراة من مصدر أول ورئيس لكتابة تاريخ فلسطين وتاريخ إسرائيل، إلى ناتج ثانوي من نواتج ذلك التاريخ، وإلى تركة أدبية تتطلب نفسها التفسير والتعليل. فالباحث غربيني
G. Garbini ، على سبيل المثال، يرى أن الأسفار المدعوة بالتاريخية في كتاب التوراة، قد دونت فيما بين أواخر العصر الفارسي وأوائل العصر الهيلينستي، وذلك بعكس الرأي الشائع بين الباحثين المحافظين الذين يرون أن تدوين التوراة قد ابتدأ خلال فترة السبي البابلي، واكتمل في مطلع العصر الفارسي. من هنا، فإن إعادة بناء تاريخ فلسطين، عند هذا الباحث، يجب أن يتخطى النص التوراتي؛ لأن هذا النص قد دون بعد فترة طويلة جدا من الأحداث التي يتصدى لروايتها. وهو يرى أن تاريخ إسرائيل التوراتية في السياق العام لتاريخ فلسطين هو أخيولة أدبية تجد دوافعها في المناخ الاجتماعي والنفسي للفترة المتأخرة التي أنتجتها.
1
لا ينفرد الباحث غربيني
Garbini
بهذا الموقف من تاريخ فلسطين ومن التقاليد التوراتية، بل إن دراسته الصادرة عام 1988 تأتي في سياق التوجه الجديد في الحلقات الأكاديمية المتحررة نحو إعادة النظر في تاريخ إسرائيل، بعيدا عن التوجه التقليدي الذي يقوم على التوفيق بين البحث التوراتي والبحث الأركيولوجي. وقد تم التأسيس لهذا الاتجاه المتحرر منذ مطلع سبعينيات القرن العشرين، من خلال أبحاث دارسين متميزين من أمثال ج. أ. سوجن
J. A. Soggin ، وج. م. ميللر
J. M. Miller ، وج. ه. هايز
J. H. Hays ، وفان سيتيرز
Van Seters ، وتوماس ل. تومبسون، وغيرهم ممن سنعرض لهم عبر الصفحات المقبلة لهذا الكتاب.
يقول توماس ل. تومبسون في كتابه
Early History of the Israelite People
الصادر عام 1992 ما يلي: «إن الأبحاث الجديدة التي توفرت لدينا خلال ربع قرن مضى قد فرشت أرضية صلبة تمكننا الآن من صياغة تاريخ لإسرائيل مستقل عن البحث التوراتي. وليست الكتب والدراسات المنشورة حديثا إلا برهانا واضحا على أن كتابة مثل هذا التاريخ، بشكل موضوعي وطريقة وصفية، قد صارت ممكنة. فجميع هذه المؤلفات تقريبا تضع بين أقواس معترضة الأخبار التاريخية المقتبسة من التوراة (دلالة عن الشك المبدئي بمضمونها). إن مقدرتنا المتزايدة على بناء تاريخ مفصل لأصول إسرائيل تجعل من الضروري، أكثر فأكثر، ترك الاعتماد على الروايات التوراتية كمصدر لكتابة التاريخ، وعلينا أن نتخلى بشكل جذري وواع عن كل المسلمات التي فرضت علينا من قبل النص التوراتي».
2
أما عن مصادر كتابة هذا التاريخ المستقل فكثيرة ومتنوعة، فإضافة إلى التفسير المتحرر من المواقف التوراتية المسبقة لنتائج البحث الأثري في المنطقة، ودراسة النقوش الكتابية للثقافات المجاورة، من آرامية وآشورية وبابلية وغيرها، فإن المنهج التاريخي الجديد يلجأ إلى معونة عدد من العلوم المساعدة في حقول الاجتماع، والأنثروبولوجيا، والبيئة الطبيعية للعصور القديمة بنباتاتها ومناخها، ودورات الخصب والجفاف المتعاقبة عليها، والتغير في نمط الاستيطان السكاني، وما إلى ذلك مما سنتعرض له في حينه.
لقد كانت التقاليد التوراتية، حتى وقت قريب، تلقي ضوءا على الماضي، ولكنها قد صارت الآن بحاجة إلى إلقاء الضوء عليها من قبل ذلك الماضي، الذي بدأ يتضح بشكل مستقل عن المواقف المسبقة والمسلمات المفروضة. وبتعبير آخر، فإن كتاب التوراة لم يعد نقطة الانطلاق، بل خط النهاية في دراستنا التاريخية. فعندما نفلح في كتابة تاريخ لفلسطين مستقل عن الصورة الخيالية التي تقدمها الأسفار التوراتية؛ يمكن عند ذلك أن نطرح أسئلة تتعلق بكيفية نشوء الأسفار التوراتية، ثم نجيب عليها، أما الاستمرار في اعتبار التوراة نوعا من الكتابة التاريخية، فلن يؤدي إلى مزيد من التعمية على التاريخ فقط، بل سيبقى عقبة قائمة أمام فهم الكتاب ومضامينه ورسالته.
تنتمي الأسفار التوراتية، من حيث شكلها ومضمونها ودوافع كتابتها، إلى جنس كتابي يمكن وصفه بجنس الجمع التراثي. فالهاجس الذي يدفع محرري ومعيدي صياغة تلك التقاليد الأدبية المتفرقة التي صيغت منها الأسفار؛ ليس هاجسا تاريخيا بل هاجسا تراثيا، فهم يعملون على جمع وتصنيف وإعادة صياغة تركة ثقافية شعبية متعددة النشأة والأصول وخطوط التداول، ويرتبونها في تسلسل زمني ينسجها إلى بعض، وذلك من خلال منظور أيديولوجي مفروض عليها من الخارج، يعكس الوضع الفكري للقائمين على التحرير وإعادة الصياغة في الفترات المتأخرة. إن ما يحرك محرر التوراة، باعتباره قاصا وجامع تراث شعبي موغل في القدم، هو العقدة القصصية التي تقود إلى الإفضاء بمضمون ديني يظهر كيفية تداخل الإلهي بالدنيوي، وتوجيهه له، ومن دون التفات إلى الحدث المحقق والخبر المدقق. أما الترتيب الزمني (الكرونولوجي) لأحداث القصة الواحدة، وللقصص المتتابعة الملصق بعضها ببعض، فلا يعني أن هم النص هو هم تاريخي، فمثل هذا الترتيب الزمني للأحداث هو شأن أسلوبي بالدرجة الأولى، وهو مستلزم ضروري في الكتابة الأدبية والكتابة التاريخية على حد سواء. فالقاص والمؤرخ يقدمان لنا جملة من الأحداث التي تتحرك في زمن ماض، وبشكل يتسلسل من الأقدم إلى الأحدث في حلقات يمسك بعضها ببعض بشكل منطقي. إلا أن ما يميز التاريخ كجنس كتابي عن الأدب، هو النية المسبقة للكاتب، وموقفه من مادة عمله. فالمؤرخ ينظر إلى الماضي باعتباره شأنا واقعيا وحقيقيا، ويسعى جادا من أجل التفريق بين الخيالي والواقعي، مركزا على ما يمكن لنا معرفته، والتحقق من وقوعه، خلال الفترة التي يسلط عليها الضوء. أما الأديب، فيتحرك في ماض من صنعه، ويقدم أحداثا ممكنة التحقق من منظور منطقي ظاهري. وبين المؤرخ والأديب يأتي موقع جامع التراث الذي يبحث عن التسويغ التاريخي الشكلي في المادة التي يقدمها، من دون اختبار وتدقيق للروايات التي يعمل على جمعها وتصنيفها، وهنا قد يتم استبعاد ما حصل فعلا لصالح رغبة الكاتب في تصديق سلسلة ما من الأحداث، مدفوعا بموقفه الأيديولوجي المسبق، ويغيب الحقيقي والواقعي في ضباب الخيالي.
لقد أعلن بعض الباحثين منذ العقد الأخير للقرن التاسع عشر، من أمثال
E. Meyer
و
H. Gunkel ، بأن المصدر الأساسي للتقاليد التوراتية هو الحكايا الشعبية والملاحم وقصص البطولة التي كانت متداولة شفاهة عند تحرير أسفار التوراة، إبان وبعد السبي البالي. وجادل
Meyer
بشكل خاص في أن كامل سفر التكوين، برواياته عن الآباء أسلاف بني إسرائيل، لا علاقة له بالتاريخ، ويجب تصنيفه في زمرة الأخيولة الأدبية.
3
ولكن رد الفعل المحافظ على هذا الاتجاه التحرري المبكر قد جاء من قبل الباحث
O. Eissfeldt (1923) الذي أسس للمدرسة المعروفة بمدرسة نقد الشكل. ويركز
Eissfeldt
في دراسته على أسفار موسى الخمسة التي كانت موضع نقد الاتجاه التحرري، مجادلا في أن الشكل الأخيولي الأدبي لهذه الأسفار ينطوي على أحداث تاريخية حقيقية، غلفها خيال النقلة عبر العصور بغلالات جعلتها تبدو أشبه بالأدب الشعبي. من هنا فإن النقد النصي يستطيع اكتشاف المستوى التاريخي الكامن تحت الظاهر الأخيولي للمادة التوراتية.
4
وقد التقط هذا الموقف المحافظ الجماعة المعروفة بجماعة علم الآثار التوراتي، والتي بدأت أفكارها بالانتظام فيما بين 1920 و1930، وذلك عقب فيض المعلومات الأركيولوجية الجديدة من مناطق الشرق الأدنى القديم، وبتأثير رئيسي من الباحث وليم فوكسويل أولبرايت
W. F. Albright
المؤرخ والآثاري وعالم اللغات المعروف. يتفق أولبرايت مع
Eissfeldt
في أطروحته الأساسية القائلة بأن المرويات التوراتية هي أحداث تاريخية من حيث الأصل، وأن باستطاعتنا الكشف عن تلك الأحداث في أشكالها التحتية الأصلية. ويقوم منهجه على إعادة تركيب نتائج الدراسات التوراتية والآثارية والتاريخية، من أجل الوصول إلى البنية التاريخية الخفية للنص التوراتي.
5
وقد بقي هذا الاتجاه سائدا حتى سبعينيات القرن العشرين، عندما صارت نتائج البحث الأثري الشامل للأرض الفلسطينية كافية، من حيث كميتها ونوعيتها، لفرش الأرضية اللازمة للانعطاف الجديد في البحث التاريخي، مما أشرنا إليه منذ قليل.
وفيما بين أقصى يمين الاتجاه المحافظ الذي يمثله أولبرايت وتلامذته، وأقصى يسار الاتجاه المتحرر؛ تتدرج مواقف بقية الباحثين. فالبعض يرفض الأساس التاريخي لأسفار موسى الخمسة (والتي تتضمن قصص الآباء من إبراهيم إلى يوسف، وقصة الخروج من مصر)، ويبحث بالمقابل عن تاريخية أحداث الرواية التوراتية، ابتداء من فترة يشوع أو فترة القضاة، عندما بدأ الإسرائيليون كمجموعة متمايزة بالاستقرار في كنعان. والبعض الآخر يرفض الأساس التاريخي لسفري يشوع والقضاة أيضا، ويبحث عن تاريخية أحداث الرواية ابتداء من تشكيل المملكة الموحدة لكل إسرائيل خلال القرن العاشر ق.م. وهناك فريق ثالث يرى أنه من غير المجدي البحث عن تاريخية الحدث التوراتي قبل القرن التاسع ق.م. عندما تبدأ أخبار إسرائيل بالظهور في سجلات آشور، وذلك لأول مرة في التاريخ. هذه المواقف المتباينة للباحثين المحدثين والمعاصرين، تعطينا فكرة واضحة عن المأزق الذي وصل إليه البحث التاريخي التوراتي.
إن أهم نتيجة يمكن أن نخرج بها من متابعة هذا الجدل الأكاديمي الدائر خلال القرن العشرين، ومن دراسة الوثائق التاريخية لثقافات الشرق القديم، ودراسة أحدث نتائج التنقيب الأثري في فلسطين؛ هي أن التقاليد التوراتية قد خلقت «إسرائيل» خاصة بها لا علاقة لها بإسرائيل التاريخية، وأن جل البحث التاريخي - الذي تم حتى وقت قريب في مسألة أصول إسرائيل وتاريخها - قد انصب على أخيولة لا تمتلك من الوجود الواقعي إلا أقله. ولسوف نسير عبر صفحات هذا الكتاب في محاولة جادة لاكتشاف صورة إسرائيل في التوراة وفي التاريخ، والبحث عن التقاطعات الممكنة بينهما، من أجل معرفة حقيقة ما جرى في فلسطين من حوالي عام 1200ق.م. (وهي الفترة المفترضة لدخول الإسرائيليين أرض كنعان) إلى دمار أورشليم عام 587ق.م.
في المرحلة الأولى من بحثنا، سوف نعمد إلى توضيح معالم «إسرائيل التوراتية» كما رسمتها الأسفار الخمسة المدعوة بالتاريخية، ثم نقوم بعملية استقصاء للوجود الموضوعي لهذه الإسرائيل اعتمادا على النقد النصي والتاريخي والأركيولوجي لكل سفر على حدة. أما في المرحلة الثانية، فسوف ننتقل إلى دراسة أصول ومسار حياة «إسرائيل التاريخية» اعتمادا على نتائج نقدنا السابق، وعلى علم الآثار الحديث المدعم بالعلوم المساعدة؛ مثل: علم الأنثروبولوجيا، وعلم السوسيولوجيا، وعلم مناخ وبيئة العصور القديمة، وغيرها من العلوم التي صارت معونتها الميدانية والنظرية أمرا لا غنى عنه لأي بحث أثري. وسوف يتم التركيز في هذه المرحلة على العلاقات الآرامية-الفلسطينية، والكشف عن دور مملكة آرام دمشق في الحياة السياسية لكل من مملكتي إسرائيل ويهوذا، وممالك شرقي الأردن، وبقية العالم السوري في مناطق غربي الفرات.
وأخيرا سوف نتوقف في دراستنا عند أعتاب الفترة التي أدعوها بفترة التاريخ اليهودي في فلسطين. وهذا التاريخ اليهودي - الذي تأخذ ملامحه بالتوضح خلال العصر الفارسي (القرنين الخامس والرابع ق.م.) - لا علاقة له بالتاريخ الإسرائيلي، وليست الاستمرارية بين التاريخين سوى استمرارية كرونولوجية، لا تحمل صلة ثقافية حقيقية بين المرحلتين. إن ما بدا لنا، حتى الآن، من اتصال الإسرائيلي باليهودي، هو ابتداع أيديولوجي توراتي، استكمل المحررون التوراتيون من خلاله أخيولتهم الأدبية الرامية إلى ابتكار أصول لليهودية المحدثة في فلسطين خلال العصر الفارسي والعصر الهيلينستي.
قد تبدو هذه الفكرة غريبة على قارئ التاريخ، وعلى معظم المتخصصين، ولكن ما يأتي من فصول هذا الكتاب كفيل بتوثيقها وبتوضيحها على أفضل وجه، وذلك وفق منهجية علمية بعيدة عن السمة الإعلامية السياسية التي ميزت الخطاب التاريخي العربي حتى الآن، بتأثير وجود «إسرائيل ثالثة» في فلسطين اليوم، لا علاقة لها بإسرائيل التوراتية أو إسرائيل التاريخية.
الباب الأول
البحث عن إسرائيل التوراتية
الفصل الأول
الخلفية التاريخية العامة للحدث التوراتي
تشير البينات الأركيولوجية واللغوية اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، إلى أن المنطقة السورية الواقعة بين الفرات والبحر المتوسط كانت مسكونة بعناصر سامية منذ أواخر الألف الرابع قبل الميلاد. فأقدم المدن في هذه المنطقة، مثل أريحا وبيت شان وبيت يارح ومجدو وعكا وصيدون وساريبتا وسيميرا وأوغاريت، تحمل أسماء سامية لا لبس فيها. كما أن اللقى الأثرية وبقايا الهياكل العظمية تشير إلى استمرارية عرقية وثقافية واضحة، ترقى إلى الألف الرابع وتتجاوزه.
1
ويمكن القول ببعض الثقة إن التركيب السكاني في المنطقة السورية لم يتعرض لأي تغيير جذري منذ أواخر العصر النحاسي، حيث نستطيع متابعة خط ثقافي متميز لحضارة متصلة لا تظهر فجوة أو انقطاعا.
2
ولكن من هم هؤلاء الساميون القدماء؟ ومن أين جاءوا؟
لقد أحدثت الدراسات اللغوية المقارنة الحديثة تغييرا عميقا في معرفتنا للأصول السكانية في هذه المنطقة، والتغيرات التي طرأت عليها، إلى درجة أن معظم النظريات القديمة - والتي تعود إلى ما قبل سبعينيات القرن العشرين - قد غدت بالية، وبحاجة إلى إعادة نظر جذرية. فلفترة طويلة، ومنذ القرن السادس عشر، سادت وبشكل كامل تقريبا نظرية الهجرات السامية من جزيرة العرب، التي اعتبرت المهد الأصلي للعنصر السامي. فهذه النظرية تحتوي ضمنا أن اللغة السامية الأصلية التي تفرعت عنها لغات حضارات الهلال الخصيب؛ قد نشأت في جزيرة العرب، وأن اللغة العربية هي أقرب الأقرباء إلى تلك السامية الأصلية. غير أن أبرز المدافعين عن نظرية الهجرات قد بدأ يتخلى عنها في ضوء المعارف الجديدة في علم اللغات المقارن، ففي كتابه الصادر عام 1957، على سبيل المثال، يقول عالم الساميات المعروف سباتينو موسكاتي في المقدمة ما يأتي: «ثمة حقيقة تبدو ثابتة إلى حد كاف، وهي أن التاريخ يدلنا على أن الصحراء العربية كانت نقطة الانطلاق للهجرات السامية، وإننا في ضوء معلوماتنا الحالية يجب أن نقبل، ولو على سبيل الافتراض العملي، أن المنطقة التي انتشر فيها الساميون كانت الصحراء العربية.»
3
غير أن موسكاتي، في كتاب لاحق له صدر عام 1969 حول قواعد اللغة السامية، يظهر شكه في هذه الفرضية وما يتبعها من نسبة اللغة السامية الأصلية إلى الصحراء العربية، ومن كون اللغة العربية هي الأقرب إلى هذه السامية الأصلية من شقيقاتها في الهلال الخصيب، مثل الأكادية والأوغاريتية.
4
وبدلا من التركيز على ما يسمى باللغة السامية الأصلية، يقوم العلماء الآن بتلمس خيط يربط اللغات السامية باللغة المصرية وبقية لغات شمال أفريقيا. وهم يرون أن الأقرب إلى الواقع هو وجود لغة أفرو-سامية، تفرعت فيما بعد إلى سامية وأفريقية عند نقطة معينة من التاريخ. من هؤلاء العلماء: الألماني
Behrens ، والروسي
Diakonoff . ففيما بين الألف السادس والألف الخامس قبل الميلاد تعرض الشمال الأفريقي إلى موجة جفاف طويلة وحادة، أدت إلى التشكل التدريجي للصحراء الأفريقية، وإلى هجرات نحو مصر وآسيا الغربية. وقد قادت هذه الهجرات إلى تكوين اللغة المصرية القديمة في وادي النيل، واللغات البربرية فيما وراء الصحراء الليبية، واللغة السامية الأم في سوريا، وهي السامية الغربية، وعنها انشقت السامية الشرقية التي طورها النازحون باتجاه وادي الرافدين.
5
لقد ازدهرت الحضارة الزراعية في سوريا منذ الألف الثامن قبل الميلاد، وكانت الثورة الثقافية - التي يدعوها الأركيولوجيون بثورة النيوليتيك (ثورة العصر الحجري الحديث) - قد بلغت ذروتها إبان الفترة التي وصل خلالها النازحون من شمال أفريقيا، من هنا فإن القادمين الجدد لم يكن لديهم ما يقدمونه للثقافة النيوليتية المتطورة سوى لغتهم، التي تفاعلت مع اللغة المحلية لينتج عن تفاعلهما اللغة السامية الأصلية. أما عن جزيرة العرب، فيبدو أن اللغة السامية قد جاءتها من فلسطين وسوريا الجنوبية في أواخر عصر البرونز المبكر، وأوائل عصر البرونز الوسيط (أي حوالي عام 2000ق.م.)، فخلال هذه الفترة ساد المنطقة السورية جفاف حار وطويل، أدى إلى انهيار ثقافة البرونز المبكر، وإلى اقتلاع للسكان وهجرات واسعة النطاق، وتحول شرائح كبيرة من المزارعين المستقرين إلى الرعي المتنقل. من هذا المنظور تغدو الهجرة السامية عكسية، وباتجاه الجزيرة العربية لا منها.
6
لقد أدت الثورة النيوليتية في سوريا وبلاد الرافدين إلى إحلال جملة من التغيرات العميقة الأثر في مجرى الحضارة الإنسانية. فخلال العصر الحجري الحديث استقر الإنسان الصياد في الأرض، وبنى القرى الزراعية الأولى في تاريخ البشرية، وأخذ بإنتاج الغذاء بدلا من جمعه، مبتدئا بذلك حضارتنا الحديثة التي تعتبر استمرارا غير منقطع لتلك القرى الزراعية الأولى. وكما كانت منطقة الهلال الخصيب منطلقا للثورة النيوليتية، فقد كانت أيضا منطلقا للثورة الحضرية، أو المدينية (نسبة إلى مدينة)، وهي الثورة الثقافية الثانية في حياة البشرية. فمع أواخر الألف الرابع ومطلع الألف الثالث قبل الميلاد ظهرت المدن الأولى في منطقة سومر جنوب وادي الرافدين، تبعتها المدن المصرية، فمدن بلاد الشام. ولقد غدا واضحا، على ضوء علم مناخ وبيئة العصور القديمة،
7
أن ظهور المدن الأولى قد جاء نتيجة لازدهار اقتصادي عم المنطقة مع بداية عصر البرونز المبكر
8 (حوالي 3000ق.م.)، بتأثير تغيرات مناخية جذرية. ففيما بين 3500 و2300ق.م. شهدت المنطقة بكاملها مناخا باردا ورطبا، تميز بارتفاع كبير في منسوب الأمطار أدى إلى استثمار مكثف لجميع الأراضي الصالحة للزراعة، وإلى استصلاح مساحات كبيرة من المستنقعات، وإزالة مساحات لا بأس بها من الغابات لأغراض الاستثمار الزراعي، وهذا كله قاد إلى تكوين فائض الإنتاج اللازم لتشييد المدينة.
لقد اعتقد المؤرخون والآثاريون لفترة طويلة أن الثورة المدينية في سوريا قد تأخرت عنها في سومر وفي مصر، وأن مناطق غربي الفرات لم تعرف المدن الكبرى ولا الكتابة خلال معظم الألف الثالث قبل الميلاد. إلا أن الاكتشاف المثير لمدينة إيبلا القديمة في الشمال السوري على مسافة 50كم إلى الجنوب الشرقي من مدينة حلب؛ قد أثبت أن ظهور المدن الكبرى في سوريا لم يتأخر كثيرا عن ظهورها في سومر وفي مصر. فقد ظهرت إيبلا كمدينة مكتملة منذ أواسط الألف الثالث قبل الميلاد، ويدل أرشيفها الكبير الذي عثر عليه في القصر الملكي على وجود شبكة واسعة من المدن السورية الأخرى المعاصرة لها، والتي قد تثبت الاكتشافات المقبلة معاصرتها للمدن السومرية أيضا. ويبدو أن موقع تل البيدر في منطقة الفرات هو المرشح الأول الآن لإحداث الثورة الأركيولوجية الثانية بعد إيبلا؛ لأن الرقم الطينية التي تم العثور عليها في الموقع خلال موسم التنقيب في عام 1994 ترجع بتاريخها إلى حوالي 2700ق.م.
9
وهذا ما يضعنا في فترة فجر السلالات في كل من سومر ومصر.
أما في فلسطين، وعلى عكس بقية المناطق السورية، فيبدو أن الثقافة المدينية لم تبلغ شأوا يعتد به، إذ بقيت التجمعات السكنية الكبيرة أقرب إلى البلدة أو القرية الكبيرة منها إلى المدينة بمفهومها الصحيح. وقد حافظ الاقتصاد هنا على طابع محلي، ولم يسهم في التجارة الدولية رغم مرور طرق التجارة عبر المناطق الحدودية للأطراف الفلسطينية. إن غياب البينة على وجود سلطة مركزية في أي من المناطق الفلسطينية خلال الألف الثالث، واعتماد أكبر التجمعات الحضرية فيها على الزراعة بالدرجة الأولى، وفقدان البضائع الكمالية ذات العلاقة بحياة الرفاهية، وغياب الكتابة التي هي من خصائص البيروقراطية المدينية؛ يجعل من الصعب التحدث عن نشوء مدن بالمعنى الحقيقي في فلسطين خلال الألف الثالث قبل الميلاد، فالبلدة الصغيرة هنا لم تتعقد بناها إلى ما وراء الحاجة إلى التبادل التجاري الإقليمي والدفاع المحلي.
10
أطلق المؤرخون المحدثون اسم الكنعانيين على سكان المنطقة السورية، وهي المنطقة المحصورة بين وادي الفرات شرقا والبحر المتوسط غربا، وبين جبال طوروس شمالا وحدود الصحراء العربية جنوبا. وقد وردت تسمية «كنعان» و«كنعانيون» في التوراة للدلالة على أرض فلسطين وعلى شعبها، ولكن هذه التسمية ليست توراتية كما يعتقد الكثيرون، فقد استعملها المصريون للدلالة على المناطق الجنوبية الغربية من سوريا، وهي المناطق التي كانوا على احتكاك بها منذ بدايات التاريخ المصري، وترد التسمية في النصوص المصرية بصيغة بي-كنعان
،
11
كما نجد تسمية كنعان في بعض النصوص السورية من الألف الثاني قبل الميلاد، مثل نص إدريمي ملك آلالاخ، وهي المملكة التي ازدهرت خلال النصف الأول من الألف الثاني قبل الميلاد في الشمال الغربي من سوريا (في منطقة أنطاكية). يتحدث إدريمي في هذا النص عن هروبه من آلالاخ عقب انقلاب سياسي في القصر، ولجوئه إلى مدينة أميا في أرض كنعان، وهذه المدينة تقع على الساحل السوري الأوسط قرب طرابلس الحالية.
12
وقد بقيت التسمية مستخدمة في العصر الهيلينستي، حيث نجدها على العملة المسكوكة في بعض مدن الساحل الفينيقي، إضافة إلى استخدامها من قبل المصادر الكتابية الكلاسيكية. وفي بلدان شمال أفريقيا التي كانت مستعمرات فينيقية سابقة بقيت شريحة لا بأس بها تتباهى بأصلها الذي تدعوه كنعانيا، خلال العصر الروماني.
13
وفي إنجيل متى يطلق المؤلف تسمية كنعاني للدلالة على ساكن مناطق فينيقيا التقليدية في لبنان، نقرأ في الإصحاح 15: 21-22: «ثم خرج يسوع من هناك وانصرف إلى نواحي صور وصيدا. وإذا امرأة كنعانية خارجة من تلك التخوم صرخت إليه قائلة ... إلخ.» اعتمادا على هذه الشواهد وأمثالها، من المرجح أن التسمية «كنعان» هي تسمية لمنطقة جغرافية بالدرجة الأولى لا تسمية لشعب معين، وهذه المنطقة هي الأراضي الممتدة على طول الساحل السوري ابتداء من أوغاريت، أو مما يليها على الأغلب، مع بعض الامتدادات نحو الداخل كما هو الحال في منطقة فلسطين، ولا يوجد لدينا في النصوص القديمة ما يشير إلى أن التسمية قد شملت المناطق الداخلية السورية. ومع ذلك فإننا لا نرى مانعا من تعميم التسمية لتشمل أرض الساميين الأوائل الذين تواجدوا في مناطق غربي الفرات منذ العصر الحجري الحديث، وذلك من قبيل إطلاق اسم الجزء على الكل، خصوصا وأن المؤرخين والآثاريين المحدثين ما زالوا مصرين على استخدام هذا المصطلح. فبعد اكتشاف إيبلا وأرشيفها المسماري الضخم - الذي أطلعنا على أول لغة سامية مكتوبة - أطلق عالم اللغات السامية ألفونسو آركي الذي قرأ هذه الرقم على اللغة الإيبلائية صفة «الكنعانية المبكرة»
، ورأى في مملكة إيبلا نموذجا عن الحضارة الكنعانية في الألف الثالث قبل الميلاد،
14
الأمر الذي يدل على أن الحلقات الأكاديمية العالمية تميل إلى زيادة الاعتماد على المصطلح بدلا من استبداله.
انتهت الحضارة المزدهرة للألف الثالث قبل الميلاد على نحو فاجع في جميع أرجاء الشرق القديم، ولأسباب بدت غير واضحة للمؤرخين لفترة طويلة من الزمن . ففي مصر سقطت الأسرة السادسة مع حلول الربع الأخير للألف الثالث قبل الميلاد، وبسقوطها انتهت الفترة المعروفة في تاريخ مصر بفترة المملكة القديمة، وأعقبتها فترة من الفتن والاضطرابات والغزوات الخارجية، يطلق عليها المؤرخون اسم الفترة المعترضة الأولى، دامت حتى مطلع الألف الثاني قبل الميلاد، وانتهت مع قيام الأسرة الثانية عشرة عام 1990ق.م. وهي الأسرة التي ابتدأت فترة المملكة المتوسطة في تاريخ مصر القديمة. وقد تزامن انهيار المملكة القديمة في مصر مع انهيار المملكة الأكادية في بلاد الرافدين، حيث سقطت العاصمة أكاد بيد الغوتيان الجبليين الوافدين من الجبال الشرقية حوالي عام 2230ق.م.، وأعقب ذلك فترة فراغ سياسي واضطرابات عامة، دامت حوالي قرن من الزمان حتى قيام أسرة أور الثالثة عام 2120ق.م. وفي سوريا هناك دليل على وجود فترة فراغ مشابهة، أدت إلى التسلسل التدريجي للقبائل الآمورية التي كانت تتجول في البادية السورية، وإلى تأسيسهم لأسر حاكمة قوية في المدن السورية الكبرى، مثل ماري وحلب وقطنة. وتظهر في فلسطين بشكل خاص آثار أركيولوجية واضحة على الدمار التام لعدد كبير من المدن، تلته فترة فراغ سكاني دامت أكثر من قرنين في بعض المواقع. وقد عثر المنقبون في مواقع المدن المدمرة في فلسطين على آثار حياة بدوية لجماعات آمورية، لم تكن مهتمة ببناء أو سكن الحواضر، واعتقدوا أن هذه الجماعات البدوية هي المسئولة عن تدمير ثقافة البرونز المبكر في فلسطين.
لقد فسر المؤرخون والأركيولوجيون هذه النهاية الشاملة لثقافة البرونز المبكر في جميع أنحاء الشرق القديم تفسيرات جزئية؛ فالغوتيان هم المسئولون عن نهاية المملكة الأكادية، والغزوات البدوية الآمورية هي المسئولة عن نهاية ممالك المدن الكنعانية في سوريا وفلسطين، وثورات الطبقات المحرومة في مصر، وما تبعها من فوضى واضطرابات هي المسئولة عن انهيار المملكة القديمة. إلا أن الأبحاث العلمية الجديدة بخصوص التغيرات المناخية للعصور القديمة - والتي صارت اليوم ركنا أساسيا من أركان البحث التاريخي والتفسير الأركيولوجي - تقدم لنا مفتاحا مهما لفهم حقيقة ما جرى خلال الفترة الانتقالية من البرونز المبكر إلى البرونز الوسيط . فمع الربع الأخير للألف الثالث قبل الميلاد انتهى المناخ البارد المطير الذي ساد المنطقة خلال الألف الرابع قبل الميلاد، وقد تميز هذا المناخ بصيف حار وطويل، وشتاء جاف وقصير، وبهبوط المعدل السنوي للأمطار، مما أدى إلى انخفاض منسوب المياه الجوفية، وشح الينابيع. وفي مصر انخفض منسوب فيضان النيل بشكل حاد تسبب في الانهيار التام للحياة الزراعية. وقد تعاملت المناطق المصابة مع هذه الأوضاع وفق استراتيجيات مختلفة؛ ففي سوريا استطاعت المدن الكبيرة عبور الأزمة بصعوبة بالغة، مع المحافظة على استقرار نسبي خصوصا في المناطق ذات المعدلات المطرية المرتفعة سابقا، أما المناطق الحساسة للجفاف، وذات المعدلات المطرية المنخفضة عادة، فقد أخذ المزارعون فيها بالتحول إلى الحياة الرعوية تدريجيا. وتشير النصوص المسمارية في وادي الرافدين إلى تحركات بشرية مستمرة من المناطق السورية باتجاه الشرق. أما في فلسطين، فقد استمرت المدن الواقعة في مناطق الوديان الخصبة وفي المناطق السهلية، ولكن تحت شروط قاسية، ومع تقلص واضح في حجمها، ونقص كبير في عدد سكانها، بينما هجرت معظم مواقع المناطق الهضبية الحساسة للجفاف وأفرغت من سكانها، وذلك فيما عدا تلك التي تتمتع بمصدر مائي غزير وثابت. وكذلك الأمر في المناطق الجنوبية، مثل عراد وبئر السبع، والتي تحولت إلى بواد قاحلة بعد فترة ازدهار زراعي طويلة. وفي مناطق شرقي الأردن تحول السكان من الزراعات المتوسطية التقليدية إلى الرعي وزراعة الحبوب. وخلال هذه الفترة بالذات تم نزوح أعداد كبيرة من سكان المناطق الواقعة على حدود البوادي - ممن تحولوا إلى حياة الرعي المتنقل - نحو الجزيرة العربية حاملين إليها اللغة السامية.
15
وفيما يتعلق بالمواقع التي عثر فيها المنقبون في فلسطين على آثار دمار خلال هذه الفترة الانتقالية، فيبدو أنها قد تهدمت بشكل طبيعي نتيجة إفراغها من السكان، ووقوعها عرضة للعوامل الطبيعية، ولم تكن بحاجة إلى غزاة من الخارج لإتمام ما ابتدأته الطبيعة.
حوالي عام 1950ق.م. انتهت فترة الجفاف، وأعقبتها فترة باردة ومطيرة أدت إلى ازدهار اقتصادي عام في جميع أنحاء سوريا، فازداد عدد السكان بشكل واضح، وأعيد سكن المناطق التي هجرت إبان الفترة الانتقالية، كما أعيد بناء وسكن المدن المهدمة. وفي مصر ارتفع منسوب فيضان النيل، وعادت الحياة الزراعية سيرتها الأولى تحت سيطرة الأسرة الثانية عشرة التي أسست المملكة المتوسطة. وفي بلاد الرافدين يبدو أن الأسرة الآمورية - التي شكلت الدولة البابلية القديمة (وأشهر ملوكها حمورابي) - قد قامت على أساس اقتصادي راسخ يسمح بتشكيل مثل هذه القوة الجديدة والكبيرة في الشرق القديم. وقد تطابقت بداية فترة الازدهار هذه مع بداية عصر البرونز الوسيط، الذي استمر من 1950 إلى 1600ق.م. (أو 1550ق.م.) وبشكل عام تبدي الفترة الانتقالية في سوريا ارتباطا حضاريا واضحا مع عصر البرونز المبكر، الأمر الذي ينفي بشكل قاطع نظرية الغزوات البدوية، ويؤكد على استمرارية سكانية غير منقطعة، وعلى مقدرة التركيب السكاني المحلي على استيعاب الجماعات الخارجية وهضمها. وبشكل خاص، فإن الثقافة المحلية في فلسطين تبدي، وأكثر من أي مكان آخر في سوريا، هذه الاستمرارية الثقافية والسكانية خلال النصف الأول من الألف الثاني قبل الميلاد.
16
كما تظهر لنا المخلفات المادية للبرونز الوسيط استمرارية حضارية مشابهة مع الفترة الانتقالية ومع البرونز المبكر. وإضافة إلى هذه الاستمرارية الحضارية، فإن عصر البرونز الوسيط في سوريا يعطينا صورة لوحدة ثقافية تامة تجمع كل المناطق في بوتقة واحدة، فمن أوغاريت وكركميش في الشمال وحتى أطراف الصحراء في الجنوب تبدو الروابط واضحة في كل أثر مادي، سواء في الفخار أو الفنون التشكيلية المختلفة، أو فن العمارة أو تقنيات إنشاء الأسوار الدفاعية. ورغم أن المنطقة قد استوعبت إليها تحركات بشرية واسعة من الخارج، إلا أن الطابع الثقافي المحلي بقي سائدا ومتماثلا في جميع أنحائها، واستمرت الثقافة الكنعانية في مسيرتها لتتجاوز البرونز الوسيط إلى البرونز الأخير فعصر الحديد.
17
شهد عصر البرونز الوسيط (1950-1600ق.م.) قيام الدولة البابلية القديمة في بلاد الرافدين تحت لواء أسرة حاكمة آمورية وفدت من سوريا. غير أن هذه الدولة الجديدة لم تكن إلا استمرارا لدولة أور الثالثة، ولدولة صارغون الأكادي من قبلها، ولم يكن الآموريون هنا سوى طبقة حاكمة تبنت كل التقاليد الثقافية السومرية الأكادية في الدين والفنون والآداب واللغة، ولم تكن اللغة البابلية القديمة إلا أكادية معدلة بعض الشيء. كما شهد هذا العصر قيام دويلات مدن قوية في سوريا، مثل كركميش على الفرات في أقصى الشمال، وماري على الفرات الأوسط، وآلالاخ في سهل العمق غربا في منطقة أنطاكية، وقطنة وقادش في سوريا الوسطى بمنطقة حمص. ورغم أن أسرا حاكمة آمورية قد حكمت في معظم هذه المدن، إلا أن الطابع الثقافي الكنعاني للبرونز المبكر قد استمر هنا استمرار الطابع الثقافي الأكادي في وادي الرافدين. ومن أهم الحكام الآموريين الذين ظهروا على المسرح السياسي مع بدايات عصر البرونز الوسيط: الملك شمسي هدد الأول، وهو شخصية عسكرية وإدارية متميزة، ظهر بشكل مفاجئ في أواخر القرن التاسع عشر قبل الميلاد، ووحد منطقة حوض الخابور وشمال بلاد الرافدين، من المنعطف الكبير لنهر الفرات غربا إلى سفوح جبال زاغروس شرقا. وكانت آشور - التي استولى عليها هذا العاهل، واعتلى عرش ملوكها في عاصمتها - قلب هذه الإمبراطورية المترامية الأطراف، غير أن شمسي هدد لم يختر الإقامة في العاصمة الآشورية، بل عمل على بناء عاصمة جديدة له في حوض الخابور الأعلى، أطلق عليها اسم شوباط إنليل، وقد تم اكتشاف هذه المدينة في موقع تل ليلان في أقصى الشمال الشرقي من الحدود السورية الحالية.
وفي فلسطين نضجت البنى الأساسية للمدن التي كانت أشبه بالقرى خلال الألف الثالث، وأخذت هذه البنى تتشكل تدريجيا وفق نظام دولة المدينة الذي كان سائدا في بقية المناطق السورية لوقت طويل مضى. ونستنتج من النصوص المصرية العائدة لفترة المملكة المتوسطة قيام أسر حاكمة في عدد من المدن الكبرى، إلا أن هذه المدن - من أمثال شكيم وحاصور ومجدو - لم تصل في حجمها وفي قوتها إلى ما وصلت إليه بقية المدن السورية، ولم تتجاوز في توسعها الحد اللازم لحياة مركز إقليمي يقدم خدمات التسويق والصناعة الحرفية، والدفاع المحلي للمنطقة الصغيرة المحيطة به، والقرى الدائرة في فلكه. ورغم أن زراعات بعض المناطق الفلسطينية قد تركزت حول سلع التبادل النقدي، مثل الخمور والزيوت، وما يستتبع ذلك من توسيع لأسواقها المحلية، ورغم قيام تحالفات سياسية عائلية بين حكام المدن الكبرى، وظهور نوع من الهرمية في ميزان القوى بشكل عام؛ إلا أن هذا كله لم يؤد إلى نشوء دولة قوية تبسط سلطانها على عدد من المدن والمناطق التابعة لها. ومن ناحية أخرى، فإن الثقافة الفلسطينية في عصر البرونز الوسيط تظهر تأثرا واضحا بالثقافة المصرية، لا سيما في المناطق الجنوبية، إلا أن هذا التأثير يمكن تفسيره بالقرب الجغرافي والتبادل التجاري، ولا يوجد لدينا أي دليل على وجود سلطان سياسي مصري مباشر على فلسطين خلال البرونز الوسيط. وفي الحقيقة، فإن طرق الاتصال بين فلسطين ومصر كانت مفتوحة منذ الألف الخامس قبل الميلاد، وكانت الدلتا المصرية منذ ذلك الحين تستوعب أعدادا متزايدة من الآسيويين القادمين إليها من فلسطين أو عبرها، إلى أن صارت منطقة شبه آسيوية مع حلول عصر البرونز الوسيط. ويبدو أن الهكسوس - الذين استولوا على مصر وأسسوا أسرا حاكمة آسيوية فيها، فيما بين 1730 و1570ق.م. - لم يأتوا من أي مكان خارج مصر، بل من الدلتا نفسها.
18
سوريا وفلسطين في عصر البرونز المتأخر.
لم تعمر المملكة المتوسطة التي قامت في مصر مع مطلع البرونز الوسيط إلا حوالي قرنين من الزمان، فحوالي عام 1730ق.م. استولى على الحكم الجماعات المعروفة في التاريخ باسم الهكسوس، وتبدأ في مصر الفترة التي يدعوها المؤرخون بالفترة المعترضة الثانية. يتفق معظم دارسي اللغة المصرية القديمة على أن كلمة هكسوس تعني «حكام الأراضي الأجنبية» (الحكام الذين جاءوا من أراض أجنبية)، من هنا، فإن معرفة أصلهم ومصدرهم أمر مستحيل اعتمادا على النصوص الهيروغليفية المصرية، وذلك فيما عدا كونهم قد أتوا من آسيا الغربية. ورغم أن معظم أسماء الملوك الهكسوس سامية، إلا أننا نعثر بينها على أسماء غير سامية أيضا، الأمر الذي يدل على وجود عناصر مختلطة في التركيب الإثني (العرقي) لهذه الجماعات. وربما كانت العناصر غير السامية قد جاءت من أصل حوري، فقد تميزت بداية عصر البرونز الوسيط بحدوث تحركات سكانية كبيرة من وإلى المنطقة السورية، أهمها تلك الهجرة الواسعة لجماعات غير سامية وفدت من الشرق والشمال الشرقي لتستقر في الشمال السوري والجزيرة العليا، وتشكل عدة ممالك قوية، أهمها مملكة ميتاني. ورغم أن لغة هؤلاء الحوريين لا تنتمي إلى أسرة لغات معروفة، سامية كانت أم هندو-أوروبية، إلا أن الطبقة العسكرية الحاكمة للجماعات الحورية كانت من أصل هندو-أوروبي. وبعد الموجة الرئيسية التي جاءت بالحوريين إلى المناطق المذكورة أعلاه، لدينا دلائل على موجات صغيرة حملت جماعات منهم خلال عصر البرونز الوسيط إلى كل مكان تقريبا من بلاد الشام. وبما أنه لا يوجد لدينا دليل على غزو أو انسياح حوري واسع النطاق نحو الغرب والجنوب، فإن من المرجح أن تكون هذه الموجات الصغيرة من تحركات الحوريين قد جاءت نتيجة تسرب سلمي تدريجي. وقد اختلطت هذه الجماعات الحورية بالسكان المحليين تدريجيا، وحافظت على لغتها فترة لا بأس بها قبل أن تذوب تماما في محيطها السامي. ونستدل من رسائل تل العمارنة المتبادلة بين حكام فلسطين والبلاط الفرعوني حوالي عام 1350ق.م. على وجود حكام حوريين على رأس عدد من الممالك السورية. ولدينا من مدينة أوغاريت شواهد على وجود جالية حورية كبيرة ونشطة في المدينة حوالي عام 1400ق.م.، وهذا يعني أن التواجد الحوري في سوريا قد استمر قويا وفعالا حتى عصر البرونز الأخير. وإلى جانب التحركات الحورية، لدينا شواهد على تحركات محدودة لجماعات هندو-أوروبية وفدت إلى سوريا خلال عصر البرونز الوسيط من آسيا الصغرى. ونجد بشكل خاص في أوغاريت وآلالاخ عددا لا بأس به من أسماء الأشخاص مكتوبة بالقلم الحثي اللوفياني.
وإلى جانب هذه التحركات الحورية والهندو-أوروبية، لدينا في عصر البرونز الوسيط تحركات واسعة النطاق لجماعات معروفة باسم الخابيرو. وعلى عكس الحوريين والهندو-أوروبيين، فإن هؤلاء الخابيرو لم يكونوا جماعة عرقية متميزة، بل أخلاطا من أجناس شتى. ولا تساعدنا أسماء العلم الدالة على أفراد منهم، في نصوص مملكة ماري وغيرها من ممالك البرونز الوسيط، على تبين لغة واحدة تجمع بينهم، كما أن هذه النصوص لا تساعدنا على تحديد نمط حياة موحد لهذه الجماعات، فأحيانا نجدهم جنودا مرتزقة، وأحيانا عمالا مأجورين في حقول الزراعة ، وأحيانا جماعات هائمة من النهابين وقطاع الطرق. وتزودنا نصوص مملكة ماري بشكل خاص بمعلومات عن هؤلاء الخابيرو الذين كانوا يتواجدون بكثرة في الأراضي الواقعة تحت سيطرتها، وفي المناطق المحيطة بها. وتشير هذه النصوص إلى جماعتين رئيستين من الخابيرو، هما «بنو-يامينا» أو أهل الجنوب، و«بنو-شمأل» أي: أهل الشمال. ونعرف منها أن بعض هؤلاء كان يعمل في الزراعة ويقيم في قرى أو معسكرات خاصة، وبعضهم كان يمارس الرعي المأجور للآخرين، أو يحصد ويدرس مواسم القمح لهم. ومن النصوص الحثية نعرف أن جماعات من الخابيرو كانت تستأجر لأعمال النقل والخدمة في الجيش. ومن نصوص أوغاريت وآلالاخ نعرف أن جماعات منهم كانت منتشرة في تلك المناطق، وكانت تقدم خدماتها للملوك المحليين لقاء أجور عينية أو نقدية، أو على شكل أراض زراعية في بعض الأحيان. كما كانت مناطق تواجدهم تشكل موئلا للهاربين من يد العدالة.
19
فالخابيرو، والحالة هذه، هم فئة اجتماعية وليسوا فئة عرقية، إنهم شتات من الجماعات التي لم تجد لها مكانا في الهيكل الاجتماعي والسياسي لدويلات وممالك عصر البرونز الوسيط، فآلت إلى حالة هامشية تعيش في قلق واضطراب وحركة دائمة، تحت قيادات سياسية مؤقتة لا تتمتع بالديمومة والاستقرار. بعض هؤلاء الخابيرو وفد إلى المنطقة من خارجها، وبعضهم جاء من البوادي الداخلية، وبعضهم من شذاذ الآفاق والمغامرين، أو من حثالة الشرائح السفلى للمجتمعات الحضرية تبحث عن حظوظ جديدة. ففي أوقات انعدام الأمن كان الخابيرو يلجئون إلى السلب والنهب، وعند استتباب الأمن كانوا يتقدمون للعمل المأجور، وفي أوقات الحروب كانوا يتحولون إلى مرتزقة يحاربون إلى هذا الجانب أو ذاك. ونحن إذا لم نقبل بنظرية الأصل المحلي للهكسوس، والتي أشرنا إليها منذ قليل، فإن أكثر النظريات قربا لواقع حال عصر البرونز الوسيط هي التي تجعلهم جماعات من الخابيرو حققت نوعا من التلاحم الداخلي تحت قيادات سياسية قادرة، قادتها نحو الدلتا المصرية.
في عصر البرونز الوسيط هذا تبدأ القصة التوراتية، على ما يجمع عليه المؤرخون والباحثون التوراتيون. وفي هذا العالم الذي يموج بثقافات عالية ، وتتلاقى عبره الأفكار التي ستمهد لكل منجزات التاريخ الإنساني اللاحق، تبدأ قصة أصول إسرائيل التوراتية، مع عائلة تهيم على وجهها انطلاقا من مدينة أور على الفرات الأدنى، على عادة تلك الجماعات الهائمة من صيادي الحظ، المقتلعين من جذورهم الاجتماعية، ممن غذوا - عادة - تجمعات الخابيرو على حدود المراكز الحضرية.
ولسوف نتتبع القصة التوراتية وفق التحقيب الزمني المتعارف عليه، والمستمد من كتاب التوراة نفسه، والذي يقسم القصة إلى العصور التالية: (1) عصر الآباء. (2) العبودية في مصر، والخروج. (3) اقتحام كنعان. (4) عصر القضاة. (5) المملكة الموحدة. (6) المملكة المنقسمة (إسرائيل ويهوذا).
الفصل الثاني
عصر الآباء
تنتهي سلسلة نسب سام بن نوح، في سفر التكوين أول الأسفار التوراتية، إلى المدعو تارح أبي أبرام (أبو إبراهيم)، ومع تارح هذا تبدأ قصة الأصول التوراتية. لا يقدم الإصحاح الحادي عشر من سفر التكوين أية معلومات تفيد في رسم صورة شخصية واضحة للمدعو تارح، ومعرفة أي شيء عن حياته السابقة ومنبته ومهنته. ولا نعرف سوى أنه قد غادر منطقة أور الكلدانية متجها إلى أرض كنعان، وفي الطريق حط الرحال في مدينة حران في أقصى الشمال السوري غربي الفرات الأعلى، ومعه ابنه أبرام وزوجة ابنه المدعوة ساراي، وحفيده لوط ابن ابنه هاران المتوفى. ولسبب لا يفصح عنه النص، أقام تارح مع جماعته في حران إلى أن وافته المنية وعمره مائتان وخمس سنين (تك، 11: 27-32). ومرة أخرى، لا نعرف ما الذي كان يمارسه تارح وجماعته من مهنة في حران، ولا يقدم لنا النص أية معلومات عن طبيعة حياتهم فيها، ولكننا نعرف من الإصحاح الثاني عشر أن أبرام ولوطا قد غادرا حران بعد موت تارح ومعهما مقتنيات كثيرة وعبيد، لا ندري كيف حصلا عليها.
يخرج أبرام من حران متابعا رحلة أبيه تارح نحو أرض كنعان، ويكون خروجه بأمر الرب الذي خاطبه قائلا: «اذهب من أرضك ومن عشيرتك ومن بيت أبيك إلى الأرض التي أريك، فأجعلك أمة عظيمة وأباركك وأعظم اسمك» (تك، 12: 1-2)، وكان عمر أبرام في ذلك الوقت خمسا وسبعين سنة. كانت مدينة شكيم في شمال فلسطين أول محطة لأبرام، ومنها نزل جنوبا فخيم بين مدينتي بيت إيل وعاي، حيث بنى مذبحا للرب، ثم واصل ارتحاله جنوبا دون تحديد الموقع الذي وصل إليه. ثم إن جوعا حصل في الأرض دفع أبرام إلى مصر، وهناك قال لساراي زوجته أن تدعي بأنها أخته حتى لا يقتل بسببها؛ ذلك أن المرأة المتزوجة في مجتمعات الشرق القديم كانت تتمتع بحصانة، على عكس المرأة العازبة، وقد خاف أبرام أن يدبر له المصريون مكيدة تودي بحياته ليكونوا أحرارا في التصرف بزوجته. رأى المصريون أن المرأة حسنة جدا (على حد تعبير النص)، فأخذت ساراي إلى بيت فرعون وانضمت إلى حريمه، رغم أنها كانت في سن الخامسة والستين من العمر على الأقل.
1
وصنع فرعون إلى أبرام خيرا بسبب المرأة، فصار له غنم وبقر وحمير وإماء وجمال، ولكن الرب لم يكن راضيا عن هذه المقايضة، فضرب بيت فرعون ضربات عظيمة بسبب ساراي، فدعا فرعون أبرام وقال له: «ما هذا الذي صنعت بي؟ لماذا لم تخبرني أنها امرأتك؟ لماذا قلت: «هي أختي» حتى أخذتها لي لتكون زوجتي؟ والآن هذه امرأتك، خذها واذهب» (تك، 12: 4-20).
يرجع أبرام إلى كنعان، ويقوم بزيارة المذبح الذي أقامه للرب بين بيت إيل وعاي، ومعه لوط أيضا. وهناك يفترق الاثنان بسبب خصام وقع بين رعاة مواشيهما الكثيرة العدد، فيختار لوط دائرة شرقي الأردن، ويبقى أبرام في أرض كنعان. وبعد رحيل لوط يخاطب الرب أبرام مرة ثانية، وهو في هذه البقعة التي تتوسط منطقة الهضاب المركزية في فلسطين، ويأمره أن يجيل البصر شمالا وجنوبا وشرقا وغربا، لأنه يعطي هذه الأرض له ولنسله إلى الأبد. ثم يقفل أبرام عائدا إلى مناطق إقامته في الجنوب، والتي يحددها النص الآن ببلوطات ممرا التي في حبرون (الخليل)، حيث يبني مذبحا آخر هناك (تك، 13).
بعد ذلك نسمع عن ملك اسمه كدر لعومر ملك عيلام،
2
الذي شن حربا على منطقة شرقي الأردن بسبب توقف ملوكها عن دفع الجزية له، ورافق كدر لعومر في هذه الحملة المدعو أميرافل ملك شنعار
3
وثلاثة ملوك آخرين. ينتصر كدر لعومر على ملوك شرقي الأردن، ويقفل راجعا ومعه الغنائم والأسرى، وبين هؤلاء الأسرى لوط وجماعته وأملاكه. يسمع أبرام بخبر الحملة وبأسر ابن أخيه، فيجهز على عجل حملة من أتباعه وعبيده، وعددهم ثلاثمائة، ويتبع الغزاة حتى يدركهم في موقع دان في شمال فلسطين، وهناك يوقع بالملوك الخمسة هزيمة منكرة، ويسترجع الأسرى والأسلاب. ولدى وصوله خرج ملوك شرقي الأردن لاستقبالهم، وخرج أيضا ملكي صادق ملك شاليم، الذي أخرج خبزا وخمرا، وكان كاهنا لله العلي (إيل عليون باللغة التوراتية)، وباركه وقال: «مبارك أبرام من الله العلي مالك السموات والأرض» (تك، 14).
وكان أبرام حتى ذلك الوقت عقيما بلا نسل. ونعرف من سياق النص أنه قد تبنى شابا اسمه أليعازر الدمشقي ليدير أملاكه ويرثها بعد موته، وفق العادة المتبعة في ذلك الوقت. ولكن الرب يخاطبه للمرة الثالثة بعد عودته من الحرب ويعده بمولود من صلبه يرث أملاكه، ويقول له: «لا تخف يا أبرام. أنا ترس لك، أجرك كثير جدا، فقال أبرام: أيها السيد الرب، ماذا تعطيني وأنا ماض عقيما، ومالك بيتي هو أليعازر الدمشقي! ... وهو ذا ابن بيتي وارث لي. فإذا كلام الرب إليه قائلا: لا يرثك هذا، بل الذي يخرج من أحشائك هو الذي يرثك.» وفي هذا اليوم قطع الرب مع أبرام ميثاقا وأبرم عهدا، ومضمون هذا العهد أن يعبد أبرام وذريته هذا الإله مقابل إعطائهم الأرض، وتقديم الحماية والمساعدة لهم (تك، 15). وهذا النوع من العهود والمواثيق بين الجماعة وإلهها معروف في أنحاء مختلفة من مناطق الشرق القديم.
وبعد أن أقام أبرام عشر سنين في أرض كنعان، ويئست ساراي من الإنجاب، سألته أن يدخل على جاريتها المصرية هاجر، فحملت هاجر وولدت له إسماعيل، وكان عمر أبرام عند ذلك ستا وثمانين سنة. ولما صار أبرام ابن تسع وتسعين سنة ظهر له الرب مجددا ووعده بتكثير نسله، وجدد معه العهد الذي أبرمه سابقا. ولتثبيت هذا العهد وجعله حيا في الأذهان غير الرب اسم أبرام وجعله إبراهيم، كما غير اسم زوجته ساراي لتصبح سارة . وفرض عليه الختان هو وولده وبقية عبيده. ثم بشره بغلام من سارة يدعوه إسحاق، يقيم عهده معه من دون إسماعيل، فسقط إبراهيم على وجهه وضحك، وقال في قلبه: هل يولد لابن مائة سنة! وهل تلد سارة وهي بنت تسعين! (تك، 17).
في الإصحاح الثامن عشر الذي يلي مباشرة يطالعنا النص برواية مختلفة تماما عن البشارة بإسحاق، فبينما إبراهيم جالس في باب خيمته عند الظهيرة، وإذا ثلاثة رجال واقفون لديه، فركض لاستقبالهم وسجد إلى الأرض، ولم يكن هؤلاء الثلاثة سوى الرب نفسه ومعه شخصيتان قدسيتان أخريان. دعا إبراهيم ضيوفه للاتكاء في ظل الشجرة القريبة ريثما تجهز لهم سارة طعام الغداء. وبعد أن انتهى الثلاثة من طعامهم، وإبراهيم واقف لديهم تحت الشجرة، قال الرب لإبراهيم: أين سارة امرأتك؟ فأجابه: هي في الخيمة، فقال: إني أرجع إليك بعد الزمن اللازم لحملها ووضعها ولدا من صلبك، فضحكت سارة من وراء الخباء في سرها قائلة: هل يكون لي ولد وقد انقطعت عني عادة النساء، وزوجي قد شاخ! فقال الرب لإبراهيم: لماذا ضحكت سارة؟ هل يستحيل على الرب شيء؟ في الموعد الذي حددته لك أرجع ويكون لسارة ابن، فأنكرت سارة قائلة: لم أضحك، فقال الرب: لا بل ضحكت. ثم قام الضيوف للانصراف، وبينما إبراهيم يشيعهم أسر له الرب بخطته لتدمير مدينتي سدوم وعمورة في شرقي الأردن؛ لكثرة خطاياهما، فحاول إبراهيم عبثا أن يثنيه عما انتوى (تك، 18).
ولما كان لوط ساكنا في مدينة سدوم أو في جوارها، فقد استثناه الرب من القضاء الذي حم على المدينتين، وأمره أن يرحل مع زوجته وابنتيه قبل الموعد المضروب، وألا يلتفت أحدهم إلى الوراء ليرى دمار المدينة، وإلا تحول إلى عمود ملح، ففعلوا. وبينما كان الرب يمطر على سدوم وعمورة كبريتا ونارا من السماء، التفتت زوجة لوط إلى الوراء، فصارت عمود ملح، أما لوط فقد لجأ مع ابنتيه إلى مغارة بعيدة في الجبل ونجا، ثم أقام في تلك المغارة بعد دمار المنطقة. وبعد مدة قالت إحدى البنتين لأختها: أبونا قد شاخ، وليس في الأرض من حولنا رجل ليدخل علينا كعادة بني الناس، هلم نسقي أبانا خمرا ونضطجع معه فنحيي منه نسلا. فسقتا أباهما خمرا في تلك الليلة، ثم دخلت الكبرى فاضطجعت مع أبيها وهو لا يدري ما يفعل، وفي الليلة التالية فعلت الصغرى الشيء نفسه، وحملت ابنتا لوط من أبيهما. ثم ولدت الكبرى ابنا دعته موآب، وهو أبو الشعب الموآبي، وولدت الصغرى ابنا دعته عمون، وهو أبو الشعب العموني (تك، 19). وكما نعرف من الأحداث اللاحقة للروايات التوراتية فإن هذين الشعبين كانا من الأعداء التاريخيين لبني إسرائيل.
بعد ذلك ينتقل إبراهيم من ممرا قرب حبرون إلى جرار الواقعة قرب غزة، وهنا تتكرر بحذافيرها قصة إبراهيم في مصر. نقرأ في النص: «وقال إبراهيم عن سارة امرأته: هي أختي. فأرسل أبيمالك ملك جرار وأخذ سارة. فجاء الله إلى أبيمالك في حلم الليل وقال له: ها أنت ميت من أجل المرأة التي أخذتها، فإنها متزوجة ببعل، فقال: ألم يقل لي: إنها أختي، وهي نفسها قالت: هو أخي! ... فقال له الله في الحلم: ... فالآن رد امرأة الرجل إليه، فإنه نبي، فيصلي لأجلك فتحيا.» فبكر أبيمالك في الصباح ورد سارة إلى إبراهيم، وأعطاه غنما وبقرا وعبيدا، وخيره أن يسكن في أي مكان من أراضيه (تك، 20).
أخيرا حملت سارة وولدت لإبراهيم ابنا في شيخوخته دعاه إسحاق. ثم خافت سارة من مزاحمة إسماعيل لابنها إسحاق في الميراث، فطلبت من إبراهيم أن يطرد هاجر وابنها. ولما تردد في تلبية هذا الطلب الغريب تدخل الرب واقفا إلى جانب هاجر، وطمأن إبراهيم على مصير إسماعيل، وأكد له بأنه سيرعاه ويجعل منه أمة كبيرة. فبكر إبراهيم صباحا، وأخذ خبزا وقربة ماء وأعطاهما لهاجر وصرفها، فمضت وتاهت في برية بئر السبع. ولما نفد الماء من القربة، وأشرف الولد على الموت عطشا، فتح الرب عيني هاجر فرأت نبع ماء قريب، فشربا وأقاما هناك في برية فاران بين بئر السبع وسيناء، حيث شب إسماعيل وترعرع، واتخذ له زوجة مصرية. أما إبراهيم، فقد أقام فيما بين جرار وبئر السبع التي احتفر فيها بئرا ما زالت قائمة هناك (تك، 21).
وحدث بعد ذلك أن الرب أراد امتحان إبراهيم، فأمره أن يصعد ابنه إسحاق محرقة على رأس الجبل، فبكر إبراهيم صباحا ممتثلا لأمر الرب، وصعد إلى الجبل وجهز حطبا للمحرقة، وأخذ بيده النار والسكين، ولكن الرب ناداه من السماء: «إبراهيم، إبراهيم. فقال: ها أنا ذا. فقال: لا تمد يدك إلى الغلام ولا تفعل به شيئا، لأني الآن علمت أنك خائف الله فلم تمسك ابنك وحيدك عني. فرفع إبراهيم عينيه ونظر وإذا كبش ممسكا في الغابة بقرنيه، فذهب إبراهيم وأخذ الكبش وأصعده محرقة عوضا عن ابنه» (تك، 22).
عاد إبراهيم من جرار فأقام في حبرون حيث كان سابقا، وهناك ماتت زوجته سارة وعمرها مائة وسبع وعشرون سنة. ولما كان إبراهيم حتى ذلك الوقت غريبا في الأرض، ولا يملك مكانا يدفن فيه ميته، فقد اشترى من بني حث المقيمين في المنطقة حقلا دفن زوجته في مغارة عند طرفه. وقد صارت هذه المغارة فيما بعد مدفنا لأسرة إبراهيم. وبعد ذلك شعر إبراهيم بالحاجة لرؤية أحفاد له من ولده إسحاق قبل مماته، فاستدعى أليعازر الدمشقي قيم بيته واستحلفه ألا يزوج إسحاق ببنت من الكنعانيين، بل أن يذهب إلى آرام النهرين إلى مدينة ناحور أخي إبراهيم ليخطب له من هناك فتاة من عشيرته ومن أهله. ففعل أليعازر، وانطلق بعشرة جمال وهدايا مهرا للزوجة المقبلة. ولما وصل أطراف البلدة أناخ جماله عند بئر ماء، فرأى فتاة تستقي، فأسقته وقالت: اسق جمالك أيضا. ولم تكن هذه الفتاة سوى رفقة بنت بتوئيل بن ناحور (أخي إبراهيم) التي دعته إلى ديار أبيها للمبيت، حيث استقبل بحفاوة بالغة من قبل أبيها بتوئيل وأخيها لابان، وعندما كشف أليعازر عن مقصده قوبل طلبه بالقبول، وارتضت رفقة أن تمضي معه في اليوم التالي لتغدو زوجة لإسحاق (تك، 24).
بعد أن رأينا إبراهيم في الإصحاح السابق شيخا متقدما في الأيام ينتظر منيته، يطالعنا في الإصحاح 25 رجلا في تمام الصحة والعافية، قادرا على الزواج والإنجاب وعمره مائة وأربعون سنة، وهو الذي عجب سابقا من بشارة ربه له بإسحاق قائلا: «هل يولد لابن مائة سنة! وهل تلد سارة وهي بنت تسعين!» يأخذ إبراهيم زوجة جديدة اسمها قطورة، فتلد له زمران ويقشان ومدان ومديان ويشبان وشوحا. ويأتي لولده يقشان: شبا وددان. ونلاحظ من سلسلة النسب المتحدرة من قطورة أن الأسماء الواردة فيها هي أسماء لقبائل كانت تتحرك في المساحات الواقعة بين البادية السورية وشمال الجزيرة العربية خلال الألف الأول قبل الميلاد، مثل مديان حول خليج العقبة، وشبا أو سبأ وددان، وهم من قبائل العرب الواردين في السجلات الآشورية. غير أن هذه الفروع في شجرة عائلة إبراهيم - شأنها شأن فرعه من إسماعيل - هي فروع ثانوية، أما الخط الرئيسي في الشجرة، والمعترف به من قبل الرب، فيستمر عبر إسحاق بكر إبراهيم من سارة، والذي يقيم الرب معه العهد ومع ذريته من بعده. ثم مات إبراهيم وعمره مائة وخمس وسبعون سنة، بعد أن أعطى لإسحاق في حياته كل أمواله وممتلكاته، ودفن في مغارة المكفيلة قرب سارة.
بعد عشرين سنة من زواجها بإسحاق، تحمل رفقة توءمين يتزاحمان في بطنها «فمضت لتسأل الرب، فقال لها الرب: في بطنك أمتان، ومن أحشائك يفترق شعبان؛ شعب يقوى على شعب، وكبير يستعبد لصغير.» وفي هذا القول إشارة إلى عيسو الابن الأكبر لإسحاق، الذي صار أبا للشعب الآدومي الذي سكن جنوب البحر الميت نحو خليج العقبة، ويعقوب الابن الأصغر الذي أنجب الأسباط الاثني عشر، ونبوءة بخضوع آدوم لإسرائيل. فلما كملت رفقة أيامها لتلد، خرج الأول من رحمها أحمر اللون، كله فروة شعر، فدعوه عيسو، وبعد ذلك خرج أخوه ويده قابضة بعقب عيسو، فدعي اسمه يعقوب. وكان إسحاق يحب عيسو، أما رفقة فكانت تفضل يعقوب. وحدث بعد أن كبر الأخوان أن عيسو الذي كان صيادا عاد من الصحراء وهو متعب وجائع، فوجد يعقوب الذي لم يكن يغادر الخيام يطبخ عدسا، فطلب إليه أن يطعمه من طبيخه، فأبى يعقوب، وطلب لقاء طبيخه ثمنا غاليا هو كل الحقوق المتعلقة بالابن الأكبر في العائلة، فوافق عيسو على الصفقة مستخفا بالبكورية (تك، 25).
يجدد الرب مع إسحاق العهد الذي قطعه مع إبراهيم، ويأمره أن يمضي إلى جرار في الجنوب بسبب المجاعة في الأرض. وفي جرار يقول إسحاق عن رفقة زوجته إنها أخته؛ كي لا يقتل بسببها، كما فعل أبوه إبراهيم سابقا. ولكن ملك جرار، الذي يدعى هنا أبيمالك أيضا، اكتشف كذبته قائلا: «ما هذا الذي صنعت بنا! لولا قليل لاضطجع أحد الشعب مع امرأتك فجلبت علينا ذنبا. فأوصى أبيمالك جميع الشعب قائلا: الذي يمس هذا الرجل أو امرأته يموت ...» بعد ذلك يلتفت إسحاق إلى الزراعة فتكثر غلاله، ويتعاظم رزقه إلى درجة تثير غيرة الملك، فيطلب منه مغادرة المدينة، فأقام في وادي جرار (تك، 26).
وحدث لما شاخ إسحاق وكلت عيناه عن النظر أنه دعا عيسو ابنه الأكبر ليباركه، ولكن رفقة دفعت إليه بيعقوب بدلا من عيسو، ووضعت على ساعده فروة جدي لتصبح مشعرة كساعد عيسو، فباركه إسحاق وهو غافل عن خدعة زوجته. وعندما حضر عيسو للحصول على البركة من أبيه يكتشف الاثنان خدعة رفقة ويعقوب، ويصرخ عيسو: «باركني أنا أيضا يا أبي، فقال: قد جاء أخوك بمكر وأخذ بركتك. فقال: ألا إن اسمه دعي يعقوب، قد تعقبني الآن مرتين؛ أخذ بكوريتي، وهو ذا الآن قد أخذ بركتي. ثم قال: أما بقيت لي بركة؟ فأجاب إسحاق وقال لعيسو: إني قد جعلته سيدا لك، ودفعت إليه جميع إخوته عبيدا، وعضدته بحنطة وخمر، فماذا أصنع إليك يا ابني!» فحقد عيسو على يعقوب وطلب قتله، فهرب يعقوب من وجه أخيه، ولكن إسحاق نصحه بالسفر إلى خاله لابان في حران بآرام النهرين، والإقامة عنده حتى يرتد غضب أخيه عنه، وأن يتزوج هناك إحدى بنات خاله (تك، 27).
يشد يعقوب الرحال إلى حران، وبينما هو في موقع بيت إيل يظهر له الرب في الحلم، ويجدد معه عهد إبراهيم وإسحاق قائلا: «أنا الرب، إله إبراهيم أبيك وإله إسحاق. الأرض التي أنت مضطجع عليها أعطيها لك ولنسلك ...» وعندما يصل أطراف حران يتوقف عند بئر ليستقي ، وهناك يلتقي بابنة خاله راحيل، التي وردت البئر لتسقي غنمها، فيتعارفان وتقوده إلى البيت، حيث يستقبله لابان أحسن استقبال، فيقيم عنده شهرا يرعى له الغنم. ثم قال لابان ليعقوب: «ألأنك أخي تخدمني مجانا! أخبرني ما أجرتك؟ وكان للابان ابنتان؛ اسم الكبرى ليئة، واسم الصغرى راحيل. وكانت عينا ليئة ضعيفتين، أما راحيل فكانت حسنة الصورة وحسنة المنظر. وأحب يعقوب راحيل فقال: أخدمك سبع سنين براحيل ابنتك الصغرى ...» فوافق لابان على الصفقة، ولبث يعقوب في خدمة خاله سبع سنين آملا في الزواج براحيل. وفي تمام المدة طلب امرأته، ولكن لابان جاء إليه في ليلة الزفاف بابنته الكبرى ليئة، فدخل عليها يعقوب دون أن يعرف. وعندما اكتشف الخديعة في الصباح ولام خاله على ما فعل؛ وعده بالصغرى إن عمل سبع سنوات أخرى لقاء مهرها، فقبل يعقوب وتزوج راحيل بعد أربع عشرة سنة من إقامته في ديار خاله (تك، 28-29).
وبعد أن كبر أولاد يعقوب، وكثرت أمواله ومواشيه قرر العودة إلى ديار أبيه، فحمل زوجتيه وأولاده الأحد عشر وكل مقتنياته وسار يطلب أرض كنعان، ومعه هدية مغرية لأخيه عيسو يسترضيه بها (تك، 30-31). وفي مكان اسمه مخاضة يبوق ظهر له إنسان وصارعه حتى طلوع الفجر حين تمكن يعقوب من خصمه. ولم يكن هذا الخصم سوى يهوه نفسه. فقال له: «أطلقني لأنه قد طلع الفجر، فقال: لا أطلقك إن لم تباركني، فقال: ما اسمك؟ فقال: يعقوب، فقال: لا يدعى اسمك فيما بعد يعقوب، بل إسرائيل؛ لأنك جاهدت مع الله والناس وقدرت. وسأل يعقوب وقال: أخبرني باسمك، فقال: لماذا تسأل عن اسمي؟ وباركه هناك. فدعا يعقوب اسم المكان فنيئيل قائلا: لأني نظرت الله وجها لوجه ونجيت نفسي» (تك، 32: 22-30). في الطريق إلى حبرون، التي يقيم فيها إسحاق، يخرج عيسو للقاء يعقوب، ويتصالح الأخوان، ثم يتابع يعقوب طريقه «وجاء يعقوب إلى إسحاق أبيه إلى ممرا، قرية أربع، التي هي حبرون، حيث تغرب إبراهيم وإسحاق، وكانت أيام إسحاق مائة وثمانين سنة، فأسلم إسحاق روحه ومات، ودفنه عيسو ويعقوب ابناه ... وسكن يعقوب في أرض غربة أبيه» (تك، 33-37).
وقد أحب يعقوب ابنه يوسف أكثر من سائر بنيه؛ لأنه كان ابن شيخوخته «فصنع له قميصا ملونا. فلما رأى إخوته أن أباهم أحبه أكثر من جميع إخوته أبغضوه، ولم يستطيعوا أن يكلموه بسلام ...» ومما زاد في بغضهم له أنه كان يقص أحلاما يراها، تتنبأ له بعلو المكانة بين إخوته وتفوقه عليهم، ومنها الحلم الذي قال فيه: «إني قد حلمت حلما أيضا، وإذا الشمس والقمر وأحد عشر كوكبا ساجدة لي. وقصه على أبيه وعلى إخوته، فانتهره أبوه وقال له: ما هذا الحلم الذي حلمت؟ هل نأتي أنا وأمك وإخوتك لنسجد لك إلى الأرض؟ فحسده إخوته، أما أبوه فكتم الأمر.» وفي إحدى المرات، وبينما كان إخوة يوسف يرعون الغنم في مكان بعيد، أرسله أبوه وراءهم ليستطلع أحوالهم وأحوال القطيع، فلما رأوه قادما من بعيد قال بعضهم لبعض: هو ذا صاحب الأحلام قادم، هلموا نقتله فنرى ماذا تكون أحلامه. ولكنهم بعد مداولة في الأمر قرروا إلقاءه في بئر قريبة جافة، وتركه هناك لمصيره. وبعد تنفيذ مؤامرتهم عادوا إلى أبيهم ومعهم قميص يوسف الملون وعليه دم تيس ذبحوه عند البئر، وقالوا: إن وحشا رديئا قد افترسه، فبكى يعقوب على ابنه أياما كثيرة وبقي في حداد دائم. وأما يوسف فقد انتشله من البئر تجار في قافلة متجهة إلى مصر، فاسترقوه وباعوه لدى وصولهم إلى فوطيفار رئيس الشرط لدى فرعون (تك، 37).
نال يوسف حظوة في عيني مولاه فجعله قيما على بيته وشئونه الخاصة. ولكن زوجة فوطيفار مالت إلى يوسف، وعرضت عليه الوصال فأبى وفاء لسيده، فاتهمته بأنه راودها عن نفسها، فألقاه فوطيفار في السجن. قضى يوسف في السجن فترة طويلة عرف خلالها بالخلق الرفيع والسلوك الحسن، كما اشتهر في السجن بتفسيره للأحلام. وحدث بعد سنين أن الفرعون رأى حلما أقض مضجعه، فدعا جميع الحكماء لتفسير حلمه ولكنهم عجزوا. وكان رئيس سقاة الفرعون سجينا مع يوسف لفترة قصيرة، فتذكر حسن تفسيره للأحلام، وذكره عند فرعون فجاءوا به. فسر يوسف للفرعون الحلم وقال له بأن البلاد ستنعم بسبع سنين من الخصب والرخاء، تتلوها سبع سنين من القحط والجفاف. وأشار على الملك بأن يجعل على الأرض قيما يخزن خمس الغلة في كل سنة من سنوات الوفرة، يكون ذخرا لسنوات الجوع. حسن كلام يوسف عند الفرعون وأحب صاحبه، فأوكله بالمهمة وأعطاه سلطات واسعة لتنفيذها على الوجه الأكمل. جاءت سنوات القحط الذي طال أيضا بلاد كنعان، فأرسل يعقوب أولاده العشرة إلى مصر لشراء القمح منها، وأبقى عنده أصغرهم بنيامين. فجاء الإخوة إلى يوسف الذي كان يشرف بنفسه على توزيع القمح، وسجدوا بين يديه، فعرفهم يوسف ولم يعرفوه. وقال لهم يوسف: من أين جئتم؟ فقالوا: من أرض كنعان لنشتري طعاما، فقال: بل أنتم جواسيس جئتم لتروا عورة الأرض، فقالوا: عبيدك نحن، إننا اثنا عشر أخا بنو رجل واحد، تركنا الصغير عند أبينا، والواحد مفقود، فقال: وحياة فرعون لا تخرجون من هنا إلا بمجيء أخيكم الصغير إلي، فأمتحن صدقكم، وسأبقي واحدا منكم رهينة لدي. فبقي شمعون مقيدا بالأغلال وعاد التسعة إلى أبيهم. وتنتهي القصة بأن يكشف يوسف عن هويته أمام إخوته الأحد عشر لدى عودتهم، ويسامحهم ويطلب منهم أن يأتوا بأبيهم وأولادهم ونسائهم للإقامة في مصر، فقدموا إليه وعددهم سبعون، فأكرمهم وأسكنهم في أرض جاسان، التي نستنتج من مواضع أخرى في النص التوراتي أنها الدلتا الشرقية، فتملكوا فيها وتكاثروا. ومات يعقوب في أرض مصر وعمره مائة وسبع وأربعون سنة (تك، 38-47).
هذه هي الخطوط العامة لعصر الآباء، الذي يدعوه معظم الباحثين بما قبل تاريخ الشعب الإسرائيلي، وذلك لبعده زمنيا، وانقطاعه عن البدايات التاريخية لبني إسرائيل، والتي يراها البعض في دخول الخارجين من مصر أرض كنعان، والبعض الآخر في تشكيل المملكة الموحدة. وسوف ننتقل الآن إلى النقد النصي والتاريخي والأركيولوجي لروايات سفر التكوين، لنعرف الموقع الحقيقي لعصر الآباء. (1) النقد النصي لسفر التكوين
يظهر في سفر التكوين، وأكثر من أي مكان في التوراة، الطابع المميز لعمل المحررين التوراتيين، والذي وصفناه بأسلوب الجمع التراثي. فهؤلاء كانوا جمعة تراث لا مؤرخين، وإن أي دارس مبتدئ لعلم التاريخ يكتشف من القراءة الأولى لسفر التكوين أن ما يرويه لنا من قصص لا يمكن تصنيفه في زمرة الأخبار التاريخية بأي معيار من المعايير، لا من حيث الشكل ولا من حيث المضمون. فلقد عمل المحررون هنا على جمع قصص متعددة النشأة والأصول، وقاموا بربطها إلى بعضها ربطا غير محكم، أبقى على استقلالية واضحة لكل منها، وعلى تناقض بين في أحداثها. ويبدو أن المحرر نفسه كان مدركا للتناقض فيما يورده من أحداث، وأنه قد أبقى على هذه التناقضات مدفوعا برغبته في تسجيل التنويعات كلها التي وصلت إليه للقصة الواحدة، دون محاولة جدية من قبله لإحلال الانسجام فيما بينها، منساقا وراء العقدة القصصية، غافلا عن عنصر التحقيق والتدقيق، الذي يميز جنس الكتابة التاريخية. والأمثلة على ذلك كثيرة، نورد فيما يلي بعضا منها.
في الإصحاح 12 تدور العقدة القصصية حول أخذ فرعون مصر لساراي والدخول عليها، والإغداق على إبراهيم بسببها (12: 14-20)، وذلك دون الأخذ بالحسبان أن المحرر نفسه كان قد قال لنا إن إبراهيم كان في سن الخامسة والسبعين عندما هاجر إلى أرض كنعان (12: 4)، وبالتالي فإن سارة كانت في سن الخامسة والستين، لأن الفارق في العمر بينهما هو عشر سنوات (تك، 17: 17). أما قصة إبراهيم وسارة في جرار، عندما قال إبراهيم عن سارة إنها أخته، فضمها أبيمالك ملك جرار إلى بيته (تك، 20)، فتبدو محشورة حشرا، ودون جهد تحريري، بين قصة بشارة الرب للزوجين المسنين بغلام اسمه إسحاق (تك، 18)، وقصة ولادة سارة لإسحاق وتحقيق البشارة. فعند بشارة الرب كان إبراهيم ابن تسع وتسعين سنة، وزوجته ابنة تسع وثمانين، ولما ولد لهما إسحاق كان إبراهيم ابن مائة سنة، وسارة ابنة تسعين سنة. ولما كانت قصة سارة مع أبيمالك ملك جرار قد جاءت بين قصة البشارة وقصة الولادة، فهذا يعني أن سارة لم تكن فقط امرأة عجوزا في التسعين عندما هم الملك بالدخول عليها، بل أنها كانت حاملة بإسحاق أيضا. وهنا لا نستطيع إلا أن نعجب من إبقاء المحرر التوراتي على هذا التناقض، ونتساءل عما إذا كان النص التوراتي قد أعد أصلا للقراءة، أم كمخطوط ينتظر عملية تنقيحية لم تتم حتى الآن.
وقصة إبراهيم وسارة مع ملك مدينة جرار، عندما قال إبراهيم عن سارة إنها أخته، تتكرر مع إسحاق ورفقة عندما وفد إسحاق على ملك جرار وقال عن رفقة إنها أخته. ونلاحظ في القصتين أن اسم ملك جرار هو أبيمالك، واسم رئيس جيشه هو فيكول، وذلك رغم الفارق الزمني بين الحدثين، والذي يزيد عن الستين عاما. الأمر الذي يدل على أننا أمام قصة واحدة عزيت مرة إلى إبراهيم ومرة أخرى إلى إسحاق. فإلى جانب التشابه العام في بنية الحدثين، وتشابه الشخصيات والأماكن، فإن المحرر يعمد إلى التكرار الحرفي لبعض التفاصيل، وخصوصا فيما يتعلق بالعهد الذي قطعه أبيمالك وإبراهيم لبعضهما، ثم قطعه بعد ذلك أبيمالك وإسحاق. وفيما يلي أقدم النصين للمقارنة:
نقرأ في الإصحاح 26: 26-30 ما يلي: «وذهب إليه من جرار أبيمالك وجماعة من أصحابه، وفيكول رئيس جيشه، فقال لهم إسحاق: ما بالكم أتيتم إلي وأنتم قد أبغضتموني وصرفتموني من عندكم! فقالوا له: إننا قد رأينا أن الرب كان معك، فقلنا ليكن بيننا حلف ونقطع معك عهدا ألا تصنع بنا شرا، كما لم نمسك وكما لم نصنع بك إلا خيرا وصرفناك بسلام، أنت الآن مبارك الرب. فصنع لهم ضيافة، فأكلوا وشربوا، ثم بكروا في الغد وحلفوا بعضهم لبعض.»
وفي الإصحاح 21: 22-24 نقرأ: «وحدث في ذلك الزمان أن أبيمالك وفيكول رئيس جيشه كلما إبراهيم قائلين: الله معك في كل ما أنت صانع، فالآن احلف لي بالله هنا أنك لا تغدر بي ولا بنسلي ولا بذريتي. كالمعروف الذي صنعته إليك تصنع إلي وإلى الأرض التي تغربت فيها. فقال إبراهيم: أحلف. فأخذ إبراهيم غنما وبقرا وأعطى أبيمالك، فقطعا كلاهما ميثاقا.»
وفيما يتعلق بحادثة تغيير اسم يعقوب من قبل الرب إلى إسرائيل، لدينا روايتان مختلفتان؛ ففي الإصحاح 32 من سفر التكوين يغير الرب اسم يعقوب بعد أن يدخل معه في صراع عند مخاضة يبوق. أما في الإصحاح 35 فتوضع هذه الحادثة بعد إقامة يعقوب لمذبح للرب في بيت إيل، وذلك بعد الصراع في يبوق بزمن لا بأس به: «فأتى يعقوب إلى لوز التي في أرض كنعان هو وجميع القوم الذين معه، وبنى هناك مذبحا، ودعا المكان إيل بيت إيل ... وظهر الله ليعقوب أيضا حين جاء من فدان آرام وباركه، وقال له الله: اسمك يعقوب، لا يدعى اسمك يعقوب فيما بعد، بل يكون اسمك إسرائيل ...» (تك، 35: 6-10). وبخصوص إقامة يعقوب للمذبح في لوز، وتسمية المكان بيت إيل، لدينا ثلاث روايات متباينة، ويمكن بهذا الخصوص مراجعة المواضع الآتية من سفر التكوين: تك، 35: 1-10، تك، 28: 16-22، تك، 35: 13-15.
ولدينا تنويعان على قصة إلقاء يوسف في البئر، وانتشال التجار له وسوقه إلى مصر، موضوعان جنبا إلى جنب، وكأن المحرر تركهما على هذه الحالة ليقرر فيما بعد أي التنويعين يختار. ففي المرة الأولى يلقي الإخوة بيوسف إلى البئر، ثم يجلسون لتناول الطعام، وإذا قافلة تجار إسماعيليين مقبلة، فيقترح أحد الإخوة، وهو يهوذا، أن ينتشلوه ويبيعوه للإسماعيليين، فيوافق الجميع ويباع يوسف لهم. وبعد ذلك مباشرة يأتي المحرر بالرواية الثانية، فالإخوة لم يبيعوا يوسف، بل تركوه في البئر ومضوا، وعندما مر رجال مديانيون تجار انتشلوا يوسف وباعوه للإسماعيليين الذين أتوا به إلى مصر. وإليكم الطريقة التي نسجت بواسطتها الروايتان: «فكان لما جاء يوسف إلى إخوته أنهم خلعوا عن يوسف قميصه الملون الذي عليه، وأخذوه وطرحوه في البئر. وأما البئر فكانت فارغة ليس فيها ماء. ثم جلسوا ليأكلوا طعاما. فرفعوا عيونهم وإذا قافلة إسماعيليين مقبلة من جلعاد، وجمالهم حاملة ... فقال يهوذا لإخوته: ما الفائدة أن نقتل أخانا ونخفي دمه؟ تعالوا نبيعه للإسماعيليين، ولا تكن أيدينا عليه؛ لأنه أخونا ولحمنا، فسمع له إخوته. واجتاز رجال مديانيون تجار، فسحبوا يوسف وأصعدوه من البئر، وباعوا يوسف للإسماعيليين بعشرين من الفضة، فأتوا بيوسف إلى مصر ...» (التكوين، 37: 25-29).
ومن ناحية أخرى، فإن ذكر الإسماعيليين والمديانيين في هذا الجزء من قصة يوسف لا يتناسب ومعطيات سلسلة الأنساب التي رسمها سفر التكوين لإبراهيم وأولاده. فمن المفروض أن الإسماعيليين هم أبناء إسماعيل بن إبراهيم من هاجر المصرية، والمديانيون هم أولاد مديان أحد أولاد إبراهيم من آخر زوجاته قطورة، وإذا أخذنا الزمن المنطقي الفاصل بين عصر إسماعيل ومديان ابني إبراهيم، وعصر يعقوب ويوسف لقلنا إن الإسماعيليين والمديانيين لم يكونوا قد تشكلوا كشعبين بعد خلال الفترة التي جرت خلالها قصة يوسف. ولا يوجد تفسير لهذا التناقض سوى أن قصة يوسف قد أدمجت في نهاية عصر الآباء دون مجهود تحريري يضعها في اتساق مع ما سبقها.
وفي التفاصيل الصغيرة لقصص الآباء لدينا الكثير من التناقضات التي لا نستطيع الإتيان على ذكرها جميعا. ومثالها ذلك التفصيل الصغير من قصة يوسف أيضا، فعندما يتهم يوسف إخوته بالتجسس، ويطلب منهم العودة إلى كنعان وجلب أخيهم الأصغر بنيامين، يعطي أوامره ببيع القمح إلى العائدين، ولكنه يعيد الفضة التي دفعوها إلى أكياس قمحهم دون علم منهم. وبينما هم في الطريق فتح أحدهم كيسه ليعطي عليقا لحماره، فرأى فضته في كيسه فأخبر إخوته، فارتعدوا خوفا لئلا يظن يوسف بأنهم قد سرقوا فضتهم بعد شراء القمح (تك، 42: 25-28). ولكننا في المقطع التالي مباشرة نجد أن الإخوة لم يعلموا بوجود فضتهم في أكياسهم في الطريق، بل لدى وصولهم ديارهم: «فجاءوا إلى يعقوب أبيهم في أرض كنعان وأخبروه بكل ما أصابهم ... وإذ كانوا يفرغون عدالهم، إذا صرة فضة كل واحد منهم في عدله، فلما رأوا صرر فضتهم، هم وأبوهم خافوا ...» (تك، 42: 29-34).
ضمن هذه السلسلة غير المترابطة من روايات الآباء يمكن - ببعض التمحيص - اكتشاف المفاصل الرئيسية التي تم عندها جمع تقاليد مستقلة من حيث الأصل إلى تقليد واحد. فالتقاليد المتعلقة بأبرام قد التقت مع التقاليد المتعلقة بإبراهيم، تحت ذريعة أن الرب قد أمر أبرام بتغيير اسمه إلى إبراهيم. والتقت كذلك التقاليد المتعلقة بيعقوب مع التقاليد المتعلقة بإسرائيل، تحت ذريعة أن الرب قد غير اسم يعقوب إلى إسرائيل. ثم حشرت التقاليد المتعلقة بإسحاق بين هذه وتلك. ولعل أكثر هذه التقاليد غرابة من البقية تلك المتعلقة بيوسف، فهذه القصة عن الشاب الآسيوي الطموح الذي يصل إلى مرتبة عالية في البلاط المصري قد أدمجت في نهاية سلسلة تقاليد الآباء من أجل الربط بين عصر الآباء في كنعان، وتلك الجماعة التي خرجت من مصر بعد أربعمائة سنة من العبودية تلت موت يوسف.
أما الرؤية الأيديولوجية لأحداث روايات الآباء، والتي أراد المحررون من خلالها إحداث نوع من الانسجام بين تقاليد الآباء نفسها من جهة، وبين هذه التقاليد وبقية التقاليد الرئيسية في الكتاب، فتظهر كشأن مقحم على الشكل الأصلي للقصص، وتبدي مرونة عالية في فرض نفسها على الحدث. وهذه الرؤية الأيديولوجية ذات شقين؛ شق عرقي وشق ديني، تتبدى الأيديولوجية العرقية في محاولة رسم خط نسب رئيسي نبيل يوصل إلى الأسباط الاثني عشر لإسرائيل، وخطوط نسب فرعية توصل إلى بقية الشعوب التي احتك بها الإسرائيليون خلال الفترات التاريخية المتأخرة، والقريبة زمنيا من عصر تدوين الأسفار التوراتية. فمن جارية إبراهيم المصرية يولد إسماعيل، وهو أبو القبائل الإسماعيلية التي نعرفها من النصوص الآشورية للألف الأول قبل الميلاد، مثل نبايوت (الأنباط فيما بعد) وقيدار وتيما. ومن عيسو المنبوذ، الذي خسر بركة أبيه، يولد آدوم وعماليق. ومن بنتي لوط اللتين حملتا سفاحا من أبيهما يتسلسل المؤابيون والعمونيون. وبهذه الطريقة يجعل سفر التكوين من الخصوم التاريخيين لبني إسرائيل أحفادا للجواري والملعونين في الأرض وأولاد الزنا.
وفيما يتعلق بالأيديولوجيا الدينية، فإنها تظهر كمحاولة غير ناجحة أو غير جادة لإسقاط المعتقد التوحيدي، الذي لم ينضج في فلسطين إلا إبان العصر الفارسي المتأخر على هذه المرحلة المبكرة بأجوائها الوثنية التي لا تخفي نفسها. فالإله الواحد - الذي بشر به كهنوت يهوذا بعد السبي البابلي على لسان الأنبياء من أمثال إرميا وإشعيا - هو الإله الواحد الذي بشر به موسى بين بني إسرائيل في مصر، وهو الذي خاطب إبراهيم أول مرة في حاران وأقام معه العهد ومع أولاده بعده. غير أن الكثير من تفاصيل قصص سفر التكوين، التي تركت على حالها دون تدخل من المحرر، قد أحبطت مشروع الإسقاط هذا، وتركت روايات الآباء تسبح في الأجواء الوثنية للقصص القديمة التي تم جمعها من الماضي. فالاسم «إيل» يستخدم في العديد من المواضع في الإشارة إلى إله الآباء. من ذلك مثلا ما يرد على لسان هاجر في الإصحاح 16: 13، وعلى لسان يعقوب في الإصحاح 28: 16-19. والإله إيل، كما هو معروف تماما اليوم، كان إله السماء عند الكنعانيين، ورئيسا لمجمع الآلهة في أوغاريت. ورغم إعلان الرب عن نفسه لإبراهيم وبنيه من بعده على أنه الإله الواحد القدير، وإبرام العهد معهم على عبادته وحده، فإن صور وتماثيل الآلهة الوثنية لم تغادر بيوت الآباء. فهذه راحيل تسرق أصنام أبيها عندما غادرت حاران مع زوجها، وعندما يلحق بهما الأب لابان ويدركهما في الطريق، يدخل خباء راحيل بحثا عن آلهته. وهنا نقرأ في التكوين، 31: 34 «وكانت راحيل قد أخذت الأصنام ووضعتها في حداجة الجمل وجلست عليها، فجس لابان كل الخباء ولم يجد، وقالت لأبيها: لا يغتظ سيدي، إني لا أستطيع أن أقوم أمامك لأن علي عادة النساء. ففتش ولم يجد الأصنام ...» وهذه الأصنام تبقى في بيت يعقوب - مع غيرها من أصنام آلهة القوم - موضع عناية وتقديس، على ما نفهم من الإصحاح 35: 1-2 حيث نقرأ: «ثم قال الله ليعقوب: قم اصعد إلى بيت إيل، وأقم هناك واصنع مذبحا لله الذي ظهر لك حين هربت من وجه عيسو أخيك، فقال يعقوب لبيته ولكل من كان معه: اعزلوا الآلهة الغريبة من بينكم، وتطهروا وأبدلوا ثيابكم ...» إلا أن هذه الآلهة لم تختف من بيوت الشخصيات الروحية والقيادية الرئيسية في الرواية التوراتية. وسنرى فيما بعد أن أصنام الآلهة كانت موجودة في بيت الملك داود بعد ذلك بعدة قرون.
إن صورة الإله يهوه، كما تقدمها المعتقدات التوراتية المتأخرة، هي صورة إله مجرد ومنزه، لا يتسع له مكان ولا تدركه الأبصار. وعلى حد قول إشعيا: «... هكذا قال الرب، السماء كرسيي والأرض موطئ قدمي. أين البيت الذي تبنون لي وأين مكان راحتي وكل هذه صنعتها يدي!» (إشعيا، 66: 1-2). ولكن شخصيات عصر الآباء كانت تستمع لصوت الرب مباشرة أو تراه في المنام، وفي بعض الأحيان رؤية العين المجردة، وتتحدث معه وتتمشى أمام الخباء، الأمر الذي يذكرنا بأجواء أساطير وملاحم أوغاريت. فيعقوب قد دخل في صراع جدي مع يهوه عند مخاضة يبوق كما قدمنا سابقا، وإبراهيم يفاجأ بزيارة يهوه مع اثنين من حاشيته في وضح النهار. ويبدو أن مشهد الزيارة الإلهية في القصة الأصلية كان يتضمن زيارة ثلاثة آلهة كنعانية، ومثل هذه الزيارات الإلهية لشخصيات دنيوية بارزة معروفة في أدبيات الشرق القديم. وقد عثرت على مشابهة واضحة بين قصة زيارة يهوه لإبراهيم وبشارته له بغلام، وبين ملحمة دانيال الأوغاريتية، مما سأعرض له بسرعة فيما يلي.
كان دانيال حاكما عادلا يجلس كل يوم للقضاء عند باب المدينة. ولكنه كان عقيم النسل لم يرزق بولد يرثه. صلى دانيال كثيرا في المعبد وقرب القرابين لكي ترفع عنه لعنة العقم. وأخيرا ظهر له الإله بعل ووعده بأن يكلم بشأنه كبير الآلهة إيل. بر بعل بوعده، واستجاب الإله إيل لصلوات دانيال، فرزق بغلام أسماه أقهات. وفي أحد الأيام مر إله الحرف والصناعة كوثر-حاسيس، فدعاه دانيال لتناول الطعام. ولنتابع هنا القصة كما وردت في العمود الخامس من اللوح الأول للنص الأوغاريتي: «ثم في اليوم السابع نهض دانيال وجلس عند البوابة قرب الأكداس عند البيدر يقضي قضاء الأرملة وحكم اليتيم، وعندما رفع بصره رأى على بعد ألف حقل كوثر-حاسيس قادما حاملا قوسا وجعابا ونبالا. عند ذلك نادى دانيال زوجته قائلا: اسمعي أيتها السيدة دانتية، أعدي خروفا من القطيع لإكرام كوثر-حاسيس، وجهزي لإطعام وإسقاء الآلهة. فسمعت دانتية وأعدت خروفا من القطيع لإكرام كوثر-حاسيس. ثم بعد ذلك وصل كوثر-حاسيس وأعطى القوس لدانيال من أجل بكره أقهات. عندها أولمت السيدة دانتية وقدمت شرابا وكرمت السيد. وعندما غادر كوثر-حاسيس إلى موطنه أخذ دانيال القوس وأعطاها لأقهات هدية قائلا: إن بواكير صيدك يا بني سوف تكون للمعبد.»
4
أما في القصة التوراتية عن الزيارة الإلهية فنقرأ: «وظهر له الرب عند بلوطات ممرا، وهو جالس في باب الخيمة وقت حر النهار، فرفع عينيه ونظر، وإذا ثلاثة رجال واقفون لديه، فلما نظر ركض لاستقبالهم من باب الخيمة وسجد إلى الأرض وقال: يا سيد، إن كنت قد وجدت نعمة في عينيك فلا تتجاوز عبدك، ليؤخذ قليل ماء واغسلوا أرجلكم واتكئوا تحت الشجرة، فآخذ كسرة خبز فتسندون قلوبكم ثم تجتازون، لأنكم قد مررتم على عبدكم. فقالوا: هكذا نفعل كما تكلمت. فأسرع إبراهيم إلى الخيمة إلى سارة وقال: أسرعي بثلاث كيلات دقيقا سميذا، اعجني واصنعي خبز ملة. ثم ركض إبراهيم إلى البقر وأخذ عجلا رخصا وجيدا وأعطاه للغلام، فأسرع ليعمله، ثم أخذ زبدا ولبنا والعجل الذي عمله ووضعها قدامهم. وإذ كان هو واقفا لديهم تحت الشجرة أكلوا، وقالوا له: أين سارة امرأتك؟ فقال: ها هي في الخيمة، فقال: إني أرجع إليك نحو زمان الحياة ويكون لسارة امرأتك ابن ...» (تك، 18: 1-10).
تتفق القصتان في العناصر المكونة لهما جميعها، وهي: الرجل الصالح العقيم، الصلاة والتضرع من أجل الإنجاب، الوعد الإلهي بالإنجاب، الزيارة الإلهية، الوليمة. ولكن مع اختلاف بسيط في ترتيب الأحداث. ففي القصة الأوغاريتية تأتي الزيارة الإلهية بعد الوعد والإنجاب، أما في القصة التوراتية فإن الزيارة تسبق الوعد والإنجاب. ومن الناحية البنائية، فإن القصتين متطابقتان إلى حد مثير للدهشة على ما أبينه في التحليل البنائي التالي المتعلق بمشهد الزيارة:
النص الأوغاريتي
النص التوراتي (1) دانيال يجلس عند بوابة المدينة يقضي بين الناس. (1) إبراهيم يجلس عند باب خيمته وقت حر النهار، قرب حبرون. (2) دانيال يرفع بصره ويرى كوثر-حاسيس عن بعد، وعلى كتفه قوس ونبال. (2) إبراهيم يرفع نظره، وإذا ثلاثة واقفون لديه، وهم إله التوراة واثنان من حاشيته. (3) دانيال ينادي زوجته دانتية، ويطلب منها أن تجهز خروفا من القطيع لإكرام الضيف. ثم يستقبل الإله ويستلم منه القوس هدية لأقهات. (3) إبراهيم يركض لاستقبال القادمين، ويعرض ضيافته التي تلقى القبول، ثم يطلب من زوجته أن تعد خبزا، ويعطي غلامه عجلا من القطيع ليجهزه طعاما للضيوف. (4) دانتية تجهز الخروف لإطعام ضيفها. (4) سارة تعجن خبزا، والغلام يجهز العجل لإطعام الضيوف. (5) بعد أن يفرغ الضيف الإلهي، يعطي دانيال قوسه هدية لأقهات، ثم يأخذ دانيال على أقهات عهدا بأن يقدم بواكير صيده للمعبد . (5) بعد أن يفرغ الضيوف الإلهيون يعطي الإله التوراتي وعدا بولادة وريث لإبراهيم، أو بالأحرى يؤكد وعودا سابقة قطعها بهذا الخصوص.
وباختصار، فإن المنظور الأيديولوجي الذي فرض على روايات الآباء من أجل إيجاد صلة عضوية بينها وبين بقية فصول القصة التوراتية قد أخفق في مهمته، وبقيت قصص الآباء تسبح في مناخها الثقافي القديم السابق على فترة التحرير والتدوين. (2) النقد التاريخي لسفر التكوين
لقد ألمحنا سابقا إلى أن الرأي الشائع بين المؤرخين يجعل من عصر البرونز الوسيط (1950-1550ق.م.) مسرحا لروايات عصر الآباء. إلا أن أحداث سفر التكوين نفسها لا تزودنا بأي مفتاح لحل مسألة تاريخانية عصر الآباء. فهذه الأحداث - التي تدور حول مسائل عائلية وقبلية بحتة - معلقة في فضاء تاريخي كامل، ولا نجد فيها صدى للأحداث التاريخية التي حفل بها عصر البرونز الوسيط، والتي صرنا اليوم على دراية تامة بمجرياتها الرئيسية، وخطوطها العامة التي بيناها في مقدمتنا التاريخية في الفصل الأول من هذا الكتاب. وحتى الآن لم يستطع الباحثون بشكل مباشر العثور على مفاصل يمكن عندها مقاطعة أية قصة من قصص الآباء، أو أي عنصر ثانوي من عناصرها، مع أي حدث أو معلومة تاريخية من عصر البرونز الوسيط، أو حتى من عصر البرونز الأخير. ولا تقدم لنا أسماء الأمكنة أو أسماء الأشخاص الواردة في سفر التكوين معونة تذكر في هذا المجال. فالنص التوراتي لا يذكر اسم الفرعون الذي ضم زوجة إبراهيم إلى حريمه، ولا اسم الفرعون الذي ارتقى يوسف في عهده منصب الوزارة. ومن ناحية أخرى، فإن الأسماء الواردة في سفر التكوين - مثل أبيمالك ملك جرار، وكدر لعومر ملك عيلام، وأميرافل ملك شنعار، ناهيك عن أسماء الآباء أنفسهم - غير موثقة خارج النص التوراتي. ومع أن الحل الساذج الذي يربط أميرافل التوراتي بحمورابي البابلي قد صرف النظر عنه اليوم تماما، إلا أن بعض الباحثين ما زال جادا في التفتيش عن سند تاريخي لقصة حرب إبراهيم مع الملوك الأربعة. فوليم فوكسويل أولبرايت، المدافع العنيد عن تاريخية روايات الآباء، يرفض الربط بين أميرافل سفر التكوين وحمورابي ملك بابل، ولكنه من جهة أخرى يبحث عن تخريجة لا تخلو من تعسف. فالاسم أميرافل (أ - مي - را - فل) يتشابه في أحرفه الصوتية والساكنة مع الاسم إمودابل (إ - مو - دا - بل)، وهو اسم دويلة مهمة قامت في وادي الرافدين الأدنى (شنعار) قبل صعود حمورابي، وكان أهلها، على ما تدل عليه النصوص القديمة، تجارا يسيرون القوافل بين وادي الرافدين والمناطق السورية في الغرب. ويستنتج أولبرايت أن خطيئة في النسخ قد حرفت تعبير «ملك إمودابل» إلى «الملك أميرافل». ويرجح أن هذا الملك كان يقود حملة موجهة ضد مصر، عبر خلالها فلسطين وشرقي الأردن لتسوية بعض المسائل المتعلقة بطرق التجارة.
5
وهذا الحل، على هشاشة مقارناته اللغوية، يتجاهل حقيقة تاريخية هامة، وهي أن ممالك بلاد الرافدين منذ أيام صارغون الأكادي لم تدخل في نزاع مع مصر طيلة الألف الثالث والألف الثاني قبل الميلاد.
وفيما يتعلق بأسماء الأماكن والمدن الواردة في سفر التكوين، فإنها لا تساعد بدورها على رسم إطار تاريخي واضح لروايات الآباء. فبعض المدن غير موثق على الإطلاق خارج النص التوراتي، مثل مدينتي سدوم وعمورة. أما المدن الموثقة والمعروفة لنا تاريخيا، فمعظمها يشير إلى تاريخ لاحق لأحداث سفر التكوين لا يتجاوز بكثير الألف الأول قبل الميلاد. فمدينة أور مسقط رأس إبراهيم موثقة لدينا تاريخيا وأركيولوجيا منذ مطلع الألف الثالث قبل الميلاد، وقد استمرت قائمة حتى العصر الآشوري والبابلي الجديد (الكلداني) في الألف الأول قبل الميلاد، إلا أن وصف النص لها بأور الكلدان يشير إلى أواسط الألف الأول قبل الميلاد، عندما أسس الكلدانيون (وهم فرع آرامي من سوريا) الإمبراطورية البابلية الجديدة. وفيما يتعلق بمدينة حران (أو حاران) فإنها لم تزدهر قبل العصر الآرامي خلال أواخر الألف الثاني ومطلع الألف الأول قبل الميلاد. أما بئر السبع، المقر الرئيسي لإبراهيم ويعقوب أيضا، فإن المنقبين فيها لم يعثروا على دلائل سكنية تتجاوز الألف الأول قبل الميلاد .
أما انعدام البينات التاريخية والآثارية المباشرة على وجود عصر الآباء، لجأ الباحثون المحافظون إلى اتباع منهجية خاصة تعتمد الطرق غير المباشرة في التحقق من تاريخية عصر الآباء. ويمثل هذا الاتجاه مدرسة أولبرايت، التي تعتمد بشكل رئيسي على الأركيولوجيا، وما أفاضت به من نصوص جديدة، عززت معرفتنا بأحوال ثقافة عصر البرونز الوسيط. تؤمن مدرسة أولبرايت، من حيث المبدأ، بالقيمة التاريخية لروايات الآباء، وتعتقد بأنها قد صيغت بشكلها الذي وصل إلينا في زمن لا يتجاوز زمن المملكة الموحدة، أي النصف الأول من القرن العاشر قبل الميلاد، وأن واضعيها قد اعتمدوا تقاليد وصلت إليهم من العصور الأقدم. فعصر الآباء، والحالة هذه، عصر تاريخي، ويمكن التأكد من تاريخيته بعدد من الوسائل غير المباشرة.
يجد أولبرايت في تفاصيل قصص الآباء بعض العادات الاجتماعية، والمسائل التشريعية، وبعض أسماء العلم، ونمطا من الحياة الاجتماعية، يمكن إرجاعها إلى النصف الأول من الألف الثاني قبل الميلاد، نظرا لوجود ما يقابلها في ثقافة الشرق القديم خلال عصر البرونز الوسيط. من هنا، فإنه يعتقد أن دراسة هذه الجوانب الثقافية في عصر الآباء، ومقارنتها بمتوازياتها عند الثقافات المجاورة، سوف تمكن الباحث من رسم الإطار التاريخي العام لتقاليد سفر التكوين. ويعول أولبرايت بشكل خاص على نصوص مدينة نوزي الحورية في شمال وادي الرافدين، وهي نصوص غزيرة تعطي صورة عن طبيعة الحياة الاجتماعية في المنطقة خلال البرونز الوسيط. ورغم أن هذه النصوص تعود إلى القرن الخامس عشر قبل الميلاد، إلا أنها تعكس أحوالا اجتماعية أقدم من ذلك. يجد أولبرايت في نصوص نوزي بعض القواعد التشريعية، والعادات الاجتماعية المشابهة تماما لما نجده في روايات الآباء. من ذلك مثلا القاعدة التي تنص على تبني الرجل المقطوع النسل لولد يدير أملاكه في حياته، ويرثه بعد مماته، وهذا ما فعله إبراهيم بتبنيه لأليعازر الدمشقي. وكذلك الأمر فيما يتعلق بعادة تقديم الزوجة العاقر جارية لزوجها تنجب له أولادا، وهذا ما فعلته سارة لإبراهيم، وما فعلته أيضا راحيل ليعقوب.
6
وفيما يتعلق بأسماء العلم الواردة في سفر التكوين، وخصوصا أسماء الآباء ، فإن أولبرايت يرى أن لبعضها صلة بالأسماء الآمورية الواردة في الوثائق الكتابية التي تعود إلى مطلع الألف الثاني قبل الميلاد ، مثل اسم إبراهيم واسم يعقوب اللذين تكررا في أكثر من وثيقة. أما الأسماء التي لم ترد في وثائق ذلك العصر، مثل إسحاق ويوسف، فيرى أنها منحوتة من نفس الذخيرة اللغوية الآمورية. وهذا ما يشير بقوة إلى بداية الألف الثاني قبل الميلاد كمسرح لأحداث سفر التكوين. ويدعم ذلك في اعتقاده أن مثل هذه الأسماء لم تتكرر في الأسفار التوراتية اللاحقة. وقد انتقل أولبرايت من هذا التحليل اللغوي إلى ربط تحركات الآباء بالتحركات العامة للآموريين، مما أعقب انهيار ثقافة البرونز المبكر وبداية ثقافة البرونز الوسيط. وهو يحدد عصر إبراهيم وإسحاق في الفترة من 2100 إلى 1900ق.م.، وعصر يعقوب في الفترة 1900 إلى 1800ق.م. غير أن تلامذة أولبرايت لم يوافقوا على هذا التحديد الدقيق، واكتفوا بالقول بأن عصر الآباء لا يمكن فهمه إلا من خلال وضعه في الإطار العام لمطلع الألف الثاني قبل الميلاد.
على أن أولبرايت نفسه عاد فربط الآباء بجماعات الخابيرو (وخصوصا في كتابه المتأخر: يهوه وآلهة كنعان، انظر الحاشية رقم 6) التي كانت تعيش على هامش المدن، وتضم أخلاطا شتى من الشرائح الاجتماعية الهامشية. فالخابيرو المعروفون في النصوص الرافدية منذ أواخر الألف الثالث قبل الميلاد، والذين تدعوهم النصوص السورية الأحدث بالعابيرو، هم الذين نجم عنهم العبرانيون التوراتيون، الذين ابتدأت تحركاتهم مع إبراهيم العبراني القادم من أور الكلدان. وهو يقرن هنا بين وصف عابيرو في النصوص السورية ووصف عبريم في النصوص التوراتية، التي تعني عبري أو عبراني. ويركز أولبرايت بشكل خاص على جماعتين من الخابيرو معروفتين من وثائق مدينة ماري، هما «بنو يامينا» أي: بنو الجنوب أو أهل الجنوب، و«بنو شمأل» أي: بنو الشمال، ويرى في «بنو يامينا» أسلاف قبيلة بنيامين التوراتية، التي يعني اسمها بني الجنوب أيضا باللغة التوراتية. ثم يذهب أولبرايت أبعد من ذلك حين يربط بين خابيرو البرونز الوسيط وعابيرو البرونز الأخير في فلسطين، والذين نعرف عن تحركاتهم العسكرية، وتعدياتهم على دويلات المدن الفلسطينية من رسائل تل العمارنة المتبادلة بين البلاط المصري وملوك الدويلات السورية والفلسطينية، أواسط القرن الرابع عشر قبل الميلاد. ثم يربط أولبرايت بين عابيرو البرونز الأخير هؤلاء في فلسطين وجماعات العبرانيين الذين خرجوا من مصر بقيادة موسى، واقتحموا كنعان بقيادة يشوع. فهؤلاء العائدون ليسوا إلا شريحة من عابيرو فلسطين، وعملياتهم العسكرية اللاحقة هي استمرار لتلك العمليات السابقة الموثقة في رسائل تل العمارنة.
لم تثبت أفكار أولبرايت طويلا أمام النقد، رغم تأثيرها الواسع على جيل كامل من الباحثين. ففيما يتعلق باعتماده على التشابه بين العادات والشرائع الموجودة في نصوص نوزي وتلك التي نجدها في سفر التكوين، من أجل وضع عصر الآباء في مطلع البرونز الوسيط، ونسبة أصلهم إلى بلاد الرافدين على ما ورد في النص التوراتي؛ فقد لاحظ النقاد، اعتمادا على نصوص جديدة لم تكن معروفة لأولبرايت وجماعته، أن ما ورد في نصوص نوزي لم يكن وقفا على عصر البرونز الوسيط، ولا على بلاد الرافدين في ذلك العصر. ففيما يتعلق بواجب المرأة العاقر تقديم جارية لزوجها تنجب له أولادا، فقد وردت هذه الممارسة في نصوص متأخرة تعود إلى القرن الثاني عشر قبل الميلاد، ومنها عقد زواج من مصر، وفي نصوص من القرن السابع قبل الميلاد، ومنها عقد زواج من آشور.
7
وفيما يتعلق بمقارنة أسماء الآباء بنظائرها من الأسماء الآمورية في عصر البرونز الوسيط، فقد لاحظ النقاد أيضا أن هذه الأسماء وأشباهها كانت شائعة الاستخدام في أنحاء الشرق القديم جميعه، وعلى فترات تتدرج من عصر البرونز المبكر إلى القرن الثالث قبل الميلاد. فالاسم أبرام موثق في أرشيف إيبلا الذي يعود إلى عام 2400ق.م. أي قبل 500 سنة من بداية عصر البرونز الوسيط، وقد ورد بصيغة أبرامو (أب - را - مو). إضافة إلى ورود أسماء علم أخرى ذكرت في التوراة، مثل آدم (أ - دا - مو)، وإسماعيل (أش - ما - إيل)، وإسرائيل (أش - را - إيل)، وميكائيل (مي - كا - إيل).
8
ويستمر ظهور الاسم إبراهيم على شكل أبرام أو أبيرام حتى نهاية عصر البرونز الأخير حوالي عام 1200ق.م. أما الأسماء إسحاق ويعقوب ويوسف فإنها تنتمي إلى زمرة آمورية من الأسماء واسعة الانتشار في أنحاء الشرق القديم جميعه خلال عصر البرونز الوسيط، كما أننا نجدها مستعملة في أوغاريت خلال عصر البرونز الأخير. وهناك من الأسماء القريبة إلى يعقوب بقي متداولا حتى القرن الثالث قبل الميلاد، حيث نجده في بعض النقوش التدمرية.
9
إن جل المؤرخين والآثاريين اليوم يعترف بعدم وجود مرجعية غير توراتية، يمكن أن تسهل إقامة وضع إطار تاريخي لأحداث سفر التكوين. من هنا، فإن واقع البحث الأكاديمي يتدرج بين موقف معتدل يقول بوجود عناصر تاريخية في روايات الآباء، من دون إرجاع هذه الروايات لأي فترة تاريخية محددة، إلى الموقف المتحرر الذي يرى بأن روايات الآباء ليست إلا من قبيل القص الخيالي، ولا تتمتع بسند تاريخي. فالباحث ديفو الذي يقف موقف الوسط بين المحافظين والمتحررين، يظهر في كتابه الموسوعي عن تاريخ إسرائيل شكه في إمكانية إرجاع عصر الآباء، بثقة علمية، إلى فترة تاريخية معينة، رغم قوله بوجود أساس تاريخي لروايات سفر التكوين. وهو يتراجع بشكل كامل عن آرائه السابقة، التي ساهم من خلالها بدعم موقف مدرسة أولبرايت، الذي ينطلق من إجراء المقارنات العامة مع ثقافة عصر البرونز الوسيط.
10
أما الباحث فان سيتير، الذي يبتدئ دراسته لعصر الآباء بتحري المصادر الخارجية كلها (غير التوراتية)، وما يمكن أن تقدمه من بينات في صالح تاريخية روايات الآباء، وإرجاعها إلى عصر البرونز الوسيط، فإنه يتوصل إلى نتيجة مفادها أن البينات المتوفرة حتى الآن غير كافية وغير مقنعة، وأن قصص الآباء لم تكن في أصلها تقاليد مكتوبة أو شفهية متداولة من عصور البرونز الوسيط، بل هي قصص مكتوبة وموضوعة لأول مرة خلال فترة السبي البابلي وما بعده، وهي في خطوطها العامة، وما تتضمنه من تفاصيل وعادات، وأسماء علم، وعلاقات اجتماعية، إنما تعكس الأوضاع العامة السائدة في فترة التدوين، أي منتصف الألف الأول قبل الميلاد.
11
ويتفق الباحث غربيني مع فان سيتير في أن روايات الآباء قد دونت خلال منتصف الألف الأول قبل الميلاد، ولكن اعتمادا على تقاليد متفرقة وذات أصول مختلفة، وانطلاقا من دوافع أيديولوجية، فهي تعكس بشكل رئيسي فهم يهوذا المسبية لنفسها ، وطريقة رسمها لأصولها. من هنا يؤكد غربيني على ضرورة إعادة دراسة وتقييم التاريخ المبكر لإسرائيل بعيدا عن الدوافع اللاهوتية، التي تكمن وراء الواجهة العلمية لمناهج الباحثين المحافظين.
12
ويتحدث الباحث ك. ماك كارتر عن الدوافع الأيديولوجية وراء صياغة روايات الآباء فيقول: «علينا أن ننتبه دوما في دراستنا لروايات الآباء إلى أن هذه الروايات هي أيديولوجيا وليست تاريخا. لقد صيغت إبان الألف الأول قبل الميلاد من أجل التأسيس اللاهوتي والسياسي للشعب الإسرائيلي؛ ولذا لا يمكن التعامل معها كتاريخ بأي معنى من المعاني الحديثة لهذه الكلمة. لقد نشأت هذه الروايات مع بدايات تشكل الجماعة التي ندعوها إسرائيل (والباحث هنا يقصد مطلع الألف الأول قبل الميلاد)، وساعدت على خلق هذه الجماعة عن طريق تزويدها بالإطار الاجتماعي اللازم لها. فإسرائيل لم تكن لتوجد في معزل عن القصة، تلك القصة التي وضعت القاعدة لفهم الذات وللتنظيم الاجتماعي. لقد أعطت القصة للجماعة تعريفا وتحديدا.» ويلاحظ هذا الباحث بشكل خاص ذلك الإصرار الواضح في سفر التكوين على الأصل الخارجي لجماعات عصر الآباء. فالقصص، واحدة إثر أخرى، تؤكد على أن أسلاف بني إسرائيل كانوا غرباء في كنعان، وأنهم قد أتوا من «عبر النهر» أي: نهر الفرات، ومن هنا، في رأيه، جاءت تسمية عبراني وعبرانيون (= عبريم باللغة التوراتية). ويفسر هذا التوكيد بأنه نوع من التمييز العرقي للجماعات المختلفة التي كونت تدريجيا شعب إسرائيل، رغم أن القسم الأكبر من هذه الجماعات قد جاء من أصل محلي. ويبدو أن هذا التمييز المصطنع الذي ساعد على توحيد هذه الجماعات، وإعطائها هوية واضحة، قد جاء في سياق التناقض بين سكان الهضاب حيث تشكلت دولة إسرائيل فيما بعد، وسكان السهول والوديان من أهل دويلات المدن الفلسطينية القديمة.
13
وأخيرا، فإن ما قدمناه من نقد نصي وتاريخي وأركيولوجي لسفر التكوين، وما استعرضناه من نتائج البحث الأكاديمي الحديث خلال ربع القرن الأخير من القرن العشرين؛ لا يؤدي بنا إلا إلى إسقاط عصر الآباء تماما من مرتبة التاريخ، وجعله في زمرة الملاحم الشعبية والقصص البطولي المعروف في تراث الشعوب كلها.
الفصل الثالث
العبودية في مصر، والخروج
(1) استطراد حول يوسف
تمثل شخصية يوسف نقطة الاتصال بين عصر الآباء وعصر العبودية في مصر والخروج منها؛ فيوسف قد قضى شطرا من حياته في كنعان، والشطر الآخر في مصر، وهو الذي جاء بأبيه وإخوته وأولادهم إلى مصر، التي صاروا فيها إلى العبودية بعد مماته. فقصة يوسف لا تنتمي إلى قصص الآباء ولا إلى ملحمة الخروج، وقد تم التقاطها بعناية من قبل المحرر التوراتي لملاءمتها التامة للربط بين تقليدين مستقلين كل الاستقلال.
يتضح للوهلة الأولى مدى خصوصية قصة يوسف في نهاية سفر التكوين، وغرابتها عن بقية قصص الآباء، وذلك في أسلوبها الأدبي وعقدتها القصصية وجميع تفاصيلها. تبدي القصة عناصر شائعة ومألوفة في الأدب الشعبي شرقا وغربا، وذلك مثل: (1) محبة الأب للابن الأصغر وتفضيله على بقية إخوته. (2) مكائد الإخوة والأخوات للابن الأصغر أو البنت الصغرى. (3) النجاة من المكائد المدبرة بتدخل قوة ما ورائية من نوع ما، كالجن والسحرة والآلهة ... إلخ. (4) اغتراب الشاب المستضعف في أرضه، ونجاحه في أرض غربته، ثم عودته مظفرا إلى أهله، الذين يخفقون في التعرف عليه للوهلة الأولى، ورفعه لهم من حياة الفقر إلى حياة الجاه والعز. (5) إغواء الشاب الوسيم المستقيم من قبل امرأة فاتنة، هي زوجة الأب أحيانا، أو زوجة ولي النعمة أحيانا أخرى، ثم رفضه للغواية وافتراء المرأة عليه، وما يتبع ذلك من نبذه واضطهاده، ومروره بفترة بؤس وشقاء قبل أن تظهر براءته. (6) هناك عنصر ميثولوجي يضاف إلى هذه العناصر، وهو فترة السنوات السبع الخصيبة التي تليها فترة سنوات سبع عجاف، مما هو معروف في أدبيات مصر وبلاد الرافدين، وبشكل خاص في أدبيات أوغاريت الكنعانية.
فالقصة، والحالة هذه، تنتمي إلى الرومانس أكثر من انتمائها إلى التاريخ الموثق. ويبدو للقارئ المتمعن بالتفاصيل أن محرر القصة لم يكن يملك معرفة وثيقة بطبيعة مصر وأحوالها العامة وثقافتها؛ فاسم الفرعون الذي استوزر يوسف غير مذكور، ولا يوجد في تفاصيل الأحداث إشارات مباشرة يمكن أن تساعد على وضع القصة ضمن فترة معروفة من تاريخ مصر ، أما الإشارات غير المباشرة فتدل على أن القصة قد كتبت في زمن متأخر لا يتجاوز الألف الأول قبل الميلاد. وهذا ما يتناقض مع الرأي الشائع الذي يرجع أحداث قصة يوسف إلى عصر الهكسوس (1730-1570ق.م.) عندما اعتلى عرش مصر ملوك آسيويون. فلقب فرعون، الذي يستخدمه النص التوراتي، لم يستخدم في مصر إلا بعد طرد الهكسوس وتأسيس الأسرة الثامنة عشرة، وكان أول من تلقب به تحوتمس الثالث (1490-1436ق.م.) وكلمة «فرعون» تلفظ بالمصرية «برعو»، وتعني «البيت العظيم». أما بقية الألقاب، التي يعزوها النص التوراتي للشخصيات المصرية الرسمية، وأسماء مناصبهم؛ فإنها تشبه الألقاب والمناصب الرسمية المعروفة لنا من سوريا وفلسطين أكثر من شبهها بمتوازياتها في مصر. والأرض التي أسكن فيها يوسف إخوته وأهلهم، والتي دعاها أرض رعمسيس، قد اكتسبت اسمها في عصر الفرعون رمسيس (أو رعمسيس) الثاني (1290-1224ق.م.) الذي بنى مدينة له في الدلتا أطلق عليها اسم بي-رمسيس. وأسماء العلم المصرية الواردة في القصة لا ترد في النصوص المصرية قبل القرن الحادي عشر قبل الميلاد؛ فاسم زوجة يوسف المصرية المدعوة «أسنات» غير موثق قبل أواسط حكم الأسرة العشرين (حوالي 1180ق.م.)، واسم أبيها المدعو فوطي فارع غير موثق قبل أواسط حكم الأسرة الحادية والعشرين (حوالي 1000ق.م.) ويبدو أن اسم فوطيفار ولي نعمة يوسف ليس إلا شكلا مختصرا من الاسم فوطي فارع. أما الاسم المصري ليوسف، وهو «صفنات فعنيح»، فله أشباه في الأسماء المصرية الموثقة في فترة حكم الأسرة الحادية والعشرين. وهناك ملاحظة طريفة تدل إما على جهل المحرر بالأحوال المناخية والطبيعية في مصر، أو على محاولته نقلها إلى أجواء سورية محلية. فعندما يقص فرعون حلمه على يوسف يتحدث عن الريح الشرقية التي تلفح السنابل: «هو ذا سبع سنابل طالعة في ساق واحد، ممتلئة وحسنة. ثم هو ذا سبع سنابل يابسة رقيقة ملفوحة بالريح الشرقية، نابتة وراءها ...» (تك، 41: 22-23). ومن المعروف أن الريح التي تلفح السنابل في مصر تهب من الجنوب لا من الشرق كما هو الحال في سوريا.
1
إن هذه المسائل، التي يثيرها النقد النصي لقصة يوسف، تعطينا المسوغ الكافي للقول بثقة بأن القصة تعود في أصولها إلى زمن ما غير محدد في الألف الأول قبل الميلاد، وأن المحرر التوراتي قد اعتمد عدة أشكال للقصة، بعضها سوري وآخر مصري، وأضاف إلى عناصرها الخيالية عناصر أخرى واقعية مستمدة من أحداث معروفة قريبة إليه؛ ففي النصوص المصرية
2
هناك ذكر لأكثر من شخصية آسيوية توصلت إلى مناصب عالية في الدولة، بين هؤلاء رجل اسمه عرشو استلم زمام السلطة في مصر لفترة قصيرة إبان فترة الفوضى التي جاءت في نهاية حكم الأسرة التاسعة عشرة، حوالي 1200ق.م. إن ربط قصة يوسف بعصر الهكسوس - مما كان شائعا بين الباحثين - لم يعد مقبولا الآن، والقصة برمتها عبارة عن أخيولة أدبية معلقة في فضاء تاريخي، استخدمها المحرر التوراتي بكل براعة من أجل إغلاق عصر الآباء، وافتتاح عصر العبودية في مصر، الذي مهد لملحمة الخروج. (2) الخلفية التاريخية للخروج
تم طرد الهكسوس من مصر حوالي عام 1570ق.م. على يد القائد العسكري أحموس، الذي حكم فيما بين 1570 و1545ق.م. وأسس الأسرة الثامنة عشرة، فاتحة المملكة الحديثة في التاريخ المصري التي دامت خمسة قرون (حتى عام 1078ق.م.) وقد خلف أحموس عدد من الملوك يحملون اسم تحوتمس. وسع تحوتمس الأول نفوذ مصر السياسي جنوبا حتى الشلال الرابع في أعماق أفريقيا، وبذلك أصبح وادي النيل بأكمله تحت السيطرة المصرية. أما باتجاه آسيا الغربية فقد وصل تحوتمس الأول في إحدى حملاته إلى نهر الفرات، على ما يذكره في أحد سجلاته الحربية. وقد كانت هذه الحملة ذات طابع استعراضي بالدرجة الأولى، وهدفت مصر من ورائها إلى الإعلان عن دخولها حلبة السياسة الدولية إلى جانب القوتين العظميين في ذلك الوقت؛ مملكة ميتاني ومملكة حاتي، وإشعارهما بأن لها مصالح حيوية في آسيا الغربية مثل ما لهما.
توقف اهتمام مصر بالسياسة الدولية إبان حكم الملكة حتشبسوت (1469-1490ق.م.) بسبب انشغال هذه الملكة بالمسائل الداخلية. وعندما خلفها زوجها وشريكها في الحكم تحوتمس الثالث، بدأ عقب وفاتها مباشرة بشن حملات عسكرية متوالية، باتجاه الجنوب نحو أفريقيا، وباتجاه الشمال نحو آسيا الغربية، بلغت اثنتي عشرة حملة خلال فترة حكمه الطويلة التي دامت من 1490 إلى 1436ق.م. وقد وصل في إحدى حملاته الآسيوية إلى الفرات، وأجبر ميتاني على الاعتراف بسيادته، وكانت في ذلك الوقت القوة الرئيسية في منطقة الجزيرة العليا والشمال السوري. كما شن حملة شهيرة في سجلاته على فلسطين معروفة بحملة مجدو، حيث التقى قرب مدينة مجدو الفلسطينية بجيوش تحالف سوري يقوده ملك قادش، وهزمها. وفي عهد خليفته تحوتمس الرابع مالت السياسة المصرية إلى الديبلوماسية، فتزوج هذا الملك من أميرة ميتانية وأنجب منها أمنحوتب الثالث (1413-1377ق.م.) الذي حكم خلال الفترة المعروفة بعصر العمارنة، والتي شملت حكمه وحكم ابنه أمنحوتب الرابع، واشتهرت بالوثائق الهامة التي عثر عليها في عاصمة أمنحوتب الثالث بموقع تل العمارنة، والتي تتضمن مراسلات بين البلاط المصري والملوك السوريين. في عهد أمنحوتب الرابع - الذي دعا نفسه «إخناتون» عقب إصلاحه الديني الشهير، وإعلانه عن معتقده الجديد في إله واحد، دعاه آتون - خف الضغط على مناطق آسيا بسبب انشغال الملك بالمسائل الداخلية والتبشير الديني.
عندما أفلح الكهنة التقليديون في إقصاء إخناتون عن الحكم، رفع إلى العرش الفتى توت عنخ آمون (1358-1349ق.م.) وقد أعقب موت هذا الفرعون الصغير فترة من الاضطرابات والتهديدات العسكرية الخارجية، انتهت بصعود القائد العسكري حور محب إلى السلطة (1345-1318ق.م.) وتأسيسه للأسرة التاسعة عشرة. كان رمسيس الأول أول فراعنة الأسرة التاسعة عشرة، وفي عهده انتقلت العاصمة المصرية إلى الدلتا الشرقية، فبنيت مدينة تانيس عاصمة الرعامسة، في مكان لا يبعد كثيرا عن موقع عاصمة الهكسوس القديمة أفاريس. ثم وليه ابنه سيتي الأول (1317-1301ق.م.) المعروف بحملته على فلسطين، والتي استهدفت البدو المثيرين للقلاقل، والحثيين الذين كانوا يؤلبون حكام الدويلات الفلسطينية ضد مصر. ثم تبعه ابنه رمسيس الثاني (1290-1224ق.م.)
3
الذي اصطدم مع الحثيين في موقعة شهيرة عند مدينة قادش في سوريا الوسطى، ثم وقع معهم بعد ذلك بسنوات المعاهدة المعروفة، وهي أشهر معاهدات التاريخ المشرقي القديم.
وهناك رأي سائد بين المؤرخين يضع تاريخ خروج الإسرائيليين من مصر خلال الهزيع الأخير من فترة حكم هذا الفرعون. (3) ملحمة الخروج
ينتهي سفر التكوين بوفاة يوسف، حيث تقول آخر فقراته: «ثم مات يوسف وهو ابن مائة وعشر سنين. فحنطوه ووضع في تابوت في مصر» (تك، 50: 36). ثم يلتقط سفر الخروج في مطلعه الفقرة نفسها ويقول: «ومات يوسف وكل إخوته وجميع ذلك الجيل. وأما بنو إسرائيل فأثمروا وتوالدوا ونموا وكثروا جدا وامتلأت الأرض منهم. ثم قام ملك جديد على مصر لم يكن يعرف يوسف» (خروج، 1: 6-8). رأى الملك الجديد تكاثر بني إسرائيل وخاف من تزايد عددهم، فدفعهم إلى السخرة في أعمال البناء، ووضع عليهم مراقبين أشداء يذلونهم ويسومونهم سوء العذاب، وابتدأت فترة العبودية التي دامت بضع مئات من السنين. بنى المستعبدون لفرعون مدينتين، هما «مخازن فيثوم» و«رعمسيس»، ولكن السخرة والأعمال الشاقة لم تنفع في التقليل من عددهم، فأمر فرعون القابلتين القائمتين على توليد نسائهم بقتل المواليد الذكور في المهد. ولكن القابلتين خافتا الله ولم تفعلا، مدعيتين أن النساء العبرانيات قويات البنية يلدن قبل وصول القابلة، فنما الشعب كثيرا. وهنا عمد الفرعون إلى أسلوب آخر، حيث أمر الإسرائيليين أن يلقوا إلى النهر بكل مولود ذكر (الخروج، 1: 15-22).
يلي ذلك مباشرة قصة ولادة موسى، حيث يبدأ الإصحاح الثاني بالقول: «وذهب رجل من بيت لاوي وأخذ بنت لاوي، فحبلت المرأة وولدت ابنا، ولما رأته أنه حسن خبأته ثلاثة أشهر. ولما لم يمكنها أن تخبئه بعد أخذت سفطا من البردي ووضعت الولد فيه، ووضعته بين الحلفاء على حافة النهر. ووقفت أخته من بعيد لتعرف ماذا يفعل فيه. فنزلت ابنة فرعون إلى النهر لتغتسل، وكانت جواريها ماشيات إلى جانب النهر، فرأت السفط بين الحلفاء، فأرسلت أمتها وأخذته، ولما فتحته رأت الولد، وإذا هو صبي يبكي، فرقت له وقالت: هذا من أولاد العبرانيين. فقالت أخته لابنة فرعون: هل أذهب وأدعو لك امرأة مرضعة من العبرانيات لترضع لك الولد؟ فقالت لها ابنة فرعون: اذهبي. فذهبت الفتاة ودعت أم الولد، فقالت لها ابنة فرعون: اذهبي بهذا الولد وأرضعيه لي وأنا أعطيك أجرتك، فأخذت المرأة الولد وأرضعته . ولما كبر الولد جاءت به إلى ابنة فرعون فصار لها ابنا، ودعت اسمه موسى، وقالت: إني انتشلته من الماء» (الخروج، 2: 1-10).
ويبدو أن موسى قد شب وهو يعرف أصله العبراني؛ ففي أحد الأيام رأى رجلا مصريا يضرب رجلا عبرانيا من إخوته، فقتل المصري وطمره في الرمل. ولما انكشف أمره هرب من وجه فرعون الذي طلب قتله، وأتى إلى أرض مديان (عند خليج العقبة) وجلس عند البئر. وكان لكاهن مديان المدعو رعوئيل سبع بنات، فأتين لملء الجرار، ولكن الرعاة صرفوهن، فأعانهن موسى. وعندما عدن وأخبرن أباهن بما حصل، دعاه الأب وأكرمه وأسكنه عنده، وزوجه ابنته صفورة التي أنجبت له ولدا أسماه جرشوم. وعندما كان يرعى غنم حميه، الذي يدعوه النص في هذا الموضع من القصة يثرون عوضا عن رعوئيل، ساق الغنم إلى جبل يدعى حوريب، فرأى شجرة عليقة تتوقد بالنار ولا تحترق، فلما اقترب منها «ناداه الله من وسط العليقة وقال: موسى، موسى. فقال: ها أنا ذا. فقال: لا تقترب إلى ها هنا. اخلع حذاءك من رجليك؛ لأن الموضع الذي أنت واقف عليه أرض مقدسة. ثم قال: أنا إله أبيك، إله إبراهيم وإله إسحاق وإله يعقوب. فغطى موسى وجهه لأنه خاف أن ينظر إلى الله. فقال الرب: إني قد رأيت مذلة شعبي وسمعت صراخهم ... فنزلت لأنقذهم من أيدي المصريين، وأصعدهم من تلك الأرض إلى أرض جيدة وواسعة، إلى أرض تفيض لبنا وعسلا ... والآن هلم فأرسلك إلى فرعون، وتخرج شعبي بني إسرائيل من مصر. فقال موسى لله: من أنا حتى أذهب إلى فرعون، وحتى أخرج بني إسرائيل من مصر؟! فقال: إني أكون معك، وهذه تكون لك العلامة أني أرسلتك. حينما تخرج الشعب من مصر، تعبدون الله على هذا الجبل ... وقال الله لموسى: هكذا تقول لبني إسرائيل: يهوه إله آبائكم؛ إله إبراهيم وإله إسحاق وإله يعقوب أرسلني إليكم» (الخروج، 3). «فأجاب موسى وقال: ولكن ها هم لا يصدقون ولا يسمعون لقولي، بل يقولون: لم يظهر لك الرب. فقال الرب: ما هذه في يدك؟ فقال: عصا . فقال: اطرحها إلى الأرض. فطرحها فصارت حية، فهرب موسى منها. ثم قال الرب لموسى: مد يدك وأمسك بذنبها. فمد يده وأمسك به، فصارت عصا في يده. لكي يصدقوا أنه قد ظهر لك الرب إله آبائهم؛ إله إبراهيم وإله إسحاق وإله يعقوب.» وبعد أن يزوده بآيتين أخريين؛ يده التي يدخلها في جيبه فتخرج بيضاء، وماء النهر الذي يسكبه على اليابسة فيصير دما، يطلب منه التوجه فورا إلى مصر لأن الفرعون الذي كان يطلب دمه قد مات. فيشتكي موسى من ثقل لسانه وقلة فصاحته، فيأمره الرب أن يستعين بأخيه هارون الفصيح اللسان، والذي تقع عليه مهمة مخاطبة الشعب، ويكون لموسى فما. فأخذ موسى امرأته وبنيه وأركبهم على الحمير، ورجع إلى أرض مصر بعد أن ودع حماه يثرون (الخروج، 4).
في مصر يتصل موسى وهارون بالشعب، الذي يؤمن بهما وبالآيات التي صنعاها أمام عيونهم. ثم يدخل الاثنان على فرعون ويطلبان منه إطلاق بني إسرائيل، فيرفض فرعون مستهزئا بالطلب، ويزيد من أعباء السخرة على بني إسرائيل. بعد ذلك يتكرر دخول موسى وهارون على فرعون عشر مرات ملتمسين إطلاق الشعب، وفي كل مرة يرفض فرعون الطلب، فيرسل عليه الرب كارثة تحل به وببيته وبقومه، فيصرخ فرعون إلى موسى أن يصلي لربه فيرفع غضبه عنه، وعندما يرتفع غضب الرب يقسو قلب فرعون ويرفض من جديد إطلاق الشعب. وأخيرا يرضخ فرعون ويسمح بخروج بني إسرائيل جميعا مع غنمهم وبقرهم وجميع أمتعتهم. وقبل أن يغادروا مساكنهم قال لهم موسى أن يستعير كل واحد منهم من جاره أدوات فضية وذهبية وثيابا. وقد زين الرب للمصريين إعارة جيرانهم فأعطوهم ما طلبوا، فسرق الإسرائيليون المصريين ورحلوا تحت جنح الليل. وكانت إقامتهم في مصر أربعمائة وثلاثين سنة (الخروج، 5-12).
وكان لما أطلق فرعون الشعب أن الله لم يهدهم في طريق أرض الفلسطينيين المحاذية للساحل، مع أنها قريبة؛ لكيلا يعرضهم للحرب مع أهلها فينقلبون على أعقابهم راجعين إلى مصر، بل أدارهم نحو بحر سوف (الذي هو خليج السويس وما يتلوه شمالا من البحيرات المرة)، فرحلوا من مساكنهم في أرض رعمسيس ونزلوا في «سكوت»، وارتحلوا من «سكوت» ونزلوا في إيثام. وكان الرب يسير أمامهم نهارا في عمود من سحاب ليهديهم في الطريق، وليلا في عمود من نار ليضيء لهم. ولكن فرعون ندم على إطلاق بني إسرائيل، فلحق بهم بجنوده ومركباته فأدركهم وهم نازلون قرب بحر سوف عند فم الحيروت أمام بعل صفون. ففزع بنو إسرائيل وقالوا لموسى: «هل لأنه ليست قبور في مصر أخذتنا لنموت في البرية؟! ماذا صنعت بنا حتى أخرجتنا من مصر؟! خير لنا أن نخدم المصريين من أن نموت في البرية. فقال موسى للشعب: لا تخافوا، قفوا وانظروا خلاص الرب الذي يصنعه لكم اليوم ... فقال الرب لموسى: قل لبني إسرائيل أن يرحلوا، وارفع أنت عصاك ومد يدك على البحر وشقه، فيدخل بنو إسرائيل في وسط البحر على اليابسة ... ومد موسى يده على البحر، فأجرى الرب البحر بريح شرقية شديدة كل الليل، وجعل البحر يابسة وانشق الماء، فدخل بنو إسرائيل في وسط البحر على اليابسة، والبحر سور لهم عن يمينهم وعن يسارهم، وتبعهم المصريون ودخلوا وراءهم ... فقال الرب لموسى: مد يدك على البحر ليرجع الماء على المصريين، فمد موسى يده على البحر، فرجع الماء وغطى مركبات وفرسان جميع جيش فرعون، ولم يبق منهم ولا واحد» (الخروج، 13-14).
ثم ارتحل بنو إسرائيل من بحر سوف وهدفهم برية سيناء. وفي طريقهم يمرون بالمواقع الآتية على التوالي: برية شور، مارة، إيليم، برية سين. في برية سين يتمرد الشعب على موسى وهارون ويقول لهما: «ليتنا متنا بيد الرب في مصر إذ كنا جالسين عند قدور اللحم نأكل خبزا للشبع، فإنكما أخرجتمانا إلى هذا القفر لكي تميتا كل هذا الجمهور بالجوع.» فأرسل لهم الرب المن والسلوى غذاء؛ فالمن نوع من الفطريات تنبت على وجه البرية عند ارتفاع ندى الصباح، والسلوى نوع من الطيور المهاجرة كانت تحط قرب منازلهم للراحة. «ثم ارتحل كل جماعة بني إسرائيل ونزلوا في رفيديم. ولم يكن ماء ليشرب الشعب، فخاصم الشعب موسى وقالوا: أعطونا ماء لنشرب ... فصرخ موسى إلى الرب قائلا: ماذا أفعل بهذا الشعب؟! بعد قليل يرجمونني.» فأمر الرب موسى أن يضرب صخرة معينة بعصاه، ففعل موسى وتفجر من الصخرة ماء وشرب الجميع. وبينما هم في رفيديم يجتمع شعب العماليق لقتالهم، وهم قبائل بدوية تتجول في مناطق شمال الجزيرة العربية. فوقف الرب إلى جانب الشعب، وهزم الإسرائيليون أعداءهم، وتابعوا مسيرتهم نحو برية سيناء (الخروج، 15-17).
وصل الشعب إلى برية سيناء في الشهر الثالث بعد خروجهم من مصر، ونزلوا أمام الجبل. وهناك يأتي إلى موسى حموه يثرون كاهن مديان، بعد أن سمع بكل ما صنع الله إلى موسى وإلى إسرائيل. ويأتي يثرون معه بصفورة امرأة موسى التي كانت مقيمة عند أبيها وابنيها جرشوم وأليعازر. وعند هذه النقطة من القصة فقط نعرف أن موسى كان قد صرف زوجته إلى أهلها لسبب غير معروف. وقال يثرون لموسى: «مبارك الرب الذي أنقذكم من أيدي المصريين. الآن علمت أن الرب أعظم من جميع الآلهة؛ لأنه في الشيء الذي بغوا به كان عليهم.» وفي اليوم التالي غادر يثرون إلى أرضه بعد أن أعطى موسى نصائح قيمة في كيفية إدارة وتنظيم هذا الشعب الكثير. وأما موسى فصعد إلى الله، فناداه الرب من الجبل قائلا: «هكذا تقول لبيت يعقوب وتخبر بني إسرائيل، أنتم رأيتم ما صنعت بالمصريين. وأنا حملتكم على أجنحة النسور وجئت بكم إلي. فالآن إن سمعتم لصوتي وحفظتم عهدي تكونون لي خاصة من بين جميع الشعوب.» فرجع موسى إلى الشعب وكلمه بما سمع، فأجاب الشعب وقال: كل ما تكلم به الرب نفعل. واستعدوا لإبرام العهد مع إلههم في صباح اليوم الثالث، فغسلوا أنفسهم وتطهروا، وعندما حل الموعد «صارت بروق ورعود وسحاب ثقيل على الجبل، وصوت بوق شديد جدا. فارتعد الشعب الذي في المحلة، وأخرج موسى الشعب من المحلة لملاقاة الله، فوقفوا في أسفل الجبل. وكان جبل سيناء كله يدخن من أجل أن الرب نزل عليه بالنار، وصعد دخانه كدخان الأتون ... ودعا الله موسى إلى رأس الجبل، فصعد موسى. وكان صوت البوق يزداد اشتدادا، وموسى يتكلم والله يجيبه بصوت. ثم تكلم الله معه وأعطاه الوصايا العشر» (الخروج، 18-19).
يصعد موسى مرة أخرى إلى الجبل بأمر الرب ليستلم لوحين من الحجارة، منقوش عليهما الوصايا العشر والشريعة، ليعلم بهما الشعب. فدخل موسى وسط السحاب وبقي هناك أربعين نهارا وأربعين ليلة. ولما رأى الشعب أن موسى قد تأخر جاءوا إلى هارون وقالوا له: «قم اصنع لنا آلهة تسير أمامنا؛ لأن هذا موسى - الرجل الذي أصعدنا من مصر - لا نعلم ماذا أصابه. فقال لهم هارون: انزعوا أقراط الذهب التي في آذان نسائكم وبنيكم وبناتكم وائتوني بها ... فأخذ ذلك من أيديهم وصوره بالإزميل، وصنعه عجلا مسبوكا. فقالوا: هذه آلهتك يا إسرائيل التي أصعدتك من أرض مصر ... فقال الرب لموسى: اذهب انزل؛ لأنه قد فسد شعبك الذي أصعدته من مصر. زاغوا سريعا عن الطريق الذي أوصيتهم به ... فانصرف موسى ونزل من الجبل ولوحا الشهادة في يده ... وكان عندما اقترب إلى المحلة أنه أبصر العجل والرقص. فحمي غضب موسى، وطرح اللوحين من يديه وكسرهما في أسفل الجبل. ثم أخذ العجل الذي صنعوا وأحرقه بالنار، وطحنه حتى صار ناعما، وذراه على وجه الماء وسقى بني إسرائيل» (الخروج، 32). وبعد أن يعمل موسى في الشعب مذبحة كبرى يقودها اللاويون الكهنة، يهدأ غضبه ويستغفر للشعب أمام الرب. ثم يصعد إلى الجبل مرة أخرى ليستلم من الرب لوحين جديدين بدل اللذين كسرهما (الخروج، 33-34).
لا تحتوي بقية إصحاحات سفر الخروج على أحداث جديدة؛ فجميعها مخصص لتفصيل بعض القواعد الطقسية، وشرح كيفية صنع خيمة الاجتماع، التي هي المسكن المتنقل لإله إسرائيل، وكيفية صنع تابوت العهد الذي يودع فيه لوحا الشريعة، كما يخصص كامل التالي (سفر اللاويين) لتفصيل القواعد التشريعية التي أنزلها الرب على موسى. وعندما تستأنف القصة في سفر العدد، نجد أن الإسرائيليين قد أمضوا سنة كاملة في برية سيناء. وفي السنة الثانية لخروجهم من مصر، في الشهر الثاني، تركوا سيناء وتوجهوا إلى برية فاران، وهدفهم الوصول إلى قادش برنيع، وهي واحة معروفة في شمال سيناء، وقريبة من الحدود الجنوبية لأرض كنعان. ومن هناك يبعث موسى رسلا ليتجسسوا في أرض كنعان، ويروا الشعب الساكن فيها «أقوي هو أم ضعيف، قليل أم كثير؛ وكيف هي الأرض التي هو ساكن فيها، أجيدة أم ردية؛ وما هي المدن التي هو ساكن فيها، أمخيمات أم حصون؛ وكيف هي الأرض، سمينة أم هزيلة.» فذهب الرجال وعادوا بالخبر: «فساروا حتى أتوا إلى موسى وهارون وكل جماعة بني إسرائيل ... وأروهم ثمر الأرض وقالوا: قد ذهبنا إلى الأرض التي أرسلتنا إليها، وحقا إنها تفيض لبنا وعسلا، وهذا ثمرها، غير أن الشعب الساكن في الأرض معتز، والمدن حصينة، عظيمة جدا ... فرفعت كل الجماعة صوتها وصرخت، وبكى الشعب تلك الليلة، وتذمر على موسى وعلى هارون جميع بني إسرائيل، وقال لهما كل الجماعة: ليتنا متنا في أرض مصر، أو ليتنا متنا في هذا القفر ... ثم ظهر مجد الرب في خيمة الاجتماع لكل بني إسرائيل، وقال الرب لموسى: حتى متى يهينني هذا الشعب؟! وحتى متى لا يصدقونني بجميع الآيات التي عملت في وسطهم؟! إني أضربهم بالوباء وأبيدهم، وأصيرك شعبا أكبر وأعظم منهم.» ولكن موسى يفلح بعد جهد جهيد في تهدئة غضب الرب، وإقناعه بالعدول عن إبادة الشعب، فيصفح الرب ولكنه يحكم على جميع أفراد الجيل الذي يسير مع موسى أن يمضي بقية حياته في القفر، ولا يرى أرض كنعان التي يدخلها أولاد الجيل الثاني من أبنائهم (العدد، 13-14).
فأقام بنو إسرائيل في قادش برنيع مدة ثمان وثلاثين سنة، حتى أكملوا أربعين سنة لخروجهم من مصر، ومات كل الجيل الذي تمرد على موسى وخاف من دخول كنعان. وقد تخلل هذه الفترة الطويلة عدد من حوادث التمرد والعصيان، وأهمها محاولة المدعو قورح بن يصهار الانقلابية، التي سعى من خلالها إلى إقصاء موسى وهارون عن القيادة، يدعمه في ذلك مائتان وخمسون من رؤساء الجماعات. ولكن الرب خسف الأرض بقورح والمتمردين جميعهم فهبطوا إلى الهاوية السفلى (العدد، 16). كما وقع تمرد جديد على موسى بسبب نقص الماء أيضا، وقد قادت طريقة تعامل موسى وهارون مع هذا التمرد، والكيفية التي نفذوا بها أمر الرب؛ إلى غضب الرب عليهما وحرمانهما من دخول أرض كنعان. فلقد أمر الرب موسى أن يقف أمام صخرة معينة ويكلمها هو وهارون أن تعطي ماءها، لا أن يضربها بعصاه كما فعل في مرة سابقة. ولكن موسى الذي طفح به الكيل من سلوك هذا الشعب العنيد، وفي نوبة شك عارمة من قدرة إلهه، وقف أمام الصخر وصرخ بالجمهور المحتشد حوله: «اسمعوا أيها المردة، أمن هذه الصخرة نخرج لكم ماء؟ ورفع موسى يده وضرب الصخرة بعصاه مرتين، فخرج ماء غزير، فشربت الجماعة ومواشيها. فقال الرب لموسى وهارون: من أجل أنكما لم تؤمنا بي أمام أعين بني إسرائيل؛ لذلك لا تدخلان هذه الجماعة إلى الأرض التي أعطيتهم إياها.»
بعد انتهاء المدة التي حددها الرب بأربعين سنة، وموت أفراد الجيل السابق جميعهم، تحرك موسى بجماعته لتحقيق الوعد القديم بأرض كنعان، فوصلوا تخوم آدوم الواقعة إلى الجنوب من البحر الميت. وهناك أرسل موسى رسله إلى ملك آدوم طالبا منه السماح بعبور بني إسرائيل في أراضيه، ولكن ملك آدوم رفض الطلب، وخرج للقائه بعدد غفير من الجند. فاتخذ موسى طريقا آخر نحو شرقي الأردن يدور حول مناطق الآدوميين شرقا فشمالا حتى لا يصطدم بهم. وعندما حلوا في جبل اسمه هور جاءت هارون المنية، ودفن هناك لتحقيق قول الرب. وصل موسى إلى شرقي الأردن، وخيم في موقع أرنون، وهو الحد الفاصل بين أراضي موآب وأراضي الآموريين. ثم أرسل رسله إلى ملك الآموريين يطلب منه السماح لقومه بالعبور بسلام، ولكن الملك رفض الطلب وخرج للقاء إسرائيل. وفي هذه المرة لم ينسحب موسى كما انسحب أمام آدوم، بل قرر المواجهة، فضرب الآموريين ضربة قوية وأخذ كل مدنهم وقراهم. ولسبب غير مفهوم، لا يتابع موسى طريقه نحو أرض كنعان، ولا يصطدم مع موآب وعمون المملكتين القويتين في شرقي الأردن، بل يتابع طريقه شمالا نحو باشان في سوريا الجنوبية (مناطق حوران)، ويصطدم مع ملك باشان في موقع إذرعي (إزرع)، فيضربه ضربة قوية، ويمتلك أرضه وقراه أيضا، ثم يقفل راجعا إلى شرقي الأردن، وينزل في موقع عربات موآب على ضفة نهر الأردن في مقابل مدينة أريحا الواقعة على الجهة الأخرى للنهر داخل كنعان (العدد، 20-21).
فزع الموآبيون مما فعله الإسرائيليون بخصومهم، فأرسل ملك موآب إلى عراف معروف في المنطقة اسمه بلعام بن بعور، ليأتي إليه ويلعن بني إسرائيل، لأن الذي يلعنه بلعام ملعون، والذي يباركه مبارك، وبعث مع رسله بهدايا إلى بلعام، فأتى إليه، ولكن الله وضع في فم بلعام بركات بدل اللعنات، فقال: «وحي بلعام بن بعور، وحي الرجل المفتوح العينين، وحي الذي يسمع أقوال الله ... ما أحسن خيامك يا يعقوب، مساكنك يا إسرائيل ... مباركك مبارك، ولاعنك معلون ... إلخ» (العدد، 22-24). فيحجم موآب عن مضايقة إسرائيل، ويتفرغ موسى لقتال مديان بأمر مباشر من الرب؛ لأن الشعب قد زنى مع بنات مديان وتعلق بآلهتها «فتجندوا على مديان كما أمر الرب وقتلوا كل ذكر. وملوك مديان قتلوهم فوق قتلاهم. وسبى بنو إسرائيل نساء مديان وأطفالهم، ونهبوا جميع مواشيهم وكل أملاكهم، وأحرقوا جميع مدنهم بالنار، وأتوا إلى موسى ... فسخط موسى على وكلاء الجيش، وقال لهم: ... اقتلوا كل ذكر من الأطفال، وكل امرأة عرفت رجلا. لكن جميع الأطفال من النساء اللواتي لم يعرفن ذكرا أبقوهن لكم حيات ...» (العدد، 31). وبعد ذلك يقوم موسى بتقسيم الأراضي المكتسبة في شرقي الأردن ويعطيها لسبط راؤبين، وسبط جاد، ونصف سبط منسي.
وعندما تحضر المنية موسى يصعده الرب من معسكره في عربات موآب إلى جبل نبو، ويريه أرض كنعان في عبر الأردن، ويكرر على مسامعه بأنه لن يدخله إلى الأرض الموعودة بسبب خطيئته وخطيئة هارون في القفر «وصعد موسى من عربات موآب إلى جبل نبو إلى رأس الفسجة الذي قبالة أريحا. فأراه الرب جميع الأرض من جلعاد إلى دان ... إلخ، وقال له الرب: هذه هي الأرض التي أقسمت لإبراهيم وإسحاق ويعقوب قائلا: لنسلك أعطيها. قد أريتك إياها بعينيك، ولكنك إلى هناك لا تعبر. فمات هناك موسى عبد الرب في أرض موآب حسب قول الرب، ودفنه في الجواء في أرض موآب مقابل بيت فغور، ولم يعرف إنسان قبره إلى هذا اليوم. وكان موسى ابن مائة وعشرين سنة حين مات ... ولم تكل عينه ولا ذهبت نضارته» (التثنية، 34). وبموت موسى تنتهي قصة الخروج لتبدأ قصة دخول كنعان.
النقد النصي لقصة الخروج
لقد أشرنا سابقا إلى أن قصة يوسف قد استخدمت من أجل الربط بين تقليدين توراتيين غريبين عن بعضهما كل الغرابة، هما قصص الآباء وقصة الخروج. ولكن هذه القصة لم تقدم في الواقع إلا تسويغا غير مقنع لوجود بني إسرائيل في مصر، وبقي تقليد الخروج مستقلا عن قصة يوسف وعن قصص الآباء في آن معا. ومما يلفت النظر بشكل خاص أن نص سفر الخروج يصمت صمتا تاما عن الفترة التي قضاها بنو إسرائيل في مصر بين وفاة يوسف وولادة موسى، ولا نعلم سوى أن هؤلاء قد وقعوا تحت نير العبودية بعد أن قام ملك جديد على مصر لم يكن يعرف يوسف. أما متى قام هذا الملك الجديد على مصر، وكم امتدت فترة العبودية، وما الذي كان يفعله الإسرائيليون قبل العبودية، فأمور لا يلقي عليها النص أية إضاءة. ومما يزيد الوضع غموضا أن هؤلاء الأجراء المسخرين تركوا مصر ومعهم مواش وأغنام كثيرة (الخروج، 12: 38) الأمر الذي يتنافى ووضع العبيد الذين لا يملكون في الواقع شيئا. أما عن مجموع سنوات إقامتهم في مصر مما سبق العبودية وتلاها، فإن النص التوراتي يعطينا معلومات متناقضة. فإقامة بني إسرائيل في مصر وفق سفر الخروج (12: 40) هي أربعمائة وثلاثون سنة. أما في سفر التكوين (15: 13 و16) فهي أربعمائة سنة فقط. وفي نهاية قصة يوسف لدينا إشارة واضحة إلى أن فترة الإقامة في مصر لم تتجاوز حياة جيل واحد فقط من أحفاد يوسف. ففي سنوات حياته الأخيرة يشهد يوسف ولادة أولاد أحفاده «وأولاد ماكير بن منسي أيضا ولدوا على ركبتي يوسف» (تك، 50: 23). ولكننا ما نلبث أن نرى أولاد ماكير هؤلاء، الذين ولدوا على ركبتي يوسف في مصر، يحاربون مع يشوع في كنعان (يشوع، 13: 31، و17: 1)، وهذا يعني أن المدة الفاصلة بين موت يوسف ودخول كنعان، بما فيها فترة الإقامة في مصر وفترة الخروج، لم تتجاوز المائة سنة على أبعد تقدير، وأن الذين ولدوا في حياة يوسف هم الذين استعبدوا من قبل المصريين، وهم الذين خرجوا أيضا مع موسى ودخلوا مع يشوع.
إلى جانب استقلالها عن قصة يوسف وقصص الآباء، فإن قصة موسى والخروج من مصر قد حيكت من أربع قصص مستقلة من حيث الأصل على ما يبدو، إن لم يكن أكثر. القصة الأولى هي قصة ميلاد وفتوة موسى، التي عملت على تزويد هذه الشخصية المركزية في التقاليد التوراتية بأصل ملكي نبيل وأصل كهنوتي؛ فهو ابن بنت فرعون بالتبني، نشأ وترعرع في البلاد كأمير فرعوني، وهو في الوقت نفسه سليل أسرة لاوية من جماعة الكهنة المكرسين للشئون الدينية. ورغم حياته المترفة في القصور فإن موسى على ما يبدو كان يعرف أصله العبراني، على ما تدل عليه حادثة قتله للمصري انتصارا لأخيه العبراني، ثم هربه من وجه فرعون الذي طلب دمه. وكما يمكن أن يلاحظ القارئ بسهولة، فإن هذه القصة تقوم على عدد من العناصر المعروفة في الأدب الشعبي والخرافي لثقافات الشرق القديم، ولها متوازيات واضحة في آداب الشعوب الأخرى. فالرضيع الذي يوضع في سلة تلقى إلى الماء، ثم تعتني به قدرة إلهية حتى يشب ويغدو حاكما أو ملكا، هو عنصر شائع ومعروف وله تنويعات عديدة. فإما أن يكون الطفل من أصل عامي ثم تتعهده أسرة ملكية بالرعاية حتى يغدو واحدا من أفرادها، أو أن يكون من أصل ملكي ثم تتعهده أسرة فقيرة حتى يكبر ويعرف أصله الملكي، ويعود للمطالبة بحقوقه ومكانته السابقة. وقد يستبدل عنصر الإلقاء بالماء داخل سلة بالإلقاء في الغابة، حيث تقوم غزالة أو ذئبة بإرضاع الطفل حتى يكبر. كما يتنوع الدافع إلى التخلص من الطفل الرضيع في هذه القصص؛ فهو مؤامرة داخل القصر الملكي للتعديل في حقوق الوراثة، أو غيرة الزوجة الأولى من ولادة الزوجة الثانية، أو نبوءة عن قيام المولود الجديد حين يكبر بقتل الأب والاستيلاء على العرش ... إلخ.
القصة الثانية هي قصة موسى في مديان، والتي تعود بنا إلى أجواء عصر الآباء. فموسى يلتقي بصفورة عند بئر الماء، وهي تقوده إلى أبيها الذي يستضيفه، ثم يعهد إليه برعاية غنمه، ويزوجه ابنته. وبينما هو يرعى غنم حميه يكلمه الرب من داخل الشجرة التي تحترق، كما كلم من قبل إبراهيم وإسحاق ويعقوب في مواقف مختلفة، ولكن متشابهة. وتبدو قصة موسى المدياني هذا وكأنها منتزعة من الذخيرة القصصية ذاتها التي استخدمها محرر سفر التكوين. ونلاحظ هنا، كما في قصة طفولة وشباب البطل، أن المحرر لم يعن بنسب موسى، ولم يعن بذكر اسم أبيه وأمه وإخوته. فالإصحاح الثاني من سفر الخروج الذي يروي لنا عن ولادة موسى يكتفي بالقول: «وذهب رجل من بيت لاوي وأخذ بنت لاوي، فحبلت المرأة وولدت ابنا. ولما رأته أنه حسن خبأته ثلاثة أشهر ... إلخ.» ولكن عندما تبدأ القصة الثالثة، وهي قصة تبشير موسى بين بني إسرائيل ودخوله على فرعون، يأخذ المحرر بإعطائنا بعض المعلومات الجديدة كلية. فعندما يأمره الرب بالتوجه إلى مصر نعلم أن له أخا اسمه هارون، دون أن ندري كيف استطاعت الأم أن تربي هارون وتحتفظ به ولم تستطع تربية موسى والاحتفاظ به في بيتها. وبعد أن يدخل موسى على فرعون يعطينا المحرر تفصيلات كاملة عن نسبه المتسلسل من المدعو لاوي الجد الأكبر، وصولا إلى المدعو عمرام، الذي تزوج المدعوة يوكابد، فأنجبت له هارون وموسى (الخروج، 6: 10-20). وبعد الخروج من مصر يخبرنا النص أن لهارون وموسى أختا أيضا اسمها مريم، وذلك في سفر العدد (12: 1-16). وفي الموضع نفسه أيضا نعرف أن زوجة موسى بطل هذه القصة الثالثة ليست صفورة ابنة كاهن مديان، بل امرأة كوشية.
أما القصة الرابعة فتبدأ بعد انتهاء مدة الأربعين سنة المحددة من قبل الرب لموت جميع أفراد الجيل الذي تمرد عليه وخاف من دخول كنعان. فهنا تنتهي ملامح شخصية موسى المبشر، ورجل العقيدة الذي يميل إلى السلم ويجنح لها، والذي يجر وراءه جماعة من الهاربين الخائفين، ولا يدخل في معركة لم تفرض عليه فرضا ، وتبدأ شخصية موسى القائد الدموي العسكري الذي يبادر إلى الحرب، ويشن حملات الإبادة والتدمير. ونحن في الحقيقة لا نستطيع أن نجد أرضا مشتركة تجمع موسى الذي يطلب من ملك آدوم أن يمر في أرضه بسلام، ثم يضطر إلى الدوران حول آدوم في رحلة طويلة وشاقة، إلى موسى الآخر، الذي يصل في فتوحاته العسكرية إلى سهول حوران في سوريا الجنوبية، والذي ينهي حياته بإبادة جميع أهالي مديان من الذكور والإناث، والإبقاء على البنات الصغيرات فقط. ويمكن أن نلاحظ بسهولة أن أحداث هذه القصة الرابعة تنتمي في معظمها إلى أحداث الفتح العسكري لكنعان مما يرويه سفر يشوع، وأنها مستمدة من الذخيرة القصصية نفسها التي استخدمها محرر هذا السفر، حتى إننا لا نستطيع تمييز شخصية موسى في شرقي الأردن عن شخصية يشوع في حروب كنعان.
وينجم عن هذا التداخل غير المحكم بين الأصول المتنوعة لتقليد الخروج، وعن أسلوب المحرر التوراتي، الذي وصفناه سابقا بأسلوب الجمع التراثي؛ عدد من التناقضات الفرعية التي لا نستطيع تعدادها جميعا، نظرا لكثرتها في سفر الخروج وبقية الأسفار الخمسة التي تتابع قصة موسى. ففي الإصحاح الثاني من سفر الخروج يدعى كاهن مديان بالاسم يثرون، أما في الإصحاح الثالث فيدعى بالاسم رعوئيل. فإذا اجتزنا الأسفار الخمسة إلى سفر القضاة وجدنا أن حما موسى يحمل اسم حوباب، وأنه ليس مديانيا بل قينيا، رغم الفروق الكبيرة بين المديانيين والقينيين سواء من حيث النسب أو من حيث مناطق السكن. نقرأ في القضاة (4: 10): «وحابر القيني انفرد من قاين من بني حوباب حمي موسى، وخيم حتى إلى بلوطة ...» فإذا عدنا إلى سفر العدد (10: 29) وجدنا أن حوباب هذا ليس حما موسى، بل ابن حميه، وهو مدياني مرة أخرى وليس قينيا «وقال موسى لحوباب بن رعوئيل المدياني حمي موسى: إننا راحلون ... إلخ.» كما نستدل من هذين الموضعين في سفر العدد وسفر القضاة على أن حما موسى قد انضم مع أهله إلى موسى، وسار في حملة الخروج، وهذا ما يتناقض مع الإصحاح 18 من سفر الخروج، الذي يخبرنا بأن حما موسى المدعو يثرون قد زار موسى في طريق الخروج، وأقام لديه فترة ثم انصرف. نقرأ في الخروج (18: 24-27): «فسمع موسى لصوت حميه وفعل كل ما قال ... ثم صرف موسى حماه فمضى إلى أرضه.» كما نعلم من زيارة يثرون هذه أن موسى كان قد صرف زوجته صفورة، فأقامت عند أبيها مع ابنيها، دون أن ندري متى صرف موسى زوجته أو لماذا صرفها. وفيما يتعلق بابني موسى، اللذين يدعوهما النص هنا بجرشوم وأليعازر، نلاحظ عدم وجود دور لهما في ملحمة الخروج، وذلك على عكس ابني هارون المدعوين أليعازار وإيثامار، اللذين يشاركان في معظم الأحداث، ويتكرر اسماهما مرارا كمساعدين لأبيهما في الإجراءات الطقسية (انظر على سبيل المثال اللاويين، 10: 12-15). وفي سفر العدد (12: 1) نعرف أن لموسى زوجة كوشية (حبشية)، دون أن يورد النص اسمها أو أية تفاصيل عن كيفية زواجه منها، ثم تختفي بعد ذلك كما ظهرت. والأغرب من ذلك كله أن موسى عندما يموت على جبل نبو مقابل أريحا، يموت وحيدا، ولا يوجد حوله أحد من زوجاته أو أولاده.
وعن استلام موسى للشريعة والوصية على الجبل لدينا روايتان مختلفتان كل الاختلاف؛ في الأولى يأمر الرب موسى أن يصعد إلى الجبل مع هارون، ويحذره من صعود أو اقتراب أحد من الكهنة وإلا بطش به «ونزل الرب على جبل سيناء، إلى رأس الجبل. ودعا الله موسى إلى رأس الجبل فصعد موسى. فقال الرب لموسى: انحدر حذر الشعب لئلا يقتحموا إلى الرب لينظروا فيسقط منهم كثيرون ... فقال موسى للرب: لا يقدر الشعب أن يصعد إلى جبل سيناء؛ لأنك أنت حذرتنا قائلا: أقم حدودا للجبل وقدسه. فقال له الرب: اذهب انحدر ثم اصعد أنت وهارون معك. وأما الكهنة والشعب فلا يقتحموا ليصعدوا إلى الرب لئلا يبطش بهم. فانحدر موسى إلى الشعب وقال لهم» (الخروج، 19: 20-25). ثم يلي ذلك نزول الوصية والشريعة. أما في الرواية الثانية، فإن موسى يصعد إلى الجبل بأمر الرب ومعه بعض الكهنة، وعدد كبير من شيوخ إسرائيل، وذلك على عكس التحذير الوارد في الرواية الأولى، وهؤلاء جميعا يرون الله وجها لوجه «وقال لموسى: اصعد إلى الرب أنت وهارون وناداب وأبيهو وسبعون من شيوخ إسرائيل، واسجدوا من بعيد، ويقترب موسى وحده إلى الرب وهم لا يقتربون، وأما الشعب فلا يصعد معه ... ثم صعد موسى وهارون وناداب وأبيهو وسبعون من شيوخ إسرائيل، ورأوا إله إسرائيل وتحت رجليه شبه صنعة من العقيق الأزرق الشفاف، وكذات السماء في النقاوة. ولكنه لم يمد يده إلى أشراف بني إسرائيل. فرأوا الله وأكلوا وشربوا. وقال الرب لموسى: اصعد إلى الجبل وكن هناك، فأعطيك لوحي الحجارة والشريعة والوصية التي كتبتها لتعليمهم ...» (الخروج، 24: 1-12).
وفيما يتعلق بموقع جبل الرب، الذي يدعى أحيانا جبل حوريب، وأحيانا أخرى جبل سيناء، لدينا عدد من الإشارات المتناقضة التي لا يمكن التوفيق بينها. فأول ذكر للجبل يوحي بأنه قائم في منطقة مديان التي تقع على الجهة الشرقية لخليج العقبة، لأن الرب عندما تجلى لموسى وهو يرعى غنم حميه كاهن مديان في لهيب الشجرة، قال له: «إني أكون معك، وهذه تكون لك علامة أني أرسلتك. حين تخرج الشعب من مصر تعبدون الله على هذا الجبل» (الخروج، 3: 12). أي إن موسى كان يستطيع من ذلك الموقع، الذي كان يرعى فيه غنمه وهو في مديان، أن يرى بالعين المجردة جبل حوريب. غير أن موسى عندما قاد جماعته خارجا من مصر لم يتوجه إلى مديان، بل إلى برية سيناء، وهناك نزلوا في البرية مقابل الجبل (الخروج، 19). وتزداد المسألة تعقيدا عندما نرى إشارات إلى مواقع أخرى في فاران وسعير الواقعة في آدوم على أطراف الصحراء العربية. من ذلك ما ورد في سفر التثنية (33: 1-2)، وفي سفر القضاة (5: 4)، وحبقوق (3: 3).
وفي سفر التثنية لدينا تقليد غريب كل الغرابة عما ورد في قصص الآباء، التي تصف الأسلاف المؤسسين بأنهم عبريون (تك، 14: 13، و41: 12). فهنا يوصف هؤلاء الأسلاف بأنهم آراميون. نقرأ في قاعدة طقسية من شريعة موسى: «... فيأخذ الكاهن السلة من يدك ويضعها أمام مذبح الرب إلهك، ثم تصرخ وتقول أمام الرب: آراميا تائها كان أبي، فانحدر إلى مصر وتغرب هناك في نفر قليل ، فصار هناك أمة كبيرة وعظيمة ...» (التثنية، 26: 4-5).
إضافة إلى هذه الروايات المتناقضة، التي لا نستطيع إيرادها جميعا هنا، فإن القراءة المتصلة لسفر الخروج وبقية الأسفار الخمسة تجعلنا نلاحظ فجوات وانقطاعات واضحة في سياق القصة؛ وذلك كالفجوة الواقعة بين استلام الوصية والشريعة على جبل سيناء، ومتابعة مسيرة الخروج بعد سنتين من ذلك، والفجوة الواقعة بين إقامة الشعب في قادش برنيع، والصعود إلى شرقي الأردن بعد ثمان وثلاثين سنة. وقد رأينا سابقا مثل هذه الفجوات في سفر التكوين، وألمحنا منذ قليل إلى الفجوة الكبرى بين سفر التكوين وسفر الخروج. إن هذا التعاقب غير المحبوك بدقة للرواية التوراتية لا يجد تفسيره في أننا نتعامل مع عدد من التقاليد المتنوعة فقط، بل يجب أن يجد تفسيره على مستوى آخر أيضا.
إن طريقة صياغة الأسفار الخمسة، وطريقة تطوير الرواية التوراتية وصولا إلى نهاية سفر الملوك الثاني، توحي للوهلة الأولى بوجود وحدة ضمنية بين التقاليد المتتابعة. غير أن هذه الوحدة الظاهرية لا تنبع من انسجام الحبكة الروائية ولا من تطويرها المنطقي، وإنما من طريقة رصف التقاليد المتنوعة في سياق مفروض عليها من الخارج، ومن وجهة نظر «جامع تراثي» لا من وجهة نظر مؤرخ مدقق. وبتعبير آخر، فإن طريقة ضم الوحدات الأدبية المستقلة إلى بعضها يوحي بوجود ترتيب زمني بين هذه الوحدات، التي انتظمتها سلسلة مصطنعة. فسفر التكوين يبدأ بسلسلة أنساب تقوم على تسويغات أيديولوجية سياسية ودينية، ثم تتابع التقاليد عبر الأسفار الخمسة وما وراءها، لتبني على هذه الأسس التي تم ترسيخها، وتنسج القصص حول عدد من القادة العظام؛ فمن آدم إلى قايين فنوح فإبراهيم فيعقوب فيوسف فموسى فيشوع فالقضاة فشاول فداود ... إلخ. ومن خلال جمع وترتيب الأخبار المتعلقة بكل شخصية، فإن الروايات المختلفة وذات الأصل والمضمون المستقل تنسج إلى بعضها، فيما يبدو - للوهلة الأولى - إطارا زمنيا منتظما ومتتابعا، يوحي بما يشبه التاريخ. من هنا، فإن عملية الجمع التراثي هذه تسمح بكثير من المرونة فيما يتعلق بإيراد الروايات المختلفة للحادثة الواحدة، كما تسمح بشكل تلقائي بوجود الفجوات التي لا يعنى الجامعون كثيرا بردمها. وكما قلنا سابقا، فإن الترتيب الزمني في حد ذاته لا يصنع تاريخا، وهو نابع هنا عن قصد ورؤية مسبقة عند المحررين الذين كانوا يواجهون بالفعل مهمة على قدر كبير من الصعوبة والتعقيد، قوامها تنظيم تركة ضخمة من التقاليد في سياق متتابع، من شأنه خلق ماض لإسرائيل التوراتية، باعتبارها شعبا موحدا منذ البداية، تحت خط قيادي متسلسل واحد، ومعتقد ديني واحد.
إن هاجس «الأصول» يسيطر على الأسفار الخمسة سيطرة تامة، ويتعداها إلى بقية الأسفار، وخصوصا تلك التي يدعوها الباحثون بالأسفار التاريخية من يشوع إلى الملوك الثاني. وما نعنيه بالأصول هنا هو نشأة وتكوين تلك الجماعات التي شكلت فيما بعد إسرائيل. وقد حملت عملية البحث عن الأصول المحررين بعيدا نحو بداية الأزمان، فابتدءوا من تكوين العالم وخلق البشر وتوزع شعوبهم وقبائلهم، وذلك من أجل توضيح نسب إسرائيل، ومكانة شعبها بين الشعوب الأخرى. فقصص الآباء تبدأ عقب الطوفان، وبعد تشتت شمل الشعوب وتفرقها، مما تقصه أسطورة برج بابل. وفي بقية الأسفار الخمسة التي تقص ملحمة الخروج نواجه حشدا من التقاليد المتفرقة التي تعزف على نغمة الأصول، أو تتعلق بها مباشرة؛ أصول إسرائيل كأمة، اختيار إسرائيل من قبل الرب، أصول المفاهيم الأيديولوجية المركزية، مثل التوراة والفصح والكهنوت وتابوت العهد، والعهد الإلهي. وبعد الأسفار الخمسة يأتي سفر يشوع وسفر القضاة ليؤسسا لأصول إسرائيل في الأرض، وذلك من خلال روايات عن الفتح العسكري والاستقرار في الأرض، دبجت بأسلوب قوي وحيوي جعل المؤرخين خلال حقبة طويلة من الزمن ينظرون إليها باعتبارها ذكريات تاريخية عن بدايات تشكل الشعب الإسرائيلي. فإذا انتقلنا إلى سفر صموئيل الأول وسفر صموئيل الثاني وجدنا هذه المفاهيم والأفكار وقد وصلت مرحلة النضج من خلال التقاليد التي تقص عن نشأة وصعود المملكة الموحدة، واستمرار فهم إسرائيل لنفسها كأمة الله. وهذا الصعود مرتبط بالانهيار والدمار الذي يقصه سفر الملوك الأول وسفر الملوك الثاني.
إن خلاصة الأمر، فيما يمكن للنقد النصي لقصة الخروج أن يوصلنا إليه، هو أن هذه القصة في شكلها ومضمونها هي من نوع الملاحم التي يدبجها عادة الخيال الشعبي عن البدايات التي تلامس عالم الأسطورة. ولكن بينما تنمو الملحمة الشعبية بشكل تلقائي يعبر عن شخصية الشعب وقيمه، فإن ملحمة الخروج قد جاءت كقصة ناجزة، ومؤلفة بعناية وقصد، رغم اعتمادها على عناصر ملحمية متفرقة مغرقة في القدم، ومنتزعة من سياقاتها الأصلية.
النقد التاريخي والأركيولوجي لقصة الخروج
لقد أخفقت حتى الآن كل الجهود التي بذلت من أجل إثبات تاريخية أحداث قصة الخروج، ولم يستطع المؤرخون وضع هذه الأحداث ضمن إطار تاريخي محدد. فالمصادر المصرية لا تذكر شيئا عن وجود الإسرائيليين في مصر، ولا عن خروجهم منها، سواء بالطريقة الموصوفة في التوراة أم بأية طريقة أخرى. ومن جهة أخرى، فإن النص التوراتي نفسه لا يورد أية معلومة عن الأوضاع في مصر والأحداث الجارية فيها، يمكن مقاطعتها مع ما نعرفه تاريخيا عن تلك الفترة، ولا يورد اسم شخصية مصرية معروفة لنا وموثقة تاريخيا. وفيما يتعلق بفرعون الخروج، فقد أغفل النص ذكر اسمه أو اسم أحد من حاشيته وقواده، ومعلوماتنا عن فراعنة الأسرة الثامنة عشرة والتاسعة عشرة تنفي أن يكون أحدهم قد مات غرقا. والشيء نفسه ينطبق على القسم الثاني من أحداث الخروج، الذي يفترض وقوعه في مناطق شرقي الأردن وسوريا، فلا المصادر الخارجية تؤيد الرواية التوراتية، ولا تسعفنا هذه الرواية بأية معلومة تساعدنا على تثبيت الإطار التاريخي لها. من هنا، فإن قصة الخروج من مصر تبقى معلقة في فضاء تاريخي تام، ولا يستطيع التاريخ إثبات أي جزء من أجزائها، بل إن المؤرخين الجدد يميلون إلى نفيها جملة وتفصيلا.
في ظل هذه الحقائق غير الواعدة، هل نستطيع وضع تاريخ للخروج، ولو من الناحية النظرية، اعتمادا على المادة التوراتية وحدها؟ لتحقيق هذه الغاية يمكن لنا إجراء تمرينين ذهنيين؛ فإما أن نأخذ نقطة ما في الزمن تسبق حادثة الخروج ثم نبدأ العد الزمني هبوطا إليه، أو أن نأخذ نقطة ما في الزمن تالية للخروج ثم نأخذ بالعد صعودا. ففي الحالة الأولى نستطيع جمع الفترات الزمنية لحياة الآباء إبراهيم وإسحاق ويعقوب، وهي 370 سنة (راجع التكوين، 25: 7، و35: 37، و47: 28) ثم نضيف إليها فترة العبودية في مصر، وهي 430 سنة (راجع الخروج، 12: 40-41) لنخرج بالرقم 737 سنة. ولكن هذه الطريقة غير مجدية لسببين؛ الأول هو أن النص التوراتي يعلمنا كم دام عصر الآباء، ولكنه لا يعلمنا متى ابتدأ هذا العصر. والسبب الثاني هو أن النص يناقض نفسه في أكثر من موضع حول الفترة التي قضاها الإسرائيليون في مصر، وقد تعرضنا لهذه النقطة سابقا. فإذا انتقلنا إلى العد العكسي من نقطة متقدمة في الزمن عن حادثة الخروج، بدا الأمر لنا واعدا بنتائج أفضل. ففي النص التوراتي لدينا حادثة واحدة فقط مرتبطة زمنيا بالخروج، هي حادثة بناء هيكل سليمان في أورشليم. فسفر الملوك الأول يخبرنا أن الملك سليمان قد بنى هيكل الرب بعد أربعمائة وثمانين سنة من مغادرة بني إسرائيل لمصر: «وكان في سنة الأربعمائة والثمانين لخروج بني إسرائيل من أرض مصر، في السنة الرابعة لملك سليمان على إسرائيل؛ أنه بنى البيت للرب» (الملوك، 6: 1). وبما أنه من المتفق عليه بين المؤرخين أن سليمان قد اعتلى عرش المملكة الموحدة حوالي عام 962ق.م. فإن العد الصاعد نحو الخروج يعطينا العام 1438ق.م. كتاريخ محتمل لهذه الحادثة.
غير أن مثل هذا التاريخ في أواسط القرن الخامس عشر قبل الميلاد يطرح صعوبات تاريخية يصعب حلها. ففي هذه الفترة بلغ التوسع الإمبريالي لفراعنة الأسرة الثامنة عشرة في مصر ذروته، وذلك خلال حكم الفرعون تحوتمس الثاني وابنه تحوتمس الثالث، الذي شن عدة حملات على كنعان ووصل إلى الفرات متحديا النفوذ الميتاني في تلك المنطقة. لذلك فمن غير المحتمل على الإطلاق أن يكون الخروج من مصر قد تم خلال حكم هذين العاهلين القويين، ناهيك عن مسألة دخول كنعان ، التي كانت واقعة تحت السيطرة الإمبراطورية المباشرة لمصر. وقد لاحظ بعض الباحثين
4
أن الرقم 480 - الذي وضعه المحرر التوراتي للسنوات الفاصلة بين بناء الهيكل وحادثة الخروج من مصر - ذو دلالة رمزية؛ لأنه يجعل بناء الهيكل في موقع الوسط تماما من تاريخ إسرائيل التوراتية. ذلك أن فترة 480 سنة قد انقضت أيضا بين بناء الهيكل وعودة المسبيين من بابل. يضاف إلى ذلك ما للرقم أربعين من رمزية خاصة في التقاليد التوراتية؛ فالتيه في الصحراء قد دام أربعين سنة، وحكم كل من الملك داود وسليمان قد دام أربعين سنة، وكذلك فترة حكم معظم القضاة الذين حكموا القبائل قبل المملكة الموحدة. فإذا أضفنا رمزية الرقم 40 إلى رمزية الرقم 12 (والأمثلة عليها كثيرة في التقاليد التوراتية، مثل الأسباط الاثني عشر ... إلخ) لتوصلنا أيضا إلى الرقم 480، وهو حاصل ضرب 12 جيلا ب 40 سنة، كمتوسط عمر لكل جيل. وبذلك يستبعد هذا الرقم من الحسبان كمعلومة يمكن الاعتماد عليها.
أمام هذه الظلال القاتمة التي يرميها التاريخ، والنص التوراتي نفسه، على مسألة الخروج، لم يجد المؤرخون الساعون إلى تقصي تاريخية الحدث التوراتي سوى معلومة واحدة في سفر الخروج يمكن الانطلاق منها لربط قصة الخروج بتاريخ مصر، وهي المعلومة المتعلقة بأرض رعمسيس ومدينة رعمسيس. فبنو إسرائيل قد بنوا للفرعون مدينتين، إحداهما تدعى رعمسيس (الخروج، 1: 11)، ومن هذا المكان انطلقت مسيرة الخروج: «فارتحل بنو إسرائيل من رعمسيس إلى «سكوت» ...» (الخروج، 12: 37). وبما أن الفرعون رمسيس الثاني - الذي حكم فيما بين 1290 و1224ق.م. - قد بنى بالفعل مدينة اسمها بي-رمسيس في منطقة الدلتا قرب عاصمة الرعامسة تانيس، فإن هؤلاء المؤرخين يضعون الخروج في وقت ما من بداية فترة حكم هذا الفرعون أو أواسطها. فوليم فوكسويل أولبرايت يضع الخروج في تاريخ لا يتعدى عام 1280ق.م. أي خلال السنوات الأولى لحكم رمسيس، وهي الفترة التي شهدت عددا من أحداث التمرد والعصيان على الحكم المصري في المناطق الآسيوية، الأمر الذي سهل في رأيه تنفيذ مخطط الهروب من مصر. ويقدر أولبرايت الفترة الفاصلة بين الخروج من رعمسيس في مصر واقتحام مدن كنعان بستين عاما، ويقسمها إلى المراحل التالية: (1) التجول في الصحراء. (2) التسلل التدريجي إلى مناطق فلسطين الشرقية. (3) فترة استقرار وتمازج مع الجماعات العبرانية المقيمة سابقا، وذلك تحضيرا للانقضاض الأخير على المدن الكنعانية. وهو يعتقد أن مرحلة التجول في الصحراء لم تدم أربعين سنة بل بضع سنوات فقط، بينما استغرقت المرحلتان الثانية والثالثة معظم زمن الخروج. وبذلك يكون الإسرائيليون قد أسسوا أنفسهم فعلا في أرض كنعان حوالي عام 1200ق.م. وهو تاريخ نصب الفرعون مرنفتاح الذي ورد فيه الاسم إسرائيل لأول مرة في التاريخ.
5
وقد سار معظم المؤرخين الباحثين عن تاريخية الخروج على خطى أولبرايت، مع تعديلات طفيفة. فهم يرون أن فترة الرعامسة هي الفترة الوحيدة التي بنى فيها الفراعنة المصريون لأنفسهم عاصمة في الدلتا (هذا إذا صرفنا النظر عن فترة الهكسوس المعترضة)، فقد بنى رمسيس الأول مدينة تانيس عاصمة له في الدلتا، ثم بنى رمسيس الثاني عاصمته في مكان لا يبعد كثيرا، ودعاها بي-رمسيس. وقد اشتهر رمسيس الثاني بأعمال التشييد والبناء، واستخدم في مشاريعه العمرانية الواسعة كثيرا من اليد العاملة المسخرة، التي شكل الإسرائيليون جزءا كبيرا منها. كما يرى هؤلاء - فيما تذكره الرواية التوراتية عن قرب مساكن الإسرائيليين من بلاط الفرعون، وسهولة تنقل موسى وهارون بين الشعب المسخر وبين البلاط الملكي - عوامل مرجحة في إرجاع الخروج إلى زمن الرعامسة، وعلى وجه الخصوص زمن حكم رمسيس الثاني. إلا أن معظمهم يعارض وليم فوكسويل أولبرايت في تاريخه المقترح للخروج، وهو عام 1280ق.م.، ويفضل تاريخا يقع حوالي عام 1250ق.م.، مع الأخذ بعين الاعتبار أن فترة التجول في الصحراء هي بالفعل أربعون عاما. وبذلك يتزامن دخول كنعان مع حالة الضعف التي ميزت الفترة الانتقالية بين حكم رمسيس الثاني، وحكم مرنفتاح الذي اضطرته التمردات في فلسطين إلى شن حملته المعروفة عليها.
6
وقد قدم علم الآثار لأصحاب هذا الرأي مادة غنية باكتشافه لآثار تدمير واسع للمدن الفلسطينية خلال هذه الفترة المفترضة لدخول الإسرائيليين إلى كنعان، الأمر الذي سهل أمامهم ربط هذا التدمير بعمليات يشوع العسكرية، على ما في هذا الربط من تعسف تاريخي كما سنرى في حينه لاحقا.
وفي الحقيقة فإن أرض رعمسيس ومدينة رعمسيس - مما ورد ذكره في سفر الخروج - مسألة لا يمكن الاعتماد عليها في تحديد زمن الخروج؛ لأن المحرر التوراتي قد استخدم اسم أرض رعمسيس في الإشارة إلى منطقة الدلتا منذ أيام يوسف، أي قبل بناء مدينة رمسيس بحوالي خمسمائة سنة. نقرأ في التكوين (47: 11): «فأسكن يوسف أباه وإخوته وأعطاهم ملكا في مصر في أفضل الأرض، في أرض رعمسيس، كما أمر فرعون.» وهذا يعني أن المحرر التوراتي، الذي كان يكتب سفر الخروج في فترة متأخرة من الألف الأول قبل الميلاد، قد استخدم الاسم الذي يعرفه لمنطقة الدلتا بصرف النظر عن ارتباط هذا الاسم بفترة تاريخية معينة. ومن ناحية أخرى، فإنه يحق لنا هنا أن نتساءل: لماذا ذكرت رواية الخروج اسم أرض رعمسيس أو مدينة رعمسيس، وغفلت عن ذكر اسم فرعون الخروج الذي من المفترض أن يكون رعمسيس نفسه؟
ورغم أن فريقا آخر من المؤرخين قد التزم الخطوط العريضة للتفسير التاريخي المطروح، إلا أنه في مواجهة الغموض الشامل للمعطيات التاريخية قد لجأ إلى صياغة «سيناريو» معقول، يستبدل التاريخ الموثق بسلسلة متصورة من الأحداث التي يمكن أن تكون قد وقعت. ولعل من أكثر هذه السيناريوهات جاذبية وحسن صنعة وخيال ما تقدمت به عالمة الآثار السيدة كاثلين كينيون على هامش دراستها الأركيولوجية القيمة للأرض المقدسة، تقول كينيون: «تكمن صعوبة التقييم التاريخي لمسألة الخروج في أن الأسفار الأولى للكتاب المقدس قد جاءت نتاجا لتجميع عدد كبير من التقاليد القبلية، حاول المحررون صياغتها في نص مطرد عن تحركات جماعات اعتقدوا أنها كانت تشكل شعبا واحدا منذ البداية. ولقد كان من نتائج إعادة الصياغة هذه أن المحررين قد أظهروا أن تلك القبائل كلها قد شاركت في الخروج، ومرت بالتجربة الدينية ذاتها في سيناء. ولكن الاحتمال الأقوى هو أن القبائل التي استقرت في فلسطين كانت من أصول مختلفة ومتنوعة. ويبدو لي أن طلائع الإسرائيليين كانت مؤلفة من ثلاث جماعات رئيسية؛ الأولى كانت تقيم في بعض مناطق فلسطين وشرقي الأردن، ولم تشارك أبدا في الرحيل إلى مصر أو الخروج منها. والثانية نزحت إلى مصر ثم طردت منها، فيما يمكن وصفه بالخروج الإجباري إثر مشاركتها في حوادث عصيان وتمرد، وقد حاولت هذه الجماعة المطرودة دخول فلسطين من الجنوب.
7
أما الجماعة الثالثة، وهي الجماعة التي تدور حولها معظم أحداث الخروج، فقد تشكلت من أشتات من المستعبدين المسخرين في بناء المشاريع العامة، تضافروا على الهروب من وجه أسيادهم، فعبروا سيناء نحو الأطراف الصحراوية لشرقي الأردن، فعاشوا هناك حياة رعوية لفترة لا بأس بها قبل أن يدخلوا فلسطين من الجهة الشرقية عبر نهر الأردن. وإن مثل هذا الخروج يناسب تاريخيا فترة حكم رمسيس الثاني، وهي الفترة الوحيدة التي كان للمصريين، بعد الهكسوس، عاصمة في الدلتا. فصعد هؤلاء بقيادة موسى حوالي عام 1260ق.م. هاربين من مدينة رمسيس ...»
8
يطرح مسار الخروج - من أرض رعمسيس إلى قادش برنيع فشرقي الأردن - إشكالات أخرى لا تقل عن إشكالات زمن الخروج. فلقد تفادى الهاربون الطريق الدولي المعروف بطريق البحر، وهو الطريق الأقصر الذي يصل الدلتا بمناطق فلسطين الساحلية، وفضلوا عليه الدوران عبر مسلك صحراوي طويل جدا. ويسوغ النص التوراتي هذا الخيار غير المنطقي بالخوف من المواجهة العسكرية المتوقعة في أرض فلسطين: «وكان لما أطلق فرعون الشعب أن الله لم يهدهم في طريق أرض الفلسطينيين مع أنها قريبة. لأن الله قال: لئلا يندم الشعب إذا رأوا حربا ويرجعوا إلى مصر. فأدار الله الشعب في طريق برية بحر سوف ...» (الخروج، 13: 17-18). نلاحظ هنا أن المحرر قد استخدم تسمية أرض الفلسطينيين للدلالة على المناطق الساحلية الجنوبية لفلسطين، علما أن أول ذكر للفلسطينيين (أو الفلستيين) ورد في نص للفرعون مرنفتاح، الذي رد هجوم شعوب البحر عن مصر، وبينهم هؤلاء الفلستيون، حوالي عام 1185ق.م. أي بعد التاريخ المفترض للخروج بنصف قرن على الأقل، وعندما لم يكن هؤلاء قد توطنوا على الساحل وأسسوا مدنهم الخمس المعروفة. وهذا يدل بوضوح على أن المحرر كان يستند إلى التسميات الجغرافية المعروفة لديه وقت تحرير الأسفار؛ لأن هذه المناطق الساحلية من فلسطين بقيت تدعى بأرض الفلستيين حتى العصر الفارسي. بعد عبورهم البحر يتجه الهاربون إلى أعماق سيناء وهدفهم جبل حوريب، وبعد إقامتهم عند الجبل سنة وتسعة أشهر تقريبا يتحركون شمالا نحو قادش برنيع.
وفي الحقيقة، فإن البحث الأثري والتاريخي قد أخفق حتى الآن في تحديد مسار الخروج اعتمادا على الرواية التوراتية. فالمواقع التي مر بها الإسرائيليون، مثل مارة وإيليم وغيرها، غير مذكورة خارج النص التوراتي، والمواقع التي تحمل أسماء مشابهة في سيناء لم يعط المسح الأركيولوجي فيها نتائج تشجع على إجراء أية مطابقة بينها وبين مواقع الخروج، بما في ذلك موقع جبل موسى المعروف تقليديا بأنه جبل حوريب. فتسمية جبل موسى هي تسمية حديثة وليست قديمة، وجاءت عقب بناء كنيسة القديسة كاترين البيزنطية في الموقع. وفيما يتعلق بموقع قادش برنيع، الذي أقام فيه الإسرائيليون ثمانيا وثلاثين سنة، فإن التنقيب الأثري لم يتوصل إلى الكشف عن آثار سكنية ترجع إلى ما قبل أواخر القرن العاشر قبل الميلاد. وكذلك الأمر في موقع حشبون الذي انتزعه الإسرائيليون من سكانه الآموريين في شرقي الأردن، فقد جرت مطابقة هذا الموقع مع الموقع الحديث لبلدة حسبان، ولكن التنقيب في حسبان لم يعطنا آثارا سكنية ترجع إلى زمن الخروج.
9
أما الممالك التي واجهها الإسرائيليون في مناطق شرقي الأردن، فلم تكن قائمة على الإطلاق إبان زمن الخروج، والمنطقة بكاملها كانت خالية من السكان تقريبا خلال أواخر البرونز الأخير ومطلع عصر الحديد، وذلك بسبب الجفاف الذي حل بالمنطقة. ولم يعد الاستيطان البشري إلى مناطق شرقي الأردن - بشكل يساعد على قيام بنى سياسية مستقرة - حتى حلول عصر الحديد الثاني ابتداء من عام 1000ق.م.
10
وهذا كله يدل على أن المحرر التوراتي كان يستلهم الجغرافيا البشرية والسياسية المعروفة لديه وقت تحرير الأسفار، وأنه كان على جهل مطبق بأحوال الزمن المفترض للخروج.
ومن الجدير بالذكر أن الشخصية الوحيدة في قصة الخروج، التي توفرت لدينا عنها معلومات غير توراتية، هي شخصية بلعام بن بعور العراف الذي دعاه ملك موآب ليلعن له إسرائيل (العدد، 22: 1-48)، فقد اكتشف مؤخرا في موقع دير العلا بشرقي الأردن عدد من النصوص الآرامية، بينها نص يذكر بلعام بالذات، ويصفه بناظر أو عراف الآلهة. يقول النص: «هذه كلمات بلعام بن بعور ناظر (عراف) الآلهة ...»
11
غير أن نصوص دير العلا هذه ترجع إلى حوالي عام 750ق.م. أي إلى فترة قريبة من زمن تدوين التوراة، عندما كانت ذكريات ما عن هذه الشخصية الروحية في المنطقة ما زالت حية ومتداولة، بينما يفصل عصر بلعام التاريخي هذا عن عصر الخروج حوالي خمسمائة سنة.
أخيرا أود أن أختم هذا النقد التاريخي لقصة الخروج برأي للباحث
N. M. Sarna ، وهو مؤرخ وباحث توراتي يهودي أميركي، وله أبحاث قيمة ورصينة في هذا المجال. يقول
Sarna
في دراسة جديدة له حاول من خلالها جادا تقصي تاريخية أحداث الخروج ما يلي: «إن خلاصة البحث الأكاديمي حول مسألة تاريخية الخروج تشير إلى أن الرواية التوراتية تقف وحيدة دون سند من جهة، وهي مليئة بالتعقيدات من جهة ثانية. وهذا كله لا يساعدنا على وضع أحداث الخروج ضمن إطار تاريخي. إضافة إلى ذلك، فإن النص التوراتي يحتوي على محددات داخلية ذاتية ناشئة عن مقاصد وأهداف المؤلفين التوراتيين. فهؤلاء المؤلفون لم يكونوا يكتبون تاريخا، وإنما يعملون على إيراد تفسيرات لاهوتية لحوادث تاريخية منتقاة. وقد تمت صياغة الروايات التوراتية بشكل يتلاءم مع هذه المقاصد والأهداف، وبالتالي فإننا يجب أن نقرأها ونستخدمها تبعا لذلك. إننا نفتقد إلى المصادر الخارجية التي تذكر عن تجربة الإسرائيليين في مصر، أو تشير إليها بشكل مباشر، والبينة الموضوعية الواضحة على تاريخية النص التوراتي هنا مفقودة تماما، بما في ذلك نتائج التنقيب الأثري.»
12
الفصل الرابع
إسرائيل في كنعان
عصر يشوع وعصر القضاة (1) الخلفية التاريخية العامة
مرة أخرى تشهد مناطق آسيا الغربية موجة جفاف طويلة ومتصاعدة، مشابهة لتلك الموجة التي أنهت ثقافة عصر البرونز المبكر. فقد ترافق حلول عصر البرونز الأخير (1600-1200ق.م.) مع ميل تدريجي للمناخ نحو الحرارة والجفاف. وقد وصل هذا الجفاف ذروته حوالي عام 1200ق.م. في اليونان وجزر المتوسط والأناضول وسوريا، وقامت العوامل الطبيعية بالإجهاز على ثقافة عصر البرونز الأخير. مع تزايد تأثير الجفاف أخذت المناطق الهامشية الحساسة للجفاف - في سوريا وفلسطين بشكل خاص - بخسارة سكانها الذين أخذوا بالجلاء عنها تدريجيا نحو المناطق الأبطأ تأثرا بالجفاف، أو نحو البراري متحولين إلى رعاة متنقلين، حتى إن مناطق بكاملها قد أخليت تماما من سكانها قبل نهاية البرونز الأخير، مثل منطقة الهضاب المركزية في فلسطين. وقد شهدت منطقة الهضاب المركزية هذه مع بداية عصر الحديد الأول (1200ق. م.) إعادة استيطان على نطاق واسع من قبل الجماعات التي اعتقد المؤرخون لفترة طويلة أنها الجماعات الإسرائيلية. أما في هضاب يهوذا، التي غزاها التصحر وحولها إلى بواد قاحلة، فقد هجرها السكان الزراعيون جميعهم تقريبا، ولكن عملية إعادة الاستيطان فيها قد تأخرت قرنين تقريبا عن منطقة الهضاب المركزية، أي حتى القرن العاشر قبل الميلاد.
1
وهذه المعلومات الجديدة سيكون لها دور كبير في كيفية فهمنا وتقييمنا للرواية التوراتية عن دخول الإسرائيليين وعن استقرارهم في كنعان؛ لأن منطقة الهضاب المركزية هي التي استوطن فيها، وفق الرواية التوراتية، الأسباط العشرة الموصوفة بإسرائيل، بينما استوطن في شمال يهوذا سبط بنيامين، تلاه سبط يهوذا، الذي شغل المناطق الهضبية ليهوذا حتى البوادي الجنوبية.
ولقد ساعد إقفار المنطقة الفلسطينية على وقوعها فريسة سهلة لفراعنة الأسرة الثامنة عشرة، الذين حولوا فلسطين إلى ممر تجاري لهم يصلهم بالعالم السوري والرافدي. ونستدل من رسائل تل العمارنة على أن الفراعنة لم يحكموا المدن الاستراتيجية الواقعة تحت نفوذهم حكما مباشرا، بل عن طريق الملوك المحليين الذين كانوا يتبعون مباشرة للبلاط المصري. وقد أدى التواجد المصري هنا إلى آثار إيجابية على اقتصاديات المدن الكبرى، وإلى استقرار النظم السياسية فيها. كما ساعد على تأجيل الكارثة الشاملة، التي حلت بمدن بلاد الشام الأخرى خلال هذه الفترة الانتقالية من عصر البرونز الأخير إلى عصر الحديد. إلا أن الانهيار الاقتصادي الشامل، الذي وقع مع نهاية البرونز الأخير، قد صرف نظر مصر مؤقتا عن فلسطين ، وتركت المدن الفلسطينية لمصيرها المفجع، حيث نرى آثار الدمار الكامل للعديد من هذه المدن خلال أواخر القرن الثالث عشر وأوائل القرن الثاني عشر.
2
تعتبر فترة تل العمارنة أكثر فترات عصر البرونز الأخير توثيقا، وتمتد من أواسط القرن الخامس عشر إلى أواسط القرن الرابع عشر قبل الميلاد. وقد سميت هذه الفترة بعصر العمارنة نسبة إلى موقع تل العمارنة في مصر العليا، حيث ابتنى الفرعون أمنحوتب الثالث عاصمة جديدة له هنا، عثر بين أنقاضها على أرشيف ملكي غني يضم عددا كبيرا من الرسائل المتبادلة بين أمنحوتب الثالث وابنه أمنحوتب الرابع (إخناتون) وبين ملوك سوريا وفلسطين والأناضول وبابل. وتعطينا هذه الرسائل صورة واضحة عن الأوضاع السياسية في منطقة الشرق القديم، وعن العلاقات بين القوى العظمى في ذلك الوقت. فخلال عصر البرونز الأخير تقاسمت ثلاث قوى كبرى مناطق النفوذ على المسرح الدولي، وهي ميتاني في الجزيرة والشمال السوري، وحاتي في الأناضول ومصر إلى الجنوب. وإلى جانب هذه القوى الكبرى الثلاث، فقد كان لسلالة الملوك الكاشيين الذين ورثوا مملكة حمورابي سلطة كاملة على مناطق سومر وأكاد لم ينازعهم فيها أحد، وقد مالوا إلى تعزيز صلاتهم الدبلوماسية مع القوى الكبرى، وخصوصا مصر، تفاديا لصدامات غير متكافئة مع أي منها. ونعرف من الوثائق المصرية أن أحد ملوك بابل الكاشيين قد أرسل أميرات من عائلته الملكية ليكن زوجات لأمراء مصريين، وطالب عبثا بأن يتزوج من أميرة مصرية. كما عملت ميتاني من جهتها على خطب ود ملوك الأسرة الثامنة عشرة الأقوياء، وزوجت اثنتين من أميراتها على التوالي إلى كل من الفرعون أمنحوتب الثالث وأمنحوتب الرابع. أما حاتي فقد مارست الضغط المتواصل على مناطق التواجد المصري في سوريا، واستفادت من فترة الضعف المصري خلال حكم إخناتون لتدفع مناطق نفوذها نحو أواسط سوريا، بعد أن كان تحوتمس الثالث قد عسكر عند مناطق الفرات الأوسط، وفرض نفوذه على معظم مناطق وسط وجنوب بلاد الشام. وفيما يتعلق بآشور فلم تكن قد دخلت مسرح الحياة الدولية لعصر البرونز الأخير، إلا أنها كانت تمارس ضغطا بطيئا ومتصلا على كل من ميتاني وبابل. ورغم أن الممالك السورية كانت واقعة تحت نفوذ هذه القوة الكبرى أو تلك، إلا أنها مارست تأثيرا ثقافيا واسع النطاق. ولا أدل على ازدهار الحياة الثقافية في هذه الممالك من أرشيف مدينة أوغاريت، والذي يعتبر أهم تركة ثقافية لعصر البرونز الأخير بكامله.
وتقدم رسائل تل العمارنة المتبادلة بين الملوك السوريين والفلسطينيين، والبلاط المصري، خلال حكم الفرعون إخناتون؛ معلومات قيمة عن الأوضاع السياسية لمنطقة فلسطين والساحل الكنعاني. فقد كانت هذه المنطقة تموج بالاضطرابات والنزاعات الداخلية الناجمة عن الغياب المفاجئ للقوة المصرية هنا، بسبب المشكلات الداخلية التي كان يواجهها إخناتون، وطموحات الحثيين لملء الفراغ المصري. وقد استغل الفرصة بشكل رئيسي الملك عازيرو، ملك مقاطعة آمورو (التي كانت تشغل منطقة طرطوس الحالية على الساحل، وامتدادات واسعة نحو الداخل)، فقام - بدعم وتحريض من مملكة حاتي - بمحاولة تقويض ما تبقى من النفوذ المصري في سوريا الجنوبية وفلسطين عن طريق مهاجمة الدويلات الموالية لمصر، بالتعاون مع جماعات العابيرو التي كانت تعيث فسادا في المنطقة. ولدينا عدد من الرسائل التي تشكو إلى الفرعون تعديات عازيرو وجماعات العابيرو المسلحة، ومنها هذه الرسالة التي بعث بها أمير أورشليم المدعو عبدي هيبة: «إلى الملك مولاي. هكذا يقول خادمك عبدي هيبة. انظر إلى ما فعله ملكيلو، وشوارداتا (من قادة العابيرو) بأراضي الملك. لقد دفعوا بقوات من جازر ومن جت ومن كيلة. أخذوا أراضي روبوتو، وأرض الملك صارت بيد العابيرو. فليصغ مليكي إلى خادمه عبدي هيبة ويرسل قوات تعيد الأراضي إلى الملك. وإذا لم تصل القوات فإن أراضي الملك ستغدو جميعا للعابيرو ...»
3
ولدينا رسائل مشابهة من ملوك جبيل ومجدو وشكيم وجازر وصور. تقول رسالة ملك صور: «إنني أحمي صور المدينة العظيمة من أجل مولاي الملك، إلى أن تصلني قواته فتهبني ماء لأشرب، وحطبا لأدفأ. وإني أحيطكم علما بأن زيميريدا ملك صيدون قد كتب مرارا إلى المجرم عازيرو بن عبدي عشيرته بخصوص كل ما سمعه من مصر. وها أنا قد كتبت إليك بكل ما يتوجب عليك معرفته.»
4
وتتقاطع النصوص الحثية مع النصوص المصرية بخصوص بعض أحداث المنطقة خلال هذه الفترة. فلدينا نص معاهدة حثية مع عازيراس (عازيرو) ملك آمورو، تؤكد لنا خضوعه لحاثي، وقيامه بخلق الاضطرابات في المنطقة لصالحها. نقرأ في المعاهدة: «أنا الملك الشمس قد جعلتك يا عازيراس تابعي، فإن صنت أرض ملك حاتي، سيدك، فإن سيدك سيقدم لك الحماية. عليك أن تحمي روح مليكك وشخصه وجسمه وأرضه، وملك حاتي سيقدم لك بالمقابل الحماية نفسها. ويتوجب عليك أن تدفع 300 شيكل من الذهب الخالص جزية سنوية ... (تعداد لبقية بنود المعاهدة). لقد ترك عازيراس ملك آمورو بوابة مصر، وصار مواليا للملك الشمس.»
5
نلاحظ من أسماء زعماء العابيرو في رسائل تل العمارنة أن بعضهم من أصل سامي، مثل ملكيلو (ملك-إيلو)، وبعضهم الآخر من أصل هندو-أوروبي، مثل شوارداتا ولابايو. وهذا يدل على الأصول المختلفة لجماعات العابيرو وعدم انتمائها إلى منشأ إثني عرقي واحد. إن الدراسة المتأنية لرسائل تل العمارنة تدل على أن العابيرو كانوا أشتاتا من الشرائح التي تعيش على هامش المجتمع، ولا تمارس دورا محددا في النشاط الاقتصادي لدويلات المدن المحلية. فقد تقدم خدمات عرضية لأهل المدن أو لأهل المناطق الزراعية، وقد تتحد في عصابات تمارس النهب والسرقة، أو تعمل جنودا مرتزقة في خدمة الملوك، شأنها في ذلك كله شأن الخابيرو، الذين تعرفنا عليهم من خلال سجلات ثقافة البرونز الوسيط في مملكة ماري وغيرها. وفي الحقيقة، فإن كلمة عابيرو هي المعادل في اللغة السامية الغربية لكلمة خابيرو في السامية الشرقية (الأكادية)؛ ذلك أن حرف العين في الكتابة الأكادية قد سقط من الاستعمال منذ زمن بعيد وحل محله حرف الخاء.
لقد حاول بعض الباحثين إيجاد صلة بين كلمة عابيرو وكلمة عبريم التوراتية التي تعني: عبراني، فاشتقوا الكلمتين من الجذر «ع ب ر» في اللغة السامية الغربية، والذي يعني: مر أو عبر، وذلك في محاولة لاختراع أصل في فلسطين لجماعات العبرانيين الذين استولوا على أرض كنعان حسب رواية سفر يشوع. ويعتقد أولبرايت، الذي يؤيد هذا الرأي، أن جماعة سفر الخروج من العبرانيين قد التقت في منطقة فلسطين الشرقية بالعابيرو القدماء، الذين بقوا في هذه المنطقة منذ فترة تل العمارنة، وتمازجت معهم عبر فترة من الزمن قبل أن يبدأ الهجوم العبراني الكاسح على دويلات المدن الفلسطينية.
6
أما الباحث لامكه
Lemche ، الذي يضع كامل أحداث الخروج خارج الإطار التاريخي، ويعتقد بالأصل المحلي للإسرائيليين، فيجد بأن عابيرو رسائل تل العمارنة قد لجئوا إلى المناطق الهضبية من فلسطين بعد إخفاق عملياتهم العسكرية، وتمازجوا تدريجيا مشكلين شعب إسرائيل.
7
ولكن الاتجاهات الجديدة في البحث تميل إلى نفي وجود صلة بين عابيرو القرن الرابع عشر في فلسطين، وعبريم التوراة. فالباحث لوريتس
Lorets
على سبيل المثال، وهو من أهم نقاد هذه الفرضية، يرى أنه بصرف النظر عن وجود صلة بين كلمتي عابيرو وعبريم المختلفتين تماما، فإنه لا يوجد لدينا أي دليل تاريخي يدعو إلى الربط بين هذا النوع من المقارنات اللغوية وبين مسألة أصول إسرائيل. والمسألة هنا لا تتعلق فقط بالفجوة الزمنية بين عصر العابيرو والفترة المفترضة لدخول الإسرائيليين، بل بمدى التحولات الاجتماعية المتضمنة في الفترة الفاصلة بين عصر العابيرو وعصر تدوين التوراة. وعلى فرض وجود صلة لغوية بين عابيرو وعبريم، وهي صلة غير مؤكدة على الإطلاق، فإن ذلك لا يعدو أن يكون نوعا من التشابه الذي لا يتضمن أية وقائع تاريخية. وذلك إضافة إلى معلوماتنا الجديدة عن المناطق الهضبية في فلسطين، والتي كانت خالية من السكان خلال العصر الانتقالي من البرونز الأخير إلى عصر الحديد، ولم يكن فيها لا عابيرو ولا عبرانيون.
8
انتهى عصر البرونز الأخير بكارثة مناخية واقتصادية شاملة، كما أشرنا منذ قليل، وانهارت ممالك ذلك العصر من بحر إيجة إلى الأناضول هبوطا نحو الساحل السوري وفلسطين. فقد ضربت المجاعة أنحاء المملكة الحثية جميعها في أواخر القرن الثالث عشر، وأرسل الملك الحثي يطلب شحنة قمح من أوغاريت. ولم تلبث المملكة طويلا حتى تفككت، وراح سكانها يبحثون عن مناطق جديدة تعيلهم في كل حدب وصوب، ثم تبعتها أوغاريت التي لم تصمد طويلا حتى انهارت تماما حوالي عام 1182ق.م. ويبدو أن شعوب البحر الذين أخلوا مناطقهم في اليونان وجزر بحر إيجة، وحط فريق منهم على الشواطئ الحثية؛ كانوا يسيرون في أرض محروقة خلت من السكان والزرع والضرع. ولعل الشيء نفسه ينطبق على أوغاريت التي يرجح بعض الباحثين اليوم أنها لم تسقط بيد شعوب البحر، وإنما هجرها سكانها بعد أن ضربتها الزلازل، ولم تكن البنية الاقتصادية للمدينة تسمح بإعادة بنائها. وتسير هذه الفرضية إلى القول بأن معظم المدن التي دمرت خلال هذه الفترة كانت في حالة انهيار اقتصادي كامل أدى إلى إطلاق رصاصة الرحمة عليها بوسائل شتى. من هنا، فإن النظرية القديمة، التي تعزو دمار ثقافة عصر البرونز الأخير إلى الجماعات المدعوة بشعوب البحر، لم تعد بالنظرية المفضلة الآن. ولكن من هم بالضبط شعوب البحر الذين كتبوا الفصل الأخير في مسلسل انهيارات ثقافة البرونز الوسيط؟
بعد انهيار الحضارة المسينية في كريت وجزر بحر إيجة بتأثير الكارثة المناخية، والغزوات العسكرية التي أجهزت عليها؛ تم اقتلاع جزء كبير من سكان هذه المناطق وتشتيتهم في الأصقاع المجاورة. ويبدو أن ضغط البرابرة على اليونان وجزر بحر إيجة، قد أدى إلى سلسلة من تحركات الشعوب بحثا عن مناطق جديدة للاستقرار، بعيدا عن عالم تم تهديمه تماما. وقد وصلت طلائع هذه الفئات الهائمة - التي ترتحل مع خيامها وأسرها ومتاعها المنزلي - إلى شمال أفريقيا، وتعاونت مع الليبيين الذين كانوا يتربصون منذ زمن طويل للانقضاض على مصر، فتقدم هذا التحالف المؤقت نحو الدلتا في محاولة للاستقرار فيها. ولكن الفرعون مرنفتاح تصدى لهم بقوة، وردهم عن حدود مصر البرية والبحرية في معركة فاصلة جرت حوالي عام 1220ق.م. وفي الوقت نفسه تقدمت جماعات متحدة أخرى من شعوب البحر هؤلاء، منطلقة من نقطة ما من الأرخبيل الإيجي، وحطت على شواطئ آسيا الصغرى مخترقة أراضي المملكة الحثية المخربة وشبه المهجورة، مستولية على ما يمكن الاستيلاء عليه مما أبقت عليه المجاعة التي توطنت في تلك المناطق. ثم تابعت طريقها هبوطا نحو بلاد الشام مهدمة أو مستولية على المدن التي صمدت أمام الكارثة المناخية، وأخذت الطريق الساحلي نحو فلسطين حيث أشاعت الفوضى والدمار في ممالك المدن الكنعانية، وهدفها الأخير مصر، أسمن الطرائد في ذلك العصر. ولكن خليفة مرنفتاح الفرعون رمسيس الثالث تصدى لهم في جنوب فلسطين، وقضى عليهم نهائيا كجماعة عسكرية موحدة، فتفرقوا في المنطقة وذابوا تدريجيا في تركيبها السكاني. ويبدو من الوثائق المصرية أن فريقا منهم، وهو الذي يدعى البيليست، قد توطن في ساحل فلسطين الجنوبي، وهي المنطقة التي تدعوها الأسفار التوراتية بأرض الفلسطينيين، وتدعوها الوثائق الآشورية بفلستيا.
غير أن هؤلاء المستوطنين على الساحل الفلسطيني لم يحافظوا على تكوين عرقي وثقافي مدة طويلة. ذلك أن دراسة المخلفات المادية لثقافة هذه المنطقة منذ مطلع عصر الحديد
9
تظهر أن الخزفيات القريبة من نمط بحر إيجة تنتشر لفترة قصيرة مع مطلع القرن الثاني عشر قبل الميلاد، ثم تختفي تدريجيا لتحل محلها خزفيات تنتمي إلى أنماط محلية واضحة. كما تظهر نقوش كتابية مينوية (كريتية) متفرقة على الأختام، ثم تختفي لتحل محلها النقوش الكنعانية. وفيما عدا ذلك، فإن جميع الآثار المادية للمنطقة المدعوة بفلستيا تعكس طابعا محليا واضحا في كل مجال من مجالات الحياة، من الأنماط المعمارية إلى المعتقدات والممارسات الدينية التي تركزت حول آلهة كنعانية قديمة، مثل داجون وعشتاروت. وهذا يعني أن المدن الفلسطينية الخمسة الموصوفة في النصوص الآشورية خلال النصف الأول من الألف الأول قبل الميلاد، وفي النصوص التوراتية من أواسط الألف الأول قبل الميلاد؛ لم تكن إلا مدنا كنعانية قلبا وقالبا. وإن عقد الصلة بين بيليست شعوب البحر ممن تسرب بعضهم إلى المنطقة مع مطلع القرن الثاني عشر، وفلسطينيي النصوص الآشورية والتوراتية، باعتبار هؤلاء استمرارا إثنيا وثقافيا لأولئك؛ لا يقوم على أساس تاريخي صلب.
هذه هي الصورة العامة للمسرح الذي اقتحم عليه يشوع بن نون بقبائله العبرانية، ووزع أرض كنعان على تلك القبائل وفق الرواية التوراتية. فإلى أي حد تنطبق أحداث سفر يشوع وسفر القضاة من بعده على هذه الصورة؟ (2) النظرية التوراتية الأولى
يشوع والاقتحام العسكري لكنعان
يقدم لنا محررو التوراة نظريتين متناقضتين لتفسير أصول القبائل الإسرائيلية في كنعان؛ نظرية الاقتحام العسكري الصاعق عبر نهر الأردن، والتي تقوم على أساس أحداث سفر يشوع، ونظرية التسلل السلمي التدريجي، التي تقوم على أساس أحداث سفر القضاة. وهذان السفران متناقضان في تفاصيلهما جميعها إلى درجة تدفع إلى القول بأن محرر سفر القضاة لم يقرأ أو يطلع على سفر يشوع، وأن القائمين على عملية الصياغة الأخيرة للنص التوراتي لم يكونوا في موقف يساعدهم على تفضيل إحدى النظريتين على الأخرى، فوضعوهما جنبا إلى جنب، ربما في انتظار صياغة نهائية للنص لم تر النور حتى الآن. وسنتفرغ فيما يلي لسفر يشوع.
بعد موت موسى أمر الرب يشوع بن نون - وكان الذراع العسكري الأيمن لموسى - أن يستلم زمام القيادة قائلا: «موسى عبدي قد مات. فالآن قم اعبر هذا الأردن أنت وكل الشعب إلى الأرض التي أنا معطيها لبني إسرائيل. كل موضع تدوسه بطون أقدامكم لكم أعطيته كما كلمت موسى ... فأمر يشوع عرفاء الشعب قائلا: جوزوا في وسط المحلة ومروا الشعب قائلين: هيئوا لأنفسكم زادا؛ لأنكم بعد ثلاثة أيام تعبرون الأردن هذا، لكي تدخلوا فتمتلكوا الأرض التي يعطيكم الرب» (يشوع، 1: 1-11). وعندما حل الموعد المضروب، وتقدم يشوع بقواته لعبور الأردن، وأمامهم تابوت العهد، انفلقت مياه النهر أمامهم في معجزة إلهية ثانية كمعجزة بحر سوف، وعبروا على اليابسة، ثم عاد الماء سيرته الأولى.
فلسطين في عصر الحديد.
خيم يشوع في موقع الجلجال في تخم مدينة أريحا الشرقي، وخاطب الشعب قائلا: «غدا تعلمون بنيكم قائلين: على اليابسة عبر إسرائيل هذا الأردن، لأن الرب إلهكم قد يبس مياه الأردن أمامكم حتى عبرتم، كما فعل الرب إلهكم ببحر سوف الذي يبسه من أمامنا حتى عبرنا. لكي تعلم جميع شعوب الأرض يد الرب أنها قوية» ... «فحل بنو إسرائيل في الجلجال، وعملوا الفصح في اليوم الرابع عشر من الشهر مساء في عربات أريحا، وأكلوا من غلة الأرض في الغد بعد الفصح فطيرا وفريكا. وانقطع المن في الغد عند أكلهم من غلة الأرض، ولم يكن بعد لبني إسرائيل من» (يشوع، 3-5).
لم يدم حصار مدينة أريحا المنيعة أكثر من سبعة أيام؛ لأن الرب أظهر في أريحا معجزة أخرى. لقد أمر الرب يشوع أن يدور بجنوده حول أسوار المدينة في كل يوم مرة، وفي اليوم السابع لدى إتمامهم سبع دورات، يقوم حملة الأبواق بالنفخ فيها بصوت عظيم، يتبعهم الشعب جميعه بهتافات مدوية، فيسقط سور المدينة من تلقاء ذاته، وتكون المدينة وكل ما فيها محرما للرب. والتحريم بالمصطلح التوراتي هو تقديم سكان المدينة المغلوبة قربانا للرب مع مواشيهم وكل نفس حية من ممتلكاتهم. أما الممتلكات المادية الثمينة، كأواني الفضة والنحاس والذهب، فتكون قدسا للرب، وتدخل في خزانة الرب. فعل يشوع ما أمره الرب، وسقطت أسوار أريحا من تلقاء ذاتها، فدخل يشوع وجنوده وأبادوا أهل المدينة عن بكرة أبيهم مع حيواناتهم ومواشيهم، ثم نهبت المدينة وأحرقت بالنار (يشوع، 6). ومن أريحا يتجه يشوع نحو مدينة عاي القريبة منها، ولكنه يهزم هزيمة منكرة: «فضرب منهم أهل عاي نحو ستة وثلاثين رجلا، ولحقوا بهم وضربوهم في المنحدر. فذاب قلب الشعب وصار مثل الماء. فمزق يشوع ثيابه وسقط على وجهه إلى الأرض أمام تابوت الرب إلى المساء، هو وشيوخ إسرائيل، ووضعوا ترابا على رءوسهم.» عند ذلك يخبر الرب يشوع عن سبب هزيمتهم، ونعرف أن واحدا من رجال إسرائيل قد احتفظ لنفسه بثوب وبعض الأمتعة النفيسة في أريحا، مخالفا بذلك أمر التحريم. فيؤخذ المذنب مع بنيه وبناته وبقره وحميره وغنمه وخيمته فيرجمون جميعا ثم يحرقون بالنار، حتى يرجع غضب الرب عن إسرائيل. وعندما شن يشوع حملته الثانية على مدينة عاي أخذها وقتل سكانها جميعا، وجعلها «تلا خرابا أبديا إلى هذا اليوم.» ولكن البهائم نهبها إسرائيل لأنفسهم حسب قول الرب الذي أمر به يشوع (يشوع، 7-8).
ولما سمع سكان جبعون القريبة من أريحا نحو الشرق، خافوا من مواجهة إسرائيل، وصعد وفد منهم بخدعة إلى يشوع وقد ارتدوا أسمالا بالية ونعالا ممزقة، وفي أكياس زادهم خبز يابس قد صار فتاتا، وطلبوا الأمان لمدينتهم منه قائلين إن مدينتهم بعيدة جدا وفقيرة ، وها هي ثيابهم قد بليت، ونعالهم قد تشققت من طول المسافة، وزادهم من الخبز قد تفتت ويبس في الطريق. فقطع لهم يشوع ورؤساء جماعته عهدا بعدم الاعتداء عليهم. وبعد سفرهم عرف يشوع أن المدينة قريبة وميسورة الحال، ولكنه بقي على العهد الذي قطعه لهم، وأمر بتسخيرهم لخدمة إسرائيل، وجعل منهم محتطبي حطب ومستقي ماء للجماعة ولمذبح الرب (يشوع، 9). «فاجتمع ملوك الآموريين الخمسة؛ ملك أورشليم، وملك حبرون، وملك يرموت، وملك لخيش، وملك عجلون، وصعدوا هم وكل جيوشهم، ونزلوا على جبعون وحاربوها. فأرسل أهل جبعون إلى يشوع إلى المحلة في الجلجال يقولون: لا ترخ يديك عن عبيدك. اصعد إلينا عاجلا وخلصنا ... فصعد يشوع من الجلجال ورجال الحرب جميعهم معه وكل جبابرة البأس. فقال الرب ليشوع: لا تخفهم، لأني بيدك قد أسلمتهم، لا يقف رجل واحد منهم بوجهك. فأتى إليهم يشوع بغتة، صعد الليل كله من الجلجال، فأزعجهم الرب أمام إسرائيل، وضربهم ضربة عظيمة في جبعون. وبينما هم هاربون من أمام إسرائيل وهم في منحدر بيت حورون رماهم الرب بحجارة عظيمة من السماء ... حينئذ كلم يشوع الرب وقال أمام عيون إسرائيل: يا شمس دومي على جبعون، ويا قمر على وادي أيلون، فدامت الشمس ووقف القمر حتى انتقم الشعب من أعدائه» ... أما الملوك الخمسة، فقد قبض عليهم يشوع وقتلهم وعلقهم على أعمدة من خشب. بعد ذلك يتابع يشوع مسيرته جنوبا ويستولي على المدن التالية: مقيدة، لبنة، لخيش، جازر، عجلون، حبرون، دبير، وصولا إلى غزة على الساحل، ثم ينعطف نحو الصحراء ليصل إلى قادش برنيع، دون أي ذكر لمدينة أورشليم، التي كانت رأس تحالف الملوك الخمسة. بعد ذلك يقفل عائدا إلى مخيمه في الجلجال قرب أريحا (يشوع، 10).
وكانت حاصور درة مدن الشمال وأقواها. فجمع ملكها المدعو يابين إليه ملوك الشمال «فخرجوا هم وكل جيوشهم معهم، شعبا غفيرا كالرمل الذي على شاطئ البحر في الكثرة، بخيل ومركبات كثيرة جدا. فاجتمع هؤلاء الملوك بميعاد، وجاءوا ونزلوا معا على مياه ميروم لكي يحاربوا إسرائيل ... فدفعهم الرب بيد إسرائيل فضربوهم وطاردوهم ... ثم رجع يشوع في ذلك الوقت وأخذ حاصور وضرب ملكها بالسيف، وضربوا كل نفس بها بحد السيف، حرموهم، لم تبق نسمة، وأحرق حاصور بالنار. فأخذ يشوع كل مدن أولئك الملوك وجميع ملوكها وضربهم بحد السيف، حرمهم كما أمر موسى عبد الرب. وكل غنيمة تلك المدن والبهائم نهبها بنو إسرائيل لأنفسهم ... فأخذ يشوع كل الأرض حسب ما كلم به الرب موسى، وأعطاها يشوع ملكا لإسرائيل حسب فرقهم وأسباطهم، واستراحت الأرض من الحرب» (يشوع، 11).
بعد ذلك لا يبقى أمام يشوع سوى الانشغال بكيفية توزيع أرض كنعان على الأسباط، ورسم الحدود الدقيقة لأراضي كل سبط. وهذا ما تفصله بقية إصحاحات سفر يشوع من 12 إلى 24، ثم يموت يشوع وعمره مائة وعشر سنين.
النقد النصي لسفر يشوع
يستمر في سفر يشوع أسلوب السرد الملحمي الممزوج بعناصر قصصية خرافية. فعبور نهر الأردن يتم بعد انفلاق الماء أمام الإسرائيليين، وسور أريحا يسقط من تلقاء ذاته على صوت الأبواق والهتافات العالية، والسماء تمطر حجارة ثقيلة على الجيوش الخمسة وتقتل منهم أكثر مما قتله الجنود، والشمس تقف في كبد السماء ولا تعجل للغروب حتى يطول النهار ويسمح بانتصار الإسرائيليين. ثم يعمد المحرر فوق ذلك إلى تلوين روايته بعناصر من القصص الشعبي. فقبل الهجوم على أريحا يبعث يشوع برجلين من عنده للتجسس على المدينة، فذهبا ودخلا بيت امرأة زانية اسمها راحاب، واضطجعا هناك، فعرف ملك أريحا بأمر الجاسوسين وبمكان إقامتهما، فأرسل إلى راحاب يعلمها بأن الرجلين من الجواسيس ويطالبها بتسليمهما، ولكن المرأة خبأتهما على سطح بيتها بين عيدان الكتان، وقالت لرسل الملك بأنهما غادرا قبل إغلاق بوابات المدينة مساء، فلحقوا بهما في طريق الأردن إلى المخاوض. ثم أنزلت الرجلين وقالت لهما: «علمت أن الرب قد أعطاكم الأرض، وأن رعبكم قد وقع علينا، وأن جميع سكان الأرض قد ذابوا من أجلكم ... فالآن احلفا لي بالرب وأعطياني علامة أمانة - لأني عملت معكما معروفا - بأن تعملا أنتما أيضا مع بيت أبي معروفا وتخلصا أنفسنا من الموت.» فوعدها الرجلان خيرا وانطلقا إلى المعسكر. وحين استباح يشوع المدينة لم يبق فيها إلا على راحاب وعائلتها بسبب المعروف الذي صنعته لهم. وتعتمد قصة الصلح مع مدينة جبعون على عناصر التشويق والفكاهة الضمنية المعروفة في حكايا الشطار والعيارين. فالقائد العسكري المهيب ينخدع بحيلة رسل أهل جبعون، ويصدق قصتهم عن مدينتهم البعيدة والفقيرة جدا، ويعطيهم الأمان، ليعرف بعد قليل أن جبعون لا تبعد أكثر من بضعة أميال عن أريحا. وبالطبع فإن مثل هذه الحيلة لا يمكن أن تنطلي على قائد محنك عمل مسبقا على دراسة مسرح عملياته القتالية، وجمع المعلومات الكافية عن مدن العدو وقلاعه وحصونه وطبيعة أرضه. هذا إذا أخذنا بعين الاعتبار أن مصادر معلومات يشوع لم تكن وقفا على الزانيات الخائنات.
قد تبدو الاستراتيجية العسكرية التي اتبعها يشوع مقنعة أحيانا، ويقترب النص التوراتي في سردها مما يشبه التاريخ، غير أن تدخل العناصر اللاهوتية والملحمية ما يلبث أن يعيد عملية السرد إلى نهجها الخيالي الذي التزمته، رغم اجتماع عناصر الحادثة التاريخية أمام المحرر. فالهجوم الأول على مدينة عاي يفشل لأن جنديا سرق بعض المتاع من أريحا، التي أمر الرب أن يكون كل ما فيها له. ولا يفلح الإسرائيليون في هجومهم الثاني إلا بعد تقديم المذنب أمام الرب ورجمه حتى الموت مع أفراد عائلته جميعهم. وفي قصة لقاء يشوع مع ملك حاصور يبدأ المحرر في تجميع العناصر المنطقية لقصته، حين يأخذ يابين ملك حاصور بجمع ملوك الشمال الخمسة من أجل الوقوف في وجه يشوع العائد منتصرا من الجنوب، إلا أن القصة ما تلبث حتى تتخذ المسار الملحمي المعهود، فنجد أن المجتمعين عند مياه ميروم للقاء يشوع ليسوا ملوك التجمع الشمالي فقط، بل ملوك من شتى أنحاء فلسطين؛ من اليبوسيين في الجنوب إلى الحويين عند سفوح جبل الحرمون، فصار أعداء إسرائيل مثل الرمل الذي على شاطئ البحر، على حد قول النص. وبذلك غلبت الحبكة الملحمية على الحبكة التاريخية بشكل مقصود ومتعمد. وفيما يتعلق بمدينة أورشليم، فإن وضعها قد بقي غامضا في استراتيجية يشوع، فقد قتل يشوع ملكها الذي كان رأس تحالف ملوك الجنوب الخمسة، ولكنه لم يعرج على المدينة في طريقه نحو الجنوب، بل تابع حملته جنوبا وصولا إلى غزة، ثم عاد إلى مقره في الشمال دون أي ذكر لأورشليم. وعندما يأتي النص على ذكر توزيع الأراضي المكتسبة على الأسباط يقول بشأن أورشليم: «وأما اليبوسيون الساكنون في أورشليم فلم يقدر بنو يهوذا على طردهم، فسكن اليبوسيون مع بني يهوذا في أورشليم إلى هذا اليوم» (يشوع، 15: 63).
وفي الحقيقة، فإن عملية توزيع الأراضي المكتسبة في كنعان على القبائل الإسرائيلية تظهر بوضوح أن حملات يشوع العسكرية لم تكن حاسمة، وأن العديد من المدن التي ذكر النص سابقا عن تدميرها وإبادة سكانها ما تزال قائمة وسكانها أقوياء، وأن الإسرائيليين عاجزون عن طردهم والحلول محلهم. فعن مدينة جازر مثلا نقرأ في حكاية الحملة العسكرية الجنوبية ليشوع: «حينئذ صعد هورام ملك جازر لإعانة الجيش، فضربه يشوع مع شعبه ولم يبق له شاردا» (يشوع، 10: 33). ثم نقرأ عن جازر بعد ذلك أن سبط أفرايم «لم يطردوا الكنعانيين الساكنين في جازر، فسكن الكنعانيون في وسط أفرايم إلى هذا اليوم» (يشوع، 16: 10). وبخصوص مدن وادي يزرعيل (مرج ابن عامر)، التي تعد من أقوى المدن الفلسطينية وأغناها، نعرف أن سبط منسي، الذي أعطي هذه المناطق، لم يقدر على امتلاكها، بينها بيت شان وتعنك ومجدو: «ولم يقدر بنو منسي أن يملكوا هذه المدن، فعزم الكنعانيون على السكن في تلك الأرض» (يشوع، 17: 12). وهم يشتكون إلى يشوع خوفهم من سكان هذه المناطق لأنهم أقوياء ولديهم مركبات من حديد: «فقال بنو يوسف (أفرايم ومنسي): لا يكفينا الجبل، ولجميع الكنعانيين الساكنين في أرض الوادي مركبات من حديد؛ للذين في بيت شان وقراها وللذين في وادي يزرعيل» (يشوع، 17: 16). ولسوف نرى بعد قليل في سفر القضاة أن يشوع لم يكتسب من الأرض شيئا في كنعان، بل قام بتوزيعها نظريا على الأسباط، تاركا كل سبط يعمل على اكتساب نصيبه بنفسه وعلى طريقته الخاصة.
وتنم بعض تفاصيل سفر يشوع عن وجود شكل أقدم لقصة الخروج، يجعل جماعة موسى تنطلق من قادش برنيع أو من مكان ما آخر في سيناء، مباشرة نحو كنعان دون وقفة مطولة في شرقي الأردن، وأن هذا الشكل الأقدم هو الذي استند إليه محرر سفر يشوع. فبعد عبور يشوع للأردن وحلوله في الجلجال يحتفل بنو إسرائيل بالفصح، ويأكلون من غلة الأرض لأول مرة بعد خروجهم من مصر، وينقطع عنهم المن الذي كان غذاء لهم طيلة فترة الخروج: «وانقطع عنهم المن عند أكلهم من غلة الأرض، ولم يكن بعد لبني إسرائيل من» (يشوع، 5-12). ولما كنا نعرف من سفر العدد والتثنية أن جماعة موسى قد استولوا على مناطق واسعة بمدنها وقراها في شرقي الأردن، وأقاموا فيها فترة لا بأس بها، وصارت لهم مواش كثيرة (التثنية، 13)، فإننا نعجب كيف استمر طعامهم مقتصرا على المن الذي تجود به السماء كل تلك السنين التي قضوها في قادش برنيع وفي شرقي الأردن، من دون اللحم وغلة الأرض. ولا ندري ماذا فعل هؤلاء مثلا بالألوف المؤلفة التي غنموها من أعدائهم من رءوس الغنم والبقر، مما نقرأ عنه في سفر العدد (31: 31-34): «وكان النهب - فضلة الغنيمة التي اغتنمها رجال الجند: من الغنم ستمائة وخمسة وسبعين ألفا، ومن البقر اثنين وسبعين ألفا، ومن الحمير واحدا وستين الفا.» على أن النص يخبرنا في أكثر من موضع أنهم كانوا يأكلون اللحم من دون من السماء. ففي العدد (25: 1-2) نقرأ: «وأقام إسرائيل في شطيم، وابتدءوا يزنون مع بنات موآب. فدعون الشعب إلى ذبائح آلهتهن، فأكل الشعب وسجدوا لآلهتهن.»
وباختصار، فإن النقد النصي لسفر يشوع يظهر أمام أعيننا أن هذا السفر في شكله وفي مضمونه ليس نصا تاريخيا بأي معيار، ولم يكن يطمح لأن يكون كذلك. وليس الإقناع الذي يمارسه السفر على قارئه لأول وهلة إلا نتاجا لحيوية الأسلوب، وتتابع الأحداث دون فواصل أو انقطاعات وفجوات، وفوق ذلك كله اعتماد المحرر على جغرافية واقعية للحدث.
النقد التاريخي والأركيولوجي لسفر يشوع
يتفق معظم المؤرخين على وضع تاريخ لأحداث سفر يشوع لا يتجاوز عام 1200ق.م. إلا أن مقارنة أحداث سفر يشوع مع أحداث هذه الفترة الانتقالية من عصر البرونز الأخير إلى عصر الحديد، والأوضاع العامة السائدة في الشرق الأدنى القديم؛ لا تقدم لنا نقطة ارتكاز واحدة يمكن عندها تثبيت الإطار التاريخي ليشوع على الخلفية العامة لهذه الفترة، التي كانت تموج بالأحداث الجسيمة التي قادت إلى نهاية ثقافة بكاملها وابتداء ثقافة جديدة. فالفلستيون غير مذكورين بتاتا، ناهيك عن بقية شعوب البحر الذين يفترض تواجدهم بكثرة في فلسطين استعدادا لغزو مصر. ولا يوجد ذكر للفرعون مرنفتاح (1212-1200ق.م.) الذي هزم تحالف الليبيين مع شعوب البحر، وردهم عن حدود مصر الغربية، ثم شن بعد ذلك حملة على فلسطين حوالي عام 1207 أو 1208ق.م. كما لا يوجد ذكر للفرعون رمسيس الثالث، الذي قضى في عام 1191ق.م. على هجوم شعوب البحر الذين انطلقوا من فلسطين، ثم تعقبهم حتى بيت شان في الشمال حيث نصب لنفسه تمثالا عثر عليه في أنقاض المدينة إلى جانب نص مصري يصف الحملة. وفيما عدا تلك الممالك الصغيرة في شرقي الأردن، والتي أثبتنا في نقدنا لرواية الخروج أنها لم تكن موجودة، فإن النص لا يحفل بذكر أي مدينة أو مملكة معروفة لدينا من تلك المدن الكبيرة والممالك المجاورة لفلسطين. كل هذا يؤكد أن محرري سفر يشوع كانوا يصوغون قصة بدون إطار تاريخي، ولم يكن بين أيديهم معلومات واضحة عن تلك الفترة التي اختاروها لأحداثهم، أو التي اختارها لهم المؤرخون المحدثون.
وتبدو الشواهد الآثارية أكثر تخييبا للآمال، فعلم الآثار لم يستطع تقديم بينة واحدة من الفترة الانتقالية بين البرونز الأخير وعصر الحديد، تدل على حلول أقوام جديدة في فلسطين، حملت معها ثقافة مغايرة للثقافة الكنعانية السائدة. والمواقع التي أعيد بناؤها بعد تهديمها، سواء بالغزو أم بوسائط أخرى، قد بنيت بيد السكان المحليين، ودون أن تظهر في مواقعها آثار انقطاع حضاري أو تأثيرات خارجية.
10
أما عن المدن التي ادعى سفر يشوع تخريبها وإحراقها بالنار، وخصوصا أريحا وعاي وحاصور، فإن التنقيب الأثري قد أخفق حتى الآن في تقديم الدلائل على تاريخية الرواية التوراتية.
فيما يتعلق بأريحا، أثبتت نتائج التنقيب الأثري (الذي ابتدأ في الموقع منذ عام 1876، واستمر بشكل متقطع حتى ستينيات القرن العشرين) أن المدينة قد دمرت في عصر البرونز الوسيط حوالي عام 1560ق.م. ولم يعد بناؤها كمدينة مسورة خلال عصر البرونز الأخير، رغم العثور على كسرات فخارية بين جملة دلائل أخرى تشير إلى قيام سكن عرضي فوق التل خلال البرونز الأخير. وهذه الدلائل تتوقف مع نهاية القرن الرابع عشر، ويخلو الموقع تماما من دلائل الحياة. وهذا يعني أن آثار السكن قد توقفت تماما قبل قرن كامل من التاريخ المفترض لهجوم يشوع على أريحا، وأن الأسوار التي سقطت من تلقاء نفسها بمعجزة من الرب كانت قد تهدمت قبل ذلك بأكثر من ثلاثة قرون. وفيما يتعلق بمدينة عاي، التي تم التعرف عليها في الموقع المعروف اليوم باسم «التل» بعد خمسة عشر كيلو مترا من القدس، فقد أثبتت نتائج التنقيب الأثري في الموقع على أن هذه المدينة كانت مزدهرة خلال عصر البرونز المبكر، ثم هجرت تماما خلال عصر البرونز الوسيط وعصر البرونز الأخير، أي قبل الوصول المفترض للإسرائيليين بحوالي ألف سنة. أما فيما يتعلق بمدينة حاصور، التي تم التعرف عليها إلى الجنوب من بحيرة الحولة، فقد كشف المنقبون عن آثار دمار كامل للمدينة يعود إلى أواخر البرونز الأخير. ولكن بينما يرجع عالم الآثار الإسرائيلي إيجال يادين هذا الدمار إلى حوالي عام 1230ق.م. فإن المنقب الإسرائيلي الآخر موشي كوشافي يرى أن آثار هذا الدمار لا يمكن أن تعود إلى ما بعد 1275ق.م.، وهو الرأي الذي تدعمه المنقبة كاثلين كينيون ومعظم علماء الآثار في فلسطين. وهذا يعني أننا ما زلنا خارج الفترة المفترضة لدخول الإسرائيليين.
11
وتدل التنقيبات في موقع مدينة جبعون - التي صالحت يشوع وجرت عندها المعركة الكبرى بين يشوع والتحالف الجنوبي بقيادة أدوني صادق ملك أورشليم - على أن المدينة لم تكن قائمة خلال القرن الثالث عشر بكامله. وكذلك الأمر في مواقع المدن التابعة لها والمذكورة في يشوع (9: 17)، مثل الكفيرة، التي يغلب أن تكون في موقع خربة كفر، حيث لم يعثر المنقبون على آثار سكنية تعود إلى ما قبل القرن الثاني عشر. فإذا تتبعنا مسار حملة يشوع نحو الجنوب عبر مدن مقيدة ولبنة ولخيش وعجلون وحبرون ودبير وجازر؛ لعثرنا على آثار دمار في بعض هذه المواقع، مثل لخيش (تل الدوير)، ودبير (تل بيت مرسمي)، تعود إلى حوالي عام 1230ق.م.، أي إلى تاريخ قريب من التاريخ المفترض لوصول الإسرائيليين. ورغم أن المؤيدين لنظرية الاقتحام العسكري لأرض كنعان يعزون هذا الدمار إلى حملة يشوع، إلا أن المرجح والمتفق مع معلوماتنا التاريخية هو أن دمار هذه المدن الجنوبية في فلسطين خلال أواخر القرن الثالث عشر متعدد الأسباب، ولا نستطيع في الوضع الحالي لمعلوماتنا ترجيح واحد من هذه الأسباب على الآخر، لأن الغزاة عادة لا يتركون وراءهم بطاقة زيارة تفصح عن هويتهم. فقد يكون المسئول عن ذلك الفرعون رمسيس الثاني في آخر حملة له على فلسطين، أو أن يكون المسئول عن ذلك خليفته مرنفتاح، أو شعوب البحر ممن كانت تعج بهم المنطقة في ذلك الوقت.
12
وكخلاصة في مسألة تاريخية سفر يشوع أسوق إلى القارئ هذا التقييم الأخير للوقائع المتعلقة بالموضوع، الذي أورده في دراسة جديدة له المنقب جوزيف كالووي
J. Callaway
صاحب الباع الطويل في عمليات عديدة في فلسطين خلال ربع القرن الماضي. يقول كالووي: «بعد استعراض الوثائق الأركيولوجية جميعها من المواقع الفلسطينية المذكورة في سفر يشوع، هل يمكن القول بأن الغزاة الإسرائيليين قد استولوا على المناطق الهضبية والجليل عبر معارك عسكرية خاطفة، مما يرويه سفر يشوع من الإصحاح الأول إلى الإصحاح الثاني عشر؟ إن البينات الأركيولوجية غير مقنعة، وتتعارض في معظمها مع الرواية التوراتية، وإلى درجة لا يستطيع معها أنصار نظرية الفتح العسكري، من أمثال إيجال يادين، إقناعنا بها إلا بواسطة الإيمان الأعمى ... إن النص التوراتي عن الفتح العسكري قد أخذ شكله الذي وصل إلينا بعد فترة طويلة من استقرار الإسرائيليين في الأرض. وهذا الشكل يمكن وصفه بالتاريخ الوعظي أو التبشيري، مما يلائم القائمين على الصياغة خلال عصر المملكة . ولتحقيق هذه الغاية، فإن المحررين قد اختاروا مقتطفات متفرقة من مصادر وصلت إليهم، وصاغوا منها قصة عن بدايات إسرائيل، وذلك من وجهة نظر لاهوتية.»
13
وبذلك تكون دراستنا للأسفار الخمسة ولسفر يشوع قد أوصلتنا إلى نتيجة واحدة أساسية، وهي أن نهاية عصر البرونز، وبشكل خاص العقود الأخيرة من القرن الثالث عشر، لم تشهد وصول جماعة موحدة اسمها إسرائيل إلى أرض كنعان، ولا إلى أرض شرقي الأردن. ولسوف نرى فيما بعد أن الاسم «إسرائيل»، كدلالة على جماعة مميزة ذات كيان، لم يظهر في التاريخ إلا بعد ذلك بعدة قرون من الزمان، وذلك عقب بناء مدينة السامرة، وتشكيل دولة إسرائيل المعروفة تاريخيا في منطقة الهضاب المركزية لفلسطين، مع بدايات القرن التاسع قبل الميلاد. ولكن ماذا عن نصب الفرعون مرنفتاح الذي يتحدث عن حملته على جنوب سوريا، ويذكر الاسم «إسرائيل» في عداد من قهرهم الفرعون! علما بأن هذه هي الإشارة الأولى والأخيرة التي تتضمن الاسم «إسرائيل» في أي نص مصري. يقول نصب مرنفتاح في الموضع الذي يذكر فيه إسرائيل ما ترجمته:
انطرح الأمراء على الأرض صارخين: السلام
لا ترى رأسا بين الساجدين التسعة
حيث ليبيا صارت خرابا، وحاتي هدأت خلف حدودها.
أما كنعان فقد آلت إلى كل محنة وبلية؛
فأشقلون قد انهارت
وغزة قد محيت من الوجود.
إسرائيل صار خرابا وقطع دابره.
حورو صارت أرملة أمام هجوم مصر.
14
لقد ناقش الباحثون المحافظون في أن الاسم «إسرائيل»، المذكور في نصب مرنفتاح، يشير إلى جماعة سفر الخروج الذين حملهم يشوع إلى فلسطين. ولكن أكثر الباحثين اليوم لا يوافق على هذا الرأي؛ لأنه يحتوي ضمنا أن تكون جماعة إسرائيل الخروج في أواخر القرن الثالث عشر قد توطدت في الأرض، وصار لها كيان سياسي من القوة والحضور في المنطقة بحيث يذكره هذا الفرعون القوي في سجل انتصاراته في بلاد كنعان، وهذا أمر لا يتفق ومعظم ما بناه البحث التاريخي حتى الآن. من هنا، فقد صرف البحث الحديث النظر تماما عن المطابقة بين إسرائيل نصب مرنفتاح وإسرائيل جماعة الخروج ، وطرحت في تفسير النصب عدة فرضيات، سأعرض باختصار إلى أهمها.
يركز الباحث لورانس ستاجر
Lawrence Stager (1985) في دراسته لنصب مرنفتاح على السطرين الأخيرين منه، ويفهم من إيراد الاسم «إسرائيل» في السطر الأول منهما، والاسم «حورو» في السطر الثاني أن الكلمتين قد استعملتا تبادليا. فكلمة حورو، كما هو معروف من النصوص المصرية العائدة لتلك الفترة، تستعمل للدلالة على منطقة سوريا وفلسطين، أو على جزء منها، وقد كتبت في النص هنا وفوقها إشارة تعريف تدل على أنها أرض، أما الاسم إسرائيل فقد كتب وفوقه إشارة تعريف تدل على أنه شعب. ويرى ستاجر أن النص قد أراد الإشارة بكلمة حورو إلى ذلك الجزء من فلسطين الذي شمله غزو مرنفتاح، وهو مناطق أشقلون وجازر ويانوم وغيرها، وأنه أراد الإشارة بكلمة إسرائيل إلى الشعب الساكن في هذه المناطق قبل قدوم جماعة الخروج. ويستعين هذا الباحث بتحليل حديث لمشهد مصور على جدار في معبد الكرنك يمثل إحدى معارك مرنفتاح الآسيوية، ويبرهن صاحب هذا التحليل على أن المشهد يصور معركة مرنفتاح في فلسطين ضد المدعوين في النص بإسرائيل، ويرى بأنهم كنعانيون في زيهم وأسلحتهم.
15
وهناك وجهة نظر جديدة تلقى الآن مزيدا من الدعم، تقدم بها الباحث ماكسويل ميللر
M. Miller (1986)، مفادها أن الاسم «إسرائيل» في نصب مرنفتاح، يشير إلى اتحاد لعدة قبائل كنعانية في الهضاب المركزية، وهي قبائل أفرايم ومنسي وجلعاد وبنيامين. وقد تجمعت هذه القبائل تحت قيادة غير مباشرة لأكبرها المدعوة أفرايم، مشكلة نواة إسرائيل اللاحقة، والتي اتخذت شكلها الإثني والسياسي إبان عصر المملكة الموحدة. ويلاحظ ميللر أن سفر القضاة اللاحق - الذي يقدم لنا تفصيلات أوسع حول مسألة أصول إسرائيل في كنعان - يركز على قبيلة أفرايم والقبائل الثلاثة التي تدور في فلكها. وبما أن نصب مرنفتاح يسبق زمنيا عصر القاضية دبورة، التي استطاعت توسيع الاتحاد القبلي ليشمل عشر قبائل بدل الأربع، وهي القبائل العشر التي بدأ النص التوراتي يطلق عليها اسم إسرائيل، فإن الإشارة في نصب مرنفتاح إلى إسرائيل هي إشارة إلى اتحاد القبائل الأربع المذكورة فقط. وفيما بعد، وعند قيام المملكة الموحدة في المناطق الهضبية من فلسطين بقيادة شاول، ثم داود، فإن الاتحاد القبلي قد توسع ليشمل اثنتي عشرة قبيلة، بما فيها قبيلة يهوذا الجنوبية التي كانت حتى ذلك الوقت خارج الاتحاد الشمالي. هذه القبائل جميعا كانت من أصول ومشارب شتى، وتحمل معتقدات دينية غير متجانسة، وبينها جماعة من الهاربين من أعمال السخرة في مصر، وقد تقاربت مع بعضها تدريجيا، وذابت في بوتقة واحدة ومعتقد ديني واحد. وباختصار ، فإن الباحث يرى أن إسرائيل قد نشأت في كنعان، ولم تأت إليها موحدة من الخارج، وقد استغرقت عملية توحيدها كامل عصر القضاة، الذي يقدر بقرنين من الزمان.
16
ويسير الباحثان
G. Ahlstrom
و
D. Edelman
في دراسة لهما عن النصب (1985) في الاتجاه نفسه، ويريان أن كلمة إسرائيل في نصب مرنفتاح قد استخدمت تبادليا مع كلمة كنعان للدلالة على قسم من أرض فلسطين، أو قسم من سكانها، ويتفقان مع ميللر في أن التكوين الإثني الذي دعي فيما بعد إسرائيل هو من أصول محلية كنعانية. أما الباحث توماس ل. تومبسون فيرى أن الجماعة المذكورة باسم إسرائيل في نصب مرنفتاح كانت بالفعل جماعة تحمل الاسم إسرائيل، الذي يرد هنا لأول مرة في التاريخ. ولكن هذه الجماعة لا علاقة لها من قريب أو بعيد بجماعة الخروج، ولا بإسرائيل السامرة التي نعرفها من العصر الآشوري اللاحق في المنطقة، والتي ظهرت إلى الوجود بعد نقش مرنفتاح بأكثر من ثلاثمائة سنة، وإن تشابه الاسم لا يؤكد وجود مثل هذه العلاقة التي ينفيها التاريخ نفيا قاطعا.
17
ونحن إذ نورد هذه الفرضيات المختلفة في تفسير نصب مرنفتاح لا نقصد إلى الوقوف إلى جانب واحدة منها دون الأخرى، ولا إلى تقديم فرضية جديدة لن تنفع إلا في زيادة جدل لا طائل من ورائه، بل إلى توكيد أمر واحد، وهو أن الاسم إسرائيل في هذا النص المصري ليس له أية قيمة تاريخية علمية في تحديد زمن نشوء إسرائيل، ولا يلقي ضوءا على مسألة أصولها في المنطقة. (3) النظرية التوراتية الثانية
سفر القضاة والتسرب التدريجي
في سفر يشوع ينهي المحرر قصة الحرب الصاعقة على كنعان بالمقطع التالي: «فأخذ يشوع كل الأرض حسب كل ما كلم به الرب موسى. وأعطاها يشوع ملكا لإسرائيل حسب فرقهم وأسباطهم. واستراحت الأرض من الحرب» (يشوع، 11: 23). ولكن سفر القضاة يعكس الآية، فتوزيع الأراضي على إسرائيل حسب فرقهم وأسباطهم يتم نظريا على الورق، ثم تترك الفرق والأسباط لكي تكتسب نصيبها المقسوم على طريقتها الخاصة، وبشكل مستقل. فهنا لا وجود لحروب مظفرة تشنها إسرائيل الموحدة تحت لواء واحد، أو بالتعبير التوراتي «كل إسرائيل»، بل تواجهنا عبر السفر كله معارك متفرقة دفاعية أو هجومية، تحاول من خلالها كل قبيلة أن تجد لنفسها موطئ قدم في كنعان، كما تواجهنا بكل وضوح تحركات سلمية للاستقرار بين السكان الأصليين دون حرب. أما يشوع، فعندما عبر الأردن بجماعة وحل في موقع الجلجال، وفق سفر القضاة، فإنه لم يتهيأ للانقضاض على أريحا وبقية مدن كنعان، بل توقف هناك وصرف القبائل الإسرائيلية من الجلجال لكي تتدبر كل قبيلة أمرها، وذلك تحت ذريعة أن الرب قد عدل عن طرد أهل كنعان من أمام إسرائيل لأنهم لم يستمعوا لصوته. نقرأ في القضاة (2: 1-23) ما يلي: «وصعد ملاك الرب من الجلجال إلى بوكيم وقال: قد أصعدتكم من مصر وأتيت بكم إلى الأرض التي أقسمت لآبائكم وقلت: ... لا تقطعوا عهدا مع سكان هذه الأرض، اهدموا مذابحهم. ولم تسمعوا لصوتي، فماذا عملتم؟ فقلت: لا أطردهم من أمامكم، بل يكونون لكم مضايقين، وتكون آلهتهم لكم شركا. وكان لما تكلم ملاك الرب بهذا الكلام إلى جميع بني إسرائيل أن الشعب رفعوا أصواتهم وبكوا ... فدعوا اسم ذلك المكان بوكيم، وذبحوا هناك للرب. وصرف يشوع الشعب، فذهب كل واحد إلى ملكه لأجل امتلاك الأرض ... ومات يشوع بن نون عبد الرب ابن مائة وعشر سنين ... وكل ذلك الجيل أيضا. وقام بعدهم جيل آخر لم يعرف الرب ولا العمل الذي عمل لإسرائيل. وفعل بنو إسرائيل الشر في عيني الرب وعبدوا البعليم ... فحمي غضب الرب على إسرائيل، فدفعهم بأيدي ناهبين نهبوهم، وباعهم بيد أعدائهم ... فضاق بهم الأمر جدا. وأقام الرب قضاة فخلصوهم من يد ناهبيهم. ولقضاتهم أيضا لم يسمعوا، بل زنوا وراء آلهة أخرى وسجدوا لها. وحينما أقام الرب لهم قضاة كان الرب مع القاضي ... وعند موت القاضي كانوا يرجعون ويفسدون أكثر من آبائهم.» ثم ينتهي هذا النص المهم جدا لفهم عصر القضاة، كما رآه المحرر التوراتي، بالمقطع التالي الذي يشكل بؤرة الطرح النقيض لطرح سفر يشوع: «فحمي غضب الرب على إسرائيل وقال: من أجل أن هذا الشعب قد تعدوا عهدي الذي أوصيت به آباءهم ولم يسمعوا لصوتي، فأنا أيضا لا أعود أطرد إنسانا من أمامهم من الأمم الذين تركهم يشوع عند موته؛ لكي أمتحن بهم إسرائيل. فترك الرب أولئك الأمم ولم يطردهم سريعا، ولم يدفعهم بيد يشوع» (القضاة، 2: 1-23). وبذلك ينهي محرر سفر القضاة، بجرة قلم، سفر يشوع بكامله، وتتهاوى قصة الفتح العسكري لأرض كنعان كبيت من ورق.
وكان أول من تقدم من الأسباط لامتلاك حصته سبطا يهوذا وشمعون: «وكان بعد موت يشوع أن بني إسرائيل سألوا الرب قائلين: من منا يصعد إلى الكنعانيين أولا لمحاربتهم؟ فقال الرب: يهوذا يصعد. هو ذا قد دفعت الأرض ليده. فقال يهوذا لشمعون أخيه: اصعد معي في قرعتي لكي نحارب الكنعانيين، فأصعد أنا معك في قرعتك. فذهب شمعون معه. فصعد يهوذا، ودفع الرب الكنعانيين والفرزيين بيدهم فضربوا منهم في بازق عشرة آلاف رجل. فهرب أدوني بازق، فتتبعوه وأمسكوه، وقطعوا أباهم يديه ورجليه، وأتوا به إلى أورشليم فمات هناك. وحارب بنو يهوذا أورشليم وأخذوها وضربوها بحد السيف، وأشعلوا المدينة بالنار. وبعد ذلك نزل بنو يهوذا لمحاربة الكنعانيين سكان الجبل والجنوب والسهل» (القضاة، 1: 1-8). ونلاحظ في هذا المقطع تنويعا على معلومات سفر يشوع بخصوص أورشليم وملكها. فمن الواضح أن المدعو هنا أدوني بازق هو ملك أورشليم المدعو في يشوع أدوني صادق، لأن المنتصرين بعد المعركة قد أتوا به إلى أورشليم فمات هناك. أما عن حرب بني يهوذا لأورشليم والاستيلاء عليها، فإن الأحداث التالية في سفر القضاة تبين لنا أن المدينة ما زالت بيد أهلها ، ولا يوجد فيها أحد من بني إسرائيل. من ذلك ما نقرؤه في الإصحاح 19: 11-12: «وفيما هم عند يبوس (= أورشليم)، والنهار قد انحدر جدا، قال الغلام لسيده: تعال نميل إلى مدينة اليبوسيين هذه ونبيت فيها. فقال له سيده: لا نميل إلى مدينة غريبة حيث ليس أحد من بني إسرائيل هنا. بل نعبر إلى جبعة.»
بعد ذلك يتابع سفر القضاة شرح كيفية إقامة بني إسرائيل بين السكان الأصليين دون حرب: «ولم يطرد منسي أهل بيت شان وقراها، ولا أهل تعنك وقراها، ولا سكان دور وقراها، ولا سكان يبلعام وقراها، ولا سكان مجدو وقراها. فعزم الكنعانيون على السكن في تلك الأرض. وأفرايم لم يطرد الكنعانيين الساكنين في جازر، فسكن الكنعانيون في وسطه في جازر» (1: 27-29). «زبولون لم يطرد سكان قطرون، ولا سكان نهلال، فسكن الكنعانيون في وسطه ... ولم يطرد أشير سكان عكو، ولا سكان صيدون وأحلب وأكزيب وحلبة وأفيق ورحوب. فسكن الأشيريون في وسط الكنعانيين سكان الأرض ... ونفتالي لم يطرد سكان بيت شمس، ولا سكان بيت عناة، بل سكن في وسط الكنعانيين سكان الأرض ... وحصر الآموريون بني دان في الجبل لأنهم لم يدعوهم ينزلون إلى الوادي ...» (1: 30-36).
إلى جانب الحروب المحلية التي كانت تقوم بها بعض القبائل، والجنوح إلى السلم والتعايش مع الكنعانيين، مما كانت تفضله قبائل أخرى، فقد كان للقبائل معركة كبيرة شارك فيها ست من القبائل الشمالية العشر، التي يرى دارسو سفر القضاة أن مناطق تواجدها لم تتجاوز الهضاب المركزية حتى تشكيل المملكة الموحدة. فقد كان لما عاد بنو إسرائيل يعملون الشر في عيني الرب أنه دفعهم ليد يابين ملك حاصور. وكانت دبورة قاضية في إسرائيل في ذلك الوقت، فدعت القبائل العشر إلى قتال يابين، فاستجاب لدعوتها ست قبائل، فأرسلت دبورة إلى المدعو باراق من سبط نفتالي ودعته لقيادة التحالف، وسارت إلى جانبه في جيش تعداده عشرة آلاف مقاتل من المشاة. أما يابين ملك حاصور فقد دفع إلى المعركة بتسعمائة مركبة من حديد، على رأسها قائد جيشه المدعو سيسرا، وعندما التقى الجمعان «أزعج الرب سيسرا وكل المركبات وكل الجيش بحد السيف أمام باراق. فنزل سيسرا عن المركبة وهرب على رجليه ... وسقط كل جيش سيسرا بحد السيف ولم يبق واحد» (القضاة، 4). وبذلك يقدم لنا محرر سفر القضاة وجهة نظره الخاصة في قتال إسرائيل لحاصور، بعد أن أخبرنا سفر يشوع أن الإسرائيليين قد أخذوا حاصور وأحرقوها بالنار، وأن يشوع قد ضرب رأس ملكها يابين بالسيف (يشوع، 11: 1-10).
النقد النصي لسفر القضاة
يبدو سفر القضاة لقارئه أكثر الأسفار التوراتية تفككا، وافتقادا للحبكة الأدبية التي تجمع أجزاءه وأقاصيصه المتنوعة. ولعل السبب في ذلك راجع إلى غياب الشخصية المركزية التي تشكل بؤرة الحدث، وتجمع الحكايا إلى سياق واحد مشترك. فهنا، لا وجود لزعيم بارز كموسى أو يشوع، ولا لشخصية درامية متكاملة كيوسف، ولا لحدث مطرد يتنامى ويتطور مما رأينا في سفر الخروج. كل ما لدينا عبارة عن مجموعة أقاصيص غير مترابطة، ولا تؤدي واحدتها إلى الأخرى مثلما تتماسك قصص الآباء. إن كل ما يسوغ جمع هذا الحشد من الحكايا والأخبار مع بعضها في سفر واحد هو انتظامها في إطار أيديولوجي مفروض عليها من الخارج بشكل قسري؛ فبنو إسرائيل يذلون ويهانون كلما تركوا عبادة الرب، والتفتوا إلى عبادة الآلهة الكنعانية، ثم يستريحون من قاهريهم كلما ذكروا ربهم وآبوا إليه. وبذلك تستبدل العقدة الأدبية بعقدة أيديولوجية لاهوتية لم تفلح في لملمة أجزاء السفر.
معظم هذه الأقاصيص كانت على ما يبدو حكايا شعبية فلسطينية متداولة خلال العصر الفارسي، انتقاها ورتبها المحررون في تسلسل زمني غير مطرد بالمفهوم التاريخي لتسلسل الأحداث، وذلك من أجل ملء الفترة الزمنية القائمة بين دخول الإسرائيليين أرض كنعان وقيام المملكة الموحدة بعد ذلك بقرنين من الزمان. وبما أنه من الصعب إعطاء لمحة عامة عن قصص وأخبار عصر القضاة جميعها، فإنني سأكتفي بتلخيص قصتين تعطيان فكرة واضحة عن ذلك النوع من قصص القضاة، وعن المنظور الأيديولوجي الذي تتحرك فيه أحداثها. الأولى قصة بنت يفتاح الجلعادي، والثانية قصة شمشون.
لقد «عاد بنو إسرائيل يعملون الشر في عيني الرب، وعبدوا البعليم والعشتاروت وتركوا الرب ولم يعبدوه، فحمي غضب الرب على إسرائيل وباعهم بيد الفلسطينيين وبيد بني عمون ثماني عشرة سنة، جميع بني إسرائيل الذين في عبر الأردن في أرض الآموريين الذين في جلعاد.» فأعلن بنو إسرائيل توبتهم وأزالوا الآلهة الغريبة من وسطهم، وعبدوا الرب ودعوه أن يبعث فيهم مخلصا يريحهم من بني عمون. وكان يفتاح الجلعادي ابن امرأة زانية، طرده قومه من وسطهم، فخرج إلى الفلاة وصار رئيس عصابة من الأفاقين ، واشتهر ببأسه وجبروته. ولما لم يجد الجلعاديون رجلا مقداما يترأس عليهم لمحاربة العمونيين؛ جاءوا إلى يفتاح طالبين منه العودة إليهم، وعونهم على عمون. فاستجاب يفتاح مشترطا أن يرئسوه عليهم إذا نصرهم على خصومهم، فأجابوه إلى ذلك. فكان روح الرب على يفتاح ومشى إلى عمون بقواته. وقبل المعركة الفاصلة نذر يفتاح للرب أضحية بشرية يذبحها ويصعدها محرقة، واختار أن تكون هذه الأضحية هي أول شخص يخرج لاستقباله ولقائه عند باب بيته بعد عودته منتصرا. فدفع الرب بني عمون ليد يفتاح، فشتت جيشهم وملك أرضهم. ولدى عودته إلى بيته كان أول خارج للقائه ابنته الوحيدة، التي قابلته بالرقص والغناء والدفوف. فصرخ يفتاح لرؤيتها وبكى وأخبرها بنذره، فقبلت الابنة نذر أبيها لأن الرب أعانه على أعدائه، ولكنها طلبت مهلة شهرين لتذهب إلى الجبال مع صويحباتها وتبكي عذريتها. وكان عند نهاية المدة أنها عادت إلى أبيها، الذي وفى بنذره الذي يتضمن الذبح والحرق (القضاة، 11).
وتبتدئ قصة شمشون باللازمة المعادة والمكررة: «ثم عاد إسرائيل يعملون الشر في عيني الرب ... إلخ.» يلي ذلك مقدمة تستخدم عناصر صارت معروفة لنا في القصص التوراتي. فهناك رجل من عشيرة دان اسمه منوح وزوجته عاقر، فتراءى ملاك (= شبح) الرب للزوجين وهما في الحقل، ولم يعرفاه، فبشرهما بغلام يكون نذيرا للرب، ويخلص شعب إسرائيل الذي يضطهده الفلسطينيون. فدعاه منوح إلى الغداء ظنا منه أنه من رجال الله الصالحين، وقام ليذبح جديا، ولكن الضيف قال له أن يصعد الجدي محرقة، وعندما صنع منوح المحرقة وصعد لهيبها عن المذبح؛ صعد الضيف في اللهيب نحو الأعالي. فسقط الزوجان على وجههما، وقال منوح: «موتا نموت لأننا قد رأينا الله ...» ثم ولدت المرأة ابنا ودعت اسمه شمشون. فكبر الصبي وباركه الرب، وابتدأ روح الرب يحركه، فاشتهر بقوته البدنية الخارقة، التي كانت تعينه أحيانا على قتل الأسود بيديه العاريتين، وشق الواحد منها نصفين.
رأى شمشون امرأة فلسطينية من أعداء قومه فأحبها، وطلب من أبويه أن يطلباها من أهلها، فوافقا بعد معارضة وممانعة، ووافق أهل الفتاة من طرفهم على الزواج. وكان على شمشون أن يحضر بعد أيام إلى منزل عروسه ليصطحبها إلى بيته، ولكن سوء تفاهم بين الطرفين منع الأب من إعطائه الفتاة، وزوجها بعد بضعة أيام من غيره. وهنا يثور غضب شمشون، ويبدأ حربه الطويلة ضد الفلسطينيين، ولكنها حرب بلا جنود ولا معدات، قوامها شمشون الذي يقاتل وحيدا على طريقة العصابات مستخدما قوته وحيلته، وجماعات الفلسطينيين، التي كان البطل يفاجئها في الأمكنة والأوقات غير المتوقعة، فيقتل منهم الآلاف بغير سلاح، أو باستخدام أدوات بسيطة كما فعل في إحدى المرات، عندما ضرب ألف رجل بفك حمار ميت. وفي إحدى المرات أمسك شمشون بثلاثمائة ابن آوى، وربط في أذنابها المشاعل ثم أطلقها في حقول الفلسطينيين فأحرقت محاصيلهم. ومال مرة في مدينة غزة إلى بيت امرأة زانية واضطجع معها إلى منتصف الليل، فعرف الفلسطينيون بمكانه، فكمنوا له عند بوابة المدينة بانتظار خروجه عند الصباح، ولكن شمشون لدى وصوله البوابة أمسك مصراعيها الهائلين واقتلعهما، ووضعهما على كتفيه وصعد بهما إلى رأس الجبل. وأخيرا أحب شمشون امرأة ساقطة أخرى اسمها دليلة، وأخذ يتردد عليها. فجاء أقطاب الفلسطينيين وأغروها بالمال لتخون صاحبها، وتعرف منه سر قوته. فصارت دليلة تسأل شمشون عن سر قوته وهو يضللها مازحا، إلى أن أفضى إليها بسره، وعرفت أن قوته في جدائل شعره الغزير، فقصتها له وهو نائم، ودعت الفلسطينيين فأمسكوه وقلعوا عينيه وسجنوه. وكان بعد فترة أنهم اجتمعوا في المعبد ليذبحوا ذبيحة لإلههم داجون، وجاءوا بشمشون ليتسلوا بإذلاله، وكان شعره قد عاد إلى النمو، فأسند شمشون ذراعيه إلى العمودين الرئيسين في وسط المعبد ودفعهما كلا في اتجاه، فسقط المعبد على رءوس الفلسطينيين وقتلهم، ومات شمشون معهم (القضاة، 16).
تعطينا قصة شمشون مثالا حيا على كيفية استعانة المحرر التوراتي بالقصص التقليدي، وطريقته الساذجة في الإفادة منها. فلقد جاء المحرر هنا بقصة بطولية متداولة وأدمجها في سياق أحداث سفر القضاة، بعد أن زودها بمقدمة قصيرة تربطها بالجو العام للسفر ربطا مصطنعا وواهيا إلى أبعد الحدود. فهذا البطل - الذي تقول المقدمة اللاهوتية للقصة إن الرب قد أرسله ليكون نذيرا لله، ويخلص إسرائيل من يد الفلسطينيين - يبدأ حياته الكفاحية بمصاهرة عائلة فلسطينية من أعداء قومه، وهو لا ينقلب على هؤلاء ويبدأ حربه معهم إلا لثأر شخصي. وعندما أزعجت أعمال شمشون الفلسطينيين استعانوا عليه بقومه أنفسهم؛ لأن هؤلاء على ما يبدو لم يروا في شمشون ذلك المخلص المنتظر، ففاجئوه في شق الجبل الذي يأوي إليه، وأوثقوه وسلموه ليد أعدائه. وهنا نقرأ في الإصحاح 15 ما يلي: «فنزل ثلاثة آلاف رجل من يهوذا إلى شق صخرة عيطم وقالوا لشمشون: أما علمت أن الفلسطينيين متسلطون علينا، فماذا فعلت بنا؟ فقال لهم: كما فعلوا بي هكذا فعلت بهم ... فأوثقوه بحبلين جديدين وأصعدوه من الصخرة، ولما جاء إلى لحي صاح الفلسطينيون للقائه، فحل عليه روح الرب فكان الحبلان اللذان على ذراعيه ككتان أحرق بالنار فانحل الوثاق عن يديه.» ونفهم من الحوار الذي دار في هذا المشهد بين شمشون وقومه أن شمشون لا يحارب الفلسطينيين نيابة عن قومه، بل لما فعلوه به، وأن قومه لم يروا فيه إلا رجل عصابات متمردا، يجب وضع حد لأعماله التي لا تجدي نفعا، وتجلب المزيد من المضايقة لهم من قبل الفلسطينيين. ثم نجد رجل الله هذا، المنذور لتخليص إسرائيل، يقضي لياليه في بيوت المومسات، إلى أن توصله إلى حتفه واحدة منهن وقع في حبها وصار يتردد عليها حتى دفعته ليد أعدائه لقاء حفنة من الشيكلات. فأية سيرة حياة هذه يرسمها محرر سفر القضاة لمخلص إسرائيل!
النقد التاريخي والأركيولوجي لسفر القضاة
بينما يعمل محرر سفر القضاة على تسلية قارئه، وإعطائه الموعظة الدينية في الوقت ذاته عن كيفية تدخل الرب في الحدث الدنيوي، ينسى القارئ كل مسألة تاريخية متعلقة بذلك العصر، حتى ليظن بأن العالم من حول أولئك القضاة وأعدائهم القريبين قد خلا من كل حدث آخر. ولكن الأمر كما قدمنا منذ قليل غير ذلك تماما. ففيما بين أواخر القرن الثالث عشر وأواخر القرن الحادي عشر، وهي الفترة المفترضة لعصر القضاة، غابت في الشرق الأدنى القديم حضارة، وقامت حضارة جديدة على أنقاضها، انتهى عصر البرونز الأخير ودالت دوله، وقام عصر الحديد الأول بدول وممالك جديدة، وخارطة جديدة للقوى العالمية. لقد انتهت مملكة الحثيين في الأناضول ولم تقم لها قائمة بعد ذلك، وانتهت مملكة ميتاني، وزالت مدينة أوغاريت من الوجود تماما، ثم تبعتها الممالك السورية الشمالية، التي قامت على أنقاضها ثقافة جديدة آرامية حثية، دعيت دولها بالممالك الحثية الجديدة. أما آشور فقد دخلت لأول مرة مسرح الحياة الدولية من بابه الواسع، وأخذت تملأ الفراغ الذي خلفه غياب القوى العظمى التقليدية، فطرد الكاشيون من بابل، وخضع وادي الرافدين بأكمله تدريجيا إلى المملكة الشمالية الفتية. وها هو ملك آشور تغلات فلاصر الأول يقود حملة على بلاد الشام والساحل اللبناني حوالي عام 1100ق.م. تلامس حدود المناطق التي يتسلى سفر القضاة فيها بقصص شمشون. يقول نص حملة تغلات فلاصر: «تنفيذا لأوامر إلهي آشور، فقد قهرت البلدان الواقعة بين البحر الأدنى والبحر الأعلى الذي في الغرب. مضيت إلى لبنان حيث قطعت أخشاب الأرز لبناء معبد آنو وحدد. ثم تابعت التحرك نحو آمورو إلى مدينة سيميرا على مسافة ثلاثة أميال مضاعفة داخل البر.»
18
أما مصر فرغم أنها قد خففت تدريجيا من تواجدها في فلسطين، إلا أنها بقيت محتفظة بنفوذها على بعض المواقع الاستراتيجية، وخصوصا وادي يزرعيل (مرج ابن عامر)، وهو المعبر الرئيسي بين الساحل والمناطق الداخلية. ولدينا من الدلائل الأثرية ما يشير إلى استمرار النفوذ المصري في وادي يزرعيل حتى الهزيع الأخير من القرن الثاني عشر، أي خلال فترة حكم الفرعون رمسيس السادس ، الذي عثر على قاعدة تمثال له في موقع مدينة مجدو.
19
فأين أخبار مصر والمصريين في سفر القضاة؟ إن غياب أخبار مصر بشكل خاص وأخبار آشور - التي وصلت قواتها إلى مسافة بضع عشرات من الأميال - عن مسرح قصص القضاة، وعدم تعرض النص التوراتي إلى ذكر أية حادثة أو شخصية تتصل بأحداث تلك الفترة؛ يدل على أن محرري التوراة الذين كانوا خلال العصر الفارسي يؤسسون لأصول إسرائيل في عصر منقطع عنهم تماما ، لم يكونوا يعرفون شيئا عن ذلك العصر، ولم يكن في حوزتهم أية معلومات تاريخية مباشرة أو غير مباشرة عنه ولا عن أهله وثقافاته ودوله. إن عصر القضاة ليس له وجود خارج مجال القصة والجنس الأدبي التوراتي المؤيد بالأيديولوجيا.
لقد سقط عصر القضاة تاريخيا كما سقطت قصة الفتح العسكري لأرض كنعان، ولم يبق من الباحثين من يدافع عن تاريخيته إلا القليل. فالباحث ر. ديفو (1978)، في كتابه الموسوعي المعروف عن تاريخ إسرائيل، يعترف بالمشكلات التي تعترض قبولنا بتاريخية عصر القضاة، ويحرف مسار البحث التاريخي عن أصول إسرائيل ليبتدئ من عصر المملكة الموحدة فقط، أما ما قبل ذلك فهو مجرد «ما قبل التاريخ» بالنسبة إلى إسرائيل. وهو لا يعتقد أن بإمكاننا التحدث عما يمكن تسميته «بكل إسرائيل» إلا ابتداء من عصر شاول، وهو الملك الأول للقبائل التي شكلت إسرائيل. وانطلاقا من ذلك، فإنه يعطي لنفسه الحرية في البحث عن بدايات وأصول مختلفة لهذه القبائل، ويطيل أمد فترة الفتح والاستقرار لتشمل كامل الألف الثاني قبل الميلاد.
20
ويسير الباحث مايز
A. Mayes
في اتجاه مشابه، مقدما عددا من المحاكمات المنطقية التي من شأنها تقويض أية قناعة بالأساس التاريخي لعصر القضاة. وهو يرى أن فكرة «كل إسرائيل» الضرورية جدا للقبول بعصر القضاة، هي فكرة لاحقة ابتكرتها عملية التحرير المتأخرة، ذلك أن الدراسة المدققة للنص التوراتي تثبت أنه لم تقم سلطة مركزية من أي نوع في إسرائيل قبل مملكة شاول، والقبائل الإسرائيلية لم تقم بأي نشاط مشترك يتضمن «كل إسرائيل» قبل قيام المملكة الموحدة. وحتى ذلك الحلف، الذي التأم حول القاضية دبورة، لم يكن سوى حادثة لاحقة اقتلعت من سياقها وأدمجت في فترة عصر القضاة.
21
أما الباحث ميللر
J. M. Miller (1977) فيرى أن الاعتماد على المعلومات التاريخية والأركيولوجية من أجل إثبات أو نفي الرواية التوراتية لسفر القضاة هو مجهود لا طائل من ورائه؛ لأننا لا نتعامل مع نص تاريخي تم تدوينه إبان الحدث أو بعده بقليل، بل مع نص مكتوب بأسلوب التحرير الحر وفي وقت متأخر جدا عن الحدث. ويلخص ميللر دراسته عن سفر القضاة بالنتائج المبدئية التالية: (1)
إن الدراسة النقدية المعمقة للنص التوراتي المتعلق بتقليد الفتح العسكري وتقليد الاستقرار في الأرض، تكشف لنا عن عدة مستويات زمنية جمع النص بينها. وإن أقدم هذه المستويات يربط قبائل إسرائيل جغرافيا بالمناطق الهضبية التي كانت موطنهم الرئيسي في فلسطين. وهذه القبائل لم تأخذ بالامتداد نحو المناطق السهلية والوديان الخصيبة ومناطق شرقي الأردن إلا عقب تشكيل المملكة الموحدة. ولقد ترسخت ملاحظة ميللر هذه لدى بقية الباحثين الذين أخذوا يدرسون مسألة أصول إسرائيل انطلاقا من دراسة مسألة الاستيطان في مناطق الهضاب المركزية خلال عصر الحديد الأول، أي من 1200 إلى 1000ق.م. (2)
إن القبائل التي شكلت إسرائيل هي من أصول مستقلة، وقد دخلت إلى فلسطين في أزمنة مختلفة ومتباعدة على ما يبدو. من هنا، فإنه من غير الممكن وضع تاريخ محدد لعملية التسرب إلى كنعان والاستقرار فيها، وإن كل ما سبق تشكيل المملكة الموحدة يقع خارج مجال تاريخ إسرائيل. (3)
لا نستطيع تتبع أصول وتاريخ كل قبيلة من هذه القبائل على حدة، والنص التوراتي لا يقدم لنا مساعدة تذكر في هذا المجال. من هنا، فإن البحث عن أصول إسرائيل يجب أن يبتعد عن مفهوم «كل إسرائيل»، ويركز على الدراسة الإقليمية؛ ذلك أن مفهوم «كل إسرائيل» الذي يتضمن القبائل الاثنتي عشرة على كامل مساحة فلسطين أو معظمها هو مفهوم لاحق.
22
ويلخص الآثاري فرانكن
H. J. Franken - في مساهمة له ضمن موسوعة كامبريدج للتاريخ القديم - الموقف الحالي للمعلومات الأركيولوجية بخصوص فترة الفتح الإسرائيلي والاستقرار في كنعان على الوجه التالي:
فلسطين الطبيعية، وتبدو عليها الهضاب المركزية ومرتفعات يهوذا مظللة بالخط المتصل. «إذا وضعنا النص التوراتي جانبا، فإن علم الآثار لم يتوفر لديه سبب واحد يدفعه على القول بأن القرن الثالث عشر في فلسطين قد شهد تشكل شعب جديد في فلسطين اتخذ وضعه كأمة مكتملة مع نهاية القرن الحادي عشر. إن البينة الأركيولوجية على حلول جماعة إثنية جديدة في فلسطين مفقودة بالمعنى العلمي الدقيق لهذه الكلمة. إنه لمن المتعذر على تقنيات الأركيولوجية الحالية تلمس الآثار على وصول عناصر إثنية جديدة إلى موقع ما؛ إذ لم تترك لنا هذه العناصر مخلفات مادية عند وصولها، ذات طابع ثقافي متميز بشكل واضح عن طابع الجماعة السابقة التي حلت بين ظهرانيها أو حلت محلها. وهذا ما لم نستطع التوصل إليه فيما يتعلق بالجماعات العبرية. وأما القول بأن الجماعات العبرية التي دخلت واستقرت في كنعان هي من أصل بدوي أو رعوي، وأن الجماعات البدوية لا تترك وراءها الكثير من المخلفات ذات الطابع الثقافي المتميز، فهو قول مردود؛ لأن تقنيات التنقيب الجديد صارت قادرة على تتبع تحرك الجماعات البدوية القديمة، ورصد علاقاتها وتفاعلاتها مع محيطها. ولا أدل على ذلك من النتائج القيمة التي توصلت إليها السيدة كاثلين كينيون عن جماعات الآموريين البداة في فلسطين خلال الفترة الانتقالية من عصر البرونز المبكر إلى عصر البرونز الوسيط. إن العنصر الثقافي الوحيد الذي يمكن أن نعزوه للقبائل العبرية بأي درجة من الثقة هو ديانتها المتميزة. ولكن هذا العنصر قد بقي حتى الآن غير واضح من الناحية الأركيولوجية، ولا يوجد لدينا ما يدل عليه.»
23
هذه الأفكار، التي سقتها أعلاه لبعض الباحثين، هي نموذج عن التوجهات الجديدة في البحث التاريخي الأركيولوجي، ولسوف أستعرض المزيد منها في مناقشتي الأخيرة لمسألة أصول إسرائيل. أما الآن، فإن السؤال الحيوي الذي يطرح نفسه عند هذه المرحلة من دراستنا هذه هو التالي: إذا كان بعض الباحثين يركز على المملكة الموحدة باعتبارها المنطلق التاريخي لتشكيل «كل إسرائيل»، مع نفي صفة التاريخية عن كل ما سبقها، فما هو الأساس التاريخي لهذه المملكة الموحدة ؟ وكيف ينشأ حدث تاريخي عن فضاء غير تاريخي، وبصورة مفاجئة؟ هذا ما سنتفرغ لبحثه في الفصل القادم.
الفصل الخامس
المملكة الموحدة لكل إسرائيل
(1) صموئيل عراب المملكة
كان صموئيل، الكاهن في مدينة شيلوه، آخر قضاة بني إسرائيل. وقد تولى القضاء في فترة عصيبة بلغ فيها اضطهاد الفلسطينيين للإسرائيليين ذروته. فصلى صموئيل للرب ليرفع غضبه عن شعبه، فاستجاب له الرب لأنه كان نبيا ومختارا للرب منذ صغره، وأعان بني إسرائيل على خصومهم فاسترجعوا منهم كل الأراضي والقرى التي سلبوها. وكان لما شاخ صموئيل أنه جعل ابنيه قضاة أيضا يساعدانه، ولكنهما لم يسلكا في طريقه، بل مالا إلى المكسب وقبلا رشوة. فاجتمع كل شيوخ إسرائيل وجاءوا إلى صموئيل وقالوا له: «هو ذا أنت قد شخت وابناك لم يسيرا في طريقك. فالآن اجعل لنا ملكا يقضي لنا. وصلى صموئيل إلى الرب، فقال الرب لصموئيل: اسمع لصوت الشعب في كل ما يقولون لك ... وملك عليهم ملكا» (صموئيل الأول، 1-8). «وكان رجل من بنيامين اسمه قيس بن أبيئيل ... وكان له ابن اسمه شاول، شاب وحسن، ولم يكن رجل في بني إسرائيل أحسن منه، من كتفه فما فوق كان أطول من كل الشعب. فضلت أتن قيس، أبي شاول، فقال قيس لشاول ابنه: خذ معك واحدا من الغلمان وقم فتش على الأتن. فعبر في جبل أفرايم فلم يجدها ... ولما دخلا أرض صوف قال شاول لغلامه: هو ذا رجل الله في هذه المدينة. لنذهب الآن إلى هناك لعله يخبرنا عن طريقنا التي نسلك ... وفيما هما آتيان في وسط المدينة، إذا بصموئيل خارج للقائهما ... والرب كشف أذن صموئيل قبل مجيء شاول بيوم قائلا: غدا في مثل الآن أرسل إليك رجلا من أرض بنيامين، فامسحه رئيسا لشعبي إسرائيل، فيخلص شعبي من يد الفلسطينيين. فلما رأى صموئيل شاول أجابه الرب: هو ذا الرجل الذي كلمتك عنه» (صموئيل الأول، 9). «وقال صموئيل للشعب: هلموا نذهب إلى الجلجال ونجدد هناك المملكة. فذهب كل الشعب إلى الجلجال، وملكوا هناك شاول أمام الرب في الجلجال، وذبحوا هناك ذبائح سلامة أمام الرب، وفرح هناك شاول وجميع رجال إسرائيل جدا. وقال صموئيل لكل إسرائيل: ها أنا ذا قد سمعت لصوتكم في كل ما قلتم لي وملكت عليكم ملكا. والآن هو ذا الملك يمشي أمامكم، وأما أنا فقد شخت وشبت، وهو ذا أبنائي معكم.» وبعد أن استلم شاول جميع صلاحياته الدنيوية من صموئيل بدأ حروبه التحريرية الكبرى؛ حارب شاول أولا العمونيين وردهم عن مناطق بني إسرائيل، ثم التفت إلى الفلسطينيين. وكان جيشه يتألف من ثلاثة آلاف مقاتل في أحسن أحواله، ومن ستمائة مقاتل فقط في أسوأ الأحوال. وكانت الأدوات الحديدية - بما فيها الأسلحة - مفقودة لدى بني إسرائيل؛ لأن الفلسطينيين منعوهم من صناعة الحديد للإبقاء عليهم في حالة الضعف العسكري. وفي المعركة الأولى مع الفلسطينيين لم يكن رمح ولا سيف بيد جماعة شاول، إلا معه فقط ومع ابنه يوناثان الذي كان يحارب إلى جانبه، ومع ذلك فقد ضرب شاول خصومه ضربة عنيفة، وطاردهم حتى مقراتهم الحصينة، ثم توجه إلى شرقي الأردن وحارب موآب وعمون وأدوم وملوك صوبة والآموريين. ثم عاد فشد على الفلسطينيين، وكانت بينه وبينهم حروب طيلة أيام حياته (صموئيل الأول، 11-14).
ثم نقل صموئيل إلى شاول أمرا من الرب بقتال العماليق: «وقال صموئيل لشاول: إياي أرسل الرب لمسحك ملكا على شعبه إسرائيل، والآن فاسمع صوت كلام الرب. هكذا يقول رب الجنود: إني افتقدت ما عمل عماليق بإسرائيل حين وقف له في الطريق عند صعوده من مصر، فالآن اذهب واضرب عماليق وحرموا كل ما له، ولا تعف عنهم، بل اقتل رجلا وامرأة، طفلا ورضيعا، بقرا وغنما، جملا وحمارا.» فضرب شاول العماليق فيما بين جنوب البحر الميت وشمالي سيناء، وأفنى الجميع حسب ما أمر به الرب، لم يترك امرأة ولا طفلا ولا رضيعا إلا ذبحه. ولكنه عفا عن ملكهم المدعو أجاج بعد أن أمسك به، كما أنه أبقى على الصحيح والجيد من المواشي، ولم يحرمها للرب، بل ساقها أمامه وقفل راجعا إلى مقره. «فكان كلام الرب إلى صموئيل قائلا: ندمت على أني قد جعلت شاول ملكا؛ لأنه رجع من ورائي ولم يقم كلامي.» فحزن صموئيل على شاول لأنه كان يحبه، وناح عليه الليل كله. وفي الصباح خرج إلى شاول وعنفه على ما فعل، فقال شاول لصموئيل: «أخطأت لأني تعديت قول الرب وكلامك؛ لأني خفت من الشعب وسمعت لصوتهم. والآن اغفر خطيئتي وارجع معي فأسجد للرب. فقال صموئيل لشاول: لا أرجع معك لأنك رفضت كلام الرب فرفضك الرب من أن تكون ملكا على إسرائيل» (صموئيل الأول، 15).
بعد ذلك أمر الرب صموئيل أن يذهب إلى بيت المدعو يسى في بلدة بيت لحم قرب أورشليم؛ لأنه وجد في أحد أولاده ملكا على إسرائيل، فمضى صموئيل ودخل بيت يسى وذبح للرب ودعا يسى وأولاده إلى الذبيحة. فعبر يسى أولاده أمامه واحدا واحدا إلى أن عبر داود الولد الثامن الأصغر، وكان قد وصل لتوه من رعي الغنم. فقال الرب لصموئيل: قم فامسحه لأنه هذا هو. «وكان أشقر مع حلاوة العينين وحسن المنظر، فأخذ صموئيل قرن الدهن ومسحه في وسط إخوته. وحل روح الرب على داود من ذلك اليوم فصاعدا. ثم قام صموئيل وذهب إلى الرامة. وذهب روح الرب من عند شاول.» وبزوال روح الرب عن شاول اسود مزاجه، وصارت تنتابه نوبات اكتئاب، فنصحه بعض أتباعه أن يفتش عن رجل يحسن الضرب بالعود فيسري عن الملك ويبهج قلبه، فوافق، فدلوه على الفتى داود بن يسى، ووصفوه أمامه بأنه «يحسن الضرب، وهو جبار بأس ورجل حرب وفصيح اللسان، ورجل جميل والرب معه.» فجاء داود وضرب بالعود فارتاحت نفس شاول. وأحب شاول داود وصار له حامل سلاح (صموئيل الأول، 16).
وحدث بعد ذلك أن الفلسطينيين اجتمعوا لقتال شاول وجاءوا إلى يهوذا، فاجتمع رجال شاول واصطفوا للقتال. وقبل بدء المعركة خرج فارس من جيش الفلسطينيين اسمه جليات، طوله يزيد عن ستة أذرع، مدرع ومدجج بالسلاح، وطلب أن يخرج إليه من جيش شاول مبارز لتحسم المبارزة الفردية نتيجة المعركة. فخاف كل أشداء جيش شاول، وأحجموا عن تلبية النداء. وفي هذا الوقت وصل الفتى داود الذي أرسله أبوه ليتفقد إخوته الثلاثة الذين كانوا يحاربون في جيش شاول. فسأل عن جائزة من يقتل الفلسطيني، فقيل له: «إن الرجل الذي يقتله يغنيه الملك غنى جزيلا، ويعطيه ابنته، ويجعل بيت أبيه حرا في إسرائيل.» فتقدم داود إلى شاول معلنا رغبته في التصدي لجليات، فألبسه شاول خوذته ودرعه وقلده سيفه، فلما مشى لم يقدر على الحركة، فنزعها عنه وأخذ عصاه بيده، والتقط خمسة حجارة ملساء فجعلها في جرابه، وحمل مقلاعه وتقدم نحو الفلسطيني. ولما نظر جليات إلى داود «استحقره لأنه كان غلاما وأشقر جميل المنظر. فقال لداود: ألعلي أنا كلب حتى إنك تأتي إلي بعصا. ولعن الفلسطيني داود بآلهته. وقال الفلسطيني لداود: تعال فأعطي لحمك لطيور السماء ووحش البرية.» ولكن داود تقدم إلى الميدان وأخذ حجرا من جرابه ورماه بالمقلاع، فأصاب جبهة جليات وسقط على الأرض، فركض إليه داود ولم يكن معه سيف، فاستل سيف الفلسطيني وقطع به رأسه. ولما رأى الفلسطينيون ما حل بجبارهم هربوا، فطاردهم جماعة شاول وأعملوا فيهم السيف، وأخذ داود رأس الفلسطيني وأتى به إلى أورشليم (صموئيل الأول، 17).
ارتفع شأن داود بعد قتله جليات وصارت له سمعة حسنة، فكرهه شاول وخاف من تزايد محبة الناس له، وعندما كانت تأتيه نوبات الاكتئاب كان يسعى لقتله، ولكن ذلك لم يمنعه من البر بوعده لقاتل جليات، فزوجه ابنته ميرب، ثم زوجه ابنته الثانية ميكال، وعينه قائدا بين قواده، فكان يشن غزوات خاطفة على الفلسطينيين ويقتل منهم الكثيرين. ثم عاد شاول للتفكير بقتل داود، ودبر له المكائد والمصائد، ولكن يوناثان بن شاول، الذي أحب داود وصادقه، كان ينقذه في كل مرة ويقف إلى جانبه. وفي أثناء اختبائه وهربه من ملاحقة شاول تجمع حول داود جماعة من الأفاقين والمغامرين ومن أعداء شاول، بلغ عددهم ستمائة مقاتل يرتحلون معه أينما ذهب. وعندما يئس من إيجاد ملاذ آمن له ولجماعته في المناطق التابعة لشاول، قرر اللجوء إلى أرض الفلسطينيين، فأتى إلى مدينة جت حيث استقبله ملكها أخيش استقبالا حسنا وآواه وأكرمه (صموئيل الأول، 18-26).
أقام داود وجماعته في بلدة صقلع التابعة لملك جت، ومن هناك تابع شن غزواته ولكن لصالح الفلسطينيين هذه المرة، وتحول إلى زعيم مرتزقة تعيث الفساد في أراضي خصوم ملك جت. وعندما جمع الفلسطينيون جيوشهم وتوجهوا إلى حرب جديدة مع شاول، صعد إليهم داود ورجاله وعرضوا السير معهم لقتال بني جلدتهم، فوافق أخيش ملك جت، أما بقية أقطاب الفلسطينيين السائرين معه فرفضوا خوفا من انقلاب داود عليهم وعودته إلى صفوف شاول ، فعاد داود ورجاله إلى معسكرهم. أما جيش الفلسطينيين فقد التقى بجيش شاول في جبل جلبوع، وأوقعوا بالإسرائيليين هزيمة منكرة. وقد أصيب في المعركة شاول، فوقع وقال لحامل سلاحه أن يقتله قبل أن يقع في أيدي أعدائه، فأبى، فأخذ شاول السيف وسقط عليه فمات، وفعل حامل سلاحه مثلما فعل، كما سقط في المعركة أيضا أولاد شاول الثلاثة ومعظم عساكره. وهنا يعطينا النص التوراتي وصفا في غاية الحيوية لهذا المشهد: «واشتدت الحرب على شاول، فأصابه الرماة رجال القسي، فانجرح جدا. فقال شاول لحامل سلاحه: استل سيفك واطعني به؛ لئلا يأتي هؤلاء الغلف ويطعنوني ويقبحوني. فلم يشأ حامل سلاحه لأنه خاف جدا، فأخذ شاول السيف وسقط عليه. ولما رأى حامل سلاحه أنه مات شاول سقط هو على سيفه ومات معه، فمات شاول وبنوه الثلاثة وحامل سلاحه وجميع رجاله في ذلك اليوم.» وفي اليوم التالي عندما جاء الفلسطينيون لتفقد القتلى وجدوا شاول وبنيه على الأرض، فقطعوا رأسه ونزعوا سلاحه وصلبوا جثته وجثث أولاده على سور مدينة بيت شان (صموئيل الأول، 27-31).
النقد النصي لسفر صموئيل الأول
إذا كانت الأسفار الخمسة قد خصصت لابتكار أصول بعيدة لإسرائيل التوراتية في أرض كنعان، وسفر يشوع والقضاة لابتكار الأصول القريبة، فإن سفر صموئيل الأول قد كرس لابتكار أصول للملكية في إسرائيل، وللمملكة الموحدة لكل إسرائيل، التي من المفترض أنها قامت على معظم أراضي كنعان. وتلعب هنا شخصية صموئيل، الكاهن والنبي وآخر القضاة على بني إسرائيل، دور المفصل الذي يربط تقليد عصر القضاة بتقليد عصر المملكة. فآخر القضاة هنا هو الذي يمسح أول الملوك ويختاره لخلافته، فينهي بذلك عصرا ويفتتح آخر.
جاء شاول، الملك الأول، من قبيلة بنيامين التي تنتمي أصلا إلى القبائل الشمالية، وتسكن في أقصى جنوب مناطقها عند الرقعة الفاصلة بين الهضاب المركزية ومرتفعات يهوذا التي تليها. وبما أن المنظور الأيديولوجي لأسفار التوراة يعكس المواقف الفكرية لكهنة يهوذا المشرفين على عملية التحرير في الفترات المتأخرة، فقد كان لا بد من إظهار شاول في صورة الملك السيئ، وإظهار داود - الذي جاء من بيت لحم في منطقة يهوذا - بصورة الملك الجيد. وليس علو داود على شاول، وقيام الرب بانتزاع المملكة منه وإعطائها إلى داود؛ إلا تسويغا أيديولوجيا لاستئثار يهوذا بالملك إبان فترة المملكة الموحدة، من دون قبائل إسرائيل العشر الشمالية. ولسوف نرى منذ الآن في الأسفار التوراتية ذلك التمييز، الذي صار واضحا الآن بين إسرائيل ويهوذا.
رغم أن أسلوب المحررين هنا يشبه إلى حد بعيد أسلوب سفر القضاة، إلا أن سفر صموئيل يتميز بوحدة وتكامل الأحداث، وذلك بسبب تمركز أحداثه حول شخصيتين رئيسيتين، هما شاول وداود. فكل القصص الصغيرة المثيرة حول تتبع شاول لداود، وهرب الأخير في كل مرة، قد صيغت في قالب منسجم رغم انتمائها الواضح لأصول مختلفة. كما أن المحرر قد أفلح في رسم صورة قوية ومؤثرة لشخصية شاول تجعل القارئ في تعاطف كامل معها، رغم النوازع الأخرى للمحرر في إظهار الجوانب السلبية لها، والتي لم تكن مقنعة على الإطلاق. الأمر الذي يدل في اعتقادي على أن هذا المحرر قد استخدم قصة أصلية متكاملة عن قائد ظهر في منطقة الهضاب المركزية في زمن لا نعرفه، وقام بحماية جماعته من بغي وتعدي جماعة أخرى. ذلك أن أحداث سفر صموئيل الأول تظهر في مستوياتها التحتية - التي تعود إلى أزمنة قديمة - ملامح ملحمة شعبية على غاية من الأصالة والنبل والجمال.
تنتمي القصص التي أدمجت في السياق الرئيسي لحياة شاول إلى المخزون الفولكلوري نفسه الذي استمدت منه قصص القضاة، وهي مليئة بالعناصر المعروفة لنا في الأدب الشعبي. ونخص بالذكر هنا عنصر الراعي الأعزل الذي يتغلب على الفارس المدجج بالسلاح في مواجهة فردية، فهو عنصر شائع ومتكرر فيما لا يحصى من القصص الشعبي والبطولي لدى مختلف الشعوب. وقد أضيف إليه هنا عنصر المرور باختبار عسير من أجل النيل بيد بنت الملك، وهو من العناصر القصصية الشائعة والمكررة بصور وأشكال لا حصر لها. ولقد كان المنظور الأيديولوجي المفروض على هذه القصص من المرونة بحيث سمح لأجواء القصص الأصلية ولبيئتها بالإعلان عن نفسها. فداود - مسيح الرب، والشخصية المركزية في التاريخ الزمني لإسرائيل التوراتية - كان يحتفظ في بيته بالترافيم، وهي أصنام آلهة رب البيت، منها ما هو صغير ومنها ما هو كبير على هيئة الآدميين.
1
ففي إحدى الليالي جاء رسل شاول وطرقوا باب منزل داود بعد أن عرفوا بوجوده ليقتادوه إلى شاول، فأنزلته ميكال من الكوة الخلفية للبيت، ووضعت في سريره الترافيم وغطته بثوب، وقالت للرسل إنه مريض (صموئيل الأول، 19: 11-17). ورغم محاولة المحرر إظهار داود في صورة الملك الجيد في مقابل الملك السيئ شاول، إلا أنه ترك عناصر من القصة الأصلية التي استخدمها على حالها رغم إساءتها إلى صورة البطل مسيح الرب. فهو لا يتورع عن اللجوء إلى أعداء شعبه ويعمل مع عصابته كمرتزقة لدى ملك جت، كما أنه لا يجد غضاضة في التطوع لقتال شاول في معركة جبل جلبوع، والتي أدت إلى سقوط شاول وأولاده.
ويستمر في سفر صموئيل الأول أسلوب المحرر التوراتي الذي عهدناه في إيراد الروايات المتناقضة للحادثة الواحدة. فحادثة التحاق داود بأخيش ملك جت تأتي في روايتين، في الرواية الأولى يرفض ملك جت لجوء داود ويقصد به شرا: «وقام داود وهرب في ذلك اليوم من أمام شاول، وجاء إلى أخيش ملك جت. وقال عبيد أخيش له: أليس هذا داود ملك الأرض! أليس لهذا كن يغنين في الرقص قائلات: ضرب شاول ألوفه وضرب داود ربواته! فوضع داود في قلبه هذا الكلام وخاف جدا من أخيش، فغير عقله في أعينهم وتظاهر بالجنون بين أيديهم، وأخذ يخربش على مصاريع الباب. فقال أخيش لعبيده: هو ذا ترون الرجل مجنونا، فلماذا تأتون به إلي! ... فذهب داود ونجا من هناك إلى مغارة عدلام» (صموئيل الأول، 21: 10-15). وفي الرواية الثانية يستقبل أخيش داود استقبالا حسنا، ويقطعه بلدة صقلع: «وقال داود في قلبه: إني سأهلك يوما بيد شاول، فلا شيء خير لي من أن أفلت إلى أرض الفلسطينيين. فقام داود وعبر هو والستمائة الرجل الذين معه إلى أخيش ملك جت، وأقام عنده في جت ... فقال داود لأخيش: إن كنت قد وجدت نعمة في عينيك فليعطوني مكانا في إحدى قرى الحقل فأسكن هناك ... إلخ» (صموئيل الأول، 27: 1-6).
ولدينا ثلاث روايات عن مسح شاول ملكا، في الرواية الأولى يأتي شاول إلى بلد صموئيل باحثا عن حمير أبيه الضالة، وهناك يراه صموئيل ويأتيه كلام الرب بأن هذا الفتى هو الذي يملك على الشعب، فيمسحه صموئيل ملكا (صموئيل الأول، 9). وفي الرواية الثانية يطلب الرب من صموئيل أن يدعو كل إسرائيل حسب أسباطهم فيستعرضهم أمامه فيختار منهم ملكا، فتصعد الأسباط إلى صموئيل وتجتاز أمامه، فيختار منها الرب سبط بنيامين، ثم يستعرض سبط بنيامين عشائره فيختار الرب عشيرة مطري، ثم تستعرض عشيرة مطري أسرها فيختار الرب أسرة قيس، ومن أسرة قيس يختار الرب شاول، فيمسحه صموئيل ملكا (صموئيل الأول، 10). وفي الرواية الثالثة يصعد ناحاش العموني على جلعاد ويستعبد أهلها، فيرسل هؤلاء رسلا يستنجدون بقبائل إسرائيل، ويأتي الرسل إلى جبعة حيث شاول. فخرج شاول وراء البقر من الحقل على بكاء الرسل واستنجادهم بقبائل إسرائيل، فحل عليه روح الرب وغضب غضبا شديدا. أخذ بقرة وقطعها إلى اثنتي عشرة قطعة وأرسلها بيد الرسل إلى كل تخوم إسرائيل قائلا: من لا يخرج وراء شاول ووراء صموئيل هكذا يفعل ببقره. فخرج الشعب وراء شاول كرجل واحد وهزموا العمونيين، ثم عادوا وملكوا شاول عليهم (صموئيل الأول، 11).
ولدينا روايتان عن لقاء شاول بداود، في الأولى ينصح أتباع شاول بإحضار داود ليعزف على العود فيسري عن فؤاد شاول، فيأتي إليه ويحبه شاول ويجعله حامل سلاحه (صموئيل الأول، 16). وفي الإصحاح التالي مباشرة نجد شاول لم يجتمع بعد بداود، فعندما ينبري داود للقاء الفلسطيني يسأل شاول عن الفتى وعن عائلته: «ولما رأى شاول داود خارجا للقاء الفلسطيني قال لأبينير رئيس جيشه: ابن من هذا الغلام يا أبينير؟ فقال أبينير: وحياتك أيها الملك لست أعلم. فقال الملك: اسأل ابن من هذا الغلام. ولما رجع داود من قتل الفلسطيني أخذه أبينير وأحضره أمام شاول ورأس الفلسطيني في يده، فقال له شاول: ابن من أنت يا غلام؟ فقال داود: ابن عبدك يسى البيتلحمي» (صموئيل الأول، 17). وفي هذه الرواية لا يظهر تعلق شاول بداود منذ البداية كما رأينا في الرواية السابقة، بل إن ابنه يوناثان هو الذي يحب داود ويتعلق به، فيضمه شاول إلى جماعته ولا يتركه يرحل إلى بيت أبيه.
وهناك روايتان عن طريقة موت شاول. ففي الأولى رأيناه يطلب من حامل سلاحه أن يقتله فيرفض فيسقط شاول على سيفه ويموت (صموئيل الأول، 31: 4-5). أما في الرواية الثانية، فإن شابا عماليقيا يأتي إلى داود معفرا بالتراب، ممزق الثياب، ويخبره بأن شاول وأولاده قد قضوا في معركة جلبوع، فيسأله كيف عرف بموت شاول فقال: «إني كنت في جبل جلبوع وإذا شاول يتوكأ على رمحه، وإذا بالمركبات والفرسان يشدون وراءه. فالتفت إلى ورائه فرآني ودعاني فقلت: ها أنا ذا، فقال لي: من أنت؟ فقلت: عماليقي أنا، فقال لي: قف علي واقتلني لأنه قد اعتراني الدوار. فوقفت عليه وقتلته؛ لأني علمت أنه لا يعيش بعد سقوطه» (صموئيل الثاني، 1: 1-10).
وعن مدة حكم شاول نقرأ في الإصحاح 13: 1 أن شاول قد حكم مدة سنتين، وهذا لا يتناسب مع مجريات الأحداث اللاحقة. فشاول قد مسح ملكا وهو شاب يافع، ثم سقط في معركة جلبوع وهو كهل وله أولاد محاربون أشداء قتلوا معه في المعركة. وبعد موت شاول تقوم القبائل الإسرائيلية في الشمال بتنصيب ابنه إيشبوشت ملكا عليها وعمره أربعون سنة (صموئيل الثاني، 2: 8-9). وهذا يدل على أن فترة حكم شاول قد تجاوزت الأربعين سنة.
وعندما يقطع داود رأس جليات يقول النص: «وأخذ داود رأس الفلسطيني وأتى به إلى أورشليم ووضع أدواته في خيمته.» ونحن نعرف من آخر ذكر لأورشليم أنها ما زالت بيد اليبوسيين الكنعانيين، وذلك في الموضع الذي أشرنا إليه في حينه في سفر القضاة، والذي يصف أورشليم بأنها مدينة غريبة لا يوجد فيها أحد من بني إسرائيل (القضاة، 19: 11-12) ... ثم ماذا عن خيمة داود تلك التي يضع فيها أدواته، والتي يبدو من المقطع أعلاه أنها عند أورشليم؟ ومتى كان للفتى داود - الذي ما زال يرعى غنم أبيه أو يضرب العود ويحمل أسلحة شاول - خيمة في أورشليم؟ إن المقطع كله يبدو وكأنه منتزع من سياق قصة أخرى ومدمج في هذه القصة، وربما كان ينتمي إلى قصص داود اللاحقة بعد أن صار ملكا وجعل من أورشليم عاصمة له.
نكتفي بهذا القدر اللازم من النقد النصي لسفر صموئيل الأول، دون الدخول في كثير من التفاصيل الصغيرة، التي يمكن لبحث آخر مكرس للنقد النصي أن يستعرضها، وننتقل إلى سفر صموئيل الثاني الذي يبسط أمامنا أخبار فترة العصر الذهبي لإسرائيل التوراتية. أما عن النقد التاريخي والأركيولوجي لسفر صموئيل الأول، فسوف يأتي ضمن النقد التاريخي والأركيولوجي لأخبار المملكة الموحدة، لأن أخبار شاول لم تكن سوى مدخل ومقدمة لأخبار داود وسليمان. (2) صموئيل الثاني ومملكة داود
بعد أن عرف داود بنبأ موت شاول وأولاده، رثاه ورثى ابنه يوناثان بمرثية طويلة يقول فيها: «الظبي يا إسرائيل مقتول على شوامخك. كيف سقط الجبابرة. لا تخبروا في جت، لا تبشروا في أسواق أشقلون؛ لئلا تفرح بنات الفلسطينيين، لئلا تشمت بنات الغلف. يا جبال جلبوع، لا يكن طل ولا مطر عليكن ولا حقول تقدمات، لأنه هناك طرح مجن الجبابرة مجن شاول بلا مسح بالدهن. من دم القتلى من شحم الجبابرة لم ترجع قوس يوناثان إلى الوراء، وسيف شاول لم يرجع خائبا. شاول ويوناثان المحبوبان والحلوان في حياتهما لم يفترقا في موتهما. أخف من النسور وأشد من الأسود. يا بنات إسرائيل ابكين شاول ... إلخ» (صموئيل الثاني، 1).
ثم رحل داود إلى حبرون في الجنوب وأقام هناك. وفي حبرون جاء إليه رجال يهوذا ومسحوه ملكا على بيت يهوذا. وأما القبائل الشمالية، التي تدعى في النص بإسرائيل تمييزا لها عن يهوذا، فقد ملك عليها ابن شاول المدعو إشبوشت: «وأما أبينير بن نير، رئيس جيش شاول، فأخذ إشبوشت بن شاول وعبر به إلى محنايم وجعله ملكا على كل إسرائيل، وكان إشبوشت بن شاول ابن أربعين سنة حين ملك على إسرائيل، وملك سنتين.» وبعد ذلك اشتعلت الحرب بين إسرائيل ويهوذا، ولم تنته إلا بموت إشبوشت ملك إسرائيل غيلة على يد اثنين من جماعته طمعا في مكافأة من داود: «دخلا عند حر النهار إلى بيت إشبوشت وهو نائم نومة الظهيرة، فدخلا في وسط البيت ليأخذا حنطة، فعند دخولهما البيت كان هو مضطجعا في سريره في مخدع نومه، فضرباه وقطعا رأسه، وأخذا رأسه وسارا الليل كله، وأتيا برأس إشبوشت إلى داود إلى حبرون، وقالا للملك: هو ذا رأس إشبوشت بن شاول عدوك الذي كان يطلب نفسك ... فأمر داود الغلمان فقتلوهما، وقطعوا أيديهما وأرجلهما، وعلقوهما على البركة في حبرون. وأما رأس إشبوشت فأخذوه ودفنوه.» فأتى رجال إسرائيل إلى داود في حبرون وملكوه على إسرائيل أيضا. وبذلك ينتقل الملك إلى يهوذا (صموئيل الثاني، 1-5).
وكان أول عمل لداود بعد أن صار رأسا للمملكة الجديدة هو الاستيلاء على أورشليم، التي جعلها عاصمة له بعد أن أقام في حبرون حوالي سبع السنوات. وكانت أورشليم حتى ذلك الوقت مدينة كنعانية يسكنها اليبوسيون. وبعد استقراره في العاصمة الجديدة أرسل إليه حيرام الفينيقي ملك صور خشب أرز ونجارين وبنائين فبنوا لداود بيتا، وبدأ داود يعيش عيشة الملوك المترفة، وتسرى بنساء من أورشليم ولدن له بنين وبنات. وكانت أول حرب يخوضها هي حرب دفاعية ضد الفلسطينيين الذين بادروا لقتاله بعد أن رأوا تزايد قوته، فضربهم وطاردهم إلى تخومهم. وبعد ذلك جاء داود بتابوت العهد وأدخله إلى أورشليم في موكب حافل وهو يرقص أمامه رقصا طقوسيا حتى دخل المدينة، حيث وضع التابوت في خيمة. ولكن الرب لم يكن راضيا عن مكان إقامته، فتكلم مع ناثان النبي قائلا: «اذهب وقل لعبدي داود: هكذا قال الرب: أأنت تبني لي بيتا لسكناي؟ لأني لم أسكن في بيت منذ يوم أصعدت بني إسرائيل من مصر إلى هذا اليوم، بل كنت أسير في خيمة وفي مسكن» (صموئيل الثاني، 5-7). غير أن بناء بيت للرب كان مشروعا يفوق إمكانيات داود المتواضعة، وكان على الرب أن ينتظر مجيء سليمان لينجز هذه المهمة.
بعد أن أمن داود جانب الفلسطينيين المهزومين، توجه إلى شرقي الأردن فضرب موآب وصار الموآبيون له عبيدا. ثم توجه شمالا نحو مملكة صوبة الآرامية التي تعاضدها دمشق: «ضرب داود هدد عزر بن رحوب ملك صوبة حين ذهب ليرد سلطته عند نهر الفرات. فأخذ داود منه ألفا وسبعمائة فارس وعشرين ألف رجل. وعرقب داود جميع خيل المركبات وأبقى منها مائة مركبة. فجاء آرام دمشق لنجدة هدد عزر ملك صوبة، فضرب داود من آرام اثنين وعشرين ألف رجل. وجعل داود محافظين في آرام، وصار الآراميون لداود عبيدا يقدمون الهدايا. وكان الرب يخلص داود حيثما توجه. وأخذ داود أتراس الذهب، التي كانت على عبيد هدد عزر وأتى بها إلى أورشليم، ومن باطح ومن بيروثاي مدينتي هدد عزر أخذ الملك داود نحاسا كثيرا. وسمع توعي ملك حماة أن داود قد ضرب كل جيش هدد عزر، فأرسل توعي يورام ابنه إلى الملك ليسأل عن سلامته ويباركه، لأن هدد عزر كانت له حروب مع توعي. وكان بيده آنية من فضة، وآنية من ذهب، وآنية من نحاس. وهذه أيضا قدسها للرب الملك داود، مع الفضة والذهب الذي قدسه من جميع الشعوب الذين أخضعهم؛ من آرام ومن موآب ومن بني عمون ومن الفلسطينيين ومن عماليق ومن غنيمة هدد عزر ملك صوبة ...» (صموئيل الثاني، 8).
ورغم أن مملكة عمون في شرقي الأردن تظهر في النص السابق بين الممالك التي تم إخضاعها، إلا أننا نجدها في الإصحاح الذي يلي مملكة مستقلة، وعلى علاقات ودية مع داود إلى أن مات ملكها المدعو ناحاش، وملك ابنه حانون بدلا عنه. فأرسل داود رسلا من قبله لتعزية حانون بوفاة أبيه، ولكن حانون شك في أمر الرسل وظنهم جواسيس لداود، فعاملهم معاملة سيئة، وقص أنصاف لحاهم وثيابهم إلى وسطهم وأعادهم إلى داود. ثم تهيأ للحرب واستأجر مرتزقة لعونه من آرام صوبة وغيرها من الدويلات المجاورة: «ولما رأى بنو عمون أنهم قد أنتنوا عند داود، أرسل بنو عمون واستأجروا آرام بيت رحوب وآرام صوبة عشرين ألف رجل، ومن معكة ألف رجل، ورجال طوب اثني عشر ألف رجل. فلما سمع داود أرسل يوآب وكل جيش الجبابرة.» ويحرز يوآب قائد جيش داود نصرا على بني عمون وعلى الآراميين المستأجرين لهم. ثم لا يستثمر نصره بمتابعة العمونيين المتراجعين إلى مدينتهم، أو ملاحقة الآراميين الهاربين، بل يقفل عائدا إلى أورشليم. ولكن هدد عزر يستجمع قواه مجددا ويأتي بآراميين لمساعدته من وراء الفرات: «ولما رأى آرام أنهم انكسروا أمام إسرائيل اجتمعوا معا. وأرسل هدد عزر فأبرز آرام الذي في عبر النهر، فأتوا إلى حيلام وأمامهم شوبك رئيس جيش هدد عزر. ولما أخبر داود جمع كل إسرائيل وعبر الأردن وجاء إلى حيلام، فاصطف آرام للقاء داود وحاربوه. وهرب آرام أمام إسرائيل، وقتل داود من آرام سبعمائة مركبة وأربعين ألف فارس، وضرب شوبك رئيس جيشه فمات هناك» (صموئيل الثاني، 10).
عاد داود إلى أورشليم. وبعد سنة كاملة أرسل قائده يوآب وحاصر مدينة ربة عمون عاصمة العمونيين وأطال الحصار. أما داود فقد استسلم لحياة الرغد في أورشليم. وفي إحدى الأمسيات كان يتمشى على سطح بيته فرأى امرأة جميلة تستحم وراقت في عينيه، فسأل عنها فقيل: هي بتشبع امرأة أوريا الحثي، وكان جنديا يحارب في جيش يوآب. فأرسل داود رسلا وأخذها فدخلت إليه واضطجع معها ثم رجعت إلى بيتها. وحبلت المرأة فأرسلت وأخبرت داود، فكتب داود رسالة إلى يوآب يقول فيها: «اجعلوا أوريا في وجه الحرب الشديدة وارجعوا من ورائه فيضرب ويموت.» فمات أوريا، وأرسل داود إلى امرأة أوريا وضمها إلى بيته فصارت له امرأة. أما يوآب فقد أحكم الحصار على مدينة ربة عمون وآلت إلى السقوط بيده، فأرسل إلى داود طالبا منه الحضور ليأخذ المدينة بيده. فجمع داود كل الشعب وذهب إلى ربة عمون وأخذها وقتل جميع أهلها. ولكن الرب كره ما فعله داود بأخذه زوجة أوريا الحثي وقتله الرجل بسببها، فأرسل النبي ناثان الذي قال لداود: «كان رجلان في مدينة واحدة. واحد منهما غني والآخر فقير. وكان للغني غنم وبقر كثيرة جدا، وأما الفقير فلم يكن له شيء إلا نعجة واحدة صغيرة قد اقتناها ورباها وكبرت معه ومع بنيه ... فجاء ضيف إلى الرجل الغني فعفا أن يأخذ من غنمه ومن بقره ليهيئ للضيف الذي جاء إليه، فأخذ نعجة الرجل الفقير وهيأ للرجل الذي جاء إليه. فحمي غضب داود على الرجل جدا وقال لناثان: حي هو الرب، إنه يقتل الرجل الفاعل ذلك، ويرد النعجة أربعة أضعاف ... فقال ناثان لداود: أنت هو الرجل» (صموئيل الثاني، 11 و12).
وحدث بعد ذلك أنه كان لابن داود المدعو أبشالوم أخت جميلة اسمها ثامار. فأحبها ابن داود الآخر المدعو أمنون، وكان أخا غير شقيق لأبشالوم، وأسقم أمنون حب أخته ثامار حتى لزم بيته وفراشه. وأخيرا فكر بحيلة يستدرج بها أخته إلى فراشه «فاضطجع أمنون وتمارض، فجاء الملك ليراه فقال أمنون: دع ثامار أختي فتأتي وتصنع أمامي كعكتين فآكل من يدها ... فذهبت ثامار إلى بيت أمنون أخيها وهو مضطجع ... وقدمت له ليأكل، فأمسكها وقال لها: تعالي اضطجعي معي يا أختي. فقالت له: لا يا أخي، لا تذلني ... فلم يشأ أن يسمع لصوتها، بل تمكن منها وقهرها واضطجع معها.» فجعلت ثامار رمادا على رأسها ومزقت ثوبها وراحت تصرخ، فجاء إليها أخوها أبشالوم وأسكتها وقادها إلى بيته مبيتا خطة هادئة للانتقام من أمنون. بعد مدة دعا أبشالوم أمنون وبقية إخوته أولاد داود إلى وليمة، وأوصى غلمانه أن يضربوا أمنون بعد أن تلعب الخمرة برأسه. ففعل غلمان أبشالوم بأمنون كما أمرهم وقتلوه. فقام جميع بني الملك وركبوا كل واحد على بغلة وهربوا. أما أبشالوم فقد توارى عن الأنظار ريثما يتعزى داود عن ابنه القتيل (صموئيل الثاني، 13).
وكان أبشالوم صاحب مطامح . فصار يستميل قلوب الناس ويجلس للقضاء بينهم قبل وصولهم إلى باب الملك، فأحبه الشعب ومال إليه. وعندما أحس أن الوقت قد حان للانقلاب على أبيه أقام في مدينة حبرون، وجمع حوله الأتباع والمؤيدين، وأرسل دعاته بشكل خاص إلى قبائل إسرائيل في الشمال التي بايعت داود مكرهة بعد قتل أشبوشت، واتفق معهم على نزع طاعة داود لدى سماعهم أن الأبواق قد ضربت في حبرون ونودي في الأسواق: قد ملك أبشالوم. «فأتى مخبر إلى داود قائلا: إن قلوب رجال إسرائيل صارت وراء أبشالوم. فقال داود لجميع عبيده الذين معه في أورشليم: قوموا بنا نهرب لأنه ليس لنا نجاة من وجه أبشالوم. أسرعوا للذهاب لئلا يبادر ويدركنا وينزل بنا الشر، ويضرب المدينة بحد السيف. فخرج الملك وجميع بيته وراءه، وكل الشعب في إثره ... وأما داود فصعد في مصعد جبل الزيتون. كان يصعد باكيا ورأسه مغطى ويمشي حافيا، وجميع الشعب الذين معه غطوا كل واحد رأسه، وكانوا يصعدون وهم يبكون.» ثم عبر داود ومن معه نهر الأردن إلى الجهة الأخرى. أما أبشالوم فقد دخل أورشليم مدعوما من قبائل إسرائيل. ولكن مشيريه نصحوه باللحاق بداود والقضاء على قوته العسكرية في شرقي الأردن: «فعبر أبشالوم الأردن هو وجميع رجال إسرائيل معه ... ونزل إسرائيل وأبشالوم في أرض جلعاد. وهنا وجد داود أن المواجهة بينه وبين ابنه صارت محتومة، فتجهز للحرب وقسم جيشه ثلاث فرق، عين على كل فرقة قائدا، وأوصاهم جميعا ألا يمسوا ابنه أبشالوم بسوء. «وخرج الشعب إلى الحقل للقاء إسرائيل. وكان القتال في وعر أفرايم. فانكسر هناك شعب إسرائيل أمام عبيد داود، وكانت هناك مقتلة عظيمة.» ولم يحفظ القائد يوآب وصية داود فضرب أبشالوم بثلاثة سهام وهو عالق بأغصان شجرة بطم، فقتله. وبعد أن أقام داود مناحة على ابنه القتيل قفل عائدا إلى أورشليم. أما قبائل إسرائيل فقد مشت بعد أبشالوم وراء قائد جديد: «فصعد كل رجال إسرائيل من وراء داود إلى وراء شبع بن بكري. وأما رجال يهوذا فلازموا ملكهم من الأردن إلى أورشليم .» وقبل أن تستقر الأمور لشبع بن بكري أرسل داود وراءه قائده يوآب فتعقبه وحاصره في مدينة آبل بيت معكة. ولما اشتد الحصار على أهل المدينة اتفقوا مع يوآب على تسليمه رأس شبع بن بكري مقابل فك الحصار عن مدينتهم، فارتد يوآب برأس شبع وانتهت الفتنة» (صموئيل الثاني، 14-20). «وكان جوع في أيام داود ثلاث سنين، سنة بعد سنة، فطلب داود وجه الرب.» فقال له الرب إنه غاضب على الأرض لأن الملك شاول كان قد ضرب أهل مدينة جبعون بعد العهد الذي كان يشوع قد قطعه معهم منذ القدم (وهذه الحادثة غير واردة في أخبار شاول). فجاء داود إلى الجبعونيين وسألهم كيف يستطيع التكفير عن خطيئة شاول. فطلب الجبعونيون أن يسلمهم داود سبعة من بني شاول يقدمونهم قربانا للرب. فأخذ داود ولدي شاول من زوجته رصفة، وخمسة أولاد لميكال ابنة شاول وسلمهم إلى يد الجبعونيين «فصلبوهم على الجبل أمام الرب، فسقط السبعة معا وقتلوا في أيام الحصاد ... وبعد ذلك استجاب الله من أجل الأرض» (صموئيل الثاني، 21).
وتختتم حياة داود بكارثة تحل في إسرائيل. فقد غضب الرب على داود لأنه قام بإحصاء الشعب لمعرفة عدد سكان مملكته «فجعل الرب وباء في إسرائيل من الصباح إلى الميعاد، فمات الشعب من دان إلى بئر السبع سبعون ألف رجل، وبسط الملاك يده على أورشليم ليهلكها، فندم الرب عن الشر وقال للملاك المهلك الشعب: كفى، الآن رويدك. وكان ملاك الرب عند بيدر أرونة اليبوسي. فكلم داود الرب عندما رأى الملاك الضارب الشعب وقال: ها أنا أخطأت وأنا أذنبت، وأما هؤلاء الخراف فماذا فعلوا؟» ثم اشترى داود الأرض التي وقف عندها الملاك من صاحبها أرنان اليبوسي وأقام عندها مذبحا للرب (صموئيل الثاني، 24). أما ما يلي هذه الحادثة من أخبار شيخوخة داود وتنازع أولاده على العرش؛ فيرد في سفر الملوك الأول، الذي يفصل في سيرة الملك سليمان التي سوف ننتقل إليها بعد قليل.
النقد النصي لسفر صموئيل الثاني
لم يحقق المحرر التوراتي في سفر صموئيل الثاني أية نقلة نوعية في أسلوبه، من شأنها الإيحاء بانتقاله من مرحلة التجميع التراثي غير المدقق إلى مرحلة التقصي التاريخي. فهذا السفر يمتح من الذخيرة القصصية الشعبية والبطولية نفسها التي متح منها سفر القضاة. ولكن بينما توزعت أحداث سفر القضاة بين شخصيات مختلفة ومتباعدة زمنيا، فإن أحداث صموئيل الثاني قد جعلت تدور حول شخصية الملك داود، في محاولة لرسم صورة لملك ملحمي أسس التقاليد الملكية في إسرائيل. من هنا، فقد يبدو سفر صموئيل لأول وهلة أكثر تسلسلا وانسجاما من سفر القضاة، وإيحاء بما يشبه التاريخ. إلا أن القراءة المدققة ما تلبث أن تظهر لنا مدى تفكك هذا السفر، واستقلالية قصصه عن بعضها، وتفرد كل منها بعقدة خاصة وسياق مغلق لا يؤدي إلى غيرها، وذلك رغم الترتيب الزمني الذي اصطنعه المحرر من أجل ربطها، وعقد الصلة فيما بينها. فحروب داود التي ذكرت باقتضاب، ولم تأخذ حيزا من السفر يعادل حيز قصة اغتصاب أمنون لأخته، يمكن أن تنسب لأية شخصية في سفر القضاة، مثل جدعون (القضاة، 7-8) أو يفتاح الجلعاوي (القضاة، 11) أو إلى يشوع، أو حتى إلى موسى الذي وصل في غزواته إلى حوران في سوريا الجنوبية. فإذا تجاوزنا حروب داود انفتح أمامنا عالم من قصص ألف ليلة وليلة؛ الملك يتمشى على السطح ويتلصص على امرأة عارية تستحم، فيقع في غرامها ويقتل زوجها الجندي ليحصل عليها. أمنون يأتي بأخته ثامار بحيلة إلى سريره ويغتصبها. أبشالوم يولم لإخوته ويقتل من بينهم أمنون. خروج الابن على أبيه من أجل الاستئثار بالعرش وما جرى بينهما من حروب. أهل مدينة آبل بيت معكة يقطعون رأس شبع بن بكري ويسلمونه للقائد يوآب. التضحية بأولاد شاول السبعة وصلبهم على الجبل قربانا للرب ... إلخ. كما أن باستطاعتنا نقل أية قصة من هذه القصص المؤلفة لسيرة داود إلى سفر القضاة أو إلى يشوع أو حتى إلى أحد الأسفار الخمسة، دون أن نشعر بغرابتها عن جوها الجديد، وهذا يدل على أننا ما زلنا في حيز الأدب، ولم ننتقل بعد مع النص التوراتي إلى حيز التاريخ.
وتعطينا بعض التفاصيل الصغيرة للقصص فكرة عن كيفية تصور محرر صموئيل الثاني لمملكة داود. فهذه المملكة لم تكن أكثر من مشيخة قبلية متواضعة، وملوكها ليسوا أكثر من أمراء محليين لم يأخذوا بعد بأسباب التمدن. فالقتلة يدخلون بيت ملك إسرائيل إشبوشت عند الظهيرة وباب الملك مفتوح على مصراعيه، ويأتون إلى صحن الدار متظاهرين بأنهم يأخذون قمحا، ثم يدخلون مخدع الملك وهو نائم نومة الظهيرة فيقطعون رأسه ويسيرون به، دون أن يعترضهم حرس أو خدم أو حشم. وبيت داود لا يختلف كثيرا عن بيت إشبوشت الذي يستطيع دخوله أي عابر سبيل، فرغم أن النص يقول بأن حيرام قد أرسل إلى داود خشب أرز ونجارين وبنائين ليصنعوا بيتا لداود، إلا أننا نجد بعد ذلك أن هذا البيت قائم بين بيوت الجنود العامة. فعندما يصعد داود ليتمشى على السطح يرى امرأة تستحم في بيتها، وهذا يعني أنه لم يكن بين سطح داود وبيت المرأة، التي كانت زوجة أوريا الجندي، إلا بضعة أمتار سمحت للملك برؤية تفاصيل جمال المرأة المستحمة.
وفي سفر صموئيل الثاني يبدأ النص التوراتي بالتمييز بين إسرائيل ويهوذا، وهو التمييز الذي سوف يستمر ويتأكد عبر الأسفار اللاحقة. فبعد أن كان المحرر يستعمل تعبير «كل إسرائيل» أو «كل الشعب» للدلالة على القبائل الاثنتي عشرة بما فيها يهوذا، فإنه يأخذ عبر سفر صموئيل الثاني بالحديث عن إسرائيل وعن يهوذا، وتبدو يهوذا مستثناة من مصطلح «كل إسرائيل» الذي يستخدم في معظم المواضع للدلالة على القبائل الواقعة إلى الشمال من أورشليم ابتداء من بنيامين. فبعد موت شاول الإسرائيلي «أتى رجال يهوذا ومسحوا داود ملكا على بيت يهوذا ... وأما أبينير رئيس جيش شاول فأخذ إشبوشت وعبر به إلى محنايم وجعله ملكا على كل إسرائيل» (صموئيل الثاني، 2). وعندما ينحاز أبينير رئيس جيش شاول بعد ذلك إلى جانب داود يأتي إلى داود ويقول: «أقوم أذهب وأجمع إلى سيدي الملك جميع إسرائيل فيقطعون معك عهدا» (صموئيل، 3: 21). ومن الواضح في هذا المقطع أن المقصود بجميع إسرائيل هو القبائل الشمالية، لأن يهوذا كانت قد بايعت داود منذ البداية. وبعد مقتل إشبوشت يأتي الإسرائيليون إلى داود فيبايعونه أيضا، وهنا نقرأ: «وجاء جميع أسباط إسرائيل إلى داود في حبرون ... وجاء جميع شيوخ إسرائيل إلى الملك إلى حبرون. فقطع الملك داود معهم عهدا ... ومسحوا داود ملكا على إسرائيل. وكان داود ابن ثلاثين سنة حين ملك ... في حبرون ملك على يهوذا سبع سنين وستة أشهر، وفي أورشليم ملك ثلاثا وثلاثين سنة على جميع إسرائيل ويهوذا» (صموئيل الثاني، 5: 4-5). وبعد موت أبشالوم «صعد كل رجال إسرائيل من وراء داود إلى وراء شبع بن بكري، أما رجال يهوذا فلازموا ملكهم» (صموئيل الثاني، 20: 2). وفي غير أمثال هذه المواضع المشار إليها أعلاه، فإن المحرر يعود إلى استخدام مصطلح «كل إسرائيل» في الإشارة إلى إسرائيل ويهوذا معا، وخصوصا في حديثه عن المعارك التي تخوضها هذه القبائل موحدة ضد عدو خارجي. من ذلك مثلا ما ورد في صموئيل الثاني (10: 10-11)، و(11: 1).
النقد التاريخي والأركيولوجي لصموئيل الثاني
يفترض المؤرخون أن شاول قد حكم بين 1030 و1009ق.م.، وداود بين 1009 و969ق.م.، وسليمان بين 969 و931ق.م.، إلا أن البينة التاريخية والأركيولوجية لم تتوفر حتى الآن على وجود هؤلاء الملوك، ولا يوجد لدينا خارج النص التوراتي مصدر يتعرض لذكرهم بشكل مباشر، أو يقدم مادة يمكن مقاطعتها مع كل ما ذكره النص التوراتي بخصوصهم.
فيما يتعلق بأخبار الملك داود في سفر صموئيل الثاني لدينا بضعة أسطر خصصها المحرر للحديث عن حروب داود، وانتزع لها حيزا ضيقا بين خضم القصص التي تتحدث عن الصراع على السلطة وغراميات البلاط الملكي والدسائس السياسية. يحارب داود أولا الفلسطينيين، ثم الموآبيين في شرقي الأردن. وأخبار مثل هذه الحروب تتخذ في النص التوراتي صيغة نمطية ومتكررة لا تسمح للباحث بتبين العناصر التاريخية فيها، إنها أشبه بالعنصر التزيني الجاهز للاستخدام في رسم أية سيرة شخصية توراتية. ولعلنا قادرون على انتزاع أي خبر من أخبار هذه الحروب من مكانه وزرعه في أي مكان آخر دون أن نحدث في الرواية خللا يذكر. بعد ذلك يتجه داود لقتال المدعو هدد عزر ملك صوبة، دون أن يعطينا النص أي مسوغ أو سبب مباشر أو غير مباشر لهذه الحرب. ويأتي الخبر هنا في صيغة غامضة ومختصرة حيث يقول: «وضرب داود هدد بن عزر بن رحوب ملك صوبة حين ذهب ليرد سلطته عند نهر الفرات. فأخذ منه داود ... إلخ. فجاء آرام دمشق لنجدة هدد عزر ملك صوبة، فضرب داود من آرام اثنين وعشرين ألف رجل. وجعل داود محافظين في آرام دمشق وصار الآراميون لداود عبيدا.» ولكن هذه المعركة لم تكن فاصلة بين الطرفين، فبعد أن طرد ملك عمون رسل داود وتهيأ لقتاله «أرسل بنو عمون واستأجروا آرام بيت رحوب وآرام صوبة عشرين ألف رجل، ومن معكة ألف رجل، ورجال طوب اثني عشر ألف رجل ... فتقدم يوآب والشعب الذين معه لمحاربة آرام فهربوا من أمامه. ولما رأى بنو عمون أنه قد هرب آرام هربوا ودخلوا المدينة. فرجع يوآب عن بني عمون وأتى إلى أورشليم.» بعد ذلك مباشرة تبدأ المعركة الثانية بين داود وهدد عزر: «ولما رأى آرام أنهم انكسروا أمام إسرائيل اجتمعوا معا. وأرسل هدد عزر فأبرز آرام الذي في عبر النهر فأتوا إلى حيلام وأمامهم شوبك رئيس جيش هدد عزر ... فاصطف آرام للقاء داود وحاربوه وهرب آرام من أمام إسرائيل.»
لقد سكب المؤرخون أطنانا من الحبر حتى الآن من أجل إعادة ترتيب هذه الأخبار المختصرة الغامضة، ووضعها في إطار تاريخ مقبول، فأخرجوا ممالك من العدم، وأسبغوا عليها الطابع التاريخي، ورسموا حدودها ووصفوا علاقاتها مع الممالك الوهمية الأخرى، استنادا إلى الرواية التوراتية وحدها. ففيما يتعلق بمملكة صوبة احتار الباحثون بشأن موقعها وحدودها، وخرجوا باستنتاجات واهية من شأنها خلق صورة مضخمة عن هذه المملكة. فالباحث هاليفي يقول: إن صوبة هي تحريف لكلمة صهوبة، التي تعني بريق الذهب أو النحاس، وبما أن سلسلة جبال لبنان الشرقية غنية بالنحاس، فإن من المرجح أن صوبة كانت تشمل الأراضي الممتدة إلى الشمال الغربي من دمشق، وذلك من البقاع غربا وحتى البادية شرقا.
2
وقد سار بقية الباحثين على منوال هاليفي . يقول واين بيتارد في كتابه «دمشق في العصور القديمة» ما يلي: «في أيام داود كانت مملكة صوبة أقوى وأهم دولة في وسط وجنوب سوريا، وخصما عنيدا للمملكة الإسرائيلية الجديدة. أما عن موقع هذه الدولة وحدودها، فإن معظم الباحثين اليوم يضعونها في البقاع الشمالي، مع امتدادات نحو الشرق تصل إلى سهول حمص وتتجاوزها حتى البادية.»
3
لقد ورد الاسم صوبة لأول مرة في سفر صموئيل الأول، الذي يذكر أن الملك شاول قد ضرب ملوك صوبة: «وحارب جميع أعدائه من حواليه؛ موآب وعمون وآدوم وملوك صوبة والفلسطينيين» (صموئيل الأول، 14: 47). وهذا يعني أن صوبة هي منطقة جغرافية وليست مملكة، وأن الملوك المذكورين هنا ليسوا سوى مشايخ قبائل نظرا للإشارة إليهم بصيغة الجمع. ولكننا في عصر داود نجدها فجأة، وبعد عدة سنوات، عبارة عن مملكة يحكمها ملك واحد اسمه هدد عزر. أما المصادر الخارجية فصامتة تماما عن ذكر هذه المملكة وعن ذكر ملكها هدد عزر، الذي لم يرد له ذكر خارج النص التوراتي. ونحن نعجب كيف تكون مملكة صوبة في القرن العاشر قبل الميلاد «أقوى وأهم دولة في وسط وجنوب سوريا» (على حد تعبير المؤرخ بيتارد، الذي اقتبسنا منه أعلاه) ثم لا تحفل النصوص الآشورية والنصوص الآرامية بذكرها. ومن جهة أخرى، فإنه لم يتوفر لدينا من منطقة البقاع الشمالي حتى الآن أية لقى أثرية يمكن أن تشير إلى وجود هذه المملكة، أو عاصمتها، التي لم يذكرها النص التوراتي، أو أي مدينة من المدن التابعة لها. وكل هذا يشير بكل وضوح إلى أن مملكة صوبة التوراتية لم تكن إلا إمارة أو مشيخة قبلية قريبة زمنيا من عصر تحرير التوراة، وأن المحرر التوراتي قد استعان بأخبار غامضة عن حروب أحد ملوك السامرة أو أورشليم المتأخرين مع هذه الإمارة الصغيرة، وأدمجها في أخبار حروب داود.
أما بخصوص الممالك الأخرى التي حالفت صوبة، وهي آرام بيت رحوب ومعكة وطوب، فقد وصفت أيضا من قبل المؤرخين بأنها دويلات هامة، وجرى تعيين مناطقها ورسم حدودها اعتمادا على الإشارات الغامضة إليها في النص التوراتي. ففيما يتعلق ببيت رحوب، جرى لمدة طويلة مطابقة هذه المملكة مع موقع رحاب على بعد 50كم إلى الشمال من مدينة عمان الحالية، ولكن التنقيب الأثري في الموقع لم يعثر على أية لقى أثرية ترجع إلى عصر الحديد الأول؛ لذا فقد نقل الباحثون موقع بيت رحوب وجعلوه في أسفل البقاع الجنوبي، من هؤلاء الباحثين: دبون سومر، وأوكالاهان، وأنغر وغيرهم. أما معكة فقد وضعت في سفوح جبل الحرمون مع امتدادات تصل إلى بحيرة الحولة، وأما طوب فقد وضعت في منطقة حوران الجنوبية.
4
ولكن هذا التعيين التعسفي لمناطق هذه الممالك - التي يصفها النص التوراتي بالممالك الآرامية - لا يستند إلى أية بينة موضوعية خارجية، فالنصوص الآرامية والنصوص الآشورية التي اعتمد عليها المؤرخون لكتابة تاريخ آرام في عصر الحديد لم تأت على ذكر هذه الممالك، كما أن التنقيبات الأثرية في المناطق المفترضة لقيامها لم تنتج حتى الآن أية بينة على وجودها. الأمر الذي يدل على أنها لم تكن أيضا إلا مشيخات قبلية دخلت في صراع مع بعض ملوك السامرة أو يهوذا المتأخرين.
ويستنتج المؤرخون من الإشارة المبهمة القائلة: «فجاء آرام دمشق لنجدة هدد عزر ...» بأن مدينة دمشق كانت في ذلك الوقت تابعة لهدد عزر ملك صوبة، وأن داود قد استبدل بإدارة هدد عزر إدارة من قبله، وعين على المدينة محافظين تابعين له مباشرة.
5
غير أن القراءة العادية للنص والبعيدة عن التأويل تقول لنا إن هدد عزر قد دخل الحرب مع داود منفردا وبقواته الخاصة، ولو كانت دمشق في ذلك الوقت ولاية تابعة لصوبة لكانت قواتها في عداد جيش هدد عزر بشكل تلقائي. ومما يؤكد هذا المرمى الواضح للنص أن دمشق قد قررت فيما بعد، وبشكل مستقل، أن ترسل جيشها لنجدة آرام صوبة. أما عن تبعية دمشق لداود، وعن أولئك المحافظين الذين عينهم لإدارتها، فإن نص سفر الملوك الأول، الذي يرصد أخبار الملك سليمان، يخبرنا فيما بعد أن أحد رجالات هدد عزر المدعو رزون بن أليداع قد استقل عن سيده وجاء إلى دمشق فملك فيها (الملوك الأول، 11: 23-24). وبذلك يتجاهل سفر الملوك الأول مسألة تبعية دمشق لداود، ولا يأتي على ذكر أولئك المحافظين الذين عينهم من قبله. وبشكل عام، فإن الطريقة المبهمة التي تحدث فيها عن دمشق محرر سفر صموئيل الثاني، تدل على أنه لم يكن يملك عنها معلومات واضحة ترقى إلى ذلك العصر، فذكرها باقتضاب ودون تفاصيل تتعلق بتكوينها السياسي واسم ملكها وأوضاعها العامة. وأغلب الظن أن هذه الحرب المفترضة بين داود ودمشق هي انعكاس للأخبار المتأخرة عن حروب ملوك دمشق وملوك السامرة ويهوذا، بعد ذلك بأكثر من قرنين من الزمان، والتي توفرت للمحرر التوراتي بعض المعلومات عنها، كما سنوضح ذلك لاحقا.
في المعركة الثانية مع آرام صوبة يقول النص إن هدد عزر قد «أبرز آرام الذي في عبر النهر، فأتوا إلى حيلام وأمامهم شوبك رئيس جيش هدد عزر.» ويبني المؤرخون على هذا الخبر أن ملك صوبة كانت له سلطة غير مباشرة على الدويلات الآرامية القائمة عند نهر الفرات، وأن هذه الدويلات قد اجتمعت معا تحت لواء هدد عزر وأتت إلى حيلام لقتال داود. ثم يسيرون أبعد من ذلك في استنتاجاتهم ويتوصلون إلى أن انتصار داود على هدد عزر وحلفائه، الذين جاءوا من عبر النهر، قد أوصل قوات داود إلى نهر الفرات، وأنه قد أخضع كل المناطق الواقعة بين الفرات ودمشق. فإلى أي حد تتطابق هذه الاستنتاجات مع الوقائع التاريخية؟
في القرن العاشر قبل الميلاد ازدهر على حوض الفرات الأوسط وعلى حوض الخابور الأسفل - وهي المنطقة التي يدعوها التوراة بعبر النهر أو آرام النهرين - عدد من الممالك الآرامية القوية، التي صرنا اليوم نعرف الكثير عن تاريخها وحضارتها استنادا إلى النصوص الآشورية والآرامية، وإلى المعلومات الأركيولوجية القيمة التي أفادتنا بها التنقيبات الأثرية في مواقعها الرئيسية. فقد أقامت قبيلة بيت لاقي الآرامية على ضفاف الخابور الأسفل وعلى ضفاف الفرات منذ القرن الحادي عشر، وجعلوا لأنفسهم عاصمة في دور كتليمو. وتظهر الوثائق الكتابية التي اكتشفت في دور كتليمو أن مملكة بيت لاقي قد تمتعت بالحكم الذاتي تحت مظلة آشورية، وحكمها ملوك آراميون خاضعون اسميا للملك الآشوري. وجاورت مملكة بيت لاقي على الخابور مملكة آرامية أخرى هي مملكة بيت بحياني، التي أسسها الشيخ بحياني، الذي حقق استقلالا ذاتيا عن الآشوريين منذ وفاة تغلات فلاصر الأول عام 1074ق.م.، وجعل لنفسه عاصمة في جوزانا (تل حلف). وتطلعنا الوثائق الآرامية التي وجدت في جوزانا على أسماء عدد من ملوك بيت بحياني الذين حكموا بين القرن الحادي عشر والقرن العاشر قبل الميلاد، وهم على التوالي: بحياني وخديانو وكبارة وأبي سلامو. وإلى الشرق من مملكتي لاقي وبحياني قامت مملكة بيت عديني، أقوى الممالك الآرامية على الفرات، وشغلت المنطقة الممتدة من كركميش (جرابلس على الحدود التركية السورية) إلى مصب رافد البليخ. وقد بنى ملوك عديني عاصمة لهم في تل برسيب في مطلع القرن الحادي عشر، واستطاعوا طرد الحاميات الآشورية من أهم مدن المنطقة حوالي عام 1000ق.م. وقد كشفت التنقيبات الأثرية في العاصمة برسيب على نصوص آرامية مهمة تلقي ضوءا على تاريخ منطقة الفرات في القرن العاشر قبل الميلاد، وهو عصر مملكة داود وسليمان.
6
هذه هي أهم الممالك الآرامية التي قامت في «عبر النهر» أيام الفترة المفترضة لحكم الملك داود، فأي من هذه الممالك قد أنجد هدد عزر ملك صوبة وحارب إلى جانبه في ذلك الموقع المجهول المدعو حيلام؟ وأي من هذه الممالك القوية، التي كانت تقارع آشور، كان خاضعا لهدد عزر المجهول الهوية تاريخيا، ولمملكة صوبة التي لا نعرف عنها شيئا خارج النص التوراتي؟ لماذا لم يذكر محرر سفر صموئيل الثاني اسم أي من الممالك الآرامية التي انهزمت أمام جيش داود في موقعة حيلام؟ والأهم من ذلك كله؛ إذا كانت سلطة داود قد وصلت إلى الفرات، فلماذا لم يصطدم بالآشوريين؟ ولماذا خلا الخبر التوراتي من أي ذكر لهم ولتواجدهم في عبر النهر؟ ولماذا لم يرد ذكر لداود في الوثائق الآرامية التي اكتشفت في عواصم ومدن ممالك آرام في عبر النهر؟ إن الجواب على هذه التساؤلات بسيط جدا، فمحرر سفر صموئيل الثاني، من ناحية أولى، لم يكن بين يديه أية معلومات موثقة عن فترة القرن العاشر قبل الميلاد، ومن ناحية ثانية، فإن هذا المحرر لم يكن يقصد إلى تقديم نص تاريخي موثق عن حروب داود، بل إلى تزيين سيرة هذا الملك الملحمي بأخبار حروب جمعها من الذاكرة القبلية للمنطقة، وصاغها بتعابير عامة لا تؤدي معلومة تاريخية محددة.
ولكي أوضح للقارئ مدى ابتعاد أخبار حروب داود عن معايير النص التاريخي، وانتمائها إلى جنس الفولكلور الشعبي أكثر من انتمائها إلى جنس الكتابة التاريخية ؛ يكفي أن أضع أمامه أي نص من النصوص التاريخية لثقافات الشرق القديم لغرض المقارنة. لننظر على سبيل المثال النص الآتي من حوليات الملك آشور ناصر بال الثاني (883-859ق.م.) الذي يصف بدقة مسار حملته على بلاد الشام: «غادرت بلاد بيت عديني، وعبرت الفرات في ذروة فيضانه على قوارب مصنوعة من الجلود إلى كركميش، حيث تلقيت جزية ملك الحثيين (تعداد للوزنات الذهبية والمواد الثمينة الأخرى المقدمة). ملوك البلاد المجاورة جميعا أتوا إلي فأمسكوا قدمي. أخذت منهم رهائن مشوا معي إلى لبنان مشكلين طليعة جيشي. غادرت كركميش متحركا على الطريق الذي يقع بين جبال منزيغاني وهامورجا، تاركا بلاد أهانو على يساري (مملكة آرامية معروفة). تقدمت نحو مدينة حزازو (مدينة أعزاز الحالية) التابعة للوبارنو ملك حطينة (مملكة آرامية معروفة في شمال حلب)، حيث تلقيت الذهب وعباءات الكتان، ثم تابعت فعبرت نهر عبري (نهر عفرين) حيث قضيت الليل، ثم غادرت شاطئ نهر عبري نحو مدينة كونولو المقر الملكي للوبارنو ملك حطينة، الذي وقع على قدمي لإنقاذ حياته. فأخذت منه ... (تعداد لأصناف الجزية المدفوعة). غادرت كونولو وعبرت نهر العاصي حيث قضيت الليل. ثم تحركت آخذا الطريق بين جبل يراكي وجبل يعتودي (حارم والأقرع). ثم عبرت جبل ... لقضاء الليل عند نهر سنجارا (النهر الكبير الشمالي) ثم تابعت السير ... إلخ.»
7
إن أي مقارنة بين هذا النص الآشوري ونص صموئيل الثاني الذي يستعمل تعابير مثل: «وضرب داود هدد عزر بن رحوب حين ذهب ليرد سلطته عند نهر الفرات»، أو «فلما رأى آرام أنهم انكسروا أمام إسرائيل اجتمعوا معا. وأرسل هدد عزر فأبرز آرام، الذي في عبر النهر» تظهر لنا الفرق الواضح بين النص الموثق والنص الأخيولي الذي يفتقر إلى أدنى مقومات الكتابة التاريخية.
إن داود - الذي يؤكد المؤرخون التوراتيون بناءه لإمبراطورية كبيرة امتدت من الفرات إلى البحر المتوسط عبر مناطق وسط وجنوب سوريا - ليس في حقيقة الأمر إلا شبحا تاريخيا، لم يعد يؤرق إلا الحلقات الأكاديمية المحافظة التي ما زالت تبحث، وتأمل، في الحصول على وثيقة واحدة تعطي تأييدا للرواية التوراتية. وقد وجد هؤلاء ضالتهم المنشودة في نقش قصير ومشوه عثر عليه حديثا المنقب الإسرائيلي أفراهام بيران في موقع دان بشمال فلسطين، قرئت عليه كلمة واحدة واضحة تتألف من ستة أحرف، هي «ب ي ت دود»، وفسرت على أنها «بيت داود»، وهو التعبير المستعمل في النص التوراتي للإشارة إلى أسرة أو سلالة داود. وقد أثارت هذه القراءة نقاشا بين الاختصاصيين، وتم تفنيدها بشكل علمي من قبل الباحث فيليب ر. ديفس، الذي جادل في أن الكلمة تدل على اسم مكان وليس على اسم علم، وإني لا أرى نفعا من إيراد تفاصيل هذا الجدال؛ لأن فيه مضيعة لوقت القارئ. ويمكن للمهتم مراجعة مجلة
Biblical Archaeology
الأعداد آذار/نيسان 1994 وتموز/آب 1994 وآذار/نيسان 1995. (3) سفر الملوك الأول والعصر الذهبي لمملكة سليمان «وشاخ الملك داود، تقدم في الأيام. وكانوا يدثرونه بالثياب فلم يدفأ. فقال له عبيده: ليفتشوا لسيدنا الملك على فتاة عذراء، فلتقف أمام الملك ولتكن له حاضنة، ولتضطجع في حضنك فيدفأ سيدنا الملك. ففتشوا على فتاة جميلة في جميع تخوم إسرائيل، فوجدوا أبيشج الشمونية فجاءوا بها إلى الملك. وكانت الفتاة جميلة جدا، فكانت حاضنة للملك» (الملوك الأول، 1: 1-4). وبينما كان داود يدفأ في أحضان الفتاة الصغيرة من البرداء، انفجر الصراع على العرش بين أبنائه. فقد ابتدأ أدونيا - وهو الأخ الأصغر لأبشالوم صاحب الانقلاب الأول، واسم أمه حجيث - بالدعوة لنفسه كولي للعهد مستغلا حالة التسيب في الحكم، وأعد مركبات وفرسانا، وكان خمسون رجلا يجرون أمامه كلما خرج. وقد وقف إلى جانبه أبيثار الكاهن ويوآب القائد ورهط قوي من رجال داود، بينما عارضه ناثان النبي ورهط آخر من رجال داود. وعندما استفحل أمر أدونيا، وداود يغض الطرف عن نشاطاته، جاء ناثان النبي إلى بتشبع أم سليمان قائلا: «أما سمعت أن أدونيا ابن حجيث قد ملك وسيدنا داود لا يعرف؟ اذهبي وادخلي إلى الملك داود وقولي له: أما حلفت أنت يا سيدي الملك لأمتك قائلا: إن سليمان ابنك يملك بعدي وهو يجلس على كرسيي، فلماذا ملك أدونيا؟ وفيما أنت متكلمة هناك معه أدخل أنا وراءك وأكمل كلامك.» فعملت بتشبع بنصيحة ناثان واستطاع الاثنان إقناع داود، الذي أعطى أوامره بأن يمسح سليمان ملكا: «خذوا معكم عبيد سيدكم وأركبوا سليمان ابني على البغلة التي لي وانزلوا به إلى جيحون، وليمسحه هناك صادوق الكاهن وناثان النبي ملكا على إسرائيل. واضربوا بالبوق وقولوا: ليحي الملك سليمان.» وفي ذلك الوقت كان أدونيا يقيم وليمة لأنصاره، فسمعوا صوت ضجيج وهتاف، وجاء من أخبرهم بأن سليمان قد ملك، فخاف أدونيا من بطش سليمان فقام وانطلق وتمسك بقرون المذبح، وأرسل إلى سليمان أن يحلف له بألا يمسه بسوء «فأرسل الملك سليمان فأنزلوه عن المذبح فأتى وسجد للملك سليمان. فقال له سليمان: اذهب إلى بيتك» (الملوك الأول، 1: 1-53).
ولم يطل الوقت بداود حتى مات، بعد أن ملك أربعين سنة. وكان أول عمل يفتتح به سليمان عهده الملكي هو قتل أخيه أدونيا، وساعده الأيمن يوآب قائد جيش داود. فأرسل سليمان المدعو بنياهو بن يهوداع ساعده الأيمن وصديقه، فضرب أدونيا بالسيف. ولما سمع يوآب بالخبر التجأ إلى خيمة الرب وتمسك بقرون المذبح: «فأرسل سليمان بنياهو قائلا: اذهب ابطش به. فدخل بنياهو إلى خيمة الرب وقال له: هكذا يقول الملك، اخرج. فقال: كلا ولكنني هنا أموت. فرد بنياهو الجواب على الملك قائلا: هكذا تكلم يوآب وهكذا جاوبني. فقال له الملك: افعل كما تكلم وابطش به وادفنه وأزل عني الدم الزكي الذي سفكه يوآب.» فصعد بنياهو وضرب يوآب بالسيف وهو في خيمة الرب متمسكا بقرون المذبح، وعين سليمان بنياهو قائدا على الجيش بدلا من يوآب (الملوك الأول، 2).
وبعد ذلك، ودون مقدمات، يخبرنا الإصحاح الثالث في مطلعه بأن سليمان قد صاهر فرعون ملك مصر: «وصاهر سليمان فرعون ملك مصر، وأخذ بنت فرعون وأتى بها إلى مدينة داود إلى أن أكمل بناء بيته وبيت الرب، وسور أورشليم حواليها.» ثم تراءى الرب لسليمان في حلم ليلا «وقال الله: اسأل ماذا أعطيك؟ فقال سليمان: ... أيها الرب إلهي، أنت ملكت عبدك مكان داود أبي وأنا فتى صغير لا أعرف الخروج والدخول. وعبدك في وسط شعبك الذي اخترته، شعب كثير لا يحصى ولا يعد من الكثرة. فأعط عبدك قلبا فهيما لأحكم على شعبك، وأميز بين الخير والشر، لأنه من يقدر أن يحكم على شعبك العظيم هذا؟ ... فقال الرب: هو ذا قد فعلت حسب كلامك. هو ذا أعطيتك قلبا حكيما ومميزا، حتى إنه لم يكن مثلك قبلك ولا يقوم بعدك نظيرك. وقد أعطيتك أيضا ما لم تسأله غنى وكرامة، حتى إنه لا يكون رجل مثلك في الملوك كل أيامك.» ثم ينتقل النص إلى إعطائنا مثالا حيا عن حكمة سليمان. فهناك امرأتان زانيتان تسكنان معا، ولكل منهما ابن رضيع في سن واحدة، فمات ابن الأولى في الليل، فاستبدلت الابن الحي للثانية به وأرقدته إلى جوارها وادعت أنه ابنها وأن الميت ابن زميلتها. فجاءتا إلى سليمان ليحكم بينهما، وكل واحدة تدعي أن الولد الحي هو ابنها. فقال سليمان: ائتوني بسيف. فأتوا بسيف بين يدي الملك. فقال الملك: اشطروا الولد الحي شطرين وأعطوا نصفا للواحدة ونصفا للأخرى. فاضطرم قلب الأم على ابنها وقالت لهم أن يعطوه للأخرى ولا يميتوه. عند ذلك عرف سليمان أنها أم الولد الحي وأعطاه لها. «ولما سمع جميع إسرائيل بالحكم الذي حكم به الملك خافوا الملك؛ لأنهم رأوا حكمة الله فيه لإجراء الحكم» (الملوك الأول، 3).
وفيما عدا هذه القصة فإن المحرر لا يسوق لنا أمثلة أخرى عن حكمة سليمان، رغم أنه يعود إلى القول في الإصحاح التالي: «وفاقت حكمة سليمان حكمة جميع بني المشرق وكل حكمة مصر. وكان أحكم من جميع الناس ... وكان صيته في جميع الأمم حواليه. وتكلم بثلاثة آلاف مثل، وكانت نشائده ألفا وخمسا. وتكلم عن الأشجار من الأرز الذي في لبنان إلى الزوفا النابت في الحائط. وتكلم عن البهائم وعن الطير وعن الدبيب وعن السمك. وكانوا يأتون من جميع الشعوب ليسمعوا حكمة سليمان.» وقد عمد سليمان إلى تقسيم مملكته في الداخل إلى اثنتي عشرة مقاطعة إدارية عليها وكلاء معينون من قبله يديرون شئونها. وقد زوج بعضا من بناته إلى المقربين إليه من هؤلاء الوكلاء والحكام لضمان ولائهم. أما عن أحوال إمبراطورية سليمان المترامية الأطراف، فإن النص يصفها بالكلمات التالية: «وكان يهوذا وإسرائيل كثيرين كالرمل الذي على البحر في الكثرة. وكان سليمان متسلطا على جميع الممالك من النهر إلى أرض فلسطين وإلى تخوم مصر. كانوا يقدمون الهدايا ويخدمون سليمان كل أيام حياته. وكان طعام سليمان لليوم الواحد ثلاثين كر سميذ وستين كر دقيق، وعشرة ثيران مسمنة، وعشرين ثورا من المراعي، ومائة خروف، ما عدا الأيائل والظباء واليحامير والإوز المسمن؛ لأنه كان متسلطا على كل ما عبر النهر من تفسح إلى غزة، على كل ملوك عبر النهر. وكان له صلح من جميع جوانبه حواليه. وسكن يهوذا وإسرائيل آمنين كل واحد تحت كرمته، وكل واحد تحت تينته من دان إلى بئر السبع كل أيام سليمان. وكان لسليمان أربعون ألف مذود لخيل مركباته، واثنا عشر ألف فارس» (الملوك الأول، 4).
وأرسل حيرام ملك صور الفينيقية رسلا إلى سليمان يهنئه بعد أن سمع أنهم مسحوه ملكا. فأرسل سليمان إلى حيرام طالبا منه تزويده بخشب أرز من لبنان، وبنجارين وبنائين؛ لأنه ليس مثل الصيدونيين من يعرف قطع الخشب. ووعده أن يرسل له مقابل ذلك حنطة وزيتا. فوافق حيرام، وعقد الاثنان بينهما عهدا وصنعوا صلحا. ولما ابتدأ سليمان باستلام شحنات الخشب شرع ببناء هيكل الرب، وبناء قصور له ولزوجاته. وقد سخر سليمان في أعمال البناء آلافا مؤلفة من الشعب. فثلاثون ألفا يروحون ويجيئون إلى لبنان بالتناوب، وسبعون ألفا يحملون أحمالا، وثمانون ألفا يقطعون في الجبل، ما عدا المشرفين الذين بلغ عددهم ثلاثة آلاف. فاكتمل بناء البيت في السنة الأربعمائة والثمانين لخروج بني إسرائيل من أرض مصر، والتي وافقت السنة الرابعة لحكم سليمان. فجمع سليمان شيوخ إسرائيل وكل رءوس الأسباط لإصعاد تابوت عهد الرب وخيمة الاجتماع، وتم إدخال التابوت ووضعه في مكانه في محراب البيت في قدس الأقداس. «وكان لما خرج الكهنة من القدس أن السحاب ملأ البيت، ولم يستطع الكهنة أن يقفوا للخدمة بسبب السحاب؛ لأن مجد الرب ملأ بيت الرب.» ووقف سليمان أمام المذبح وكل جماعة إسرائيل تنظر إليه، وبسط يديه إلى السماء وقال: «أيها الرب إله إسرائيل. ليس مثلك إله في السماء من فوق ولا على الأرض من أسفل. حافظ العهد والرحمة لعبيدك السائرين أمامك بكل قلوبهم ... إلخ» (الملوك الأول، 5-8).
وبعد مدة، صعد فرعون ملك مصر وأخذ مدينة جازر، التي كانت حتى ذلك الوقت مدينة كنعانية مستقلة عن سليمان «فأحرقها بالنار وقتل الكنعانيين الساكنين في المدينة، وأعطاها مهرا لابنته امرأة سليمان.» فأخذها سليمان وأعاد بناءها، كما أعاد بناء مدن حاصور ومجدو وجازر. كما بنى بعلة وتدمر في البرية. وبنى سليمان سفنا على شاطئ بحر سوف (الأحمر)، واستخدم لتسييرها في البحر عمالا فينيقيين من صور أرسلهم له حيرام. فأتوا إلى بلاد يدعوها النص أوفير، وأخذوا من هناك أربعمائة وعشرين وزنة ذهب أتوا بها إلى الملك سليمان (الملوك الثاني، 9).
وسمعت ملكة سبأ بخبر سليمان، فأتت إلى أورشليم بموكب عظيم جدا، وجمال حاملة أطيابا وذهبا كثيرا وحجارة كريمة. «فلما رأت ملكة سبأ كل حكمة سليمان، والبيت الذي بناه، وطعام مائدته، ومجلس عبيده وموقف خدامه وملابسهم، وسقاته ومحرقاته التي كان يصعدها في بيت الرب، لم يبق فيها روح بعد. فقالت للملك: صحيحا كان الخبر الذي سمعته في أرضي عن أمورك وعن حكمتك، ولم أصدق الأخبار حتى جئت وأبصرت عيناي ... وأعطت الملك مائة وعشرين وزنة ذهب وأطيابا كثيرة جدا وأحجارا كريمة ... وأعطى الملك سليمان لملكة سبأ كل مشتهاها الذي طلبت، عدا ما أعطاها إياه حسب كرم الملك سليمان، فانصرفت وذهبت إلى أرضها هي وعبيدها» (الملوك الأول، 10: 1-13).
وكان وزن الذهب الذي أتى لسليمان في سنة واحدة ستمائة وستا وستين وزنة ذهب، وذلك عدا الذي أتاه من ضرائب التجار وتجارتهم، ومن الولاة الذي عينهم في المقاطعات. وعمل مائتي ترس من ذهب مطرق، في كل واحد منها ستمائة شاقل من الذهب، وثلاثمائة مجن من ذهب مطرق، في كل واحد منها ثلاثة أمناء من الذهب. وهذه جعلها سليمان في أحد بيوته المعروف ببيت وعر لبنان. وفي ذلك البيت كانت جميع آنية شرب الملك سليمان وطعامه من الذهب؛ لأن الفضة لم تحسب شيئا في أيامه. وقد جعل في بحر فينيقيا أيضا سفنا تبحر مع سفن حيرام إلى ترشيش (إسبانيا)، وتأتي من هناك بالذهب والفضة والعاج، فتعاظم الملك سليمان على كل ملوك الأرض في الغنى والحكمة، وكانت كل الأرض ملتمسة وجه سليمان. وكانوا يأتون إليه كل واحد بهديته، بآنية فضة وآنية ذهب وحلل وسلاح وأطياب وخيل وبغال، سنة سنة. وقد بلغ من ثراء المملكة في عهده أن الفضة في أورشليم كانت مثل الحجارة، وخشب الأرز مثل خشب الجميز الذي في السهل لكثرته (الملوك الثاني، 10: 14-29).
وأحب الملك سليمان نساء غريبات كثيرات، من موآبيات وعمونيات وآدوميات وصيدونيات وحثيات، من الأمم التي نهى الرب بني إسرائيل عن الدخول إليهن حتى لا يملن قلوبهم وراء آلهتهن، فكانت له سبعمائة من النساء السيدات، وثلاثمائة من السراري. وكان في زمان شيخوخته أن نساءه أملن قلبه وراء آلهة أخرى، فذهب سليمان وراء عشتروت إلهة الصيدونيين، وملكوم إله العمونيين. «فغضب الرب على سليمان لأن قلبه مال عن الرب إله إسرائيل، الذي تراءى له مرتين، وأوصاه في هذا الأمر ألا يتبع آلهة أخرى، فلم يحفظ ما أوصى به الرب. فقال الرب لسليمان: من أجل أن ذلك عندك، ولم تحفظ عهدي وفرائضي التي أوصيتك بها، فإني أمزق المملكة عنك تمزيقا وأعطيها لعبدك» (الملوك الأول، 11: 1-13).
وأقام الرب في وجه سليمان ثلاثة أعداء؛ أولهم هدد الآدومي ، الذي كان من نسل الملك في آدوم، وهرب إلى مصر عقب حملة يوآب قائد داود على آدوم، ثم عاد من هناك بعد أن سمع بموت داود ومقتل يوآب، فملك في آدوم وقاوم سليمان. والخصم الثاني هو رزون بن أليداع، وكان قائدا في جيش هدد عزر ملك صوبة، ثم استقل بنفسه وجمع حوله الأتباع والجنود بعد حملة داود على هدد عزر، ثم دخل دمشق فملك فيها، وكان خصما لإسرائيل طيلة أيام سليمان. أما الخصم الثالث فكان من بطانة سليمان، واسمه يربعام بن نباط، من سبط أفرايم الإسرائيلي، وكان عاملا لسليمان في منطقة إسرائيل. وقد خرج يربعام عن طاعة سليمان بعد تلقيه بشارة من النبي أخيا الشيلوني بأن الرب يملكه على إسرائيل: «لما خرج يربعام من أورشليم لاقاه أخيا الشيلوني النبي في الطريق وهو لابس رداء جديدا. فقبض أخيا على الرداء الجديد الذي عليه ومزقه اثنتي عشرة قطعة، وقال ليربعام: خذ لنفسك عشر قطع؛ لأنه هكذا قال الرب إله إسرائيل: ها أنا ذا أمزق المملكة من يد سليمان وأعطيك عشرة أسباط، ويكون له سبط واحد من أجل عبدي داود ومن أجل أورشليم المدينة التي اخترتها من كل أسباط إسرائيل؛ لأنهم تركوني وسجدوا لعشتاروت إلهة الصيدونيين ... وآخذك فتملك حسب كل ما تشتهي نفسك وتكون ملكا على إسرائيل.» ولما بدأ يربعام نشاطاته السرية للاستقلال عن أورشليم طلب سليمان قتله «فقام يربعام وهرب إلى مصر، إلى شيشق ملك مصر، وكان في مصر إلى وفاة سليمان ... وكانت الأيام التي ملك فيها سليمان في أورشليم على كل إسرائيل أربعين سنة، ثم اضطجع سليمان مع آبائه ودفن في مدينة داود أبيه، وملك رحبعام ابنه عوضا عنه» (الملوك الأول، 11: 14-43).
رجع يربعام بن نباط من مصر بعد أن سمع بوفاة سليمان. أما رحبعام بن سليمان فقد صعد إلى مدينة شكيم في الشمال، حيث اجتمع هناك جميع إسرائيل ليملكوه عليهم. فكلموه قائلين: «إن أباك قسى نيرنا، وأما أنت فخفف الآن من عبودية أبيك القاسية، ومن نيره الثقيل الذي جعله علينا فنخدمك ... فأجاب الملك بقساوة، وترك مشورة الشيوخ التي أشاروا بها عليه، وكلمهم حسب مشورة الأحداث قائلا: إن أبي ثقل نيركم، وأنا أزيد على نيركم، أبي أدبكم بالسياط وأنا أؤدبكم بالعقارب ... فعصى إسرائيل على بيت داود إلى هذا اليوم. ولما سمع جميع إسرائيل بأن يربعام قد رجع أرسلوا فدعوه إلى الجماعة وملكوه عليهم.» وأما رحبعام فقد تبعه سبط واحد، هو سبط بنيامين، إضافة إلى سبط يهوذا، الذي كان قد ملكه بعد وفاة أبيه (الملوك الأول، 12: 1-30).
ولكي يكرس يربعام الاستقلال عن أورشليم كان لا بد له من الاستقلال الديني، وصرف نظر مواطنيه عن هيكل الرب فيها؛ لذلك فقد عمد إلى بناء معبدين في إسرائيل، واحد في بيت إيل والآخر في دان، ووضع في كل منهما عجلا ذهبيا، وقال للإسرائيليين: «كثير عليكم أن تصعدوا إلى أورشليم. هو ذا آلهتك يا إسرائيل، الذين أصعدوك من مصر ... وبنى بيت المرتفعات، وصير كهنة من أطراف الشعب لم يكونوا من بيت لاوي. وعمل يربعام عيدا في الشهر الثامن في اليوم الخامس عشر من الشهر كالعيد الذي في يهوذا» (الملوك الأول، 12: 25-33).
ولم يكن رحبعام وأهل يهوذا أكثر احتراما لهيكل الرب في أورشليم من أهل إسرائيل: «وعمل يهوذا الشر في عيني الرب وأغاروه أكثر من جميع ما عمل آباؤهم بخطاياهم التي أخطئوا بها، وبنوا هم لأنفسهم أيضا مرتفعات وأنصابا وسواري على كل مرتفع وتحت كل شجرة خضراء. وكان أيضا مأبونون في الأرض.
8
فعلوا حسب كل أرجاس الأمم الذين طردهم الرب من أمام بني إسرائيل. وفي السنة الخامسة للملك رحبعام، صعد شيشق ملك مصر إلى أورشليم وأخذ خزائن بيت الرب وخزائن بيت الملك، وأخذ كل شيء، وأخذ أتراس الذهب التي عملها سليمان، فعمل الملك رحبعام عوضا عنها أتراس نحاس ... وكانت حرب بين رحبعام ويربعام كل الأيام. ثم اضطجع رحبعام مع آبائه ودفن في مدينة داود. وملك أبيام ابنه عوضا عنه» (الملوك الأول، 14: 21-31). «في السنة الثامنة عشرة للملك يربعام بن نباط، ملك أبيام على يهوذا، ملك ثلاث سنين في أورشليم ... وسار في جميع خطايا أبيه التي عملها، ولم يكن قلبه كاملا مع الرب إلهه كقلب داود ... وكانت حرب بين أبيام ويربعام، ثم اضطجع أبيام مع آبائه فدفنوه في مدينة داود، وملك آسا ابنه عوضا عنه. في السنة العشرين ليربعام ملك إسرائيل، ملك آسا على يهوذا، ملك إحدى وأربعين سنة في أورشليم ... وعمل آسا ما هو مستقيم في عيني الرب كداود أبيه. وأزال المأبونين من الأرض، ونزع جميع الأصنام التي عملها آباؤه» (الملوك الأول، 15: 1-12).
أما في إسرائيل، فبعد فترة حكم دامت حوالي عشرين سنة، توفي يربعام أول ملوك إسرائيل، وكانت وفاته في السنة الثانية لحكم آسا في يهوذا. فملك ابنه ناداب عوضا عنه، وحكم سنتين فقط، وعمل الشر في عيني الرب وسار في طريق أبيه. فخرج عليه المدعو بعشا من سبط يساكر وقتله وأباد كل بيت يربعام. ثم قامت حرب ضروس بين إسرائيل ويهوذا، استعان فيها آسا ملك يهوذا بملك دمشق المدعو بنهدد بن طبريمون بن حزيون، وأرسل له هدية من جميع آنية الذهب والفضة الباقية في خزائن بيت الرب وخزائن بيت الملك. فصعد ملك دمشق وضرب كل المدن الشمالية من إسرائيل وأخذها، فكف بعشا يده عن يهوذا، وعاد بنهدد إلى دمشق.
ثم توفي بعشا ملك إسرائيل بعد حكم دام أربعا وعشرين سنة، وملك ابنه إيله عوضا عنه، وبعد سنتين خرج عليه القائد العسكري المدعو زمري، ودخل عليه في بيته وهو يشرب ويسكر فقتله، وضرب كل بيت بعشا بحد السيف. ولكن القطعات العسكرية، التي كانت في ذلك الوقت تقاتل الفلسطينيين، لم تقف إلى جانب زمري، بل تحولت إلى رئيس الجيش المدعو عمري، فجاء عمري وحاصر زمري في العاصمة ترصة وأخذها، وأما زمري فقد أحرق على نفسه البيت ومات بعد أن حكم سبعة أيام فقط. وحكم عمري اثنتي عشرة سنة؛ ست منها في مدينة ترصة، وست في السامرة، وهي العاصمة الجديدة التي بناها لنفسه.
وعمري هذا هو أول ملك إسرائيلي موثق تاريخيا، ومعه تدخل الرواية التوراتية لأول مرة مسرح التاريخ، بعد حوالي ألف سنة من عمر إسرائيل التوراتية. ولسوف أتوقف في قراءتي لسفر الملوك الأول عند هذه النقطة؛ لأن ما يأتي من أخبار مملكتي إسرائيل ويهوذا سوف يعالج لاحقا من خلال أخبار مملكة آرام دمشق، وعلاقاتها الدولية مع آشور وبقية دول المنطقة.
النقد النصي لسفر الملوك الأول
في سفر الملوك الأول لدينا قسمان متمايزان في المضمون وفي الأسلوب، يشمل القسم الأول الإصحاحات من 1 إلى 11، ويتضمن أخبار الملك سليمان، أما القسم الثاني فيمتد حتى نهاية السفر، ويتضمن أخبار ملوك إسرائيل ويهوذا بعد انقسام المملكة الموحدة. يسود في القسم الأول أسلوب الجمع التراثي، الذي يستمد مادته من ذاكرة شعبية مشوشة تمتح من مصادر متنوعة، وفترات تاريخية متباعدة. أما القسم الثاني فقد تمت معالجته وصياغته بأسلوب جديد سوف يستمر إلى سفر الملوك الثاني، الذي يغطي بقية أخبار المملكتين وصولا إلى السبي البابلي. ورغم أن هذا الأسلوب الجديد لم يتخل تماما عن أسلوب الجمع التراثي، إلا أنه أضاف إليه طريقة في السرد الإخباري تقترب من الكتابة التاريخية، وإن لم ترق إليها تماما. ويبدو أن المحررين هنا قد أخذوا بالاعتماد على بعض المصادر الكتابية القريبة إلى عصر تدوين الأسفار التوراتية، بينها ثبت ملوك يهوذا، وثبت ملوك إسرائيل، التي يشار إليها في النص بأخبار الأيام لملوك يهوذا، وأخبار الأيام لملوك إسرائيل. ولسوف نرى عبر فصول القسم الثاني من دراستنا أن هذه المصادر، في حال وجودها، لا تتمتع بقدر كاف من المصداقية التاريخية. فإذا أضفنا إلى نقص المصداقية التاريخية في مصادر المحرر استمراره في رؤية الأحداث وترتيبها من خلال المنظور الأيديولوجي لعملية التحرير برمتها، وما ينجم عن ذلك من انتقائية وهوى في اختيار الأحداث؛ لرأينا أن الاختلاف في الأسلوب لم يحمل اختلافا في الرسالة والمضمون، ذلك أن المحرر التوراتي قد بقي أمينا للهدف الرئيسي من تدوين الأسفار التوراتية وهو: تجذير الأصول. فابتداء من منتصف سفر الملوك الأول تنتهي المرحلة الأولى من عملية تجذير الأصول، والتي أسست من خلالها لمفهوم «كل إسرائيل»، وتبدأ المرحلة الثانية، وهي التأسيس لأصول مملكتي إسرائيل ويهوذا، وأصول دمار هاتين المملكتين. إن هم المحرر التوراتي في فترة التدوين كان التأمل في مسألة خراب المملكة، وفي أسبابه، وفي الأحداث التي قادت إلى ذلك الخراب. إلا أنه قد بقي أمينا أيضا لرؤيته الأيديولوجية، ينأى بنفسه عن تلمس الأسباب التاريخية الحقيقية الفاعلة في عملية التدهور والدمار، مركزا على المسألة اللاهوتية وعلى علاقة الرب بشعبه كمحرك رئيسي في صيرورة التاريخ. وسيكون علينا أن ننتظر إلى القرن الثاني قبل الميلاد، وهي فترة تدوين أسفار المكابيين، لكي نتلمس تغييرا جذريا في أسلوب النص التوراتي، واكتسابه لأول مرة شكل الكتابة التاريخية ومضمونها. ذلك أن أسفار المكابيين قد دونت باللغة اليونانية، ومحرروها متأثرون بالثقافة اليونانية، التي عرفت جنس الكتابة التاريخية وبرعت فيه.
تصل قصة إسرائيل التوراتية ذروتها عند أخبار الملك سليمان. فعصر سليمان هو العصر الذهبي الذي مضى إلى غير رجعة، والذي ابتدأ بعده العد العكسي باتجاه الهاوية. والمحرر هنا يستخدم معظم العناصر التي تستخدمها قصص العصر الذهبي المعروفة في أساطير وخرافات الشعوب، والتي تعتمد على كل عجيب وغريب ومدهش. فأهل إسرائيل ويهوذا كانوا «كثيرين كالرمل على البحر في الكثرة، يأكلون ويشربون ويفرحون.» و«سكن يهوذا وإسرائيل آمنين كل واحد تحت كرمته وتحت تينته من دان إلى بئر السبع كل أيام سليمان.» وهذا الوصف يذكرنا بأسطورة العصر الذهبي السومرية التي تقول: «أرض دلمون مكان طاهر، أرض دلمون مكان نظيف. في أرض دلمون لا تنعق الغربان ولا تصرخ الشوحة صراخها المعروف. حيث الأسد لا يفترس أحدا، ولا الذئب ينقض على الحمل. حيث لا يعرف أحد رمد العين، ولا يعرف أحد آلام الرأس. ولا يشتكي الرجل من الشيخوخة، ولا المرأة من العجز. حيث لا وجود لمنشد ينوح، ولا لجوال يندب ...»
9
ولكي تكتمل هذه الصورة البهية لشعب يعيش عيشة الوفرة والدعة والاطمئنان؛ لا بد من تزيينها بما يدل على اتساع المملكة وعظمتها وانتشار السلم في أرجائها وخضوع حكامها الطوعي: «وكان سليمان متسلطا على جميع الممالك من النهر إلى أرض فلسطين وإلى تخوم مصر. كانوا يقدمون الهدايا ويخدمون سليمان كل أيام حياته.» وقد أخذ المؤرخون التوراتيون هذه المعلومة التزيينية على أنها خبر تاريخي، رغم أن المحرر هنا يتابع رسم صورته لسليمان بالأسلوب نفسه عندما يقول مباشرة بعد إخبارنا عن اتساع مملكة سليمان: «وكان طعام سليمان لليوم الواحد ثلاثين كر سميذ، وستين كر دقيق، وعشرة ثيران مسمنة، وعشرين ثورا من المراعي، ومائة خروف، ما عدا الأيائل والظباء واليحامير والإوز المسمن.» ولا ندري لماذا تؤخذ المعلومة الأولى على أنها تاريخ بينما تؤخذ الثانية على أنها من قبيل المبالغة والشطح؟
ومن الطبيعي ألا يكون رأس هذه المملكة اليوتوبية رجلا عسكريا، بل رجل عقل وحكمة، من هنا «فاقت حكمة سليمان حكمة جميع المشرق وكل حكمة مصر ... وكانوا يأتون من جميع الشعوب ليسمعوا حكمة سليمان، من جميع ملوك الأرض الذين سمعوا بحكمته.» وهنا لا يقدم لنا النص إلا مثالا واحدا عن حكمة سليمان، التي فاقت كل حكمة مصر، وهو قصة ساذجة عن امرأتين احتكمتا إليه لخلافهما على أمومة طفل تدعي كل منهما أنها أمه. وأما عن أولئك الملوك الذين سمعوا بحكمة سليمان وجاءوا ليستمعوا إليه، فلا يذكر النص منهم إلا ملكة سبأ التي لا يطلعنا على اسمها، ولا يقول لنا من أين جاءت وأين تقع مملكتها، وإني أرجح أن تكون سبأ المعنية في أخبار سليمان هي قبيلة السبئيين التي كانت تتجول في شمال الجزيرة العربية خلال العصر الآشوري الجديد، وورد ذكرها في أكثر من نقش كتابي آشوري من القرن السابع قبل الميلاد. وقد كان لبعض القبائل العربية التي وردت في السجلات الآشورية ملكات شهيرات محاربات، منهن الملكة شمسة والملكة زبيبة والملكة طاربو.
10
ورغم أن مملكة سليمان لم يكن لها مرفأ بحري على شاطئ المتوسط، الذي تقاسمه الفينيقيون والفلسطينيون، فقد جعل محرر السفر لسليمان سفنا تمخر عباب البحر إلى جانب سفن حيرام ملك صور، وتأتي إليه بأكداس الذهب من المدن البعيدة، حتى صارت الفضة بلا قيمة وتكدست في شوارع أورشليم مثل الحجارة. وكان وزن الذهب الذي أتى لسليمان في سنة واحدة ستمائة وستا وستين وزنة. ومثل هذا الذهب لم يتوفر في سنة واحدة لنينوى عاصمة آشور في قمة عصرها الإمبراطوري، ولا لطيبة تحوتمس الثالث، ولا لروما يوليوس قيصر. ونحن هنا لم نأخذ بالحسبان أكداس الذهب التي استخدمت لطلي جدران الهيكل من الداخل، ولصنع المذبح والآنية الطقسية وغيرها: «وعمل سليمان جميع آنية بيت الرب؛ المذبح من ذهب، والمائدة التي عليها خبز الوجوه من ذهب، والطسوس والمقاص والمناضح والصحون والمجامر من ذهب خالص، والوصل لمصاريع البيت الداخلي، أي: لقدس الأقداس، ولأبواب البيت، أي: الهيكل، من ذهب ...» (7: 48-50). ولكن هذه الأكداس المكدسة من الذهب تستخدم لصناعة كل شيء تقريبا؛ تبدو صورة متواضعة إذا عرفنا أن الحجارة الكريمة كانت تستخدم منشورة فتصنع منها حجارة للأساسات وللجدران: «وأمر الملك أن يقلعوا حجارة كبيرة، حجارة كريمة لتأسيس البيت، حجارة مربعة» (5: 17). وأيضا: «وعمل بيتا لابنة فرعون التي أخذها سليمان، كهذا الرواق. كل هذه من حجارة كريمة كقياس الحجارة المنحوتة، منشورة بمنشار من داخل ومن خارج، من الأساس إلى الإفريز، وكان مؤسسا على حجارة كريمة، حجارة عظيمة، حجارة عشر أذرع، وحجارة ثماني أذرع» (7: 10-11).
إن المحرر التوراتي، الذي يقدم لنا هذه الصور التي لم تحلم بمثلها ألف ليلة وليلة، هو الذي يقول لنا بعد ذلك إن الملك سليمان هو الذي بنى تدمر في البرية! والمؤرخون التوراتيون يطلبون منا أن نصدق ذلك.
أما عن قصة زواج سليمان بابنة فرعون مصر، الذي لم يذكر لنا اسمه، كما هي العادة، فمن الواضح أن المحرر الذي ساقها لنا لم يكن يعرف شيئا عن تقاليد فراعنة مصر وبروتوكولات البلاط المصري. فمن المعروف والمؤكد تاريخيا أن الأسر الملكية المصرية، وعبر جميع العصور، لم تزوج قط واحدة من أميراتها إلى أي ملك أجنبي، رغم أن بعضا من الفراعنة والأمراء المصريين قد تزوجوا من عائلات ملكية أجنبية. فملوك عصر العمارنة قد تزوجوا من أميرات ميتانيات، ولكنهم لم يزوجوا واحدة من بناتهم إلى ميتاني. وعندما بلغت العلاقات الديبلوماسية أحسن أحوالها بين ملوك بابل الكاشيين وفراعنة الأسرة الثامنة عشرة، أرسل أحد هؤلاء الملوك عددا من الأميرات الكاشيات ليكن زوجات لأمراء مصريين، وتقدم مرارا بطلب الزواج من أميرة مصرية، ولكن البلاط المصري اعتذر وتهرب من تلبية الطلب. وعندما ازداد إلحاح الملك أرسل إليه البلاط المصري فتاة جميلة من أصل غير ملكي، على أنها ابنة الفرعون.
11
وحدث الشيء نفسه بين البلاط المصري والملك الفارسي قمبيز، ملك العالم في ذلك الوقت، ويروي لنا هيرودوتس الإغريقي أنه عندما ألح قمبيز في طلبه الزواج من ابنة الفرعون، وكانت مصر عندها في آخر مراحل انحطاطها الحضاري والسياسي، قام الفرعون باختيار فتاة جميلة من فتيات البلاط وأرسلها إلى قمبيز على أنها ابنته. وعندما اكتشف الملك الفارسي الخدعة اتخذها ذريعة لغزو مصر، فاحتلها إلى أقصاها.
12
فكيف يخرق البلاط المصري هذا التقليد الراسخ منذ القدم من أجل سليمان، الذي لم تذكره وثيقة تاريخية واحدة تنتمي إلى عصره أو إلى العصور اللاحقة؟
وفي قصة زواج الملك سليمان من ابنة الفرعون يقع المحرر في تناقض يظهر الطابع الخيالي لنفوذ سليمان الداخلي والخارجي. فقد صعد فرعون مصر المجهول الاسم على فلسطين، وأخذ مدينة جازر الكنعانية وأعطاها مهرا لابنته التي زوجها من سليمان. فإذا علمنا أن مدينة جازر هذه لا تبعد عن أورشليم أكثر من بضع عشرات من الكيلومترات، لعرفنا مدى النفوذ الفعلي للملك سليمان، الذي وصلت سلطته إلى الفرات وكان عاجزا عن ضم مدينة كنعانية قوية لا تبعد إلا رمية حجر عن عاصمته.
النقد التاريخي والأركيولوجي لأخبار المملكة الموحدة
في الوقت الذي كانت فيه ملكة مجهولة الاسم والموطن تزور سليمان لكي تتأكد مما سمعته عن أخبار عظمته، كانت منطقة الشرق القديم تموج بالأحداث السياسية الكبرى. ففي القرن العاشر قبل الميلاد كان الآراميون، الذين طبعوا الألف الأول بطابعهم الثقافي، قد شكلوا ممالكهم فيما بين حوض الخابور وسوريا المجوفة، وفيما بين جبال زاغروس وأطراف الصحراء العربية، واتخذت الثقافة الآرامية ملامحها الثابتة. كما كانت الثقافة الفينيقية على شاطئ المتوسط من أرواد إلى صور تطبع حوض المتوسط بطابعها السوري الكوني. فمن منطقة حران شرقا إلى سهل العمق غربا، على طول المنطقة الشمالية السورية، تشكلت ممالك آرامية قوية يدعوها المؤرخون الغربيون خطأ بالممالك الحثية الجديدة، نظرا لتأثر فنونها بالتقاليد الفنية الحثية، ونزوح عناصر حثية إليها بعد انهيار مملكة حاتي في الأناضول.
13
كما قامت ممالك آرامية أخرى في حوض الخابور والفرات، وفي منطقة حلب، وفي المناطق الممتدة من حلب شمالا إلى دمشق في الجنوب. وفي المناطق المحصورة بين مملكتي دمشق وحماة الآراميتين، وعلى الشريط الساحلي الفينيقي، استمرت مملكة آمورو القديمة التي نعرفها من رسائل تل العمارنة، وكانت عاصمتها سيميرا (التي تم اكتشافها مؤخرا في تل الكزل على مسافة بضعة كيلومترات من طرطوس باتجاه حمص) أكبر مدينة على السهول الساحلية السورية. وفي القرن العاشر قبل الميلاد بدأ المد الإمبريالي الآشوري، وتحولت الحملات الآشورية الاستعراضية التي ابتدأت منذ القرن الثاني عشر إلى حملات توسع وإخضاع. فابتدأ ملوك آشور أولا بفرض نفوذهم الاسمي على الممالك الآرامية عند الفرات والخابور، ثم أخذوا منذ مطلع القرن التاسع بالاقتراب تدريجيا نحو مناطق غربي الفرات.
لا يعكس سفر الملوك الأول شيئا من أخبار هذا العالم حول مملكة سليمان، ومن بين الممالك القريبة والبعيدة جميعها، التي كانت قائمة في القرن العاشر قبل الميلاد، لا يذكر النص التوراتي إلا دمشق وصور مصر. فيما يتعلق بدمشق، لا يعطينا النص إلا خبرا مقتضبا عن دخول رزون بن أليداع إليها، وتنصيب نفسه ملكا على المدينة. وفيما يتعلق بصور يركز على العلاقات الديبلوماسية بين ملكها المدعو حيرام وبين سليمان، والمشاريع التجارية البحرية المشتركة بينهما. ولكننا لا نملك حتى الآن أية وثيقة كتابية أو أركيولوجية تؤكد وجود ملك على مدينة صور في القرن العاشر قبل الميلاد اسمه حيرام. وقد ادعى يوسيفوس اليهودي في تاريخه الذي وضعه في أواخر القرن الأول الميلادي أن حوليات ملوك صور قد ذكرت حيرام، ونقل مقتبسات عن هذه الحوليات وردت عند مؤلفين كلاسيكيين، مثل دايوس بوليستر
Dius Polyhistor
وميناندر الإفسوسي
Menander of Ephesus ، ممن لم تصلنا مؤلفاتهم. وفيما يتعلق بمصر، لا نعرف إلا أن فرعون ملك مصر قد أرسل ابنته إلى سليمان لتكون زوجة له. وبما أن النص التوراتي لا يعطي أية تفاصيل أخرى، فقد افترض المؤرخون أن حما سليمان هو الفرعون سيامون آخر فراعنة الأسرة الحادية والعشرين؛ لأن الفرعون شيشق، الذي خلفه، كان من أعداء سليمان، واستقبل خصمه يربعام بحفاوة عندما لجأ إليه. ولكن النصوص المصرية من عصر الفرعون سيامون لا تذكر شيئا عن سليمان ولا عن مملكة سليمان. وكذلك الأمر فيما يتعلق بالنصوص المصرية من عصر الفرعون شيشق، فرغم أن هذا الفرعون هو أول ملك أجنبي تتقاطع عنده الرواية التوراتية مع المصادر الخارجية، إلا أن سجلاته قد تجاهلت تماما وجود مملكة قوية موحدة في فلسطين، ولم تأت على ذكر الملك سليمان لا من قريب ولا من بعيد، ولا فيما يشبه الإشارة. ورغم أن النص التوراتي يقول بأن شيشق قد صعد على أورشليم بعد وفاة سليمان وأخذ جميع كنوز بيت الرب، إلا أن سجل الحملة الوحيدة لشيشق على آسيا لا يذكر لنا مدينة أورشليم ولا أية مدينة مهمة من مدن يهوذا.
14
فإذا أضفنا إلى ذلك أن النصوص الآشورية - التي أعطتنا معلومات تفصيلية عن الدول المهمة التي قامت في بلاد الشام خلال القرن العاشر - قد تجاهلت أيضا قيام مملكة قوية في فلسطين وصلت مناطق نفوذها إلى الفرات، وتجاهلت وجود ملك عليها طبقت شهرته الآفاق اسمه سليمان، يأتي إليه ملوك الأرض لتقديم الطاعة والولاء والاستماع إلى حكمته؛ لتوصلنا إلى نتيجة واحدة، فإما أن التاريخ قد أحبك مؤامرة صمت مقصودة، وإما أن هذه المملكة الموحدة لم تقم لها قائمة إلا في خيال المحرر التوراتي. والكلمة الفصل في ذلك ستكون لعلم الآثار. فماذا يقول علم الآثار في مسألة المملكة الموحدة لكل إسرائيل، من بعد قرن كامل على بداية عملية التنقيب في فلسطين، وخصوصا في موقع أورشليم، مفتاحنا إلى اللغز؟
عندما بدأت التنقيبات الأثرية في أورشليم توجه المنقبون إلى مدينة القدس بموقعها الحالي يبحثون عن حدود أورشليم القديمة. ثم تبين بعد ذلك أن المدينة اليبوسية تقع بكاملها إلى الجنوب من المدينة الحالية على الجزء الجنوبي من سلسلة تلال القدس الشرقية، التي يشغل جزؤها الأوسط الحرم الشريف، ويدخل جزؤها الشمالي ضمن الحدود التقليدية لمدينة القدس. وقد راوحت عمليات التنقيب في مكانها زمنا طويلا، إلى أن باشرت حملة المنقبة البريطانية السيدة كاثلين كينيون أعمالها في مطلع ستينيات القرن العشرين، وكشفت عن كل ما يمكن الكشف عنه في موقع أورشليم العصور القديمة وموقع الهيكل.
ففيما يتعلق بموقع أورشليم، استطاعت المنقبة رسم حدود المدينة اليبوسية على التلال الشرقية، وكشفت عن أساسات سورها الذي يعود إلى حوالي عام 1800ق.م.، وهو تاريخ بناء أورشليم لأول مرة كمدينة مسورة (انظر الخريطة). وقد لاحظت السيدة كينيون آثار إصلاحات متتالية على هذا السور أبقته قائما حتى دمار مدينة أورشليم عام 587ق.م. على يد البابليين، حيث وجدت المنقبة آثار تدمير شامل في السور وفي أبنية المدينة. إلا أن أعمق ما استطاعت عمليات التنقيب الوصول إليه هو أورشليم عصر نبوخذ نصر، أما المدينة السليمانية الأقدم، والعاصمة المفترضة للمملكة الموحدة، فلم يتم العثور على بنية واحدة من بناها، بسبب استخدام حجارتها لبناء الطبقات السكانية التي قامت فوقها. وبذلك تعطينا التنقيبات سورا يرجع إلى عام 1800ق.م. ومدينة ترجع إلى عام 587 ق.م.، أما ما بينهما فمفقود تماما. من هنا، فإن علم الآثار، كما تقول السيدة كينيون، لا يستطيع تقديم أية فكرة عن مدينة العصر الذهبي وثرائها، وعن قصور سليمان التي بناها له ولزوجاته. وتفترض المنقبة أن هذه القصور، إن وجدت، لا بد أن تكون قد أقيمت في المنطقة الشمالية خارج السور القديم للمدينة، بين السور الشمالي لها وسور الحرم الشريف؛ لأن المساحة الصغيرة للمدينة وازدحام بيوتها لا تسمح ببناء مثل تلك القصور الواسعة الأرجاء. وبما أن سور المدينة اليبوسية قد تم وصله بسور جديد يرجع تاريخ بنائه إلى القرن العاشر، وهو يكاد الآن أن يلامس سور الحرم الشريف (انظر الخريطة)، فإن المنقبة ترجح أن المدينة السكنية في القرن العاشر قد توسعت لتشمل المنطقة التي كانت خالية إبان الألف الثاني قبل الميلاد، وأنها قد ضمت القصور السكنية والإدارية للعاصمة السليمانية. وبما أن هذه المنطقة السكانية للقرن العاشر قد زالت مع زوال المدينة السليمانية، فإن المنقبة لا تستطيع إعطاء أية فكرة عن نوعية وطبيعة المنشآت التي قامت هنا.
15
أما فيما يتعلق بموقع هيكل سليمان، فقبل الدخول في التفاصيل الأركيولوجية، يستحسن إعطاء القارئ لمحة عن تاريخ هذا الهيكل. فمن المفترض أن الملك سليمان قد بنى الهيكل حوالي منتصف القرن العاشر قبل الميلاد، خارج أسوار أورشليم في حقل أرنان اليبوسي الذي أقام فيه داود مذبحا للرب (راجع آخر قصة من قصص داود في عرضنا السابق). ومن المفترض أن هذا الهيكل قد استمر قائما إلى أن تم تدميره مع بقية المدينة على يد البابليين عام 587ق.م. بعد استيلاء قورش الفارسي على بابل وممتلكاتها جميعها، سمح هذا الملك بعودة الجماعات التي تم سبيها خلال العصر الآشوري والبابلي الجديد إلى مواطنها، وبينهم أولئك المسبيون من أورشليم عقب حملة نبوخذ نصر عليها، فعاد مسبيو أورشليم على عدة دفعات. وقد قاد الدفعة الثانية من العائدين المدعو زربابل الذي عينه الفرس واليا على المدينة. وتقول الرواية التوراتية في سفر عزرا بأن زربابل هذا هو الذي أعاد بناء هيكل سليمان المهدم في أورشليم (حوالي عام 520ق.م.) وقد دعي هذا الهيكل الجديد بهيكل زربابل أو بالهيكل الثاني، وبقي قائما إلى العصر الروماني. وعندما عين الرومان المدعو هيرود ملكا على أورشليم ومنطقة اليهودية في عام 37ق.م. قام بتوسيع هيكل زربابل والإضافة إليه حتى بلغت مساحته ضعف المساحة الأصلية. بقي هيكل هيرود قائما قرابة قرن من الزمان، ثم تم تدميره على يد الرومان مع بقية المدينة عام 70 ميلادية، وبقي موقعه خرابا إلى أن تم بناء المسجد الأقصى في مكانه في القرن السابع الميلادي. وقد استخدم المعماري الأموي أساسات سور هيرود نفسها لرفع سور المسجد الأقصى، كما استخدم الأرضيات القديمة فأقام عليها منشآت المسجد.
عثرت حملة السيدة كينيون على جزء لا بأس به من أساسات سور هيرود، الذي يرجع إلى أواخر القرن الأول قبل الميلاد. وقد ميزت المنقبة سور زربابل من سور هيرود اعتمادا على التقنية المستخدمة في نحت الأحجار، لا على أية بينة ستراتيغرافية مقنعة، فقد وجدت أن قسما من سور هيرود قد بني بحجارة استخدمت في نحت سطحها الخارجي تقنية معروفة في بعض البنى المعمارية التي ترجع في تاريخها إلى العصر الفارسي، فأرجعت هذا القسم من السور إلى العصر الفارسي، واعتبرته البقية الوحيدة الباقية من هيكل زربابل. أما هيكل القرن العاشر الذي بناه سليمان، وفقا للرواية التوراتية، فلم يتم العثور على حجر واحد من أساساته أو أي أثر يدل على أنه قد قام في يوم من الأيام. ومن الجدير بالذكر أن الحائط المدعو بحائط المبكى اليوم هو من الأجزاء الباقية من سور هيكل هيرود، أما البرج الوحيد القائم على السور والمدعو ببرج داود، فيرجع إلى فترة المكابيين في القرن الثاني قبل الميلاد.
16
أما خارج مدينة أورشليم، وفيما عدا بعض المدن الكنعانية المهمة، مثل مجدو وحاصور وجازر، فإن التنقيبات الأثرية في المستويات العائدة للقرن العاشر قبل الميلاد لم تعثر على أية دلائل تشير إلى تقدم حضاري وازدهار اقتصادي في كل مكان من المناطق المفترضة للمملكة السليمانية. فأهل هذه المناطق كانوا يعيشون حياة فقيرة جدا وبسيطة إلى أبعد الحدود، وتدور ديانتهم حول آلهة الخصب الكنعانية التي عثر على العديد من مقاماتها وعلى تماثيل آلهتها.
17
خريطة أورشليم اليبوسية، وفق المنقبة كاثلين كينيون.
خريطة أورشليم القرن العاشر، ويظهر عليها التوسعات المعزوة إلى سليمان.
ومن ناحية أخرى، فإن مسحا أركيولوجيا عاما لجميع مناطق الهضاب المركزية ومرتفعات يهوذا (وهي المناطق التي يتفق الباحثون جميعهم اليوم على أنها الأمكنة التقليدية التي تشكلت فيها إسرائيل بالمفهوم التوراتي) قد جرى خلال سبعينيات القرن، وطال كل كيلومتر مربع تقريبا فيها. وقد استخدم المنقبون الأسلوب الجديد الذي يعتمد على شبكة من المعلومات المتقاطعة، التي تقدمها العلوم المساعدة لعلم الآثار، مثل الأنثروبولوجيا والسيسيولوجيا وعلم النباتات وعلم البيئة الطبيعية وغيرها، وذلك وفق مفهوم حديث يدعى بمفهوم الأنظمة المتعاونة (Interdisciplinary Perspective) . وتظهر نتائج هذا المسح أن منطقة يهوذا كانت خالية من السكان تقريبا خلال عصر البرونز الأخير، فيما بين مدينة أورشليم في شمال يهوذا ومدينة حبرون في جنوبها، عدا موقعين صغيرين، هما خربة رابوض وبيت زور، وذلك بسبب الجفاف الذي عم المنطقة وبلغ ذروته حوالي عام 1200ق.م. أما في عصر الحديد الأول (1200-1000ق.م.)، فقد ظهر إلى جانب خربة رابوض وبيت زور عدد قليل من القرى الصغيرة قرب مصادر المياه على الأطراف الشرقية لبادية يهوذا. وتظهر المخلفات المادية لهذه القرى، مثل الفخاريات وغيرها، استمرارا ثقافيا لعصر البرونز الأخير وعصر الحديد الأول. ومع التقدم في عصر الحديد الثاني (1000-600ق.م.) وخصوصا في جزئه الأخير، يتزايد عدد المواقع الجديدة بشكل كبير، وتظهر في كل مكان تقريبا من منطقة يهوذا. إلا أن هذا التوسع في المواقع الجديدة لعصر الحديد الثاني لم يأت نتيجة لاقتلاع السكان السابقين واستبدال سكان جدد بهم؛ لأن المخلفات المادية للحديد الثاني بكامله تظهر انتماء كاملا للثقافة المحلية في الحديد الأول وفي البرونز الأخير.
18
وتبدي منطقة الهضاب المركزية نمطا في إعادة الاستيطان مشابها لما رأيناه في مرتفعات يهوذا، ولكن مع فارق زمني كبير.
19
فقد كانت المنطقة خالية أيضا من السكان تقريبا خلال عصر البرونز الأخير ومطلع عصر الحديد، ثم ابتدأت إعادة الاستيطان مع بدايات عصر الحديد الأول (1200-1000ق.م.) واستمرت بإيقاع متزايد حتى نهايته، وذلك بتأثير عودة المناخ المطري إلى المنطقة، إلا أن هذه العملية لم تصل ذروتها إلا في سياق عصر الحديد الثاني ومع مطلع القرن التاسع تقريبا. وترافق ذلك مع تمركز السلطة السياسية في مدينة السامرة، التي تحولت إلى عاصمة لدولة إقليمية كبيرة في فلسطين. وهذه الحقائق الأركيولوجية فيما يتعلق بمنطقتي إسرائيل ويهوذا تقودنا إلى النتائج التالية: (1)
لقد سبقت عملية استيطان الهضاب المركزية عميلة استيطان مرتفعات يهوذا بنحو قرنين من الزمان. كما سبق قيام الدولة في الشمال قيامها في الجنوب بالمدة نفسها تقريبا. (2)
إن القاعدة السكانية والاقتصادية لقيام مملكة في الهضاب المركزية لم تتوفر قبل استهلال القرن التاسع وبناء مدينة السامرة. (3)
إن القاعدة السكانية والاقتصادية لقيام مملكة في مرتفعات يهوذا بقيادة أورشليم لم تتوفر قبل أواخر القرن الثامن قبل الميلاد. (4)
وهذا يعني أن منطقة إسرائيل قد تحولت إلى دولة إقليمية قوية قبل قرنين تقريبا من توفر الشروط الملائمة لقيام مملكة إقليمية قوية في منطقة يهوذا، ولا يوجد قاعدة مشتركة جمعت بين المنطقتين فيما يدعى المملكة الموحدة لكل إسرائيل خلال القرن العاشر قبل الميلاد.
20
هيكل زربابل وتوسيعات هيرود.
إن نظرة واحدة إلى خريطة أورشليم القرن العاشر قبل الميلاد تعطي فكرة عن ضآلة المدينة. فهي تشغل ذروة القسم الجنوبي من سلسلة تلال القدس الشرقية، ولا يبلغ طولها مع توسعاتها نحو الشمال أكثر من 550م، أما عرضها الذي كان محكوما بالمنحدرات الهضبية فلم يتجاوز 150م. فإذا أضفنا إلى ذلك أن الدراسات الحديثة للأوضاع السكانية لفلسطين القديمة تظهر أن عدد سكان أورشليم خلال القرن العاشر قبل الميلاد لم يتجاوز الألفي نسمة، وأن عدد سكان فلسطين من أقصاها إلى أقصاها، وبجميع مناطقها الساحلية والداخلية والهضبية والصحراوية، لم يتجاوز وفق أكثر التقديرات تفاؤلا المائة ألف نسمة؛
21
لأدركنا أي شبح تاريخي ترسمه لنا الرواية التوراتية عن مملكة كل إسرائيل الموحدة خلال أيام داود وسليمان. (4) نتيجة ومنعطف جديد
لقد تتبعنا في القسم الأول من دراستنا هذه الرواية التوراتية حول أصول إسرائيل، وقمنا بإجراء المقارنة بين الخبر التوراتي والمعلومات التاريخية والأركيولوجية المؤكدة، وذلك عند كل مرحلة من مراحل القصة التوراتية وصولا إلى موت الملك سليمان وانقسام المملكة الموحدة. ولكننا لم نعثر على أثر لإسرائيل التوراتية، ولم يتقاطع الخبر التوراتي خلال ألف عام، وفي أية نقطة من مسار القصة مع تاريخ وأركيولوجيا فلسطين والشرق الأدنى القديم. والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: هل هناك إسرائيل تاريخية يمكن إحلالها محل إسرائيل التوراتية؟ وما هي الصورة التاريخية لإسرائيل وللمسرح الفلسطيني خلال عصر الحديد، الذي شهد مولد دولتي إسرائيل ويهوذا.
الباب الثاني
إسرائيل التاريخية وآرام دمشق
الفصل الأول
نظريات في نشوء إسرائيل
إن الإخفاق الذي مني به الباحثون المحافظون حتى الآن في إيجاد مستندات تاريخية لإسرائيل التوراتية، قد قاد إلى الاستقلال التدريجي للبحث في أصول إسرائيل عن البحث التوراتي والبحث اللاهوتي. وفيما عدا البقية المتعنتة من تلامذة أولبرايت، والحلقات الأكاديمية ذات الخلفية اللاهوتية، فإن الباحثين اليوم يضربون صفحا عن كل ما سبق فترة الاستقرار في كنعان، باعتباره «ما قبل التاريخ» بالنسبة لمسألة أصول إسرائيل، ويركزون دراستهم على عصر الحديد الأول، والفترة الانتقالية من البرونز الأخير إلى عصر الحديد، وذلك من أجل الكشف عما حدث فعلا في فلسطين وأدى إلى نشوء إسرائيل. (1) نظرية آلت في التسرب السلمي
في عام 1925 نشر الباحث الألماني ألبريخت آلت
Albrecht Alt
بحثه المعنون «توطن الإسرائيليين في فلسطين»، وذلك ضمن كتاب موسوعي أشرف على تحريره عنوانه «مقالات في تاريخ وديانة العهد القديم».
1
وقد بسط آلت في ذلك البحث نظريته في أصل إسرائيل، والتي كان لها تأثير كبير على مسار البحث منذ ذلك الوقت. يبتدئ آلت دراسته لأصول إسرائيل من عصر القضاة، أما ما قبل ذلك من المرويات التوراتية فليست عنده إلا من قبيل الأدب الخيالي، الذي تمت صياغته في الفترات المتأخرة، بهدف خلق أصول متجذرة لإسرائيل وديانتها في الماضي البعيد. وجد آلت من دراسته لأسماء المواقع التي تعزو الرواية التوراتية سكناها من قبل أوائل الإسرائيليين في سفر القضاة، أن هذه المواقع كانت بعيدة عن مناطق دويلات المدن الكنعانية، وقامت في المناطق الهضبية شبه الخالية من السكان تقريبا. من هنا كان منطلقه في بناء نظريته في التسرب السلمي للجماعات التي شكلت فيما بعد إسرائيل. لقد لاحظ هذا الباحث من مقاطعته للعديد من المعلومات أن الهضاب المركزية لفلسطين كانت شبه خالية من السكان خلال عصر البرونز الأخير، وخصوصا منذ فترة تل العمارنة حوالي 1350ق.م. ولم تكن تحتوي إلا على عدد قليل جدا من القرى الصغيرة والمتباعدة. وكانت مدينة شكيم في الشمال هي المدينة الوحيدة المهمة فيما بين أورشليم جنوبا ووادي يزرعيل (مرج ابن عامر) في الشمال. وقد بقي وضع الهضاب المركزية على هذه الحالة حتى عام 1250ق.م. عندما بدأ مسرح الحدث التوراتي بالتوضح في هذه الرقعة. وفي الحقيقة، فإن هذا الاستنتاج المبكر الذي توصل إليه آلت بنفاذ بصيرته قد أثبته المسح الأركيولوجي للهضاب المركزية بعد أكثر من نصف قرن على ظهور دراسة آلت.
ويعتقد آلت أن الجماعات التي شغلت الهضاب المركزية كانت عبارة عن عشائر بدوية من أصول مختلفة أخذت بالتسرب تدريجيا إلى هذه المنطقة، وعلى فترات متقطعة ومتباعدة، اعتبارا من منتصف القرن الثالث عشر قبل الميلاد، تسوق قطعانها الصغيرة عبر نهر الأردن باحثة عن مراع جديدة في كنعان. وكان هؤلاء الرعاة يتوقفون خلال الشتاء والربيع عند أطراف المناطق الزراعية، فإذا يبست الأعشاب صيفا أخذوا بالتوغل أكثر فأكثر نحو المناطق الزراعية من أجل رعي القش المتبقي بعد الحصاد، وذلك بالاتفاق مع أصحاب الحقول، الذين كانوا يدخلون معهم في علاقات منافع متبادلة. وشيئا فشيئا، وجد بعض هذه العشائر أماكن مناسبة لإقامتهم في المناطق الخالية الفاصلة بين دويلات المدن الكنعانية، والبعيدة عن نفوذ المراكز السياسية الهامة، وعن النفوذ المصري في وادي يزرعيل، فتوطنوا هناك وأخذوا بالاستقرار والزراعة دون أن يسببوا تهديدا أو مخاوف لأي فريق، ولم يكن لهذه الجماعات من حاجة إلى العنف وإلى اكتساب الأرض بالقوة. ثم إن هذه العشائر المسالمة والمتباعدة عن بعض أخذت بالتقارب بعد فترة من الاستقرار، وأخذت تدريجيا بالإحساس بنوع من الرابطة فيما بينها. ومن المرجح أن عبادة واحدة قد نشأت بينها تدريجيا، وتركزت طقوسها حول مقام مقدس أو مذبح مشترك، الأمر الذي زاد من ترابطها وإحساسها بالتمايز عمن حولها. وعندما أخذت أكبر هذه العشائر بتوسيع مناطقها على حساب مناطق الكنعانيين، وذلك في أواخر عصر القضاة، وقع الصدام العسكري مع الكنعانيين على شكل حروب محلية محدودة. وهذه الحروب هي التي بقيت ذكراها قائمة في الأذهان بشكل غامض ومشوش، وأدت فيما بعد إلى نشوء تقليد الفتح العسكري واكتساب كنعان بالقوة، مما يذكره سفر يشوع. ثم تنادت هذه الجماعات بعد أن أحست بوحدة مصالحها إلى إقامة المملكة الموحدة، التي ابتدأت بحكم الملك شاول.
وينطلق آلت في نظرته إلى أصول إسرائيل من موقف مخالف تماما لموقف الباحث أولبرايت، فبينما كان هم أولبرايت أن يزرع جذور إسرائيل في التربة الأوسع لثقافة الشرق القديم، فإن آلت والمدرسة التي ينتمي إليها، بنظرتهم الشكوكية إلى القيمة التاريخية لروايات الآباء والخروج ويشوع، يجدون أنه من غير المجدي البحث عن أصول إسرائيل في الفترات السابقة لعصر القضاة وتشكيل المملكة الموحدة. وهنا، وبدلا من توطين أصول إسرائيل في الثقافة المحلية، والبحث عن نواحي اللقاء والانسجام، فإن آلت يلجأ إلى إبراز أصول إسرائيل من خلال تضادها وتناقضها مع محيطها، ويركز على ثنائية إسرائيل - كنعان. إن المفتاح الرئيسي لفهم نشوء إسرائيل كهوية متميزة في المنطقة، هو البحث عن اختلافها وتفردها وتميزها عن المحيط الكنعاني الأوسع والأقدم. أما الجوانب التي يجدها آلت مشتركة بين ما هو إسرائيلي وما هو كنعاني، فيعزوها إلى قيام الإسرائيليين لاحقا بتبني جوانب معينة من الثقافة الكنعانية، وهي جوانب غير أصيلة في إسرائيل كما يعتقد.
يستخدم آلت مصطلح «كنعان» وصفة «كنعاني» للدلالة على دويلات المدن الفلسطينية وما يتعلق بها خلال عصر البرونز الأخير، وهي الدويلات التي نعرف عنها من رسائل تل العمارنة، ومن وثائق الإمبراطورية المصرية عموما العائدة لذلك العصر. وهو يصفها بأنها دويلات زراعية يحكمها ملوك متسلطون، مرتبطة ثقافيا بالعالم السوري المسماري، وذات ديانة تقليدية وثنية. أما مصطلح «إسرائيل» وصفة «إسرائيلي» فهو مفهوم تجريدي عند آلت استمده من نفي كل ما هو كنعاني. فالمصطلح، والحالة هذه، يشير إلى ثقافة قبلية ورعوية شبه بدوية، ومعتقد ديني توحيدي، ونظام حكم بدائي ديمقراطي. وثنائية كنعان - إسرائيل عند آلت لست ثنائية تضاد ثقافي فقط، بل ثنائية تتابع زمني أيضا؛ فعصر البرونز الأخير هو عصر كنعاني، ويدل على كامل فلسطين قبل وصول الإسرائيليين، أما ما تلاه من عصر الحديد فإسرائيلي، أو فلسطين في طريقها لأن تغدو إسرائيل. من هنا، فقد أعطى هذا الباحث لنفسه الحق في دراسة نصوص عصر البرونز الأخير، واستقراء آثاره سواء في فلسطين أم خارجها، دون الاستعانة بالنص التوراتي أو الرجوع إليه، وذلك على عكس موقفه من نصوص وآثار عصر الحديد الذي يعتبره فاتحة للعصر الإسرائيلي.
لقد وضع آلت نموذجا لنشوء إسرائيل غدا سنة متبعة بعده. ويعتمد هذا النموذج على وصف التغيرات الاجتماعية والسياسية، التي أدت إلى الانتقال من عصر البرونز إلى عصر الحديد، أو من فلسطين دويلات المدن الكنعانية في السهول والوديان إلى فلسطين المملكة الموحدة في المناطق الهضبية، والتي بسطت سلطتها فيما بعد على بقية دويلات المدن الكنعانية. من هنا، فقد صار من البديهي التحدث في الأدبيات التاريخية عن كل ما هو كنعاني باعتباره يمت إلى البرونز الأخير، وعن كل ما هو إسرائيلي باعتباره يمت إلى عصر الحديد. أما الجانب الآخر من نظريته، والذي يؤكد على التسرب السلمي وينفي الفتح العسكري لأرض كنعان، فقد بقي موضع جدال بين الباحثين. وقد عارضته منذ البداية مدرسة أولبرايت، التي بقيت حتى النهاية من أنصار نظرية الاقتحام العسكري، ويعارضه في الوقت الحاضر بعض الباحثين الإسرائيليين من أمثال يادين
Yadin
ومالامات
Malamat ، وذلك رغم أن نتائج المسح الأركيولوجي لفلسطين تثبت يوما بعد يوم نظرية التسرب التدريجي. فأحداث سفر يشوع لم تؤكدها حتى الآن نتائج التنقيب الأثري، أما التسرب التدريجي فيمكن لأنصاره الاعتماد على الوقائع الأركيولوجية الجديدة. لقد استطاع المنقب موشي كوشافي العثور على مائة قرية زراعية صغيرة نشأت في منطقة أفرايم بالهضاب المركزية خلال عصر الحديد الأول،
2
كما عثر المنقب آدم زرتال في منطقة منسي بالهضاب المركزية أيضا على 136 قرية جديدة خلال الفترة نفسها.
3
ولكن من يستطيع القول إن هذه القرى الجديدة هي قرى إسرائيلية؟ إن الدلائل تتزايد اليوم على أن أولئك القادمين الجدد إلى المناطق الهضبية في فلسطين كانوا بشكل رئيسي من المزارعين ومربي الماشية المستقرين، ولا علاقة لهم بالبداوة أو الرعي المتنقل، وأنهم من أصل محلي لا خارجي. يضاف إلى ذلك أن ظهور القرى الجديدة في فلسطين إبان عصر الحديد الأول لم يكن وقفا على المناطق الهضبية فقط، وأن إعادة استيطان المناطق التي هجرت خلال عصر البرونز الأخير هي عملية مرتبطة بعودة المناخ المطري. إن أخذ هذه الحقائق كلها بعين الاعتبار يؤكد لنا بأن التغييرات السكانية في المناطق الهضبية لا علاقة لها من قريب أو بعيد بنشوء إسرائيل التوراتية.
إن ثنائية كنعان - إسرائيل، التي رسختها نظرية آلت، لم تنشأ نتيجة لوصف مباشر وبسيط لمجموعتين بشريتين متعاصرتين ومعروفتين تاريخيا، هما الإسرائيليون والكنعانيون، بل جاءت نتيجة وصف تخيلي يعتمد التوفيق بين الرواية التوراتية والمصادر التاريخية. فصورة الكنعانيين عند آلت وغيره من الباحثين التقليديين مستمدة من تفسير النصوص المصرية لعصر البرونز، والتوفيق بينها وبين الصورة العرقية التوراتية عنهم. وأما صورة الإسرائيليين فمستمدة فقط من الرواية التوراتية المتأخرة، والتي لا تعكس سوى صورة جماعة السبي البابلي، من بني يهوذا، عن أنفسهم وعن أصولهم. وفي الحقيقة، فإننا اعتمادا على المكتشفات الأثرية في كل مواقع القرى والمدن الفلسطينية، لا نستطيع التمييز بين ما هو كنعاني وما هو إسرائيلي. ففي المواقع القديمة، مثل مجدو وحاصور وشكيم، والتي استمرت من عصر البرونز إلى عصر الحديد، تظهر الآثار المادية صورة ثقافة محلية مستمرة وغير منقطعة، من عصر البرونز الوسيط إلى البرونز الأخير فعصر الحديد الثاني. كما تظهر الخزفيات والمخلفات المادية الأخرى في مواقع القرى الجديدة، التي ظهرت إبان عصر الحديد الأول انتماء للثقافة المحلية، وارتباطا كاملا بثقافة عصر البرونز الأخير. وكذلك الأمر فيما يتعلق بالمدن التي بنيت في عصر الحديد، ومثالنا الوحيد عليها هو مدينة السامرة، فهنا يبدي كل أثر من آثار تنظيم المدينة وعمارتها وخزفياتها وفنونها التشكيلية انتماء إلى الثقافة الفلسطينية التقليدية، والثقافة الفينيقية المجاورة.
كل ذلك يدعونا إلى القول مع السيدة كاثلين كينيون - التي قضت جل حياتها المهنية في التنقيب في أورشليم وأريحا وعدد آخر من المواقع الفلسطينية - إنه لا يوجد وقت فيما بين عصر البرونز الأخير وعصر الحديد نستطيع أن نلاحظ فيه تغيرا حضاريا يشير إلى حلول أقوام جديدة في فلسطين، سواء في المناطق الهضبية أم في غيرها،
4
وإلى نشوء ثنائية إسرائيل - كنعان كواقع ثقافي ملموس. لقد كانت تقارير السيدة كينيون الأثرية بمثابة قمة نتاج الأركيولوجيا التقليدية في فلسطين. ورغم أن هذه الباحثة لا تنتمي إلى الفريق المحافظ الذي يسعى إلى إيجاد الدعم الأركيولوجي للرواية التوراتية، إلا أنها لم تنح جانبا الرواية التوراتية التي كانت حاضرة على الدوام كشاهد نفي أو إثبات. ومع ذلك فإنها توضح على الدوام عدم إمكانية تمييز ما هو إسرائيلي عما هو كنعاني، وذلك في المواقع جميعها وعبر المراحل كلها. (2) نظرية الانتفاضة الداخلية
إذا لم يكن الإسرائيليون قد وفدوا من خارج كنعان، فلا بد أنهم شريحة اجتماعية محلية فرزتها ظروف معينة عن المجتمع الكنعاني. وهذا ما تقول به نظرية ظهرت في ستينيات القرن العشرين على يد الباحث ميندنهل
Mendenhall ، وطورها بعده الباحث غوتوالد
Gottwald .
يرفض ميندنهل، من حيث الأساس، نظرية الأصل الخارجي الرعوي للجماعات الإسرائيلية التي تسربت إلى المناطق الهضبية بحثا عن المراعي. وهو يرى أن الجماعات التي شكلت إسرائيل فيما بعد هي شرائح فلاحية كنعانية لجأت إلى الثورة في وجه حكام دويلات المدن الطغاة، وأن خميرة هذه الحركة الثورية كانت جماعة آبقة من العبودية في مصر، جاءت معها بعبادة يهوه التي تبنتها الجماعات الفلاحية الثائرة. وقد كان تبني الجماعات الثائرة لعبادة يهوه بمثابة إعلان لرفضها لكل ما تمثله دويلات المدن الكنعانية المتسلطة على الشرائح الزراعية المضطهدة. ويعقد ميندنهل صلة بين عبران عصر الحديد الذين استهلوا هذه الثورة، وعابيرو عصر العمارنة في البرونز الأخير. فالعابيرو والعبراني عنده متعادلان، والكلمة تدل على تلك الشرائح الاجتماعية المحرومة في مجتمعات الشرق القديم، والتي لجأت بسبب وضعها العام إلى التمرد والعصيان على النظام الفاسد لدولة المدينة الكنعانية. وهو إذ يفهم ويفسر اضطرابات العابيرو في فلسطين إبان القرن الرابع عشر قبل الميلاد من خلال هذا المنظور، فإنه يعتقد أن روح التمرد والمقاومة قد استمرت لدى هذه الشرائح منذ ذلك الوقت، ثم أعلنت عن نفسها مجددا في القرن الثاني عشر قبل الميلاد بين الجماعات القديمة ذاتها. إلا أن ما يميز التمرد العبراني اللاحق عن تمرد العابيرو هو أن التمرد العبراني كان تمردا دينيا في جوهره، وأن أصحابه كانوا يبحثون عن الحرية الدينية تحت لواء عبادة يهوه المناقضة لعبادة الأبعال الكنعانية. من هنا، فإن إسرائيل في نشأتها كانت تلاحما دينيا لجماعات محلية في أصلها، وأن القرى الزراعية الكنعانية قد صارت عبرانية باختيارها لديانة يهوه، ورفضها للنظام السياسي الكنعاني في المدن الكبرى.
5
أما الباحث غوتوالد
Gottwald
فقد تبنى نظرية ميندنهل في الانتفاضة الداخلية مع بعض التعديلات التي تعتمد الأفكار الماركسية (1979). يتفق غوتوالد، من حيث المبدأ، مع ميندنهل في أن الجماعات الإسرائيلية الأولى كانت شرائح مضطهدة من الفلاحين والمزارعين والرعاة، ومن الجماعات الهامشية التي تقع خارج الإطار الاجتماعي والسياسي لدويلات المدن الكنعانية. إلا أنه يرى في ثورة هؤلاء انتفاضة طبقية بالمفهوم الماركسي. فهذه الشرائح المضطهدة في فلسطين قد ثارت ضد دويلات المدن الإقطاعية ونظمها السياسية، التي تديرها أرستقراطية نبيلة تعمل على استغلال وقمع الشرائح الاجتماعية المحرومة.
6
ولقد طور كاتب هذه السطور من جهته، وبشكل مستقل، منذ مطلع الثمانينيات نظرية في أصول إسرائيل قريبة من نظرية ميندنهل وغوتوالد، وتختلف عنها في أنها أسقطت عنصر الثورة الداخلية، وركزت على التمايز الديني عن الوسط الكنعاني، وما تبعه من تمايز اجتماعي وثقافي أدى في النهاية إلى ما يشبه التغاير الإثني، الذي كرسه فيما بعد كهنة يهوذا خلال السبي البابلي وما تلاه. وقد عرضت أفكاري هذه في عدد من المحاضرات التي ألقيتها في منتديات ثقافية سورية، وفي بحث مطول نشر في مجلة الفكر الديمقراطي الصادر في قبرص. ويعبر المقطع التالي، الذي أقتطفه للقارئ من آخر هذا البحث، عن الخطوط العامة للنظرية التي عملت على تعديلها فيما بعد: «لقد أوصلتنا دراسة المخلفات المادية للثقافة الإسرائيلية إلى القول بأن أرض فلسطين لم تعرف شعبا متميزا اسمه الشعب الإسرائيلي، ولا ثقافة خاصة يمكن تعريفها بالثقافة الإسرائيلية. فكل ما كشف عنه علم الآثار يشير إلى ثقافة سورية كنعانية في تطورها الذاتي الطبيعي. ثم جاءت دراستنا للتراث اللغوي والأدبي والديني للثقافة الإسرائيلية لتدعم نتائجنا المبدئية. فاللغة التي نطق بها الإسرائيليون وكتبوا بحرفها هي لغة كنعانية، وآدابهم هي آداب كنعانية، ومعتقدهم التوراتي الذي وجدوا فيه مصدر تميزهم قد نشأ وتطور نتيجة لجدليات المؤسسة الدينية الكنعانية. ولا ينجم عن ذلك كله إلا القول بأن الشعب الذي أنتج ما يدعى بالثقافة الإسرائيلية هو فئة كنعانية لم تغادر فلسطين قط، وربما استوعبت إليها فئة ضئيلة من النازحين من مصر. وعندما بدأ كهنة يهوه في المنفى بتحرير أسفار التوراة، في فترة انحلال المجتمع الإسرائيلي وتألب القوى الكبرى عليه، كتبوا تاريخ بني إسرائيل من وجهة نظرهم، فجعلوا منهم فئة متميزة منذ البداية، سعيا وراء ترسيخ الشكل الأخير للدين اليهودي، الذي صار مصدر تماسكهم وأملهم في الوقوف في وجه الفناء. لقد ميز كهنة يهوه، أخيرا، أنفسهم ومن صار معهم، عن كنعان تمييزا مطلقا، وجعلوا من الفارق الديني الذي يفصلهم عن بقية الكنعانيين فارقا في كل شيء.»
7
وفي الحقيقة، فإن نظرية الانتفاضة الداخلية ، بشقيها الديني والطبقي، تبقى نظرية قائمة على تجريديات ذهنية لا أساس لها في الواقع الاجتماعي والسياسي لفلسطين في عصر الحديد. فإضافة إلى أن معلوماتنا التاريخية لا تؤيد وقوع مثل هذه الانتفاضة في أي وقت فيما بين 1200-1000ق.م. فإن الشواهد الآثارية تؤكد أن المناطق الهضبية في فلسطين، والتي يفترض ميندنهل أن أتباع عبادة يهوه قد لجئوا إليها في مطلع عصر الحديد، كانت خالية من السكان تقريبا كما أوضحنا سابقا. يضاف إلى ذلك أن مفهوم دولة المدينة في فلسطين باعتبارها قوة كبرى، ذات بلاط واسع وملك مستبد، حوله حاشية وأمراء ونبلاء، وإدارة بيروقراطية، وجيش عرمرم؛ هو مفهوم مغلوط فيه فيما يتعلق بفلسطين، ويعتمد على سوء فهم لرسائل تل العمارنة من جهة، وعلى مقارنة دويلات فلسطين عصر العمارنة بدويلات فلسطين في عصر الحديد. فالمدن الفلسطينية كانت في واقعها أشبه بالقرى الصغيرة المسورة مقارنة بمثيلاتها في سوريا، ولم يكن أكبر هذه المدن يضم داخل أسواره أكثر من بضعة آلاف لا تتجاوز الخمسة في أفضل الأحوال. ورغم ذلك فقد كان وضع هذه المدن في عصر الحديد الأول أسوأ بكثير من وضعها في عصر تل العمارنة، وذلك بسبب تناقص السكان الناجم عن الاقتلاع السكاني العام، الذي ميز فترة الانتقال بين البرونز الأخير والحديد الأول.
8
من هنا، فإن صورة الملك الكنعاني في دولة المدينة الفلسطينية، الذي يتحكم مع طبقة النبلاء بثروة البلاد، ويمارس الظلم والاضطهاد على شرائح الفلاحين المحرومة، هي صورة لا تتوافق مع واقع حال المنطقة وظروفها التاريخية.
أما عن العنصر الروحي، الذي كان السبب في نشوء إسرائيل وتميزها عن الوسط الكنعاني، مما تقول به نظرية ميندنهل ونظرية كاتب هذه السطور، كل على طريقته (يرى ميندنهل بأن الشرائح المضطهدة قد تحولت إلى ديانة يهوه التي جاءت إلى فلسطين ناجزة من الخارج، بينما يرى كاتب هذه السطور في نظريته السابقة بأن ديانة يهوه التوراتية لم تأت ناجزة من الخارج، بل تطورت داخل المؤسسة الدينية الكنعانية)، فإن المسح الأركيولوجي للمراكز السكنية في فلسطين جميعها من أكبر المدن إلى أصغر القرى، لم يجد أثرا للمعتقدات والشعائر التوراتية خلال كامل الفترة السابقة على السبي البابلي ليهوذا، فلا هياكل للإله يهوه التوراتي ولا معابد ولا مذابح، ولا نقوش تذكره بالطريقة التي تقدمه بها الأسفار التوراتية. لقد كان هناك في فلسطين إله اسمه يهوه، ولكنه غير يهوه إله التوراة؛ لأنه يظهر في النقوش القليلة التي ذكرته إلى جانب بقية الآلهة الكنعانية، مثل إيل وبعل، وتذكر إلى جانبه زوجته المدعوة عشيرة، والتي كانت في النصوص الكنعانية الأوغاريتية زوجة الإله إيل. ففي موقع عجرود جنوب فلسطين اكتشف المنقبون عام 1975 عددا من النقوش الكتابية على الفخار تعود إلى القرن الثامن قبل الميلاد، يرد فيها اسم الإله يهوه بين عدد من الآلهة الكنعانية الأخرى، مثل إيل وبعل وعشيرة. نقرأ في أحد هذه النقوش ما يلي: «فليباركك الإله يهوه وعشيرته (زوجته عشيرة)، ليباركك يهوه ويحفظك ويبق إلى جانبك.» وفي نقش على الفخار من السامرة نجد أن الإله يهوه يلقب بالعجل، وذلك على طريقة آلهة أوغاريت. كما اكتشف في موقع السامرة حديثا مقام ديني يحتوي على تمثال برونزي للعجل المقدس، الذي يرمز هنا على الأغلب للإله الكنعاني يهوه.
9
وفي مكان لا يبعد كثيرا عن جدار هيكل سليمان المفترض، عثرت المنقبة كاثلين كينيون على مقام ديني كنعاني في أورشليم يرجع بتاريخه إلى الهزيع الأخير من حياة أورشليم قبل الدمار البابلي، يتصدر الحرم الرئيسي فيه نصب المازيبوت المعروف في بقية المعابد الكنعانية، وهو عبارة عن عمودين حجريين يرمزان إلى ألوهة الخصب. كما عثرت المنقبة في مستودع تابع لهذا المعبد على عدد كبير من الدمى العشتارية تمثل إلهة الخصب الكنعانية في وضعيتها التقليدية المعروفة، التي تظهر الإلهة ممسكة بنهديها.
10
وفي بقية مواقع المدن الفلسطينية تم العثور في المستويات العائدة لعصر الحديد الثاني على كثير من الدمى العشتارية في أوضاع مختلفة، وخصوصا في موقع بيت شميش، حيث تظهر الإلهة هنا في هيئة الحامل، مع التركيز على البطن الكبير المنتفخ.
11
ويبدو لي الآن بوضوح، أن ما كنت قد توصلت إليه في نظريتي السابقة ، التي تقول بأن المعتقد التوراتي قد تطور داخل الديانة الكنعانية ذاتها، قد اعتمد بشكل رئيسي على النقد النصي لأسفار التوراة، ودون تقييم حقيقي للبينات الأركيولوجية المتعلقة بالموضوع، والتي تؤكد بما لا يدع مكانا للشك أن المعتقد التوراتي، وخصوصا كما ترسمه أسفار الأنبياء، لم يكن له وجود في فلسطين خلال النصف الأول من الألف الأول قبل الميلاد. ولسوف نبين في الفصول الأخيرة من هذا الكتاب أسباب وكيفية نشوء المعتقد التوراتي خلال القرون الثلاثة التي تلت السبي البابلي، ودور هذا المعتقد في تكوين الجماعة اليهودية. (3) نظرية بوتقة الانصهار
ترتبط هذه النظرية بشكل رئيسي بالباحث ماكسويل ميللر
J. Maxwell Miller
من جامعة
Emory
بالولايات المتحدة، والذي تطرقنا إلى أفكاره خلال عرضنا لمسألة نصب مرنفتاح. فبعد استقصاء دقيق للوثائق الكتابية، والمادة الأركيولوجية، ودراسة معمقة لسفر القضاة، توصل ميللر إلى نتيجة مفادها أن الاسم «إسرائيل» الوارد في نصب الفرعون مرنفتاح، يشير إلى تجمع لثلاث قبائل كنعانية في منطقة الهضاب المركزية، هي أفرايم ومنسي وبنيامين. وقد كانت أفرايم هي القبيلة الرائدة في هذا التجمع، الذي ضم فيما بعد قبيلة جلعاد في عبر الأردن. كما لاحظ من دراسته لسفر القضاة أن التقاليد الأقدم التي بنيت عليها أحداث هذا السفر تربط القبائل الإسرائيلية بشكل رئيسي بمناطق الهضاب المركزية التي كانت الموطن الأساسي لهم، وبقوا ضمن حدودها حتى تشكيل المملكة الموحدة. وقد أخذ هذا التجمع الأولي للقبائل الأربع بالتوسع تدريجيا حتى بلغ عشر قبائل، وهي القبائل التي دعتها القاضية دبورة إلى القتال معها ضد يابين ملك حاصور (القضاة، 5: 12-18). ومع انتقال الحكم إلى الملك داود توسع الاتحاد القبلي ليشمل اثنتي عشرة قبيلة، بينها قبيلة يهوذا الجنوبية. ويرى ميللر أن هذه القبائل جاءت من أصول مختلفة، ودخلت الهضاب المركزية على فترات متباعدة. من هنا، فإننا لا نستطيع وضع تاريخ محدد لما يسمى بالاستقرار الإسرائيلي في كنعان. وبذلك يجدد ميللر فكرة الباحث آلت عن التسرب التدريجي عبر فترة طويلة من الزمن، وينحي بشكل ضمني تلك المطابقة بين ظهور الإسرائيليين في كنعان، وبين عصر الانتقال من البرونز الأخير إلى عصر الحديد. فإسرائيل كمفهوم إثني وسياسي قد نجمت عن بوتقة انصهار ضمت جماعات مختلفة ومتنوعة، استغرق تقاربها واندماجها فترة طويلة من الزمن، في عملية أكثر تعقيدا بكثير من الرواية التوراتية البسيطة التي يعرضها سفر يشوع أو سفر القضاة.
12
ويمكن وضع أفكار الباحث لامكه
Lemche
ضمن الخطوط العامة لنظرية بوتقة الانصهار. فقد قام هذا الباحث في عمله المعنون
Early Israel
والصادر عام 1985 بالمحاولة الثانية الهامة بعد آلت، التي تهدف إلى دراسة بدايات إسرائيل بشكل مستقل عن الرواية التوراتية. وقد توصل لامكه إلى نتيجة مفادها أنه لا يوجد لدينا من الحقائق الموضوعية ما يسوغ الحديث عن مفهوم إسرائيل قبل فترة المملكة الموحدة، وبدلا من الاعتماد على الرواية التوراتية يلجأ الباحث إلى دراسة فترة التحول من البرونز الأخير إلى عصر الحديد، من أجل البحث عن أصول إسرائيل خلال هذه الفترة. وقد قادته دراسة نتائج علم الآثار إلى ملاحظة الاستمرارية الثقافية بين هذين العصرين اللذين وجد فيهما حلقتين متتابعتين في ثقافة كنعانية محلية لا انقطاع فيها ولا فجوات. من هنا، فإن إطلاق صفة كنعاني على عصر البرونز، وصفة إسرائيلي على عصر الحديد ليس له ما يسوغه على الإطلاق، وثنائية كنعان - إسرائيل لا تقوم على أساس أركيولوجي وتاريخي حقيقي. وهذا ما قاد الباحث إلى تقصي أصول إسرائيل في المصادر المحلية، فهو يرى أن بعض الشرائح الاجتماعية المحرومة في مناطق السهول قد أخذت بالنزوح تدريجيا نحو الهضاب المركزية منذ عصر البرونز الأخير، وبشكل خاص بعد فترة تل العمارنة، وأخذت بتشكيل وحدات سياسية بدائية، ترابطت شيئا فشيئا بسبب عزلتها عن طرق التجارة المحلية والدولية، وشكلت إسرائيل.
13 (4) النظرية الأركيولوجية الحديثة
تعتبر هذه النظرية بمثابة الصياغة العلمية لنظرية التسرب السلمي ونظرية بوتقة الانصهار. وتمت صياغتها على يد الأركيولوجيين الإسرائيليين المحدثين بشكل رئيسي، مدفوعين بنظرية آلت عن الاستقرار السلمي والتسرب التدريجي. وقد ولدت النظرية كخلاصة لتفسيرات نتائج المسح الأركيولوجي الشامل لمناطق مرتفعات الجليل والهضاب المركزية ومرتفعات يهوذا، والذي نشط فيما بين سبعينيات وتسعينيات القرن العشرين على يد منقبين من أمثال
Z. Gal
و
R. Frankel
و
A. Zertal
و
I. Finkelstein
و
M. Kochavi . ولسوف أركز فيما يلي على تنقيبات آدم زرتال
Adam Zertal
في الهضاب المركزية، والخلاصات النظرية التي بناها على نتائج هذه التنقيبات، وكذلك على الخلاصات النظرية لزميله فنكلشتاين
Finkelstein
التي تطور خلاصات زرتال.
اختار آدم زرتال لمسحه الأركيولوجي منطقة منسي التوراتية التي تشكل مع منطقة أفرايم 80٪ تقريبا من مساحة الهضاب المركزية. تبلغ مساحة منسي حوالي 2000كم
2 ، يحدها من الشرق نهر الأردن، ومن الغرب الطريق الدولي المعروف أيام الرومان بطريق البحر، ومن الشمال وادي يزرعيل، ومن الجنوب مدينة شكيم ضمنا، والتي تقع على تخوم منطقة بنيامين. وقد ابتدأ زرتال العمل مع فريق موسع من الإخصائيين في عدد كبير من العلوم المساعدة عام 1978، واستمر اثنتي عشرة سنة حتى عام 1990. قام فريق العمل خلال هذه المدة الطويلة بمسح كل متر مربع من منطقة منسي سيرا على الأقدام، وجمع عددا هائلا من المعلومات الآثارية والمعلومات الأخرى التي تعين على تفسيرها، وذلك مثل ارتفاع الموقع المكتشف عن سطح البحر وعن المنطقة المحيطة به، الوضع الطبوغرافي والجيولوجي للموقع، نوعية التربة، المحاصيل التي تزرع حوله الآن والمحاصيل التي زرعت في الماضي قرب الموقع، إلى مصادر المياه وإلى الطرق العامة، إطلالة الموقع على بقية المواقع الأخرى ... إلخ. وفي النهاية تم الاستعانة بالحاسوب من أجل تحليل هذه الكمية الهائلة من المعلومات.
14
لقد عثر فريق زرتال على 116 قرية زراعية تعود إلى النصف الثاني من عصر البرونز الوسيط ، وعلى 39 قرية زراعية من عصر البرونز الأخير، وعلى 136 قرية زراعية من عصر الحديد الأول. أي إنه بعد الهبوط الحاد في منحنى الاستيطان خلال البرونز الأخير بسبب الجفاف العام، عاد المنحنى إلى الصعود خلال عصر الحديد الأول بعد عودة المناخ المطري، وهي الفترة المفترضة للاستيطان الإسرائيلي في الهضاب المركزية. كما تبين من تحليل المعلومات أن معظم مواقع عصر البرونز الوسيط وعصر البرونز الأخير كانت متوضعة في المناطق الأكثر خصوبة من الهضاب المركزية، مثل الأودية التي يسيل فيها ماء المطر، أما معظم مواقع عصر الحديد فكانت متوضعة في المناطق المرتفعة ذات الطبيعة الصعبة والتربة القليلة الخصوبة. وإضافة إلى ذلك، فقد لاحظ زرتال أن أولى المواقع التي ظهرت في الهضاب المركزية قد توضعت في وادي الأردن والمنحدرات الشرقية للهضاب، ومع التقدم زمنيا في عصر الحديد الأول تأخذ القرى الجديدة بالظهور أعمق فأعمق نحو الغرب، معتمدة في زراعتها على القمح والشعير. وفي آخر مراحل الاستيطان خلال القرن الحادي عشر يأخذ القرويون باستصلاح المنحدرات، وتسوية المدرجات التي تصلح لزراعة المحاصيل المتوسطية، كالكرمة والزيتون.
وبما أن المنقب زرتال يفترض مسبقا بأن القرى الجديدة في منطقة الهضاب المركزية هي قرى إسرائيلية، فإنه يفسر ظهورها أولا في المناطق الأقل خصوبة بوجود الكنعانيين في المناطق الخصيبة، وهذا ما دفع القادمين الجدد إلى الاستقرار في المناطق غير المملوكة من قبل أحد. كما أنه يفسر سبب ظهور القرى الأولى في المنحدرات الشرقية للهضاب المركزية، ثم زحفها التدريجي نحو الأعلى وصولا إلى المناطق المرتفعة، بأن القادمين الجدد قد جاءوا من المناطق الرعوية في شرقي الأردن، وبدءوا في الاستقرار التدريجي بوادي الأردن والمنحدرات الشرقية، ثم تغلغلوا نحو الداخل. كما يرى زرتال أن المجموعتين الكنعانية والإسرائيلية كانتا متعايشتين بشكل سلمي في المنطقة، وأن الكنعانيين القدماء في الأرض قد سمحوا للإسرائيليين بالاستقرار في المناطق البعيدة عنهم وبناء قراهم الجديدة، ذلك أن المناطق التي شغلها القادمون الجدد كانت عديمة المصادر المائية الطبيعية، وكان أهلها مضطرين لجلب الماء من مناطق الكنعانيين البعيدة بالاتفاق معهم. أما عن كيفية جلب هذه المياه وطريقة خزنها، فإن زرتال يعتقد بأن تلك الجرار الضخمة التي وجدت في المواقع الإسرائيلية الأولى، والتي تشكل الجزء الأكبر من المكتشفات الفخارية في هذه المواقع، قد استخدمت لهذه الغاية، ويدعم هذا الاستنتاج في رأيه أن هذا النوع من الجرار الضخمة قد بدأ بالاختفاء مع حلول عصر الحديد الثاني، وشيوع استخدام الأدوات الحديدية، من معاول وغيرها، والتي ساعدت سكان المناطق المحرومة من المياه على حفر خزانات مكشوفة واسعة في الصخر، من أجل تخزين مياه المطر في الشتاء واستخدامها في الصيف.
وقد قام المنقب كوشافي من ناحيته باختيار منطقة أفرايم التوراتية في الهضاب المركزية ، واستطاع - مع فريقه المؤلف على طريقة فريق آدام زرتال، وباستخدام التقنيات الأركيولوجية نفسها - اكتشاف مائة قرية زراعية ظهرت تدريجيا خلال عصر الحديد الأول في منطقة أفرايم.
15
وبذلك يصل عدد القرى الزراعية، التي قامت في الهضاب المركزية فيما بين 1200 و1000ق.م.، إلى 230 قرية جديدة، بعد فترة الفراغ السكاني خلال النصف الثاني من عصر البرونز الأخير. ويتفق كوشافي مع زرتال في الخطوط العامة للتفسير معتبرا أن القرى الجديدة هي قرى إسرائيلية، وأن الجماعات التي شكلتها هي جماعات رعوية زحفت تدريجيا من مناطق شرقي الأردن. غير أن الأركيولوجي الإسرائيلي المعروف
I. Finkelestein - الذي قام بتلخيص نتائج المسح الأركيولوجي للمنطقة الهضبية في فلسطين في كتاب شامل أسماه: أركيولوجيا المواقع الإسرائيلية - يرى أن المواقع الجديدة في الهضاب المركزية هي بالفعل مواقع إسرائيلية، ولكن من شكلوها لم يأتوا من خارج فلسطين بل من داخلها. فقد أدى الجفاف، الذي حل بالمنطقة خلال عصر البرونز الأخير، إلى اقتلاع شامل للسكان في منطقة الهضاب المركزية، وحولهم إلى رعاة متنقلين. وعندما عاد المناخ المطري سيرته الأولى عادت هذه الجماعات المقتلعة إلى مواطنها السابقة واستقرت فيها.
16
وبذلك يعمل فنكلشتاين على تجذير القبائل الإسرائيلية في المنطقة، ويؤكد على الطابع الإثني المستمر والمتميز لهذه الجماعات، التي شكلت إسرائيل فيما بعد.
لقد أراد أصحاب النظرية الأركيولوجية الحديثة إنقاذ ما تبقى من السمعة التاريخية للرواية التوراتية، عن طريق إثبات جوهر الرواية وإسقاط تفاصيلها جميعها، ولكن النتائج التي خرجوا بها قد دقت، وإلى الأبد، المسمار الأخير في نعش هذه الرواية بجوهرها وتفاصيلها جميعها، وقدمت لنا المادة اللازمة لكتابة تاريخ فلسطين في عصر الحديد الأول والثاني، ودراسة مسألة أصول إسرائيل بشكل علمي مستقل عن التوراة. وهذا ما قام به على أكمل وجه الباحث توماس ل. تومبسون في كتابه الصادر عام 1992 تحت عنوان
The Early History of the Israelite
. وسوف نشير إلى أهم أفكار هذا الباحث في مواضع الإفادة منها عبر الصفحات المقبلة من هذا الكتاب.
الفصل الثاني
إسرائيل التاريخية
لقد غدا من نافلة القول اليوم الحديث عما يسمى «بكل إسرائيل» ككيان إثني أو سياسي، في سياق عصر الحديد الأول، والاسم «إسرائيل» لا يمكن إطلاقه على أي إقليم في فلسطين قبل حلول عصر الحديد الثاني. وحتى هنا، فإننا لا نستطيع إطلاق اسم إسرائيل إلا على الدولة الإقليمية المعروفة بدولة السامرة، وهي الدولة التي أقامها الملك عمري عقب بنائه مدينة السامرة حوالي عام 880ق.م. إن كل ما بين أيدينا من معلومات كتابية وأركيولوجية موثقة ينفي وجود أية استمرارية إثنية وسياسية بين الاسم «إسرائيل» المذكور في نصب مرنفتاح، ومملكة إسرائيل بعاصمتها السامرة، التي قامت في منطقة الهضاب المركزية خلال القرنين التاسع والثامن قبل الميلاد، وهي مملكة موصوفة في التوراة وفي النصوص الآشورية على حد سواء. وقد ألمحنا في موضع سابق من هذا الكتاب إلى أن نص الفرعون شوشانق (شيشق التوراتي) الذي يصف حملته على فلسطين ومناطق الجنوب السوري، خلال أواخر القرن العاشر قبل الميلاد، وهي حملة موجهة أساسا إلى طرق التجارة الدولية؛ لا يشير إلى وجود مملكة قوية موحدة تحت لواء أورشليم أو أية مدينة أخرى في فلسطين. ونستدل من وجود بقايا نصب تذكاري أقامه الفرعون شوشانق في موقع مجدو بوادي يزرعيل شمالا،
1
ومن عدم ذكر مدينة أورشليم أو أية مدينة أخرى في يهوذا أو الهضاب المركزية؛ أن هذه المناطق الهامشية في فلطسين لم تسترع انتباه الفرعون شوشانق، الذي كان مهتما بالدرجة الأولى بتدعيم الوجود المصري في مناطقه التقليدية السابقة. كما ألمحنا أيضا إلى أنه بصرف النظر عن تلك الإشارة الغامضة إلى إسرائيل في نصب مرنفتاح، والتي يجمع المؤرخون اليوم عن عدم صلتها بإسرائيل التوراتية، فإن النصوص المصرية عبر التاريخ لم تتعرض لذكر إسرائيل في أية صورة أو أية صيغة. أما النصوص الآشورية، التي ساعدت المؤرخين المحدثين على رسم الخارطة السياسية والبشرية لمنطقة الشرق القديم خلال عصر الحديد، فلم تذكر الاسم «إسرائيل» إلا في أواسط القرن التاسع قبل الميلاد، وفي معرض الإشارة إلى دولة السامرة تحديدا. وأما مملكة يهوذا فلم يرد ذكرها في الوثائق الآشورية إلا مع أواخر القرن الثامن قبل الميلاد.
وأما الحديث عن كنعان باعتبارها نقيض إسرائيل والخلفية العامة التي ميزت إسرائيل نفسها عنها؛ فيمت إلى ماضي البحث التاريخي، وإلى نظريات تعتمد مسلمات لم تخضع للنقد والتمحيص. فعصر البرونز الأخير ليس كنعانيا أكثر من عصر الحديد، وعصر الحديد ليس إسرائيليا في مقابل عصر البرونز الكنعاني؛ ذلك أن المكتشفات الأثرية في العصرين تعطينا صورة ثفافة فلسطينية مستمرة، واحدة، وغير منقطعة أو متلونة بلون خارجي غريب عنها. وكل المدن التي تهدمت خلال الفترة الانتقالية بين العصرين قد أعيد بناؤها وسكنها من قبل الذخيرة السكانية الفلسطينية نفسها. وهذا ما ينفي، وبشكل قاطع، قدوم أقوام جديدة حلت محل السكان الأصليين، أو أقامت إلى جانبهم وأثرت فيهم ثقافيا وعرقيا. إن لجوء الآثاريين الإسرائيليين، وزملائهم من الملتصقين بالمنهج المحافظ القديم، إلى استخدام وصف كنعاني لكل ما يمت إلى ثقافة عصر البرونز، واستخدام وصف إسرائيلي لكل ما يمت إلى عصر الحديد؛ لا يصدر إلا عن موقف متعنت. وهؤلاء أنفسهم لا يستطيعون تقديم أي معيار علمي موضوعي للتفريق بين الأثر الكنعاني من عصر البرونز والأثر الإسرائيلي المزعوم من عصر الحديد، سواء في حقل الخزفيات أو الفنون التشكيلية أو الفنون المعمارية، وحتى في مجال اللغة والدين وما إلى ذلك من النواتج غير المادية للثقافة الفلسطينية.
إن كل ما في حوزتنا حتى الآن، وهو كثير بفضل تراكم المعلومات الآثارية خلال ربع قرن، ينفي وبشكل قاطع أي وجود لإسرائيل التوراتية خلال عصر الحديد الأول. فبناء على الرواية التوراتية يتفق المؤرخون التقليديون على أن مملكة شاول قد قامت حوالي عام 1020ق.م. وضمت القبائل الشمالية المدعوة بالإسرائيلية، ثم قامت مملكة داود وسليمان فيما بين 1001 و931ق.م. التي شملت منطقة يهوذا الجنوبية إلى جانب منطقة إسرائيل، فيما يدعى بالمملكة الموحدة لكل إسرائيل، ثم انقسمت بعد ذلك إلى مملكتين. إلا أن الصورة العامة التي قدمها لنا المسح الأركيولوجي الشامل عن عملية استيطان الهضاب المركزية، وتطور هذه العملية خلال الحديد الأول، تظهر لنا أن الاستيطان لم يبلغ ذروته إلا في سياق الحديد الثاني، الأمر الذي لا يسمح لنا بافتراض قيام مملكة لإسرائيل في الشمال قبل بدايات القرن التاسع قبل الميلاد. كما أن هناك من الأسباب ما يدعونا لأن ننفي أكثر قيام مملكة يهوذا في الجنوب خلال الفترة نفسها؛ لأن حركة الاستيطان هنا لم تنضج إلا بعد فترة لا بأس بها من تشكيل مملكة إسرائيل-السامرة، والأوضاع الملائمة لتكوين مملكة في يهوذا لم تتوفر إلا في سياق القرن الثامن. وهذه الحقائق تنفي وجود قاعدة مشتركة تجمع إسرائيل إلى يهوذا في تكوين إثني وسياسي.
إن أسرة الملك عمري التي بنت مدينة السامرة هي الأسرة التي شكلت، ولأول مرة، دولة اسمها إسرائيل. وهذه الأسرة معروفة تاريخيا، وملوكها موصوفون في النصوص الآشورية، إلا أننا لا نملك الأساس التاريخي الذي يمكننا من عقد صلة بين ملوك السامرة هؤلاء والملوك المزعومين للمملكة الموحدة، أو الافتراض بأن هذه المملكة الموحدة هي الأصل التاريخي لإسرائيل السياسية. فمع بناء السامرة فقط يتوفر لدينا من الوثائق التاريخية والأركيولوجية ما يكفي للحديث عن إسرائيل التاريخية، ولكن بصيغة «دولة إسرائيل» أو «دولة السامرة»، وهي دولة فلسطينية محلية أنشأها الملك عمري حوالي عام 880ق.م. واستمرت أقل من قرنين من الزمان، حيث دمرها الآشوريون حوالي عام 721ق.م. وسبوا أهلها إلى آشور. وهؤلاء المسبيون لم يرجعوا قط إلى مواطنهم في فلسطين، بل ذابوا عرقيا بين الجماعات التي أقاموا بين ظهرانيها. أما قبل صعود أسرة عمري وبناء مدينة السامرة ، فإنه من العبث التحدث عن إسرائيل سياسية أو إثنية في المنطقة، ومفهوم «كل إسرائيل» هو نتاج التقاليد التوراتية المتأخرة، والتي بنيت أساسا على وجود تاريخي لإسرائيل-السامرة، وليس العكس.
إن المنظور الضيق لخلاصات الباحث الإسرائيلي فنكلشتاين وغيره من أصحاب النظرية الأركيولوجية الجديدة، والذي تم تحديده زمنيا بعصر الحديد الأول، وجغرافيا بمنطقة الهضاب المركزية، في سياق بحثه عن أصول إسرائيل، هو منظور منحرف الرؤية؛ فنحن لا نستطيع أن نحصر بحثنا وتحليلنا في هذه المرحلة وفي هذه المنطقة فقط، لأننا نكون بذلك قد سلمنا مسبقا بجواب السؤال الذي نبحث عنه. وفي الحقيقة، فإن عنوان كتاب فنكلشتاين نفسه، أي «أركيولوجيا المواقع الإسرائيلية»، يدل على أن الباحث يسلم منذ البداية بأن القرى الزراعية التي نشأت في الهضاب المركزية هي قرى إسرائيلية، وأن إثنية هذه التجمعات وأصلها العرقي والثقافي هو أمر مفروغ منه، وذلك في الوقت الذي يطلعنا فيه المسح الأركيولوجي للمناطق الفلسطينية الأخرى على أن القرى الجديدة في عصر الحديد الأول لم تكن وقفا على الهضاب المركزية، بل شملت أيضا مناطق أخرى، وخصوصا في المناطق الساحلية ووادي يزرعيل.
2
فلماذا تكون قرى الهضاب المركزية إسرائيلية، وقرى السهول كنعانية؟ أما اقتراح فنكلشتاين بأن أصول الجماعات الجديدة في الهضاب المركزية يجب تتبعها في الرعوية الفلسطينية المحلية، وأن أهل القرى الجديدة هم مزارعو الهضاب المركزية في عصر البرونز الوسيط ممن مروا بفترة رعوية طويلة خلال عصر البرونز الأخير بسبب الجفاف؛ فاقتراح يبدو جذابا للوهلة الأولى، غير أنه اقتراح نظري محض، ولا يقوم على أساس أركيولوجي أو تاريخي متين، ودافعه الوحيد هو رغبة هذا الباحث في التوكيد على الاستمرارية الإثنية في منطقة الهضاب المركزية باعتبارها إثنية إسرائيلية.
إن الفترة الانتقالية، التي جلبت معها انهيار البنى الاقتصادية لفلسطين، قد أحدثت تغييرا جذريا في استراتيجيات تحصيل المعاش، حيث تحول الاقتصاد المتوسطي التقليدي المعتمد على إنتاج سلع التبادل النقدي، مثل الكرمة والزيوت والخمور، إلى اقتصاد الكفاف، وهو اقتصاد أقل استقرارا، ويقوم على زراعة الحبوب وعلى الرعي. وقد أدى هذا التحول إلى اقتلاع عدد كبير من السكان من مناطقهم التقليدية، ودفعهم إلى البحث عن مناطق أخرى. فإذا أخذنا بعين الاعتبار وضع فلسطين المتاخم لمنطقة السهوب، وكذلك الاقتلاع السكاني الذي حدث خارج فلسطين أيضا في المناطق المجاورة، وفي منطقة عالم المتوسط بشكل عام خلال منقلب الألفية الأولى قبل الميلاد، فإن دولتي إسرائيل ويهوذا، اللتين نشأتا خلال عصر الحديد الثاني كجزء من النظام العالمي للإمبراطورية الآشورية، قد ضمتا إليهما عددا من الجماعات الزراعية المحلية، التي تبحث عن بديل لوضعها المتدهور في مناطق السهول والوديان، وكذلك عددا من الجماعات الرعوية من السهوب الواقعة إلى الجنوب والشرق من المناطق الزراعية، وأيضا جماعات مقتلعة من مواطنها في أماكن بعيدة من حوض المتوسط. ونظرا لوضوح الاستمرارية الثقافية من عصر البرونز الأخير إلى عصر الحديد الأول فالثاني، فإن القسم الأكبر المكون للتركيب السكاني للمناطق الهضبية يجب أن يكون قد جاء من المناطق الفلسطينية الزراعية الأخرى؛ لأن الجماعات الرعوية المتنقلة ليست ناقلا جيدا للثقافة.
3
وهذا يعني أن المنطقة التي كانت نواة مملكة إسرائيل لم تكن ذات طابع إثني مميز مع بداية عودة الاستيطان إلى الهضاب المركزية، ومفهوم إسرائيل لم يكن له وجود. ثم بدأ التكوين الإثني بالتوضح في سياق عملية التوطن خلال عصر الحديد الأول. ذلك أن توطيد التبادل التجاري المحلي قد أدى تدريجيا إلى تشكيل بنى سياسية بدائية على شكل عشائر تقاربت تدريجيا، ثم قادت المركزية السياسية المتزايدة - والتي أملتها الشروط المتعلقة بإدارة نظام اقتصادي دخل مرحلة الازدهار - إلى تكوين الدولة وبناء مدينة السامرة. وبذلك يكون الطابع الإثني لمنطقة إسرائيل قد جاء نتيجة عملية معقدة وطويلة، ولم يكن سابقا عليها. وهذا يعني أن استخدام مصطلح إسرائيل للدلالة على أرض أو على شعب أو على تكوين سياسي؛ لا معنى له قبل ظهور دولة إسرائيل السياسية في مطلع القرن التاسع، ولا معنى له بعد دمارها النهائي عام 721ق.م.
4
وفيما يتعلق بيهوذا، فقد شهدت المنطقة خلال القرن العاشر وأوائل القرن التاسع قبل الميلاد تحولا من اقتصاد محصور بالرعوية إلى اقتصاد القرية. وخلال القرنين التاليين، أي التاسع والثامن قبل الميلاد، شهدت هضاب يهوذا ازديادا متسارعا في السكان أدى إلى توضيح بنيتها السياسية كمنطقة موحدة. وقد ساعد على ذلك تركيز المزارعين على الزراعة المكثفة، واعتماد شبكة تجارة محلية ودولية، موضوعها منتجات التبادل النقدي، مثل الزيوت والخمور والأخشاب وغيرها. أما مدينة أورشليم، فلم تكن في مطلع عصر الحديد الثاني (1000ق.م.) سوى بلدة متواضعة بمقياس ذلك العصر، ولم يكن لها نفوذ إلا على المنطقة الزراعية الصغيرة المحيطة بها. وقد أخذ النفوذ السياسي للمدينة بالتزايد مع توسع عملية الاستيطان في تلال يهوذا في سياق عصر الحديد الثاني، وزيادة حجم الإنتاج الزراعي والحيواني، وتوسع عملية التبادل التجاري. فصارت أورشليم مركزا لتسويق السلع التجارية، وأخذت تبسط سلطتها السياسية على قرى منطقة يهوذا، التي لم تخضع حتى ذلك الوقت إلى سلطة مركزية، ثم دخلت في منافسة حادة مع مراكز حضرية مهمة أخرى في الجنوب، مثل جازر ولخيش وحبرون. إلا أن أورشليم لم تأخذ وضع الدولة الإقليمية القوية فعلا قبل الربع الأخير للقرن الثامن قبل الميلاد. وقد ساعدها على تحقيق هذا الوضع دمار مدينة السامرة عاصمة إسرائيل، ودمار لخيش في الجنوب، فاستوعبت المهاجرين من المناطق المنكوبة، وتزايد عدد سكانها بشكل ملحوظ، وتشكلت فيها نخبة اجتماعية وسياسية مسيطرة، ومال مجتمعها من البساطة نحو التركيب والتمايز الطبقي. وفي هذا الوقت بالذات يمكن أن نتصور بناء معبد كبير على درجة ما من الفخامة والأبهة الموصوفة في سفر الملوك الأول. إن تزايد ثروة أورشليم وازدهار أوضاع النخبة فيها، وتزايد تداخلها في سياسة التجارة الدولية، قد أدى أخيرا إلى صدامها مع آشور، ثم إلى دمارها فيما بعد على يد البابليين عام 578ق.م.
5
اعتمادا على كل ما قدمناه حتى الآن نستطيع تلخيص ما توصلنا إليه حول إسرائيل التوراتية وعلاقتها بإسرائيل التاريخية بالنقاط التالية: (1)
إن النقد النصي والتاريخي والأركيولوجي لروايات الآباء والخروج قد أوصلنا إلى القول بكل ثقة علمية بأن الوقائع جميعها تنفي نفيا قاطعا وجود كيان إثني اسمه «كل إسرائيل» خلال أية فترة من عصر البرونز الأخير، وصولا إلى مطلع عصر الحديد الأول حوالي 1200ق.م. (2)
إن الشواهد الأركيولوجية من الفترة الانتقالية من عصر البرونز الأخير إلى عصر الحديد تنفي نفيا قاطعا رواية سفر يشوع عن الاقتحام العسكري لأرض كنعان. ذلك أن نتائج التنقيب الأثري في مواقع المدن التي يعزو النص التوراتي تدميرها إلى يشوع؛ تظهر عدم تطابق تاريخ دمار معظم هذه المدن مع التاريخ المفترض لقدوم الإسرائيليين إلى كنعان. أما المواقع التي يتزامن تاريخ الدمار فيها مع قدوم الإسرائيليين، فإن الشواهد الأثرية الصامتة لا يمكن أن ترجح رواية سفر يشوع، بسبب وجود العديد من المرشحين لتدمير هذه المدن خلال تلك الفترة، وخصوصا الفرعون مرنفتاح وشعوب البحر. ومن ناحية ثانية ، فإن المواقع المهدمة التي أعيد بناؤها في سياق عصر الحديد الأول تظهر ارتباطا عضويا بثقافة البرونز الأخير. (3)
إن نتائج المسح الأركيولوجي الشامل لمنطقة الهضاب المركزية ولمنطقة مرتفعات يهوذا، في المستويات الأثرية العائدة لعصر الحديد الأول، تنفي نفيا قاطعا ظهور مجموعة إثنية واحدة في كلا المنطقتين خلال الفترة المفترضة لعصر القضاة والاستقرار في الأرض. فالقرى التي ظهرت بشكل بطيء في الهضاب المركزية خلال عصر الحديد الأول كانت قرى كنعانية من أصل زراعي محلي، مرتبطة ثقافيا بعصر البرونز الأخير، ولا علاقة لها بالقبائل الرعوية التوراتية. وقد سبق استيطان منطقة الهضاب المركزية الاستيطان في منطقة يهوذا بحوالي قرنين من الزمان، الأمر الذي ينفي وجود قاعدة مشتركة بين المنطقتين، كما ينفي قيام كيان إثني يشتمل على «كل إسرائيل» خلال فترة عصر القضاة التي تغطي كامل فترة الحديد الأول. (4)
لم يتوفر خلال القرن العاشر قبل الميلاد الأساس السكاني والاقتصادي اللازم لقيام مملكة قوية في الهضاب المركزية أو مرتفعات يهوذا، ناهيك عن قيام مملكة موحدة متسعة الأرجاء بسطت سلطانها على كامل أراضي فلسطين. فإضافة إلى الفقر المدقع لقرى الهضاب المركزية المبعثرة، فإن منطقة يهوذا كانت شبه خالية من السكان، وأورشليم كانت بلدة متواضعة وغير صالحة لأن تكون عاصمة للمملكة المذكورة في التوراة. (5)
لا يوجد ذكر لكيان سياسي اسمه إسرائيل في وثائق الشرق القديم جميعها قبل أواسط القرن التاسع قبل الميلاد (أي بعد أكثر من قرن على تشكيل مملكة كل إسرائيل التوراتية)، عندما بدأ اسم إسرائيل يظهر في السجلات العسكرية الآشورية، وللدلالة حصرا على مملكة السامرة، التي تشكلت تاريخيا حوالي عام 880ق.م. وكذلك الأمر في مملكة يهوذا، التي لم يرد ذكرها في السجلات الآشورية إلا نحو نهاية القرن الثامن قبل الميلاد، وعندما بدأت مملكة إسرائيل بالأفول. (6)
لا يوجد في وثائق الشرق القديم ذكر لكيان سياسي اسمه إسرائيل بعد دمار مملكة السامرة على يد الآشوريين عام 721ق.م. وسبي أهلها الذين لم يرجعوا إلى أوطانهم قط. أما المقاطعة الآشورية التي قامت في الهضاب المركزية بعد سبي الإسرائيليين وإحلال أقوام جديدة محلهم فقد دعيت بمقاطعة السامرة، واستمرت تدعى بهذا الاسم خلال العصر الفارسي والهيلينستي والروماني. وفيما يتعلق بمنطقة يهوذا، فقد أطلق عليها اسم مقاطعة اليهودية بعد عودة المسبيين إليها من بابل، واستمر هذا الاسم قائما حتى العصر الروماني. (7)
لا يوجد أثر للمعتقد الديني التوراتي في منطقتي إسرائيل ويهوذا، وفي بقية أنحاء فلسطين، خلال الفترة السابقة على السبي البابلي، والديانة التي سادت هنا هي ديانة كنعانية تقليدية. إن جميع المعابد والمقامات الدينية وتماثيل وشارات الألوهة جميعها مما كشفت عنه التنقيبات في المستويات الأثرية العائدة إلى عصر الحديد الأول والثاني، تشير إلى استمرار طبيعي للمعتقدات الدينية لعصر البرونز في فلسطين. أما الإله يهوه، الذي تركز حوله المعتقد التوراتي فيما بعد، فقد كان على ما يبدو المعبود الرئيسي في السامرة ويهوذا، إلى جانب آلهة البانثيون الكنعاني الفلسطيني.
ولعل أوضح برهان على ما أسوقه هنا هو مخطوطات جزيرة الفيلة (= الأفيال) التي اكتشفت في الجزيرة المدعوة بهذا الاسم عند منطقة أسوان بمصر العليا. فلقد عاش في هذه الجزيرة التي تتوسط النيل جالية من منطقة يهوذا منذ مطلع القرن السادس قبل الميلاد، عمل أفرادها كمرتزقة في الجيش المصري فترة طويلة قبل أن يستقروا مع أسرهم في هذه المنطقة النائية عن فلسطين. وقد حافظت هذه الجالية على عاداتها وتقاليدها ومعتقداتها السابقة لتكوين المعتقد التوراتي، وتركت لنا عددا من الوثائق الكتابية باللغة الآرامية يرجع تاريخها إلى الفترة الواقعة بين عامي 495 و394ق.م. وهي الفترة ذاتها التي شهدت إعادة سكن أورشليم وبناء هيكل زربابل المدعو بالهيكل الثاني. وتضم المخطوطات المكتشفة وثائق تجارية وعقود زواج، ومراسلات بين رئيس الجالية المدعو جيدانية وعدد من الشخصيات السياسية في فلسطين. وقد قدم الباحث الإسرائيلي
Bezalel Porten
من الجامعة العبرية أحدث قراءة لهذه المخطوطات، ونشرها تباعا فيما بين عامي 1968 و1979 في عدد من الكتب والأبحاث العلمية.
6
وتطلعنا المخطوطات على أن جالية جزيرة الفيلة هذه قد بنت هيكلا لإلهها الرئيسي المدعو ياهو (= يهوه)، وذلك منذ بدايات استقرارها في الجزيرة. وعندما تهدم الهيكل قام رئيس الجماعة جيدانية بالكتابة إلى الحاكم الفارسي لمنطقة اليهودية طالبا عونه المادي على بناء هيكل ياهو، الذي اعتبره نظيرا لهيكل زربابل في أورشليم، كما كتب حول الموضوع نفسه إلى حاكم منطقة السامرة. وهناك رسائل أخرى بعث بها جيدانية هذا إلى كهنة أورشليم يستعلم منهم عن بعض القضايا الشعائرية والسنن الدينية. الأمر الذي يدل بوضوح على أن جماعة جزيرة الفيلة كانت ترى في معتقدها وطقوسها استمرارا طبيعيا للمعتقدات والطقوس المعروفة في يهوذا. إلا أن هذه المعتقدات والشعائر، كما تبدو في مخطوطات الفيلة، لا تمت إلى الدين التوراتي بصلة، فالإله ياهو، رغم علو مكانته، ليس الإله الأوحد للجماعة، بل تظهر إلى جانبه زوجته التي تشير إليها المخطوطات باسم عنات ياهو، والتي ظهرت في النقوش الكتابية من فلسطين تحت اسم عشيرة أو عشيرة يهوه. كما تذكر المخطوطات أسماء آلهة أخرى، مثل إيشيم وبت إيل وعناة-بت إيل وغيرهم. وبما أن الجالية في جزيرة الفيلة قد سمحت لنفسها بطلب المعونة من سكان يهوذا والسامرة من أجل إعاة بناء هيكل ياهو، وتشاورت مع رجال الدين هناك حول مسائل دينية مشتركة، فإن الاستنتاج المنطقي الذي يطرح نفسه هو أن ديانة يهوه في فلسطين لم تكن حتى ذلك الوقت المتأخر قد اكتسبت الشكل التوراتي بعد، وأنها ما زالت في طور التشكل على أيدي كهنة أورشليم بعد العودة من المنفى.
إن خلاصة ما يمكن قوله فيما يتعلق بإسرائيل ويهوذا التاريخيتين هو أن هاتين الدولتين قد نشأتا تباعا في فلسطين كجزء من النظام العالمي للإمبراطورية الآشورية، ثم دخلتا في صراع مرير إبان فترة صعود مدينة أورشليم، من أجل السيطرة التجارية والسياسية على منطقة فلسطين وشرقي الأردن. وقد واجهت كل منهما منفردة، وعلى طريقتها الخاصة، المد التوسعي لكل من مملكة آرام دمشق، التي نشأت خلال الفترة نفسها، ومملكة آشور. وبما أننا لا نستطيع فهم مسار حياة هاتين الدولتين والأحداث التي قادت إلى دمارهما إلا من خلال علائقهما مع دمشق وآشور؛ القوتين العظميين في ذلك الوقت، فإننا سوف نعمد في القسم الثاني من دراستنا هذه إلى تقصي تاريخ إسرائيل ويهوذا من خلال تشابك هذا التاريخ محليا مع تاريخ دمشق، ودوليا مع النظام العالمي الآشوري. وسيكون اعتمادنا بالدرجة الأولى على النصوص التاريخية الآشورية ثم الآرامية، وبالدرجة الثانية على أخبار ملوك يهوذا والسامرة في سفري الملوك الأول والثاني، وذلك بعد نقدها وتمحيصها ومقارنتها بالمصادر الخارجية من أجل فرز الخيالي عن الواقعي فيها. وسنبتدئ أولا برسم الصورة التاريخية لصعود مملكة دمشق، وتكوينها لإمبراطورية سورية غير معلنة ضمن مناطق غربي الفرات تحت قرار سياسي واحد، يتخذه ملك آرام المقيم في دمشق.
الفصل الثالث
الآراميون والخلفية التاريخية العامة لصعود دمشق
(1) الآراميون
لا يوجد مكان تعايشت فيه الثقافة البدوية مع الثقافة الحضرية، وتبادلتا الاعتماد على بعضهما البعض مثل منطقة الهلال الخصيب. فمنذ العصر النيوليتي كان سكان المنطقة يتبادلون الأدوار، حيث يتحول الرعاة إلى مزارعين مستقرين كلما مال المناخ نحو الرطوبة والبرودة، ويتحول المزارعون المستقرون إلى رعاة كلما جف المناخ وعز المطر. ولعل التفسير الأقرب إلى الصواب لظاهرة الهجران المفاجئ للقرى الزراعية النيوليتية في بعض أحقابها، وخلوها من السكان دون شواهد على حدوث تدمير متعمد أو زلازل وحرائق في مواقعها، هو ذلك التفسير الذي يرى في تلك الظاهرة نتاجا لتحول مناخي دفع السكان إلى ترك الزراعة والتجول مع قطعانهم بحثا عن المرعى، ثم العودة إلى مواقعهم السابقة أو الاستقرار في غيرها مع عودة الشروط الملائمة للزراعة مجددا.
وقد بقي القوم على هذا الحال، حتى بعد ظهور المدن وارتقاء الحضارات الكبرى في المنطقة. ولعل أكبر مثال على التحول الجمعي لثقافة بأكملها، تقريبا، من حياة القرية الزراعية وحياة المدن الكبرى إلى حياة الرعي المتنقل أو البداوة؛ هو ما حدث في مناطق بلاد الشام خلال الفترة الانتقالية من عصر البرونز المبكر إلى عصر البرونز الوسيط (أي فيما بين أواخر الألف الثالث وأوائل الألف الثاني قبل الميلاد). فخلال هذه الفترة انتهى المناخ المطري البارد الذي ساد المنطقة منذ أواسط الألف الرابع قبل الميلاد، وتبعه مناخ حار وجاف أدى إلى انهيار شامل لثقافة عصر البرونز المبكر، فانهارت المملكة القديمة في مصر وإمبراطورية أكاد في وادي الرافدين، وفي المناطق السورية هجرت معظم القرى الزراعية، والكثير من المدن التي تقع في المناطق الحساسة للجفاف، ثم تحولت بعد فترة إلى أطلال. وقد عثر المنقبون في مواقع هذه المدن المهدمة خلال أواخر عصر البرونز المبكر، وخصوصا في منطقة فلسطين، على آثار واضحة تشير إلى قيام حياة بدوية على أطراف المدن القديمة، فظنوا أن هؤلاء البدو هم المسئولون عن ذلك التدمير. وفي الحقيقة، فإن ما لاحظه المنقبون لم يكن سوى ظاهرة عادية ومألوفة في سياق حضارة الشرق القديم، حيث تحل البداوة محل الحضارة، وتنتقل هذه إلى تلك، كوسيلة عملية للتعامل مع الطبيعة في هذا الجزء من العالم. ففي نهاية عصر البرونز المبكر أخذت الجماعات الآمورية بالظهور حول المدن المهدمة، وحول المدن التي بقيت تتنفس بصعوبة في ظل الأوضاع الاقتصادية المتردية. ولكن هذه الجماعات البدائية نفسها هي التي كتبت الصفحة التالية في حضارة الشرق القديم، وأعني بها حضارة البرونز الوسيط.
ولقد أعاد التاريخ نفسه في الفترة الانتقالية من عصر البرونز الأخير إلى عصر الحديد، عندما أدت الكارثة المناخية الشاملة إلى هجرات واسعة وتحولات سكانية شملت شرقي أوروبا واليونان وبحر إيجة والأناضول وأقطار شرقي المتوسط. فانطلقت شعوب البحر من مواطنها في بحر إيجة تبحث عن أرض جديدة في الشرق، وحلت المجاعة في أرجاء المملكة الحثية جميعها، وفي مناطق سوريا وفلسطين. ويبدو أن المملكة الحثية قد انهارت من الداخل قبل وصول شعوب البحر إليها، وكذلك المدن السورية التي كانت مزدهرة خلال البرونز الأخير، مثل أوغاريت وغيرها. فمن المرجح أن أوغاريت قد هدمتها الزلازل قبل وقت من وصول شعوب البحر إليها، وهجرها أهلها لعدم قدرتهم الاقتصادية على إعادة البناء، وكذلك بعض المدن الكبرى الأخرى في سوريا وفلسطين. وربما تحول هؤلاء السكان إلى رعاة متنقلين، أو إنهم أوغلوا شرقا بحثا عن أماكن أكثر ملاءمة لاستقرار جديد. وبذلك تكون شعوب البحر قد وصلت إلى مناطق مقفرة ومهدمة لم تشجعها على الاستقرار، لذلك فقد تابعت هذه الجماعات التائهة - التي كانت ترتحل مع نسائها وأطفالها وأدواتها المنزلية الخفيفة - مسيرتها نحو مصر، حيث قضى الفرعون رمسيس الثالث على كل طاقتها وزخمها القتالي. ولم تمض بضعة عقود حتى ذابت هذه الجماعات الغريبة في الأمكنة التي توقفت عندها، وضاع أثرها.
خلال هذه الفترة القاتمة أخذت القبائل الآرامية، التي كانت متواجدة منذ زمن طويل في البادية السورية وعلى أطراف المناطق الزراعية في الهلال الخصيب، بالظهور على المسرح مستفيدة من فترة الفراغ الشامل وحالة الفوضى والاضطراب، التي ميزت نهاية البرونز الأخير وبداية عصر الحديد. وعندما أخذت موجة الجفاف بالانحسار مع التقدم في عصر الحديد الأول (1200-1000ق.م.) كانت هذه القبائل قد استقرت في الأرض، وأخذت ببناء القرى الزراعية فالمدن الكبرى فالممالك. وقد ساعدها على ذلك غياب القوى العظمى التقليدية من حولها، والوضع الداخلي المتضعضع لمناطق الجزيرة العليا وغربي الفرات، وانعدام السلطة المركزية فيها. ومع مطلع القرن العاشر قبل الميلاد كان الآراميون قد شكلوا دويلات قوية على طول حوض الخابور وحوض الفرات الأوسط والأعلى، وفي الشمال السوري فيما بين الفرات والبحر المتوسط، وكذلك فيما بين حلب شمالا ودمشق في الجنوب السوري. وفي مقابل الضغط الآشوري العسكري على بلاد آرام منذ مطلع القرن العاشر قبل الميلاد، كان الآراميون يمارسون ضغطا سلميا ومعاكسا على منطقة وادي الرافدين، وخصوصا باتجاه بابل، حتى استطاع الفرع الكلداني من المجموعة الآرامية السيطرة تماما على جنوب بلاد الرافدين بعد فترة من التسرب التدريجي، وأسس المملكة البابلية الجديدة في أواخر القرن السابع قبل الميلاد، التي كان نبوخذ نصر ثالث ملوكها.
من الممالك الآرامية التي تكونت في سياق عصر الحديد الأول، واستمرت خلال عصر الحديد الثاني مملكة بيت بحياني في حوض الخابور، وكانت عاصمتها جوزان في موقع تل حلف، الذي يقع في أقصى الشمال السوري عند منابع نهر الخابور. وقد تم اكتشاف موقع جوزان عام 1899 صدفة من قبل المنقب الألماني فون أوبنهايم، واستمر التنقيب فيه حتى عام 1929 على فترات متقطعة. ونظرا لقلة المواقع القديمة المعروفة في سوريا خلال ذلك الوقت، فقد صنفت آيات النحت العظيم والعمارة الراقية لتل حلف تحت تسمية جديدة، هي «الفن الحثي الجديد»، وأخذ دارسو فنون وثقافة هذه الممالك بالبحث عن الروابط التي تجمعها إلى فنون وثقافة كل من آشور وحاتي، وذلك دون النظر إلى الطبيعة الخاصة لهذه الثقافة وتفردها. ورغم أن تسمية «الحثي الجديد» قد بقيت مصطلحا تاريخيا وفنيا وأركيولوجيا لفترة طويلة من الزمن، إلا أن الاتجاهات الحديثة في علم الآثار وتاريخ الفن في سوريا القديمة قد أخذت تتلمس الشخصية المستقلة لهذه الثقافة السورية في عصر الحديد، وترى فيها طابعا آراميا رغم تأثرها بالثقافتين الحثية والآشورية، وهو أمر طبيعي يفرضه تداخل التاريخ والجغرافيا لهذه الثقافات المتقاربة. ويجب ألا ننسى أن هذه المناطق من الشمال السوري قد استوعبت عددا كبيرا من المهاجرين من آسيا الصغرى عقب انهيار المملكة الحثية، وأن هؤلاء المهاجرين قد ساهموا في بناء ثقافة عصر الحديد السوري. ويقول المؤرخ وعالم الآثار المعروف باولو ماتييه، مكتشف مدينة إيبلا، بخصوص مصطلح «الحثي الجديد»: إن هذا المصطلح من أكثر المصطلحات والمفاهيم التي كونها الباحثون المبكرون دوغمائية وخطأ، وهو يحرم الفن السوري من كل أصالة وإبداع خاص.
1
وإلى الغرب من مملكة بيت بحياني الآنفة الذكر ظهرت مملكة بيت عديني التي شملت الأراضي الواقعة بين نهر بليخ والفرات. وقد اكتشفت عاصمة هذه المملكة، واسمها تل برسيب، في موقع تل أحمر على الضفة الشرقية لنهر الفرات، وعلى مسافة 20كم إلى الجنوب من بلدة جرابلس الحالية على الحدود التركية. وعثر في الموقع على كتابات تذكر اسم ملكها المدعو آخوني المعروف في السجلات الآشورية. كما عثر في بوابة قصر تل برسيب على أسود بازلتية ضخمة عليها نقوش للحاكم الآشوري، الذي ولي المدينة بعد أن ألحقها الآشوريون بممتلكاتهم، وحكموها بشكل مباشر.
2
وفي منطقة الفرات الأعلى قامت مملكة كركميش، التي اكتشفت عاصمتها التي تحمل الاسم نفسه قرب بلدة جرابلس على الفرات، وقد تبين من الألواح المسمارية المكتشفة في الموقع أن المدينة كانت مزدهرة قبل وصول الآراميين إليها. كما أن الوثائق الكتابية من مدينة ماري ومن مدينة حاتوسس عاصمة الحثيين تذكر كركميش كمدينة كبرى مزدهرة في عصر البرونز الوسيط، وخصوصا خلال عصر الإمبراطورية الحثية في القرن الرابع عشر قبل الميلاد. ونستطيع في هذا الموقع القديم أن نتابع تشكل الفن المدعو بالحثي الجديد منذ بداياته الأولى، ومن خلال تطوره الذاتي، لنستكشف ملامح هذا الفن المتميز وتفرده كفن سوري أصيل.
3
وإلى الشمال الشرقي من كركميش قامت مملكة حداتو. وقد اكتشفت عاصمتها التي تحمل اسم حداتو في موقع أرسلان طاش على مسافة 30كم شرقي الفرات. وأهم ما تم العثور عليه في الموقع مجموعة من المنحوتات العاجية، التي تعبر عن مدرسة فنية سورية متميزة، وتظهر روابط واضحة مع عاجيات فينيقيا وفلسطين.
4
وفي مناطق غربي الفرات قامت مملكة بيت جوش في منطقة حلب، وعاصمتها أرفاد، التي يرجح أن تكون في موقع تل رفعت على مسافة 35كم إلى الشمال الشرقي من حلب. وفي أقصى الشمال الغربي قامت مملكة يأدي التي سيطرت على منطقة جبال الأمانوس، وقد اكتشفت عاصمتها شمأل في موقع تل زنجرلي الحالي. ومن أهم ما أفاض به هذا الموقع من آيات فنية هو مجموعة من المنحوتات البارزة الضخمة على بوابات قلعة المدينة، تشكل في حد ذاتها مدرسة سورية متميزة في هذا النوع من الفن. وقد ألحقت هذه المنحوتات، من قبل مكتشفيها الأوائل في مطلع القرن العشرين، بمدرسة النحت البارز الآشوري، أما اليوم، وبعد أن توفر لدينا ما يكفي من الأعمال الفنية المشابهة، فإن الوقت قد حان لدراسة النحت السوري في استقلاله وتميزه كمدرسة قائمة في حد ذاتها.
5
أما فيما يتعلق بآراميي وسط وجنوب سوريا، فإن المعلومات على بدايات تواجدهم في هذه المنطقة قليلة جدا ومبعثرة. فمن المؤكد أن كلا من حماة ودمشق قد وقعتا تحت السيطرة الآرامية منذ أواخر القرن الحادي عشر قبل الميلاد، إلا أن المعلومات التفصيلية تنقصنا عن بدايات التواجد الآرامي في هاتين المدينتين، وعن الأسر الحاكمة الأولى فيها. والمعلومات التوراتية، التي وردت عنهما ضمن أخبار داود وسليمان، ليست مما يمكن الاعتماد عليه. وبخصوص الممالك الآرامية التي يذكرها سفر صموئيل الثاني، وهي آرام معكة، التي وضعها المؤرخون في سفوح جبل الحرمون مع امتدادات تصل إلى بحيرة الحولة، وطوب التي وضعوها في شرقي الأردن شمالا إلى الجنوب من جيشور، وآرام صوبة التي صنعوا منها قوة كبرى في الشرق الأدنى ووضعوها في البقاع الشمالي مع امتدادت تصل شرقا إلى البادية وأطراف الفرات، فهذه جميعا ممالك يحوم الشك حول وجودها أصلا. وإنني أطرح هنا، وبكل ثقة علمية، رأيا مفاده أن هذه الممالك لم تقم أصلا لا في القرن العاشر قبل الميلاد ولا في أية فترة لاحقة من تاريخ المنطقة. فمملكة داود، التي دخلت في حروب مع هذه الممالك، لم تكن قائمة في القرن العاشر قبل الميلاد، كما أثبتنا سابقا بالأدلة العلمية، والوثائق الكتابية لممالك الشرق الأدنى القديم لم تحفل بذكر واحدة من هذه الممالك لا في القرن العاشر ولا بعده، والتنقيبات الأثرية في المواقع المفترضة جميعها لهذه الممالك لم تخرج بشاهد أثري واحد يدل على وجودها. فأي شيء يبقى بعد ذلك يدعونا إلى الاستمرار في الحديث عن «هذه الممالك المهمة والقوية»؟ لقد أراد محررو التوراة ابتكار خصوم وهميين لمملكة وهمية وملك وهمي، ونظرا لجهلهم الكامل بتاريخ تلك الحقبة التي يتحدثون عنها وبخارطتها السياسية، وهو جهل استطعنا إثباته عبر نقدنا النصي والتاريخي سابقا، فقد التقط هؤلاء المحررون أخبارا متواترة عن مشيخات آرامية قريبة إليهم زمنيا، وجعلوا منها شعوبا وممالك قوية. أما هدد عزر ملك صوبة الأسطوري، الذي امتدت سلطته من البقاع غربا إلى نهر الفرات، وفق ما يراه المؤرخون التقليديون، فلا أدري لماذا لم يتساءل هؤلاء المؤرخون عن سبب صمت النصوص الآشورية في القرن العاشر قبل الميلاد عن ذكره، وهي التي لم تترك مملكة ذات شأن في بلاد الشام إلا وذكرتها. والحقيقة كما أراها بخصوص هذا الملك أنه لم يكن سوى هدد عدر ملك دمشق الذي حكم في أواسط القرن التاسع قبل الميلاد، وواجه الآشوريين في عدد من المواقع الحربية المهمة وردهم عن مناطق غربي الفرات، وكانت أهم معاركه معركة قرقرة المشهورة على نهر العاصي. ونظرا لغموض وتضارب الأخبار التي توفرت لمحرري التوراة عن أحداث القرن التاسع، فقد جعلوا هدد عدر هذا ملكا على صوبة في القرن العاشر قبل الميلاد تحت اسم هدد عزر، وأحلوا محله على عرش دمشق في أواسط القرن التاسع قبل الميلاد ملكا اسمه بنهدد لم يكن موجودا في ذلك الوقت. ولسوف أتطرق بالتفصيل إلى هذه المسألة في موضعها لاحقا.
دمشق قبل العصر الآرامي
كانت دمشق بين المناطق الرائدة لثقافة العصر الحجري الحديث (النيوليتي) في المشرق العربي القديم. ورغم أننا لا نملك الأدلة من موقع المدينة ذاتها على تواجد إنسان العصر الحجري، إلا أن انتشار المواقع النيوليتية حول المدينة، مثل موقع تل أسود وموقع تل الرماد، يدل على أن المنطقة كانت مسكونة منذ مطلع الألف السابع قبل الميلاد على أقل تقدير، وأنها قد ساهمت في الثورة الثقافية الأولى في تاريخ البشرية، والتي يدعوها الأركيولوجيون بثورة العصر الحجري الحديث (أو الثورة النيوليتية). وبما أن مدينة دمشق العصر الإسلامي داخل السور ما زالت مسكونة حتى الآن، وتجثم فوق الطبقات الأركيولوجية السابقة، فإن قصور الأدلة الأثرية من موقع المدينة ذاته عن تلبية حاجة المؤرخ لا يقتصر على العصر الحجري، بل يتعداه إلى العصور التاريخية اللاحقة جميعها، وذلك نظرا إلى صعوبة التنقيب في المناطق المأهولة، إن لم يكن استحالته من حيث المبدأ.
من هنا، فإن معلوماتنا عن دمشق في العصور القديمة مستمدة بشكل رئيسي من النقوش الكتابية للشعوب والثقافات المجاورة، إضافة إلى بعض المعلومات القليلة جدا التي يقدمها لنا موقع المدينة الإسلامية داخل السور، والذي يتطابق إلى حد كبير مع موقع مدينة العصر الروماني وما سبقه. فمن المؤكد اليوم أن معبد جوبيتر دمشق الذي بني في العصر الروماني لإله المدينة هدد، بعد أن طابق الرومان بينه وبين جوبيتر، يقع تحت المسجد الأموي الكبير، وأن المعبد الآرامي الأصلي يقع تحت المعبد الروماني. كما يرجح الباحثون أن التل الذي يرتفع حوالي ستة أمتار، ويقع على مسافة 250م إلى الجنوب من القوس الروماني المعروف باسم باب شرقي، هو المكان الذي بنيت فيه القصور الملكية القديمة، وأنه بمثابة أوكروبوليس دمشق. وفيما عدا ذلك، فقد وصلنا أثر فني واحد فقط من العصور القديمة جميعها للمدينة، هو لوح حجري أبعاده 80 × 70سم، منقوش عليه صورة لسفينكس (أبو الهول)، عثر عليه مدعوما بجدار المعبد الروماني عام 1940، أثناء عمليات ترميم وإصلاحات في المسجد الأموي. ويستشف من الأسلوب الفني لتنفيذ العمل أنه ينتمي إلى القرن التاسع قبل الميلاد، وهو العصر الذهبي لآرام دمشق.
6
يظهر الاسم «دمشق» لأول مرة في التاريخ حوالي عام 1450ق.م. وذلك في سجلات الفرعون تحوتمس الثالث الحربية، حيث ورد بصيغة تمسكو (تا - مس - كو). ثم ظهر بعد ذلك بقرن من الزمان في رسائل تل العمارنة، حيث ورد ثلاث مرات وبثلاث صيغ، هي تمشقي (تي - ما - اش - قي)، ودمشقا (دي - ماش - قا)، دومشقا (دو - ما - اش - قا). وفي السجلات الآشورية فيما بين القرنين التاسع والثامن قبل الميلاد يرد اسم دمشق في معظم السجلات الآشورية على بلاد الشام، وذلك بثلاث صيغ، هي دمشقا (دي - ماش - قا)، ودمشقي (دي - ماش - قي)، ودمشقو (دي - ماش - قو). أما في النصوص الآرامية فيرد بصيغة واحدة، هي دمشق (د. م. ش. ق). وما زال علماء اللغات السامية مختلفين حول معنى الاسم وجذره السامي.
7
لم تكن دمشق مدينة مهمة خلال عصر البرونز الأخير (1600-1200ق .م.)، وهو العصر الذي بدأ فيه اسم المدينة بالظهور في الوثائق الكتابية. ورغم أن المدينة تنتمي إلى إقليم يمتد في الجنوب السوري اسمه أوبي (أو أوبو)، إلا أننا غير متأكدين من أن دمشق كانت عاصمة لهذا الإقليم، أو أنها كانت المدينة الرئيسية فيه. وجل ما وصلنا من معلومات عن إقليم أوبي وعن مدينة دمشق خلال عصر البرونز الأخير قد جاء في سياق معلوماتنا عن العلاقات بين القوى الكبرى الثلاث في ذلك الوقت، وهي مصر وميتاني وحاتي. فمع مطلع عصر البرونز الأخير أخذت مملكة ميتاني الحورية بالخروج من مناطقها الرئيسية في الشمال السوري والتوسع باتجاه أواسط سوريا. وفي الوقت نفسه تقريبا ابتدأ فراعنة الأسرة الثامنة عشرة في مصر حركة مد إمبريالي مستمر باتجاه آسيا الغربية. وبعد ذلك أخذ الملوك الحثيون بالضغط على ميتاني من الشمال حتى استطاعوا إزالتها أخيرا من طريقهم كقوة عظمى، ووقفوا وجها لوجه أمام مصر. وبين هذه القوى كانت مملكة قادش في سوريا الوسطى على نهر العاصي (قرب حمص الحالية) هي القوة الكبرى في سوريا، وتسيطر على الممالك الصغيرة جميعها في وسط وجنوب سوريا، ولكنها كانت موالية لمملكة ميتاني، وتعمل من خلال استراتيجيتها العسكرية والسياسية في المنطقة. وقد شنت مملكة قادش حملة كبيرة ضد الفرعون تحوتمس الثالث حوالي عام 1450ق.م.، يساعدها في ذلك عدد من جيوش الممالك الصغيرة في سوريا وفلسطين، والتقت قواتها بالقوات المصرية عند مدينة مجدو بفلسطين، في معركة حاسمة قررت نتيجتها مصير الوجود المصري في آسيا. ويذكر سجل حملة تحوتمس الثالث عن قوات التحالف السوري في مجدو أن الفرعون الذي قاد المعركة بنفسه قد هزم ملك قادش وحلفاءه هزيمة منكرة. وفي نهاية هذا النص الطويل والمفصل يرد ذكر أسماء الممالك والمدن المقهورة، وبينها مدينة دمشق، التي تذكر بشكل عابر ودون التوكيد على قوتها أو أهميتها. ويبدو أن إقليم أوبي قد بقي منذ ذلك الوقت ضمن المناطق التقليدية للنفوذ المصري.
8
مع التقدم في عصر البرونز الأخير، وازدياد صراع القوى العظمى على المناطق السورية، يكتسب إقليم أوبي أهمية متزايدة نظرا لوقوعه على حدود التوتر الفاصلة بين مناطق نفوذ تلك القوى. وقد بقي هذا الإقليم بمثابة الحد الشمالي التقليدي للنفوذ المصري في آسيا الغربية، وصولا إلى عصر العمارنة الذي حمل معه تغييرات أساسية في ميزان القوى، وذلك بسبب تزايد المد الإمبريالي الحثي، وتوسع أباطرة حاتي الجدد على حساب مملكة ميتاني. ومع اعتلاء الملك شوبيلوليماس عرش حاتي قام بحملته السورية الأولى، واستولى على أملاك ميتاني كلها في الشمال السوري، وجعل ملكها توشراتا تابعا له. وبعد عودته المظفرة من واشوكاني عاصمة ميتاني، استولى على المناطق الشمالية الغربية من سوريا، ثم هبط فاستولى على مملكة قطنة في سوريا الوسطى (شرقي حمص في موقع تل المشرفة)، ثم تابع جنوبا نحو أراضي إقليم أوبي، الذي يدعوه الحثيون أبينا. ولكن ملك قادش المجاورة لقطنة
9
اعترض طريقه في محاولة منه لعون ميتاني، فهزمه ثم قبض عليه وأرسله أسيرا إلى حاتي، ووضع مكانه على عرش قادش ابنه المدعو إيتوغاما، الذي حول ولاءه من ميتاني إلى حاتي. بعد ذلك تابع مسيرته نحو أوبي فاستولى عليها وهزم ملكها المدعو أريوانا. وعند هذه النقطة في الجنوب السوري تنتهي حملة شوبيلوليماس ويقفل عائدا إلى عاصمته في الأناضول، بعد أن فتح صفحة جديدة في التوازن الدولي، حيث غابت ميتاني باعتبارها قوة عظمى، ووقفت حاتي وجها لوجه أمام مصر.
10
ويبدو أن حملة حاتي على سوريا الوسطى والجنوبية لم تعزز مواقعها تماما إلا في قادش، التي بقي ملكها المعين من قبل الحثيين إيتوغاما يسعى جاهدا لرعاية مصالحهم في المنطقة، ويتدخل في شئون الدويلات السورية والفلسطينية إبان فترة الاضطرابات التي سادت المنطقة خلال حكم الفرعون إخناتون. وفي مقابل ملك قادش الذي كان يرعى مصالح حاتي، يتكرر في رسائل تل العمارنة ذكر شخصية عسكرية هامة اسمها بيرياوازا، ولا نعرف على وجه التحديد منصب هذا القائد العسكري؛ لأن الرسائل كانت تشير إليه بالاسم فقط وكأنه أشهر من أن يعرف. ويبدو أنه كان المفوض المصري الأعلى في المنطقة، رغم أنه من أصل آري لا من أصل مصري.
11
ويرتبط اسم بيرياوازا هذا بمدينة دمشق، إذ نعرف من إحدى الرسائل المتبادلة بينه وبين الفرعون أنه قد هرب من وجه أعدائه وانسحب إلى دمشق. ثم نعرف أنه قد انتقل من دمشق إلى مدينة كاميدو في البقاع الجنوبي، ومن هناك أرسل إلى الفرعون قائلا إنه متحصن الآن في مدينة الملك. من هنا يعتقد بعض دارسي رسائل تل العمارنة بأن بيرياوازا كان حاكما لمدينة دمشق، ويدعوه الباحث وليم فوكسويل أولبرايت بأمير دمشق. لا ندري كيف عادت أوبي وقطنة إلى الجانب المصري بعد حملة شوبيلوليماس، ولكن المؤكد أن دمشق وقطنة كانتا مواليتين للفرعون إخناتون ومفوضه بيرياوازا خلال الأحداث التي تغطيها تلك الرسائل. نقرأ في رسالة من ملك قطنة إلى الفرعون قوله: «إن قطنة خاضعة تحت قدمي مولاي مثل دمشق في بلاد أوبي ...» لكن إيتوغاما ملك قادش كان دائم التآمر ضد الممالك الموالية لمصر، معتمدا بشكل رئيسي على عازيرو ملك آمورو، الذي تعاون مع جماعات العابيرو المرتزقة، وشكل حلفا من الدويلات المناهضة للنفوذ المصري، فكانت قطنة وأوبي من جملة الدويلات التي عانت من تعدياته، على ما نفهم من تقارير بيرياوازا إلى البلاط المصري. غير أن أوبي لم تسقط على ما يبدو في يد التحالف المعادي لمصر، لأننا نعرف من رسالة تعود إلى أواخر عصر العمارنة أن ملك أوبي المدعو زلايا كان مواليا للفرعون، لأن الفرعون يطلب إليه في تلك الرسالة أن يبعث بفريق من جماعات العابيرو المرحلين من المنطقة لإسكانهم في النوبة بمصر العليا. وقد وجدت الرسالة في كامد اللوز بالبقاع الجنوبي، وهو موقع كاميدو القديمة.
12
بعد وفاة إخناتون استمر التوتر على المناطق الحدودية بين القوتين العظميين، وخصوصا في مناطق أوبي والبقاع وقادش. ففي السنوات الأخيرة من حكم توت عنخ آمون تخبرنا السجلات الحثية عن حملة مصرية على قادش، وكان ملكها القديم إيتوغاما ما زال على العرش. وقد رد شوبيلوليماس على العدوان المصري بهجوم على منطقة البقاع، إلا أن كلا الحملتين لم تسفر عن نتيجة حاسمة بالنسبة إلى الطرفين. وبعد ذلك بمدة قصيرة توفي توت عنخ آمون في ريعان الصبا، وسادت مصر فترة اضطرابات استغلها الحثيون بإرسال حملة جديدة إلى المنطقة لم تكن حاسمة أيضا، وعاد الجنود إلى الأناضول حاملين معهم وباء الطاعون الذي تفشى في المملكة الحثية، ومات الملك شوبيلوليماس نفسه بالمرض، وخلفه ابنه مورشيلي الثاني عام 1346ق.م. وقد عاصر مورشيلي الثاني الفرعون حور محب، القائد العسكري الذي أنهى فترة الاضطرابات، مما أعقب وفاة توت عنخ آمون واعتلى عرش مصر. وقد عمل حور محب على دعم ثورة محلية في سوريا ضد حاتي، تركزت في منطقة قطنة ومنطقة نوخاشي (بين حمص وحلب)، فأرسل فرقا عسكرية مصرية لدعم المتمردين، ولكن مورشيلي قضى على المتمردين وهزم الفرق المصرية المساندة لهم.
13
كان الفرعون حور محب آخر ملوك الأسرة الثامنة عشرة، ومات دون أن يكون له وريث على العرش، فخلفه رمسيس الأول، الذي أسس الأسرة التاسعة عشرة وحكم مدة سنتين فقط، ثم مات وخلفه سيتي الأول، الذي حكم من 1302 إلى 1290ق.م. وقد وطد سيتي الأول سيطرة مصر على مناطق نفوذها في فلسطين وسوريا الجنوبية، وقام بحملة على قادش فأعادها إلى النفوذ المصري، ثم انقلب نحو الساحل السوري فأخضع مملكة آمورو، الصديق التقليدي للحثيين، وأخبار حروب سيتي الأول موثقة في نصوص قصيرة منقوشة تحت عدد من المنحوتات البارزة في معبد الكرنك، تصور مشاهد حروبه في سوريا، التي تدعوها النصوص المصرية من تلك الفترة ببلاد ريتينو. نقرأ في أحد هذه النصوص تحت مشهد يصور عودة الفرعون: «عودة جلالته من ريتينو العليا بعد أن وسع حدود مصر.» وتحت مشهد آخر نقرأ: «تقديم القرابين من الفرعون إلى أبيه آمون رع، لدى عودته من بلاد حاتي بعد سحق المتمردين وبلدانهم. وقد أتى معه بأمراء ريتينو الأوغاد ليضعهم في معبد أبيه آمون رع.» وهناك مشهد يصور حصار مدينة قادش كتب تحته: «صعود الفرعون لتدمير قادش وبلاد آمورو.» وقد تم العثور في موقع مدينة قادش على حجر تذكاري للفرعون سيتي الأول، الأمر الذي يؤكد صحة الروايات المصرية.
14
تابع رمسيس الثاني (1290-1224ق.م .) ما بدأه أبوه سيتي الأول من حركة ضغط مستمرة على حاتي. وقد ترك لنا هذا الفرعون عددا من النصب التذكارية لحملاته على بلاد الشام، اكتشف واحد منها في موقع بيت شان بفلسطين، وثلاثة على الساحل. وكان لا بد أخيرا من الصدام مع حاتي، فالتقى رمسيس مع الجيش الحثي في قادش عام 1286ق.م. ورغم أن المعركة لم تكن حاسمة، وأن الفرعون قد وقع في كمين كاد يودي بحياته لولا أن تخلص منه بشجاعته الفردية، إلا أن رمسيس الثاني قد خلد هذه المعركة في نص مفصل طويل. وقد استمرت المناوشات بين الفريقين لمدة ستة عشرة عاما تلت معركة قادش، وانتهت عام 1270ق.م. بتوقيع معاهدة سلام بين مصر وحاتي، تعتبر من أشهر معاهدات العالم القديم. وقد أطلقت المعاهدة يد الحثيين في مناطق بلاد الشام الوسطى والشمالية ابتداء من قادش، واحتفظ المصريون بمنطقة أوبي التي بقيت الحد الفاصل بين المملكتين. وقد تم اكتشاف نسختين من المعاهدة؛ واحدة في حاتوسس عاصمة حاتي، والثانية في طيبة عاصمة مصر. وقد أعقب المعاهدة زواج رمسيس الثاني من ابنة الملك الحثي حاتوشيلي. وتشير مراسلات الطرفين بخصوص ترتيبات موكب الأميرة الحثية إلى أن الموكب سيصل تحت حراسة حثية حتى أراضي أوبي، ومن هناك تتعهده الحراسة المصرية حتى الوصول إلى طيبة.
15
استمر حكم رمسيس الثاني حتى العقود الأخيرة من القرن الثالث عشر. وفي عهد ابنه مرنفتاح لم يحصل تغيير يذكر في موازين القوى الدولية. فقد كان مرنفتاح مشغولا بالتصدي لليبيين الذين هاجموا الدلتا بمعونة شعوب البحر. وبعد ذلك ظهرت في الأفق جحافل الفريق الآخر من شعوب البحر، الذي هبط من آسيا الصغرى متخذا طريقه نحو مصر، فتصدى له رمسيس الثالث وشتته. ومع هذه الأحداث الجسام، التي ختمت ثقافة عصر البرونز الأخير وافتتحت عصر الحديد، تغيب أخبار أوبي ودمشق لعدة قرون تالية. وعندما يظهر ذكر دمشق مجددا نراها مدينة آرامية قوية.
وخلاصة القول بشأن مدينة دمشق في العصور السابقة للعهد الآرامي أن المعلومات التاريخية حولها قليلة ومبعثرة، ومصدرها الرئيسي سجلات القوى العظمى، التي تضاربت مصالحها في منطقة بلاد الشام وتصادمت مع بعضها لفترة طويلة. وبما أن ذكر إقليم أوبي لا يرد في هذه السجلات إلا في سياق أحداث الصراع على مناطق النفوذ، فإن منطق الأمور يشير إلى قلة شأن هذا الإقليم خلال عصر البرونز، وكونه مجرد منطقة تنافس وتطاحن لا يعتد بقوتها الذاتية أو بتكوينها المدني والسياسي، وفيما يتعلق بمدينة دمشق بشكل خاص، فإن الأخبار المتفرقة عنها لا ترسم صورة عن أوضاعها الداخلية، وبنيتها السياسية. فهي تظهر تارة كإمارة أو حتى مشيخة بدون كيان سياسي واضح عندما يأتيها المفوض المصري بيرياوازا ويقيم فيها دون ذكر لحاكمها أو ملكها، وتارة تخبرنا النصوص عن ملوك يحكمونها، وتعلمنا عن ملكين منهم، هما أريوانا الذي قبض عليه الملك الحثي، وزلايا الذي خاطبه الفرعون في رسالته بخصوص ترحيل العابيرو إلى مصر. من هنا، يمكن القول بأن دمشق في عصر البرونز لم تكن سوى بلدة صغيرة تعيش على هامش الأحداث. غير أن هذه البلدة قد قيض لها بعد ثلاثة قرون من عصر العمارنة أن تغدو القوة الرئيسية الثانية بعد آشور في مناطق غربي الفرات تحت حكم ملوك آرام. وهذا ما سنتابع قصته في الفصل التالي.
الفصل الرابع
إمبراطورية دمشق والعلاقات الآرامية الفلسطينية
(1) دمشق وإسرائيل: حروب وتحالفات
بعد الخبر التوراتي عن وفاة الملك سليمان، تنتهي الفترة ما قبل التاريخية في الرواية التوراتية، ويدخل الحدث التوراتي فيما يشبه التاريخ. ولكي يلتقط القارئ خيط الأحداث الذي تركناه في القسم الأول من هذا الكتاب، نعود للتذكير بسرعة بالأخبار التي أوردها النص التوراتي في القسم الثاني من سفر الملوك الأول، وذلك بين وفاة الملك سليمان وأول شخصية إسرائيلية موثقة تاريخيا، وهي شخصية الملك عمري مؤسس مملكة إسرائيل، وباني مدينة السامرة، وابنه آخاب من بعده. فلقد ملك يربعام على إسرائيل وتبعته القبائل الإسرائيلية جميعها، أما رحبعام ابن الملك سليمان فقد ملك على يهوذا ولم يتبعه سوى سبط بنيامين، إضافة إلى يهوذا نفسها، ثم دخلت المملكتان في صراع دائم. ولكي يكرس ملك إسرائيل استقلاله التام عن أورشليم كان لا بد من تكريس الاستقلال الديني، فبنى للإسرائيليين معبدين؛ واحدا في دان، والآخر في بيت إيل، أي في شمال منطقة إسرائيل وجنوبها، ووضع في كل منهما صورة للعجل الذهبي رمز آلهة كنعان. وهذه أسماء ملوك إسرائيل ويهوذا وسنوات حكمهم، وذلك بين وفاة سليمان وقيام أسرة عمري التاريخية، إذا أخذنا العام 931ق.م. تاريخا لوفاة سليمان، وأخذنا بعين الاعتبار فترات التداخل بين حكم الأب وابنه، حيث جرت العادة في الرواية التوراتية أن يتنازل الملك الأب عن قسم كبير لخليفته على العرش في زمن شيخوخته.
ملوك إسرائيل-السامرة
ملوك يهوذا
يربعام
931-910ق.م.
رحبعام
931-913ق.م. -
أبيام
913-911 -
آسا
911-869
ناداب
910-909 -
بعشا
909-886 -
إيله
886-885 -
زمري
885
عمري
885-874
يهوشافاط
872-848
آخاب
874-853 -
في عهد آسا حفيد رحبعام، الذي ملك على يهوذا بعد أبيه أبيا (أبيام) بن رحبعام، توفي يربعام الملك الأول لإسرائيل في الرواية التوراتية، وملك محله ابنه ناداب الذي قتل بعد سنتين فقط من حكمه، إثر انقلاب داخلي قاده بعشا، الذي أنهى أسرة يربعام ونصب نفسه ملكا. ودخل بعشا ملك إسرائيل مع آسا ملك يهوذا في حرب طويلة أنهكت الطرفين. وعندما شعر آسا بالضعف أمام إسرائيل استنجد بملك دمشق، الذي يدعوه النص التوراتي هنا «بنهدد بن طبريمون بن حزيون». وهذا هو ثاني ملك على دمشق يرد ذكره في التوراة بعد رزون بن أليداع من عهد سليمان، الذي استقل عن سيده هدد عزر ملك صوبة، وجاء دمشق فملك فيها. ويبدو من نص رسالة آسا ملك يهوذا إلى بنهدد بن طبريمون ملك دمشق أن دمشق كانت قد أعطت الأمان لكلا الدولتين بعدم الاعتداء عليهما. نقرأ في سفر الملوك الأول (15: 18-19): «وأخذ آسا الفضة والذهب الباقية في خزائن بيت الرب وخزائن بيت الملك جميعها، ودفعها ليد عبيده وأرسلهم إلى بنهدد بن طبريمون بن حزيون، ملك آرام الساكن في دمشق قائلا: إن بيني وبينك، وبين أبي وأبيك عهدا. هو ذا قد أرسلت لك هدية من فضة وذهب، فتعال انقض عهدك مع بعشا، فيصعد عني ...» وقد نقض ملك دمشق عهده مع إسرائيل على ما يرويه سفر الملوك الأول، وهاجم أراضي الملك بعشا، وضرب المدن والقرى الواقعة في المناطق الشمالية من إسرائيل جميعها، ثم قفل راجعا إلى بلاده.
لا نعرف شيئا عن بنهدد بن طبريمون هذا خارج المصدر التوراتي، والذي يفترض أنه قد حكم خلال العقد الأول من القرن التاسع قبل الميلاد. وقد جهد المؤرخون - اعتمادا على هذا النص من سفر الملوك الأول، والنص الأسبق الذي يذكر رزون بن أليداع من عهد سليمان - في إعادة بناء هيكل الأسرة الحاكمة في دمشق، من عهد سليمان إلى عهد آسا وبعشا. فقد رأى فريق من الباحثين أن حزيون جد بنهدد المذكور في سفر الملوك الأول 15 هو نفسه رزون بن أليداع المذكور في سفر الملوك الأول 11، وأن المصدر الذي اعتمد عليه محرر الملوك الأول 15 قد حور الاسم رزون إلى حزيون . وبذلك يكون ملوك الأسرة الدمشقية - التي حكمت من عهد سليمان إلى عهد آسا في يهوذا وبعشا في إسرائيل - ثلاثة، هم على التوالي: رزون (أو حزيون) وطبريمون وبنهدد، الذي يلقبه المؤرخون ببنهدد الأول، تمييزا له عن اثنين آخرين من ملوك دمشق حملوا الاسم نفسه. بينما يرى فريق آخر من الباحثين أن رزون قد حكم دمشق في أوائل فترة حكم الملك سليمان معتمدين على قول نص سفر الملوك الأول 11: «وكان رزون خصما لإسرائيل كل أيام سليمان ...» من هنا، فإن الفترة الفاصلة بين بداية حكم سليمان في أورشليم حوالي عام 970ق.م. واستيلاء بعشا على الحكم في مملكة إسرائيل عام 909ق.م. تسمح في رأيهم بتتابع أربعة ملوك على عرش دمشق، هم: رزون وحزيون وطبريمون وبنهدد الأول.
1
لقد أوضحنا في الفصول السابقة أن مملكة إسرائيل (السامرة) لم تظهر إلى الوجود إلا في سياق النصف الأول من القرن التاسع قبل الميلاد، بينما لم تتشكل مملكة يهوذا تحت قيادة أورشليم إلا في سياق النصف الثاني من القرن الثامن قبل الميلاد. من هنا، فإن الأحداث التي يرويها النصان نفسهما من سفر الملوك 11 و15 لا تعدو أن تكون أخبارا غامضة متواترة عن حملات تأديبية كان يقوم من خلالها ملوك دمشق بتأديب بعض الجماعات الرعوية أو المستقرة، أو بعض أمراء أورشليم الصغار ممن كانوا يهددون أمن القوافل التجارية. أما عن أسماء ملوك دمشق الواردة في النصين المذكورين فلا يمكن الجزم بشأنها، رغم بقاء الاحتمالات مفتوحة على صحة الأخبار المتواترة بشأنها. فمما لا شك فيه أن الآراميين قد وطدوا سلطانهم في دمشق في سياق القرن العاشر قبل الميلاد، وأنهم قد أسسوا سلالتهم الملكية الأولى فيها في وقت ما من النصف الثاني للقرن العاشر قبل الميلاد. ولكن المعلومات الموثقة تنقصنا من أجل توكيد أو نفي الرواية التوراتية المتعلقة بأسماء هؤلاء الملوك.
لقد توافق صعود مملكة دمشق في القرن العاشر مع الأوضاع الاقتصادية المؤاتية التي سادت المنطقة بعد انحسار موجة الجفاف في مناطق شرقي المتوسط، فقد انتعشت الزراعة، وتوسعت من جديد الزراعات المتوسطية التقليدية ، وزاد إنتاج سلع التبادل النقدي على حساب زراعة الكفاف والاكتفاء الذاتي، فنشطت التجارة، وعادت الحياة إلى الطرق التجارية المحلية والدولية، وازدهرت المحطات التجارية التي كانت مهجورة لأكثر من ثلاثة قرون على طول هذه الطرق. وقد ترافق هذا الانتعاش الشامل في بلاد الشام مع ضعف مصر السياسي وانكفائها داخل حدودها التقليدية، الأمر الذي سمح للدويلات السورية بحرية الحركة، وقامت الممالك الآرامية في كل مكان تقريبا كمعادل وند للقوة الآشورية المتعاظمة. ورغم أن آشور كانت تضغط باستمرار على الممالك الآرامية في حوض الخابور والفرات، إلا أن حملاتها العسكرية خلال القرن العاشر ومطلع القرن التاسع قبل الميلاد كانت ذات طابع استعراضي، وتهدف إلى المكاسب الآنية وتحصيل الأتاوى، من دون اللجوء إلى ضم الأراضي والحكم المباشر، وهذا ما أعطى الممالك الآرامية مزيدا من الوقت لمتابعة بناء نفسها. أما في وسط وجنوب سوريا فقد تأخر الضغط الآشوري على هذه المناطق مدة قرن ونصف عنه في المناطق الشرقية والشمالية، وهذا ما ساعد، بشكل خاص، مملكة دمشق على بناء قوة عسكرية واقتصادية كبيرة.
لقد تحكمت دمشق بطريقين تجاريين دوليين على جانب كبير من الأهمية الحيوية؛ الطريق الأول هو الطريق الساحلي المعروف تاريخيا بطريق البحر، ويصعد من مصر فغزة على طول الساحل الفلسطيني، ثم ينعطف نحو الداخل عبر وادي يزرعيل. والثاني هو الطريق الصحراوي الصاعد من جزيرة العرب التي كانت تتاجر مع أفريقيا والهند، إلى شرقي الأردن فدمشق، والمعروف تاريخيا بطريق الملوك. وهناك طريق ثالث أقل أهمية يصعد من النقب إلى حبرون فأورشليم، ثم يقطع إسرائيل وصولا إلى دمشق. ومن دمشق، التي كانت تلتقي عندها القوافل المتعددة المصدر، كان يصعد طريقان دوليان للتجارة؛ واحدة باتجاه وادي الرافدين عبر تدمر والبادية السورية، والثاني باتجاه الأناضول عبر حماة فحلب. من هنا، فقد عملت دمشق بدأب على بسط نفوذها على الدويلات والإمارات الصغيرة التي تمر بها خطوط التجارة هذه. ولكنها لم تمارس على ما يبدو سياسة الحكم المباشر للأراضي الواقعة خارج منطقتها التقليدية التي لم تكن واسعة جدا، بل اكتفت بعلاقات تعاون وحسن جوار وأحلاف عسكرية كانت تلتئم حول دمشق كلما دعت الحاجة، وتنحل فور انتهاء حاجة إليها، وذلك من خلال نظام إقليمي فرضته على ممالك غربي الفرات جميعها. ولم تكن تتردد في تأديب أية مملكة تخرج على القرار السياسي الدمشقي، كما سنوضح ذلك بالتفصيل بعد قليل.
أما عن الحدود التقليدية لمملكة دمشق، فيبدو أنها كانت متطابقة مع حدود إقليم أوبي في عصر البرونز الأخير؛ فإلى الشمال جاورتها مملكة حماة التي ارتبطت معها بعلاقات متينة، وإلى الجنوب توقف تخمها عند الحدود السفلى للجولان، وإلى الغرب يرجح أنها قد حكمت البقاع بشكل مباشر. وفيما عدا ذلك، كانت تبسط سيطرة غير مباشرة على الممالك الصغيرة الناشئة حديثا في شرقي الأردن، مثل عمون وموآب وآدوم، وفي فلسطين كانت تبسط سيطرة غير مباشرة أيضا على إسرائيل التي كانت في طور التشكل وعلى إمارة أورشليم. وإضافة إلى ذلك، فإن دمشق كانت تكسب أيضا ولاء القبائل العربية المتجولة في شمال الجزيرة العربية والبادية السورية، وكانت هذه القبائل تقدم العون الحربي لأحلاف دمشق العسكرية الموجهة ضد آشور.
وفيما يتعلق بإسرائيل، فقد قادت هذه الأوضاع الاقتصادية الجديدة إلى تسريع إيقاع الاستيطان فيها، فزاد عدد السكان، وزاد إنتاج محاصيل وصناعات التبادل النقدي، فصارت الزيوت واللحوم والخمور والأخشاب تدفع للمتاجرة بها مع فينيقيا ودمشق والبقاع على طرق التجارة التي استأنفت نشاطها. كما لجأ السكان هنا إلى استصلاح المنحدرات الهضبية وتجهيز المصاطب من أجل البستنة وزراعة الأشجار المثمرة. وأما عن مصادر سكان إسرائيل الجدد، فقد ورد إلى الهضاب المركزية، كما أوضحنا سابقا، عدد من الجماعات المختلفة المنشأ؛ فمنهم فريق من السكان المقتلعين سابقا من المناطق الزراعية السهلية، وفريق من الرعاة المحليين، وفريق من الرعاة القادمين من السهوب المجاورة للهضاب المركزية إلى الشرق والجنوب، إضافة إلى الشريحة الضئيلة الباقية في الهضاب منذ عصر البرونز الأخير. ولا شك أيضا في أن الهضاب قد استوعبت بعض الجماعات المتبقية من شعوب البحر التي ذابت في محيطها السوري الجنوبي. وقد أخذ هؤلاء المستوطنون بالتقارب والتلاحم وتكوين إثنية خاصة بهم، توضحت مع بدايات القرن التاسع قبل الميلاد. وفي هذا السياق تم بناء مدينة السامرة كعاصمة لإقليم يتجه نحو المركزية سعيا وراء تنظيم شئونه السياسية والاقتصادية التي دخلت طور النضج. ذلك أن البنى السياسية والاقتصادية البدائية السائدة لم تعد صالحة للتصرف بالأوضاع الجديدة، وتصريف المنتجات المحلية صار بحاجة إلى إدارة مركزية قادرة على ربط شبكة التجارة المحلية المتواضعة بشبكة التجارة الدولية. وهكذا، ومع بناء مدينة السامرة وقيام الأسرة الملكية الأولى فيها، دخلت إسرائيل لأول مرة عالم السياسة الدولية، ووجدت نفسها وجها لوجه أمام مدينة صور الفينيقية؛ بوابة التجارة البحرية، وأمام مملكة دمشق الآرامية؛ بوابة التجارة البرية نحو العالم المتحضر في ذلك الوقت.
يروي سفر الملوك الأول أن الملك عمري قد حكم أولا في بلدة ترصة، التي كانت عاصمته لمدة ست سنوات، ثم بنى عاصمة جديدة له أسماها السامرة وانتقل إليها: «في السنة الحادية والثلاثين لآسا ملك يهوذا، ملك عمري على إسرائيل اثنتي عشرة سنة. ملك في ترصة ست سنين، واشترى جبل السامرة من شامر بوزنتين من الفضة وبنى على الجبل، ودعا اسم المدينة التي بناها باسم شامر صاحب جبل السامرة » (الملوك الأول، 23: 16-24). وفي الحقيقة، فإن معلوماتنا التاريخية والأركيولوجية تؤيد واقعة بناء السامرة على يد الملك عمري، كما تؤيد قيام مملكة السامرة مع مطلع القرن التاسع قبل الميلاد. إن أسرة عمري ذات أساس تاريخي لا لبس فيه، إلا أننا لا نملك أي أساس تاريخي لعقد الصلة بين هذه الأسرة الملكية الأولى في إسرائيل وأولئك الملوك المفترضين للمملكة الموحدة، أو التحدث عن إسرائيل التاريخية هذه كفرع من تلك المملكة التي أثبتنا بالدليل القاطع عدم قيامها.
لقد طابق علماء الآثار بين ترصة التوراتية وموقع تل الفرح الذي يقع على بعد 10كم إلى الشمال الشرقي من شكيم (نابلس)، ووجدوا أن هذا الموقع قد هجر تماما عقب بناء السامرة. أما السامرة، فقد تم التعرف عليها في موقع تل يقع إلى الشمال الغربي من شكيم، وتبين أنها بالفعل مدينة جديدة قامت على التربة العذراء دون طبقات أركيولوجية سابقة عليها. ويشرف تلك السامرة هذا على وادي يزرعيل (مرج ابن عامر)، ويتحكم بالطريق الذي يقطع المناطق الهضبية، ويصل الطريق التجاري البحري بالمناطق الداخلية. وبذلك يكون الملك عمري قد أمن لعاصمته الجديدة الاتصال بثقافتين راقيتين مجاورتين؛ هما الثقافة الفينيقية على الساحل والثقافة الآرامية في الداخل. وقد تابع الملك آخاب بن عمري بناء المدينة بعد أبيه، وهو الذي أعطاها اللمسات الأخيرة كإحدى آيات العمارة في فلسطين. وتظهر عمارة قصور السامرة والأبنية العامة فيها تأثرا كبيرا بالعمارة الفينيقية، حتى لتبدو وكأنها نتاج فينيقي صرف، الأمر الذي يحدد البيئة الثقافية التي نشأت فيها مملكة السامرة، وروابطها الحضارية مع العالم الآرامي-الفينيقي. ومن أهم ما كشفت عنه التنقيبات في قصور السامرة مجموعة كبيرة من وحدات النحت البارز العاجي الصغيرة، المخصصة أصلا لتزيين الجدران وقطع الأثاث. بعض هذه المنحوتات وجد في الطبقة الآثارية التي شهدت التدمير الآشوري عام 721ق.م. وبعضها يعود إلى عهد آخاب وعمري. وتنتمي هذه القطع الفنية إلى المدرسة السورية في نحت العاج، ووجد أشباه لها في موقع مدينة مجدو بفلسطين أيضا، وفي عدد من المواقع الفينيقية، وفي موقع أرسلان طاش (حداتو الآرامية). كما وجد عدد كبير منها في نمرود عاصمة صارغون الثاني فاتح السامرة مخزونة في غرفة بالقصر الملكي، ويغلب الظن أن هذه القطع قد جلبت من السامرة ومن عدد آخر من المدن السورية كجزء من الأتاوى المفروضة على تلك المدن، أو في سياق النهب المنظم الذي كانت تقوم به القوات الآشورية في المناطق المقهورة.
2
كما تظهر القصور والأبنية العامة، التي شيدت في بقية مدن المملكة خلال عصر السامرة، مثل حاصور ومجدو ودان، طابعا فنيا مماثلا لطابع أبنية السامرة.
3
ومن ناحية أخرى، فإن الانتماء الثقافي السامري إلى فينيقيا يبدو واضحا من قصة زواج الملك آخاب بن عمري من ابنة الملك الفينيقي أثبعل ملك الصيدونيين، على ما يرويه سفر الملوك الأول (16: 29-31): «وملك آخاب بن عمري على إسرائيل في السامرة اثنتين وعشرين سنة. وعمل آخاب بن عمري الشر في عيني الرب أكثر من الذين قبله جميعهم ... حتى اتخذ إيزابيل ابنة أثبعل ملك الصيدونيين امرأة، وسار وعبد البعل وسجد له. وأقام مذبحا للبعل في بيت البعل الذي بناه في السامرة.» ولدينا قصة مشهورة في الأدب التوراتي عن النبي إيليا وما جرى بينه وبين أنبياء البعل الذين كانوا ينشطون تحت رعاية الملكة إيزابيل زوجة آخاب. فقد كان إيليا يدعو وحده لعبادة يهوه في إسرائيل، بينما بلغ عدد أنبياء البعل 450 نبيا، وأنبياء عشيرة 400 نبي، وهؤلاء جميعا كانوا يأكلون ويشربون على مائدة الملكة. ولكي يثبت إيليا تفوق يهوه على بعل، دعا جميع أنبياء البعل إلى مجابهة علنية أمام الشعب ليظهر لهم من هو الإله الحق. فاجتمع الفريقان على قمة جبل الكرمل، وكان على كل فريق أن يقرب ثورا فوق الحطب ثم يدعو إلهه دون أن يشعل نارا، فالإله الحق هو الذي يجيب بناره التي تشعل الحطب ويأخذ القربان إليه. دعا أنبياء البعل أولا إلههم ورقصوا وأنشدوا من الصباح إلى الظهر، ولكن إلههم لم يجبهم بشيء. وعندما جاء دور إيليا تقدم من قربانه ودعا ربه، فسقطت من السماء على الفور نار أكلت المحرقة والحطب والحجارة والتراب من حولها. «فلما رأى الشعب ذلك سقطوا على وجوههم وقالوا: الرب هو الله، الرب هو الله. فقال لهم إيليا: أمسكوا أنبياء البعل ولا يفلت منهم رجل، فأمسكوهم فنزل بهم إيليا إلى نهر قيشون وذبحهم هناك» (الملوك الأول، 18: 19-40).
ومن الشواهد التاريخية على قيام أسرة عمري في إسرائيل لدينا نص هام وجد منقوشا على حجر تذكاري أقامه ملك موآب في شرقي الأردن المدعو ميشع، تخليدا لانتصاره على الإسرائيليين، وردهم عن موآب بعد أن احتلوها فترة طويلة. والنص مكتوب بالقلم الآرامي-الفينيقي، وباللهجة الموآبية القريبة جدا من الكنعانية الفلسطينية التي تكلمت بها إسرائيل ويهوذا. وقد اكتشف الحجر التذكاري بموقع ديبان الموآبية، وهو يحتوي على 34 سطرا، معظمها في حالة سليمة. يقول النص في سطوره الأولى ما ترجمته: «أنا ميشع ملك موآب الديباني. أبي ملك على موآب ثلاثين سنة، وأنا ملكت بعد أبي، وبنيت هذا المرتفع (= مقام ديني) للإله كموش؛ لأنه أعانني على الملوك كلهم، ولأنه نصرني على أعدائي. أما عمري ملك إسرائيل، فإنه أذل موآب أياما كثيرة لأن كموش كان غاضبا على أرضه (أي أرض موآب)، ثم خلفه ابنه وقال: سأذل موآب أيضا في أيامي. ولكن كموش جعلني أراه مهزوما أمامي، وباد إسرائيل، باد إلى الأبد. لقد احتل عمري كل أرض مأدبا وأقام عليها كل أيامه وأيام ابنه أربعين سنة، ولكن كموش أرجعها في أيامي.»
4
يلي ذلك تعداد للأعمال العمرانية والإصلاحات التي قام بها الملك في بلاده. هذه الحرب الإسرائيلية الموآبية مذكورة في سفر الملوك الثاني ولكن وفق سيناريو مختلف تماما. نقرأ في الملوك الثاني (3: 4-6): «وكان ميشع صاحب مواش، فأدى لملك إسرائيل مائة ألف خروف، ومائة ألف كبش بصوفها. وعند موت آخاب عصى ملك موآب على إسرائيل. وخرج الملك يهورام (ابن آخاب) في ذلك اليوم وعد كل إسرائيل، وذهب وأرسل إلى يهوشافاط ملك يهوذا يقول: قد عصى علي ملك موآب. فهل تذهب للحرب معي؟ فقال: أصعد، مثلي مثلك، شعبي كشعبك، وخيلي كخيلك.» وفي طريقهم إلى موآب ينضم إليهم ملك آدوم، ويسير الملوك الثلاثة لقتال ميشع ، الذي ينهزم أمامهم ويتحصن داخل عاصمته. وعندما يشتد عليه الحصار يذبح ابنه البكر قربانا على سور المدينة، عند ذلك يشعر المحاصرون بالغيظ والغضب من هذه الفعلة! ويفكون الحصار عن المدينة ويعودون إلى ديارهم.
تختلف رواية الملوك الثاني عن رواية ميشع بعدد من النقاط. ففي الرواية التوراتية تفرض الجزية على موآب في عهد آخاب لا في عهد عمري، ويعصي ميشع على إسرائيل في عهد يهورام بن آخاب لا في عهد آخاب، ويقوم ملك إسرائيل بمهاجمة ميشع بالتعاون مع ملك يهوذا وملك آدوم لا منفردا، ويرتد المهاجمون الثلاثة عن مدينة ميشع بدافع من حسهم الإنساني الراقي (كذا) لا بسبب هزيمتهم على يد ميشع. ونلاحظ بشكل خاص عدم ذكر نقش ميشع لمملكة يهوذا، وهذا أمر يتفق مع ما قدمناه سابقا من عدم وجود مملكة اسمها يهوذا خلال القرن التاسع قبل الميلاد. وفي هذه الاختلافات الشاسعة بين النصين وثيقة فريدة عن كيفية تصرف المحرر التوراتي بالخبر التاريخي، وتوجيهه وفق المنظور الأيديولوجي الموضوع مسبقا.
إن ما نستنتجه من نص ميشع - وهو نص تاريخي لا غبار عليه، دون زمن الحادثة التي يخبرنا عنها - أن الملك عمري بعد بنائه للسامرة كان مهتما بالسيطرة على الطرق التجارية الدولية لتأمين اتصاله بالعالم الخارجي. لقد أمنت له المصاهرة مع أقوى ملوك فينيقيا، وزواج ابنه آخاب من ابنة ملك الصيدونيين؛ الوصول إلى الساحل السوري، وكان في الوقت نفسه مسيرطا على شبكة التجارة المحلية، بما فيها الطريق الصاعد من النقب عبر أورشليم. وبقي أمامه طريق الملوك الدولي الذي يعبر شرقي الأردن باتجاه دمشق. وبما أن المشيخات القبلية في شرقي الأردن قد أخذت بالتحول إلى ممالك صغيرة وقوية يعتد بها، فإن إرضاءها الآن صار يتطلب أكثر من دفع القليل لها أو التلويح بالعصا الغليظة، من هنا كان لا بد من التواجد العسكري الدائم في تلك المناطق من أجل حماية طرق القوافل. وبما أن الملك عمري، وابنه آخاب من بعده، كان تابعا اسميا لملك دمشق ويدخل معه في معاهدة دفاع مشترك، كما سنرى بعد قليل، فإن من المرجح أن تكون دمشق هي التي أطلقت يد أسرة عمري في شرقي الأردن من أجل الحفاظ على المصالح الحيوية للطرفين، ولتخفيف الأعباء عن دمشق، التي كانت تستعد في ذلك الوقت للمواجهة العسكرية الكبرى مع آشور.
وكان على عرش دمشق في ذلك الوقت، أي أواسط القرن التاسع قبل الميلاد، ملك كبير، وشخصية عسكرية وسياسية فذة، اسمه هدد عدر، وهو أول ملك آرامي دمشقي موثق تاريخيا. ولي هدد عدر عرش دمشق خلال الفترة التي ابتدأ فيها المد العسكري الآشوري المنظم والمتواصل على مناطق غربي الفرات، بعد أن تم إخضاع أو الحصول على ولاء الدويلات الآرامية على الفرات والخابور. وقد افتتح الملك الآشوري شلمنصر الثالث (858-824ق.م.) هذا العهد الجديد من الصراع الآشوري الآرامي، والذي دام نحو قرنين من الزمان، بحملته المعروفة باسم حملة قرقرة. فتصدى له هدد عدر ملك دمشق، وجمع تحت لوائه اثني عشر ملكا من ملوك الدويلات السورية اتحدت في جيش واحد، وسار للقاء شلمنصر الثالث عند قرقرة على نهر العاصي إلى الشمال من مدينة حماة عام 854ق.م. ولدينا نص طويل ومفصل تركه شلمنصر الثالث معروف باسم نص المسلة السوداء، يصف الحملة ونتائجها من وجهة النظر الآشورية، وهذه ترجمته: «... غادرت نينوى، فعبرت نهر دجلة، وتقدمت إلى مدن الملك غيامو على نهر بليخ، فتملكهم الخوف من هيبتي ومن أسلحتي الفتاكة، فقتلوا سيدهم غيامو بأسلحتهم (يلي ذلك تعداد لأصناف الإتاوة التي أخذها من المدن المغلوبة). من سحلالا توجهت إلى كار شلمنصر (= برسيب) وعبرت الفرات في ذروة فيضانه على أطواف من جلد الماعز. وفي المدينة التي يدعونها أهل حطيئة بترو، على الجهة الأخرى للفرات عند نهر الساجور، تلقيت الجزية من ملوك الجهة الأخرى للفرات؛ من سنغارا ملك كركميش، ومن كوندا شبي ملك كوماجين، ومن آرام ملك جوشي (تعداد لأصناف الأتاوى النقدية والعينية المدفوعة). ثم غادرت الفرات نحو حلب التي خاف أهلها وخروا عند قدمي. فتلقيت منهم فضة وذهبا جزية، وقدمت قربانا إلى هدد إله حلب. من حلب توجهت إلى مدن إرخوليني ملك حماة، فتحت مدينة أدينو وبرغا، ومقره الملكي في أرغانا، وأضرمت النار في قصره. غادرت أرغانا وأتيت إلى قرقرة فدمرتها وأحرقتها.
هب إلى ساح المعركة هدد عدر ملك إميريشو (= مملكة دمشق)
5
ومعه 1200 عربة، و1200 فارس، و20000 جندي. وإرخوليني ملك حماة ومعه 700 عربة، و700 فارس، و10000 جندي. وآخاب الإسرائيلي ومعه 2000 عربة، و10000 جندي. ومن موصري جاء 10000 جندي. ومن قوية جاء 500 جندي. ومن عرقاتا 100 عربة، و10000 جندي. وجاء ماتينو بعل من أرواد ومعه 200 جندي. وأمير أشتانو ومعه 200 جندي. وأدنو بعل من سيانو ومعه 30 عربة، و1000 جندي. وجنديبو العربي ومعه 1000 جمل. وبعشا أمير رحوبي ومعه ... ومن عمون ... فكانوا اثني عشر ملكا هبوا في وجهي للمعركة الحاسمة، فحاربتهم بما وهبني الإله آشور من قوة، وبما وهبني الإله نرجال من سلاح فتاك، وهزمتهم بين مدينة قرقرة ومدينة جيلزو، وملأت نهر العاصي بجثثهم ...»
6
معركة قرقرة.
نلاحظ من دراسة التنظيم القتالي للحلفاء أن مملكة دمشق قد قدمت القوة الضاربة الرئيسية، تليها مملكة السامرة فمملكة حماة. ويبدو أن توزيع القوات المقدمة من قبل الحلفاء كان مدروسا ومخططا بعناية، وبما يتلاءم والإمكانات المادية لكل دولة. فبينما تفوق هدد عدر على آخاب بالعدد الهائل من الفرسان والمشاة الذين قدمهم، فإن آخاب قد تفوق على الجميع بعدد المركبات العسكرية التي بلغت الألفي مركبة. كما يمكن أن نلاحظ من الخارطة، التي رسمتها للمعركة على الصفحة التالية، أن الدويلات الحليفة لدمشق تتوضع على خط التجارة الدولي الصاعد من الجزيرة العربية عبر شرقي الأردن نحو الأناضول. وأن بعضها، مثل أرواد وعرقاتا وسيانو (في منطقة جبلة) كانت تتحكم بالتجارة البحرية ومسالكها البرية نحو الداخل. وأغلب الظن أن ميناء أرواد كان الثغر الرئيسي الذي تعتمد عليه دمشق في تجارتها البحرية، نظرا لاستقلال بقية المدن الفينيقية على الساحل اللبناني في سياستها الخارجية، وعدم تنسيقها مع مملكة دمشق. ويبدو هذا الاستقلال واضحا في عدم مشاركة هذه المدن في معركة قرقرة، أو في المعارك التالية التي خاضها الحلف الدمشقي ضد آشور، ولا حتى بطريقة رمزية كما فعل ملك أرواد، الذي واكب الحلفاء شخصيا ولكن بمائتي جندي فقط.
أما عن نتيجة معركة قرقرة، فرغم ادعاء الملك الآشوري الانتصار التام على الحلفاء، إلا أن مسار الأحداث اللاحق، الذي سنتابعه بعد قليل، يظهر أن المعركة انتهت إلى إحدى نتيجتين؛ فإما تراجع أحد الفريقين دون التوصل إلى حسم كامل، وإما هزيمة الآشوريين وعودتهم إلى بلادهم من أجل التحضير لحملة جديدة. ذلك أن جميع ملوك التحالف الدمشقي قد عادوا إلى عواصمهم، وكان على شلمنصر الثالث أن يعود لمواجهة التحالف نفسه في حملاته المؤرخة في أعوام 849 و848 و846 و845ق.م. إضافة إلى أن نص المسلة السوداء لم يذكر شيئا عن قتل أو أسر أي ملك من ملوك التحالف، ولم ينته بالصيغة المعروفة في السجلات الحربية الآشورية، التي تقول: «وجعلتهم يركعون تحت قدمي ويقدمون لي الجزية.» ولقد كان على آشور أن تنفق قرنا آخر ونيفا قبل أن تكون قادرة على تحصيل الجزية من ملوك التحالف واحدا إثر آخر.
بعد خمس سنوات من معركة قرقرة يتوجه شلمنصر الثالث مجددا إلى مناطق غربي الفرات عام 849ق.م. فيسكت التمرد القائم في كركميش وبيت جوشي عند الفرات، ثم يتوجه إلى وسط وجنوب سوريا، حيث يكون بانتظاره هدد عدر ملك دمشق على رأس المتحالفين السابقين، ولكن من دون إسرائيل، التي آثرت الوقوف على الحياد بعد وفاة الملك آخاب وصعود ابنه يورام على العرش. ويرد خبر هذه الحملة في أحد تلك النصوص المختصرة التي تلخص أخبار الحملات نقلا عن النصوص المنفردة الأطول. ولسوء الحظ، فإن النصوص المفصلة عن هذه الحملة الآشورية الثانية والحملات التي تلتها ضد مملكة دمشق قد ضاعت. يقول نص شلمنصر عن حملة عام 849ق.م. بعد وصف سريع لمسار الحملة ما يأتي: «عندها، هدد عدر ملك إميريشو، وإرخويني ملك حماة، والملوك الاثنا عشر، وضعوا ثقتهم بقواتهم المشتركة وشنوا الحرب ضدي، فقاتلتهم وانتصرت عليهم، وغنمت عرباتهم وخيول فرسانهم وعددهم الحربية، فهربوا من وجهي طالبين سلامة أرواحهم.»
7
وفي هذه المرة أيضا لا يتابع شلمنصر تقدمه نحو حماة أو دمشق أو أية عاصمة من عواصم دول التحالف، الأمر الذي يدل مجددا إما على هزيمته على يد هدد عدر، أو تراجعه دون التوصل إلى الحسم الكامل. هذا، ونستدل من النصوص المختصرة لبقية المعارك اللاحقة بين الطرفين في الأعوام 848 و846 و845ق.م. على عدم مقدرة الآشوريين تحقيق أي تقدم يذكر في مناطق غربي الفرات خلال حياة هدد عدر، الذي توفي بعد الحملة الآشورية الأخيرة في مدينته إثر مرض عضال.
رغم السلطة الواسعة التي تمتعت بها مملكة دمشق على مناطق غربي الفرات منذ أواسط القرن التاسع قبل الميلاد، ورغم بنائها لقوة عسكرية جبارة وقيادتها للتحالف في كل معركة مع آشور، وتقديمها القسم الأكبر من القوات والمعدات اللازمة للمعركة، إلا أن دمشق لم تشكل إمبراطورية سورية بالمفهوم الرافدي أو المصري، ولم تكن راغبة في تشكيل مثل هذه الإمبراطورية. إن ما صنعته دمشق كان إمبراطورية اسمية غير معلنة، أو فلنقل نظاما إقليميا سياسيا خاصا، يتفق مع المفهوم السوري للسلطة والحكم، ومع نظام دولة المدينة الذي كان سائدا في بلاد الشام منذ عصورها المغرقة في القدم، والذي لم يتحول في يوم من الأيام إلى إمبراطورية كبرى. فلقد رأى السوريون في دولة المدينة النظام السياسي الأمثل، الذي يطلق الإمكانات المبدعة للأفراد والجماعات، ويحافظ على مشاركة أكثر فعالية بين السلطة والشعب، بالغا ما بلغ من استئثار بعض الملوك بالسلطان وانفرادهم باتخاذ القرار، لأن السلطة في دولة المدينة تبقى قريبة من الناس، قادرة على التفاعل المباشر معهم، بعكس السلطة الإمبراطورية التي تفصلها عن الناس أسوار العاصمة وأسوار القصور الملكية وأسوار الهرمية البيروقراطية. ولقد قلد الأغارقة السوريين في نظامهم السياسي الذي اقتبسوه عن فينيقيا، وحافظوا على نظام دولة المدينة وتعبدوا له، فأعطوا من خلاله كل إنجازاتهم الثقافية.
قبل أن نغادر عصر هدد عدر، الذي أسس لنظام إقليمي سوري استمر قرابة قرن من الزمان، لا بد من التوقف عند الموضع المقابل في الرواية التوراتية، والتفتيش في أخبار الملك آخاب بن عمري عن أثر هذه الأحداث الجسام التي كانت تجري على الساحة السورية.
مساحة مملكة دمشق في عصر هدد عدر.
إن الرواية التوراتية في سفر الملوك الأول بين الإصحاح 16 والإصحاح 22، وهي الإصحاحات التي تتحدث عن حياة وأعمال الملك آخاب، تتجاهل تجاهلا تاما الحروب الآشورية السورية، ولا يرد فيها ذكر الملك شلمنصر الثالث أو ذكر هدد عدر ملك دمشق، وبالتالي فإنها لا تورد شيئا عن دخول آخاب في حلف دمشق ولا عن مساهمته في معركة قرقرة. وتفاجئنا الرواية التوراتية هنا بأن ملك دمشق الذي عاصر آخاب ليس هدد عدر، بل ملك آخر اسمه بنهدد، الذي يرد اسمه مجردا دون نسب. من هنا فقد تعود المؤرخون التقليديون على دعوة هذا الملك ببنهدد الثاني تمييزا له عن بنهدد بن طبريمون بن حزيون، الذي هاجم بعشا ملك إسرائيل بتحريض من آسا ملك يهوذا، مما رأيناه في الإصحاح 15 من سفر الملوك الأول سابقا وتحدثنا عنه. وفي مقابل الحروب الآشورية السورية وتحالف إسرائيل مع دمشق، فإن الرواية التوراتية تقص عن حروب طاحنة بين بنهدد ملك دمشق وآخاب ملك إسرائيل. نقرأ في الملوك 20 ما يأتي: «وجمع بنهدد ملك آرام كل جيشه، واثنين وثلاثين ملكا معه، وخيلا ومركبات، وصعد وحاصر السامرة وحاربها. وأرسل رسلا إلى آخاب ملك إسرائيل وقال: هكذا يقول بنهدد: لي فضتك وذهبك ولي نساؤك الحسان. فأجاب ملك إسرائيل وقال: حسب قولك يا سيدي الملك، أنا وجميع مالي لك. فرجع الرسل (ثانية إلى ملك إسرائيل) وقالوا له: هكذا تكلم بنهدد قائلا: إني قد أرسلت إليك قائلا إن فضتك وذهبك ونساءك وبنيك تعطيني إياهم، فإني في نحو هذا الوقت غدا أرسل عبيدي إليك فيفتشون بيتك وبيوت عبيدك، وكل ما هو شهي في عينيك يضعونه في أيديهم ويأخذونه. فدعا ملك إسرائيل شيوخ الأرض جميعهم وقال: اعلموا وانظروا. إن هذا يطلب الشر، لأنه أرسل إلي يطلب نسائي وبني وفضتي وذهبي، ولم أمنعها عنه. فقال له الشيوخ كلهم والشعب كله: لا تسمع له ولا تقبل ...» فاصطف الآراميون على المدينة في اليوم التالي وشددوا الحصار، وإذا بنبي يتقدم إلى ملك إسرائيل ويخبره بأن الرب سيدفع آرام إلى يده لكي يعرف أنه هو الإله الحق. فخرج ملك إسرائيل بجنوده جميعا، وعددهم سبعة آلاف، وفاجأ ملك آرام الذي كان يشرب ويسكر في الخيام هو والملوك الاثنان والثلاثون الذين معه. ولما جاءه خبر ظهور الإسرائيليين قال باستخفاف واضح: «إن كانوا خرجوا للسلام فأمسكوهم أحياء، وإن كانوا قد خرجوا للقتال فأمسكوهم أحياء.» ولكن ضربة ملك إسرائيل كانت عظيمة ومفاجئة، فهرب ملك آرام ومن معه، وعاد إلى بلده (الملوك الأول، 20: 1-21).
وبعد مرور عام كامل رجع ملك آرام إلى إسرائيل ومعه جيوش الملوك التابعين له، التي عين عليها قوادا من عنده لإحلال مزيد من التنسيق القتالي تحت قيادة واحدة، واختار لأرض المعركة أرضا سهلية لا هضبية، ليستطيع استخدام مركباته الحربية بكفاءة أكثر، لأن هذه المركبات كانت عديمة الفائدة في المعركة الأولى التي خاضها في المناطق الهضبية حول السامرة. نقرأ في بقية الملوك الأول 20 ما يأتي: «وعند تمام السنة، عد بنهدد الآراميين وصعد إلى أفيق ليحارب إسرائيل. وأحصي بنو إسرائيل وتزودوا وساروا للقائهم، فنزل بنو إسرائيل مقابلهم نظير قطيعين من المعزى، وأما الآراميون فملئوا الأرض. فتقدم رجل الله وكلم ملك إسرائيل وقال: هكذا قال الرب: من أجل أن الآراميين قالوا: إن الرب هو إله جبال وليس إله أودية، أدفع هذا الجمهور العظيم ليدك فتعلمون أني أنا الرب. فنزل هؤلاء مقابل أولئك سبعة أيام، وفي اليوم السابع اشتبكت الحرب، فضرب بنو إسرائيل من الآراميين مائة ألف راجل في يوم واحد، وهرب الباقون إلى أفيق إلى المدينة، وسقط السور على السبعة والعشرين ألفا الباقين، وهرب بنهدد ودخل المدينة من مخدع إلى مخدع.» ولما جد أتباع ملك إسرائيل في البحث عنه أرسل أتباعه لاستعطاف ملك إسرائيل وطلب العفو منه، فأعطاه ملك إسرائيل الأمان فخرج إليه، فأصعده ملك إسرائيل إلى مركبته وأكرمه. وكان بين الملكين عهد يرد بموجبه ملك دمشق المدن التي كان أبوه قد أخذها من أبي ملك إسرائيل، ويفتح أمام تجار السامرة أسواق دمشق، كما فتح الملك السابق لإسرائيل أسواق السامرة أمام تجار دمشق. وانطلق بنهدد راجعا إلى بلده بعد قطع هذا العهد. ولكن الرب غضب على ملك إسرائيل لإطلاقه عدوه، وأرسل إليه نبيا قال له: «هكذا قال الرب: لأنك أفلت من يدك رجلا قد حرمته، تكون نفسك بدل نفسه، وشعبك بدل شعبه. فمضى ملك إسرائيل إلى بيته مكتئبا مغموما، وجاء إلى السامرة» (الملوك الأول، 20: 26-43).
وأقام آرام وإسرائيل ثلاث سنين بدون حرب، حافظ خلالها ملك دمشق على العهد الذي قطعه لملك إسرائيل. ولكن ملك إسرائيل بعد وفاقه مع ملك يهوذا المدعو يهوشافاط، هو الذي فكر بأن ينكث بعهده مع دمشق. فبينما كان ملك يهوذا في زيارة ودية لملك إسرائيل، قال الملك لعبيده: «أتعلمون أن راموت جلعاد لنا ونحن ساكتون عن أخذها من يد ملك آرام؟ وقال ليهوشافاط: أتذهب معي للحرب إلى راموت جلعاد؟ فقال يهوشافاط لملك إسرائيل: مثلي مثلك، وشعبي كشعبك، وخيلي كخيلك ...» فجمع ملك إسرائيل كل الأنبياء، نحو أربعمائة رجل، واستشارهم أيذهب للقتال أم لا. ولكن الرب ضلل هؤلاء الأنبياء ووضع على أفواههم مشورة كاذبة، فقالوا للملك أن يذهب للقتال لأن الرب سيقف إلى جانبه، وأنه سيدفع إليه براموت جلعاد: «فصعد ملك إسرائيل ويهوشافاط ملك يهوذا إلى راموت جلعاد. فقال ملك إسرائيل ليهوشافاط: إني أتنكر وأدخل الحرب، وأما أنت فالبس ثيابك. فتنكر ملك إسرائيل ودخل الحرب. وأمر ملك آرام رؤساء المركبات التي له، الاثنين والثلاثين، وقال: لا تحاربوا كبيرا ولا صغيرا إلا ملك إسرائيل وحده. فلما رأى رؤساء المركبات يهوشافاط قالوا: إنه ملك إسرائيل، فمالوا عليه ليقاتلوه، فصرخ يهوشافاط. فلما رأى رؤساء المركبات أنه ليس ملك إسرائيل رجعوا عنه. وإن رجلا نزع في قوسه غير متعمد وضرب ملك إسرائيل بين أوصال الدرع، فقال لمدير مركبته: أخرجني من الجيش لأني قد جرحت. واشتد القتال في ذلك اليوم، وأوقف الملك في مركبته أمام راموت جلعاد، ومات عند المساء، وجرى دم الجرح إلى حضن المركبة. وعبرت الرنة في الجند (أي جماعة المنادين) عند غروب الشمس قائلا: كل رجل إلى مدينته، وكل رجل إلى أرضه، فمات الملك وأدخل السامرة ...» (الملوك الأول، 22: 1-37).
والآن، ما هي علاقة هذه الصورة، التي تقدمها لنا الرواية التوراتية عن العلاقات بين دمشق والسامرة، بالصورة التاريخية التي قدمتها لنا النصوص الآشورية المعاصرة للأحداث؟
إضافة إلى ما لاحظناه سابقا من تجاهل الأحداث الجارية على الساحة السورية، خارج العلاقات الثنائية بين دمشق وإسرائيل، وعدم الإشارة إلى ملك دمشق بالاسم هدد عدر، بل بالاسم بنهدد، فإن الرواية التوراتية ترسم للملك آخاب صورة مختلفة تماما عن صورته التاريخية. ففي رواية سفر الملوك الأول 20 نجد آخاب ملكا مستضعفا قليل الحيلة والعدة والجند والمركبات القتالية، على عكس ما رأيناه في النص الآشوري عندما قدم إلى حلف قرقرة ثاني قوة ضاربة بعد دمشق. وهو بعد أن يعلن خضوعه لملك آرام يعود فيقوى عليه بمعونة الرب، الذي أراد أن يظهر له ولأهل إسرائيل أنه الإله الحق، ويتغلب آخاب على بنهدد مرتين، ولكنه يخسر المعركة الثالثة ويخسر حياته أيضا؛ لأن الرب قد غضب عليه لإطلاقه بنهدد في الوقت الذي توجب عليه فيه قتله. أما عن ملك آرام، فإنه رغم ظهوره في النص التوراتي رئيسا لتحالف الملوك السوريين الذين يرتفع عددهم هنا إلى اثنين وثلاثين، يقف عاجزا أمام الفئة القليلة الإسرائيلية، ولا يستطيع التغلب على ملك إسرائيل إلا بعد خذلان الرب له والتخلي عنه. فأي الصورتين هي الأقرب للحقيقة التاريخية؟ لماذا لم يظهر الجانب القوي في سيرة آخاب التوراتية، وهو الذي تظهر لنا آثار مدينة السامرة وآثار مدنه الأخرى مدى قوته وغناه واتساع نفوذه؟ لماذا غيرت الرواية التوراتية اسم ملك دمشق، وما علاقة هدد عدر النصوص الآشورية ببنهدد النص التوراتي؟ لماذا لم تذكر الرواية التوراتية شيئا عن حلف قرقرة ومشاركة آخاب في هذا الحلف؟
لقد لاحظ المؤرخون منذ وقت مبكر اختلاف الروايتين الآشورية والتوراتية فيما يتعلق بملك دمشق وملك إسرائيل، وطبيعة العلاقات بين المملكتين خلال عصر هدد عدر وآخاب. وقد قدم بعض المؤرخين حلا لهذا التناقض بأن وضعوا حروب دمشق وإسرائيل في مطلع عهد آخاب لا قبل وفاته، وهذا ما يترك حوالي عشرين سنة تقريبا بين صورة آخاب الملك الضعيف في بداية حكمه، وصورته كملك قوي وحليف لدمشق في أواخر فترة حكمه (Kraeling, 1910 - Morgentren, 1940) . ولكن هذا الحل، على ضعفه، لا يحل مسألة اسم ملك دمشق، الذي حوله النص التوراتي من هدد عدر إلى بنهدد. وفي المقابل، فإن البعض الآخر من المؤرخين يرى أن مشكلة التناقض مبالغ فيها، وأنه من الممكن لأحداث الحروب المذكورة في الإصحاحين 20 و22 من سفر الملوك الأول أن تكون قد جرت في نهاية حكم آخاب (Unger, 1957) . وهناك فريق ثالث أخذ يرى أن روايات الملوك الأول 20 و22 لم تكتب أصلا عن الملك آخاب، وأنها تنتمي إلى سيرة أحد ورثة الملك ياهو، الذي أزاج أسرة عمري عن الحكم، وأسس لأسرة حاكمة جديدة في السامرة، وقعت بعد موته تحت سيطرة ملك دمشق حزائيل، الذي خلف هدد عدر (Miller, 1964 - Jespen, 1940 - Whitley, 1952) . ومما يدعم وجهة نظر هؤلاء أن اسم آخاب في أخبار المعارك الثلاث لم يرد إلا مرات قليلة، بينما استعيض عنه بلقب «ملك إسرائيل» في معظم المواضع ، ومن دون ذكر الاسم. ففي الإصحاح 20 ورد اسم آخاب في ثلاثة مواضع فقط، أما في المواضع العشرة الباقية فقد اكتفى المحرر باستعمال صيغة «ملك إسرائيل» دون ذكر الاسم. وفي الإصحاح 22 يرد اسم آخاب مرة واحدة فقط، وفي ستة مواضع أخرى يستعمل المحرر تعبير «الملك»، وفي خمسة عشر موضعا يستعمل صيغة «ملك إسرائيل».
8
ونحن إذ نقف إلى جانب أصحاب الرأي الأخير فإننا نضيف إليه ما يلي: إن الأخبار التي ساقها المحرر التوراتي في الإصحاحين 20 و22 من سفر الملوك الأول، كانت تدور حول ملك مجهول الاسم لإسرائيل، وقد تم حشر اسم آخاب حشرا في هذه الأخبار ثم نسبت إليه. والسبب في ذلك عدم وجود أخبار موثقة بين يدي المحرر عن تلك الفترة الحافلة من أواسط القرن التاسع قبل الميلاد، وعن تاريخ العلاقات الآشورية السورية، والآرامية الفلسطينية، خلال عصر آخاب. ولا أدل على ذلك من جهلهم بوجود الملك الكبير هدد عدر المعاصر لآخاب، وبحروبه الخمسة ضد آشور، وبالنظام السياسي الإقليمي الذي فرضه وشمل إسرائيل من جملة ما شمل من الدويلات الآرامية والكنعانية. ويبدو أن محرري التوراة قد وصلهم علم ملك كبير في المنطقة اسمه هدد عدر، ولكنهم لم يستطيعوا وضعه في الإطار التاريخي والجغرافي الصحيح، فجعلوه ملكا على صوبة في عصر الملك داود، وصنعوا منه خصما لداود تحت اسم هدد عزر. وبذلك نستطيع أن نفهم الأساس التاريخي لدعوى امتداد سلطة ملك صوبة إلى الفرات، والتي تستند أساسا إلى الأخبار اللاحقة عن سلطة هدد عدر ملك دمشق. ولما بقي عرش دمشق شاغرا (بالنسبة إليهم) في عهد الملك آخاب، جعلوا عليه ملكا اسمه بنهدد، واستلهموا بعض الأخبار اللاحقة عن بنهدد بن حزائيل ملك دمشق فيما بعد، وصاغوا منها قصصا ملأت تلك الفترة المجهولة لديهم تماما. وهذا التحليل الذي أقدمه هنا يخرج البحث في هذه المسألة من الحلقة المفرغة التي دار بها حتى الآن، ويضعه على أرضية منطقية لا غبار عليها.
ويمكن أن نضيف إلى ما قدمناه أعلاه أن محرري التوراة، إلى جانب جهلهم بالأحداث الجارية من حول إسرائيل، وفي داخلها، في عهد آخاب، فإن اهتمامهم الرئيسي في النصف الثاني من سفر الملوك الأول الذي يتضمن أخبار أسرة عمري كان منصبا على أخبار النبي إيليا والنبي أليشع من بعده، وتبشيرهما في مملكة السامرة والعجائب التي صنعاها. أي إن المحور الرئيسي للرواية هنا كان يدور حول فترة من التاريخ الديني بالدرجة الأولى، أما الخبر التاريخي فكان ثانويا ويأتي في سياق أخبار هذا النبي أو ذاك كعنصر مساعد في القصة الدينية التي تجري في جو ميثولوجي صرف؛ فالنبي إيليا يعتزل عند نهر كريت حيث كانت الغربان تعوله وتأتي إليه بالطعام. وبعد أن جف النهر ذهب إلى بلدة صرفة وأقام في بيت امرأة أرملة، وطيلة مدة إقامته عندها لم يفرغ من بيتها الدقيق والزيت حتى انتهت أيام الجفاف في الأرض، وعندما مات ابن الأرملة صلى إيليا فعادت الحياة إلى الصبي. وعندما أرسل الملك وراءه ضابطا وخمسين رجلا للقبض عليه أتت نار من السماء والتهمتهم جميعا. وعندما أراد عبور الأردن مع النبي أليشع ضرب الماء بردائه فانشق الماء ومشى النبيان على اليابسة. ثم جاءت بعد ذلك مركبة نارية من السماء فحملت إيليا إلى السماء وترك رداءه خلفه لأليشع ... إلخ. وفي خضم هذا الجو الميثولوجي فإن أي خبر عن ملك يمكن أن يعزى لملك آخر في سياق القص الأسطوري الذي يجعل التاريخ آخر هم من همومه.
وخلاصة الأمر، فإن الملك آخاب قد توفي عام 853ق.م. أي بعد عام واحد من معركة قرقرة التي كان فيها شريكا لدمشق، ومن غير المحتمل على الإطلاق أن تكون المملكتان قد دخلتا في حرب ضروس بينهما بعد قرقرة مباشرة، ولا يوجد في الواقع أي مبرر لهذه الحرب، لأن حلف دمشق قد بقي قائما بين المتحالفين أنفسهم حتى وفاة هدد عدر بعد عشر سنوات تقريبا من معركة قرقرة. ورغم أن إسرائيل لم تذكر في النصوص الآشورية اللاحقة كعضو في الحلف، إلا أن مسار الأحداث يشير إلى أنها بقيت على السياسة المرسومة من قبل دمشق رغم عدم مشاركتها العسكرية . وكل هذا يعني أن النص التوراتي، إضافة إلى عدم تقديمه معلومات موثوقة عن مملكة إسرائيل في عهد آخاب، فإنه لا يقدم لنا معلومات عن مملكة دمشق أيضا خلال أواسط القرن التاسع قبل الميلاد، ويجب عدم اللجوء إليه في إعادة بناء تاريخ دمشق خلال هذه الحقبة.
سوريا السياسية في القرنين التاسع والثامن قبل الميلاد.
توفي هدد عدر في ظروف غامضة، في وقت ما بين عام 845ق.م. وهو العام الذي جرت فيه آخر حرب بينه وبين شلمنصر الثالث، وبين عام 841ق.م. وهو العام الذي ظهر فيه ذكر خليفته حزائيل لأول مرة في السجلات الآشورية. وعن وفاة هدد عدر لدينا وثيقة آشورية مختصرة تنتقل مباشرة من معركة قرقرة إلى موت هدد عدر في مدينته دون التعرض لبقية الحروب السورية الآشورية التي جرت بين هذين الحدثين. نقرأ في النص الآشوري ما يلي: «لقد هزمت هدد عدر ملك إميريشو مع اثني عشر أميرا من حلفائه، وجندلت 29000 من محاربيه الأقوياء، ودفعت بمن تبقى من قواته إلى نهر العاصي فتفرقوا في كل اتجاه يطلبون أرواحهم. هدد عدر مات (أو انتهى) واغتصب العرش مكانه حزائيل ابن لا أحد. فدعا الجيوش الكثيرة وثار في وجهي، فقاتلته وهزمته وغنمت كل مركباته. أما هو فقد هرب طالبا حياته، فتعقبته إلى دمشق مقره الملكي، حيث قطعت أشجار بساتينه.»
9
لا يعطينا هذا النص المقتضب فكرة عن كيفية موت هدد عدر ولا عن كيفية اغتصاب حزائيل (الذي يدعوه النص ابن لا أحد دلالة على نسبه العامي) السلطة. ويبدو أن فترة من الفوضى والاضطرابات أعقبت موت هدد عدر انتهت باستلام القائد العسكري حزائيل للسلطة، والسير على خطى هدد عدر في مقارعة آشور. ورغم أن نص شلمنصر هنا لا يوضح هوية الجيوش التي دعاها حزائيل إلى جانبه، بل يكتفي بالقول بأنه «قد دعا الجيوش الكثيرة»، فإن من الواضح أن ملك دمشق الجديد قد استمر سيدا لمناطق غربي الفرات، وأنه كان قادرا في أي وقت على دعوة الحلفاء السابقين أو غيرهم، وأن هؤلاء كانوا جاهزين لتلبية النداء . ورغم أن شلمنصر الثالث قد تعقب في هذه الحملة، ولأول مرة، ملك دمشق وحاصره في عاصتمه، إلا أن كل ما استطاع الملك الآشوري تحقيقه هو أن قطع أشجار غوطة دمشق والرضا من الغنيمة بالإياب.
يعطينا النص التوراتي في سفر الملوك الثاني قصته الخاصة عن اغتصاب حزائيل للسلطة في دمشق. وبما أننا قد أثبتنا فيما سبق أن محرري التوراة لم يكن لديهم معلومات عن عصر هدد عدر ونظيره في إسرائيل الملك آخاب، فإن قصتهم عن صعود حزائيل قد استمدوها من الأخبار التي تواترت إليهم من عصر حزائيل لا من عصر هدد عدر. فلقد عرفوا بالتأكيد أن حزائيل لم يكن من الأسرة المالكة الدمشقية وأنه كان مغتصبا للعرش، فقاموا بصياغة قصة عن ذلك الحدث تغلب فيها العناصر اللاهوتية على العناصر التاريخية. فلسبب غير معلوم يتوجه النبي أليشع إلى دمشق، ويعرف ملك دمشق المدعو هنا بنهدد بوجود النبي، وكان مصابا بداء عضال، فيرسل تابعه حزائيل ليسأل النبي في أمر مرضه وهل يشفى منه أم لا: «فذهب حزائيل لاستقبال أليشع وأخذ هدية بيده، ومن كل خيرات دمشق حمل أربعين جملا، وجاء ووقف أمامه وقال: ابنك بنهدد ملك آرام قد أرسلني إليك قائلا: هل أشفى من مرضي هذا؟ فقال له أليشع: اذهب وقل له شفاء تشفى، وقد أراني الرب أنه موتا يموت. فجعل نظره عليه وثبته حتى خجل، فبكى رجل الله. فقال حزائيل: لماذا يبكي سيدي؟ فقال: لأني علمت ما ستفعله ببني إسرائيل من الشر؛ فإنك تطلق النار في حصونهم، وتقتل شبانهم بالسيف، وتحطم أطفالهم، وتشق حواملهم. فقال حزائيل: ومن هو عبدك الكلب حتى يفعل هذا الأمر العظيم؟ فقال أليشع: قد أراني الرب إياك ملكا على آرام. فانطلق من عند أليشع ودخل على سيده، فقال له: ماذا قال لك أليشع؟ فقال: قال لي إنك تحيا. وفي الغد أخذ اللبدة وغمسها بالماء ونشرها على وجهه ومات. وملك حزائيل عوضا عنه ...» (الملوك الثاني، 8: 7-15.)
يؤيد هذه القصة التوراتية بعض الباحثين، الذين بقوا على إصرارهم بوجود ملك اسمه بنهدد معاصر لآخاب رغم كل الدلائل المعاكسة لذلك (Jespen, 1941) ، فهؤلاء يرون أن الفترة الفاصلة بين آخر ذكر لهدد عدر في النصوص الآشورية عام 845ق.م. وأول ذكر لحزائيل عام 841ق.م.، ومقدارها ثلاث سنوات، تكفي لأن يعتلي عرش دمشق خلالها ملك اسمه بنهدد، هو بنهدد عدر، وأن بنهدد عدر هذا هو الذي قتل على يد حزائيل وفق الرواية التوراتية.
10
ولكن المشكلة في هذا التفسير أن الفترة التي تغطيها حروب بنهدد هذا، وفق الرواية التوراتية، تقارب ست السنوات، أي ضعف الفترة المفترضة هنا لحكم بنهدد بن هدد عدر. فبعد الحملة الأولى التي لا بد أن الإعداد لها والقيام بها قد تطلب عاما كاملا، فإن الحملة الثانية التي شنها ملك دمشق على إسرائيل قد جرت بعد سنة كاملة من الحملة الأولى (الملوك الأول، 20: 26)، وبعد أن عاد ملك دمشق من حملته الثانية هذه أقام الطرفان بدون حرب مدة ثلاث سنوات (الملوك الأول، 22: 1)، ثم وقعت الحرب الثالثة بينهما في السنة الرابعة لفترة السلم . وهذا ما يجعل فترة الحرب بين دمشق وإسرائيل ست سنوات.
والسؤال الأخير الذي لا بد من طرحه قبل إغلاق هذه المسألة هو: ألا يمكن أن يكون حزائيل قد قتل هدد عدر واغتصب السلطة المباشرة منه؟ إن النص الآشوري بأسلوبه المختزل، وقفزه فوق الأحداث المتباعدة، لا يسمح لنا بالاستنتاج بوجود علاقة سببية بين موت هدد عدر وانتقال السلطة إلى حزائيل، فالكاتب ينتقل من معركة قرقرة إلى موت هدد عدر قافزا فوق المعارك الوسيطة بين الحادثتين، ثم ينتقل من موت هدد عدر إلى اغتصاب حزائيل للملك قافزا، ولا شك، فوق عدد من الأحداث التي لا يهمه أمرها بين هاتين الحادثتين أيضا. فهو يقول: «لقد هزمت هدد عدر ... إلخ. هدد عدر قد مات. حزائيل ابن لا أحد استولى على العرش ...»
11 (2) عصر حزائيل
انحل حلف قرقرة بعد موت هدد عدر، ولكن ملك دمشق الجديد كان قادرا على ما يبدو على جمع كلمة الممالك السورية في مواجهة آشور كلما رأى ضرورة لذلك، وهذا ما يدلنا عليه النص الآشوري الذي أوردناه سابقا عن اعتلاء حزائيل عرش دمشق، وجمعه الجيوش الكثيرة في وجه شلمنصر الثالث. ولكن إلى جانب سياسته في الدعوة إلى الأحلاف المؤقتة، فقد عمل حزائيل على التأكد من عدم انحياز أية مملكة في غربي الفرات إلى الجانب الآشوري أو وقوفها على الحياد في الصراع القائم مع آشور؛ لأن ذلك من شأنه إضعاف موقف دمشق، التي تحمل على عاتقها الجزء الأكبر من مسئولية التصدي للمد العسكري الآشوري. من هنا فقد عمد حزائيل إلى رسم سياسة جديدة تسمح له بالتدخل ضد أية دولة تميل إلى مهادنة آشور ودفع الجزية لها في مناطق غربي الفرات. وقد سار ابنه بنهدد من بعده على السياسة نفسها كما سوف نرى لاحقا. وقد كانت مملكة إسرائيل أول دولة تطالها عقوبة حزائيل. فلقد عزف خلفاء آخاب - أخزيا ويهورام - عن المشاركة في حروب دمشق، ثم مال يهورام إلى استرضاء آشور بدفع الجزية لها. ورغم أننا لا نعرف من النصوص الآشورية أو من التوراة عن قيام يهورام بدفع الجزية إلى آشور، إلا أن سياسة الخضوع التام لآشور في عهد خليفته ياهو تظهر لنا أن جذور هذه السياسة كانت متأصلة في عهد يهورام.
أخذ حزائيل يضغط بشكل تدريجي على يهورام ملك إسرائيل (وهو الابن الثاني لآخاب بعد أخزيا الذي ملك قبله) في مناطق التواجد الإسرائيلي في شمال شرقي الأردن، فأرسل يهورام قواته الرئيسية إلى هناك وأقام في راموت جلعاد لحراسة تخومه في تلك المناطق، ولكنه أصيب بجرح بليغ في إحدى المعارك، فترك قائده المدعو ياهو هناك وانسحب إلى مدينة يزرعيل الداخلية ليبرأ من جراحه. ومصدرنا هنا هو رواية سفر الملوك الثاني: «وكان يورام (يهورام) يحافظ على راموت جلعاد هو وكل إسرائيل من حزائيل ملك آرام. ورجع يهورام الملك لكي يبرأ في يزرعيل من الجروح التي ضربه بها الآراميون حين قاتل حزائيل ملك آرام.» وفي هذا الوقت دعا النبي أليشع، الخصم القديم لأسرة آخاب في إسرائيل، واحدا من الأنبياء وقال له: «خذ قنينة الدهن هذه بيدك واذهب إلى راموت جلعاد. وإذا وصلت إلى هناك فانظر ياهو بن يهوشافاط بن نمشي، وادخل وأقمه من وسط إخوته، وادخل به من مخدع داخل مخدع، ثم خذ قنينة الدهن وصب على رأسه وقل: هكذا قال الرب: إني مسحتك ملكا على إسرائيل. فانطلق الغلام النبي إلى راموت جلعاد ... ودخل البيت فصب الدهن على رأسه وقال: هكذا قال الرب إله إسرائيل: قد مسحتك ملكا على شعب الرب إسرائيل، فتضرب بيت آخاب سيدك، وأنتقم لدماء عبيدي الأنبياء ودماء جميع عبيد الرب من يد إيزابيل، فيبيد كل بيت آخاب» (الملوك الثاني، 9: 1-8). فانطلق ياهو في رهط من جماعته المقربين وعبر الأردن حتى وصل إلى مدينة يزرعيل. وكان الرقيب واقفا على البرج فرأى جماعة ياهو عند إقباله، فنادى ملك إسرائيل قائلا: إني أرى جماعة قادمة، فقال الملك: أرسل فارسا للقائهم لنعرف أأتوا للسلام أم للحرب، فذهب الفارس، وعندما وصل منعه ياهو من العودة وألحقه بجماعته، فأرسل البرج فارسا ثانيا ولكنه لم يعد أيضا. فقال المراقب لملك إسرائيل : قد وصل الفارس إليهم أيضا ولم يعد، وإني أرى سوق الخيل كسوق ياهو بن نمشي لأنه يسوق بجنون. فخرج يهورام بمركبته للقاء ياهو وهو يتوجس شرا. فلما رأى يهورام ياهو قال: أسلام يا ياهو؟ فقال: أي سلام ما دام زنا أمك إيزابيل وسحرها الكثير! فرد يهورام فرسه وهرب، فقبض ياهو على القوس وضرب يهورام بين ذراعيه، فخرج السهم من قلبه فسقط في مركبته. أما ياهو فقد دخل إلى يزرعيل وقتل إيزابيل زوجة آخاب وطرحها للكلاب، ثم كتب إلى شيوخ السامرة أن يرسلوا إليه برءوس أولاد آخاب السبعين الأحياء، فقطعت رءوس أولاد آخاب وأرسلت إليه في سلال إلى يزرعيل. وقتل ياهو كل الذين بقوا لبيت آخاب وكل عظمائه ومعارفه وكهنته حتى لم يبق له شارد (الملوك الثاني، 9-10).
أما حزائيل فقد عاد إلى دمشق بعد أن سمع بعودة شلمنصر الثالث إلى المنطقة مجددا، وذلك في العام 841ق.م. وهو العام نفسه الذي اعتلى فيه ياهو عرش إسرائيل. عمل حزائيل على تحصين دمشق، ولكنه لم ينتظر وصول شلمنصر الثالث إليه، بل انطلق لملاقاته عند أسفل جبل الحرمون حيث تحصن لقطع طريق الحملة الآشورية. ونستنتج من تحصن حزائيل في هذه المنطقة أن شلمنصر الثالث كان يقصد إلى التوجه جنوبا نحو فلسطين والساحل السوري دون المرور بدمشق. وهذا ما يفسر لنا حرب حزائيل ضد إسرائيل، والتي سبقت مباشرة وصول شلمنصر الثالث إلى المنطقة؛ ذلك أن حزائيل كان يعرف بطريقة ما أهداف الحملة الآشورية في الوصول إلى المناطق الجنوبية والغربية وعزل مملكة دمشق، فأراد استباق الأمور وخلع ملك إسرائيل الذي كان يستعد لتقبيل أقدام شلمنصر، وإحلال ملك جديد محله موال لدمشق. نقرأ في نص شلمنصر الثالث عن هذه الحملة ما يلي: «في السنة الثامنة عشرة من عهدي عبرت الفرات للمرة السادسة عشرة. حزائيل ملك دمشق وضع ثقته بجيشه العرم، وجمع قواته بأعداد كبيرة جاعلا من جبل سنيرو (الحرمون) المقابل لجبل لبنان قاعدة له. قاتلته وهزمته، وجندلت ستة عشر ألفا من جنوده المدربين، وغنمت 1121 عربة، و740 جوادا ، وكل معسكره. أما هو، فقد هرب طالبا حياته، فتعقبته إلى دمشق مقره الملكي وحاصرته هناك، وقطعت أشجار بساتينه. ثم سرت إلى جبل حوران فهدمت وأحرقت عددا لا يحصى من المدن وأخذت منهم الجزية. ثم سرت إلى جبل بعل راسي، الذي يقع مقابل البحر (جبل الكرمل) وأقمت هناك نصبا تذكاريا عليه صورتي. في ذلك الوقت تلقيت الجزية من صور وصيدون ومن ياهو بن عمري.»
12
نستنتج من هذا النص أن الحملة الآشورية لم تحقق كل أهدافها. فحزائيل قد انسحب إلى دمشق وتحصن بها، وقاوم شلمنصر الذي فك حصاره عن المدينة وانتقم من حزائيل بقطع أشجار الغوطة، وتهديم المدن والقرى في حوران لدى تقدمه جنوبا في الطريق إلى الساحل الفلسطيني اللبناني. عند الساحل في بعل راسي، الذي يمكن أن يكون جبل الكرمل الذي يصل طرفه حتى الشاطئ، يكتفي الملك الآشوري بتلقي الجزية من الدويلات الفينيقية الكبرى ومن إسرائيل، ثم يعود إلى بلاده تاركا القوة العسكرية الضاربة لدمشق سليمة رغم الهزيمة. ويمكن أن نلاحظ من قول نص شلمنصر إنه تلقى الجزية من صور ومن صيدون ومن ياهو أن اسم ملكي صور وصيدون لم يذكر في النص بينما ذكر اسم ياهو شخصيا. وهذا يعني أن ملكي صور وصيدون قد أرسلا الجزية إلى ملك آشور، أما ياهو فقد حضر بنفسه إلى شلمنصر معلنا ولاءه المطلق. ويؤكد ذلك اكتشاف نحت بارز في موقع نمرود عاصمة شلمنصر يصور الملك ياهو ساجدا عند قدمي شلمنصر، كتب تحته: «جزية ياهو بن عمري. تلقيت منه فضة وذهبا و... إلخ.»
13
ومن الجدير بالذكر أن حادثة لقاء ياهو بشلمنصر الثالث غير واردة في الرواية التوراتية، وسفر الملوك الثاني لم يأت على ذكر شلمنصر الثالث، لا في عرضه لسيرة حياة الملك ياهو ولا في غيرها، جريا على ما عودنا عليه المحرر التوراتي حتى هذا الوقت المتأخر من تجاهل للأحداث الدولية الجارية.
أما عن تسمية ياهو في النص الآشوري ب «ابن عمري» فقد فسره المؤرخون بأحد أمرين؛ الأول أن مملكة السامرة كانت تدعى أحيانا بأرض أو بلاد عمري، نسبة إلى مؤسس المملكة، وقد وردت هذه التسمية أكثر من مرة في السجلات الآشورية. من هنا يمكن أن يكون المقصود ب «ابن عمري» هنا هو رجل بلاد عمري، أو صاحب بلاد عمري أو ما شابه ذلك. والثاني هو أن كاتب النص الآشوري قد ألحق ياهو بأسرة عمري جهلا منه بحقيقة الأوضاع الداخلية في مملكة السامرة. وقد اطلعت مؤخرا على دراسة حديثة منشورة عام 1995 في مجلة «علم الآثار التوراتي» تتضمن تفسيرا أكثر إقناعا. تلاحظ كاتبة الدراسة
Tammi Schneider
من متابعتها لأخبار ياهو في سفر الملوك الثاني ما يلي: (1) إن الملك ياهو هو الملك الوحيد بين ملوك السامرة الذي عني المحرر بذكر اسم أبيه واسم جده أيضا فقال: ياهو بن يهوشافاط بن نمشي. (2) لم يذكر النص التوراتي اسم أب أحد من مغتصبي العرش في دولة السامرة قبل ياهو، من أمثال زمري وعمري اللذين دعيا باسمهما فقط. نقرأ في سفر الملوك الأول (16: 15): «في السنة السابعة والعشرين لآسا ملك يهوذا ملك زمري سبعة أيام في ترصة.» وفي الإصحاح نفسه الفقرة 15 نقرأ: «فملك كل إسرائيل عمري رئيس الجيش على إسرائيل في ذلك اليوم.» (3) تلاحظ كاتبة الدراسة أن ياهو كان يتصرف في علاقاته مع أفراد الأسرة المالكة وكأنه واحد منهم، وتورد عددا من الأمثلة على ذلك. ثم تضيف إلى هذه الملاحظات الحصيفة رأيها في مسألة جهل الآشوريين بالأوضاع الداخلية لمملكة السامرة، وتفند ذلك معتمدة على عدد من الأمثلة التي تثبت أن البلاط الآشوري كان يتابع بدقة ما يجري في الممالك المعادية ويرصد أوضاعها الداخلية. وقد رأينا على سبيل المثال رصده لأحوال دمشق وتسجيله لواقعة موت هدد عدر، وقيام حزائيل باغتصاب السلطة فيها. ثم تخلص من ذلك إلى القول بأن كاتب النص الآشوري كان يعرف بأن ياهو كان واحدا من أبناء الملك عمري، ولكنه ليس من سلالة آخاب بن عمري، بل من أخ غير شقيق له اسمه نمشي. من هنا فإن النص الآشوري قد دعا ياهو باسمه الحقيقي عندما لقبه بابن عمري. وترسم الباحثة المخطط التالي لشجرة نسب ياهو:
14
وهناك ملاحظة أخرى في رواية سفر الملوك الثاني عن اغتصاب ياهو للعرش وإبادته لذرية آخاب تدعم هذا التفسير، وهي أن النص كان يكرر على الدوام أن ياهو قد أباد أسرة آخاب من دون التطرق إلى أسرة عمري، دلالة على أن المغتصب قد قضى على فرع آخاب من أسرة عمري، لا على أسرة عمري كلها.
بعد أن عاد شلمنصر الثالث من حملة عام 841ق.م. على بلاد الشام قامت هدنة غير معلنة بين دمشق وآشور استمرت ثلاث سنوات، عاد بعدها شلمنصر فشن ثلاث حملات على دمشق. إلا أن أخبار هذه الحملات غير واضحة تماما، بسبب قصر النصوص التي تذكرها وأسلوبها المختزل. ولكننا نفهم أن حزائيل قد بقي حصينا في مدينته، وأن الحملات الثلاث لم تحقق سوى إخضاع عدد من المدن التابعة لدمشق وتحصيل الجزية منها. فمن الحوليات المختصرة، التي تكتفي بذكر اسم منطقة العمليات وسنة القيام بها، نعرف أن شلمنصر قد شن حملة على بلدة ملاحة (المليحة) في السنة الحادية والعشرين لحكمه، وعلى بلدة دنابي في السنة الثانية والعشرين، وعلى بلدة تابالا (الطبالة) في السنة الثالثة والعشرين.
15
ولدينا نص قصير آخر خارج الحوليات المختصرة وجد على ختم أسطواني للملك شلمنصر يذكر حملة ملاحة: «غنيمة معبد شارو من مدينة ملاحة - المسكن الملكي لحزائيل ملك إميريشو - التي جلبها شلمنصر بن آشور ناصر بال.»
16
بعد آخر هذه الحملات عقب عام 837 ق.م. أقلع شلمنصر الثالث نهائيا عن مشروع إخضاع دمشق، وصرف نظره عن مناطق غربي الفرات. ولمدة ثلاثين سنة تلت ذلك، لم يظهر أي جيش آشوري في المنطقة. فبعد وفاة شلمنصر الثالث عام 824 ق.م.، بعد فترة حكم مديد دامت 34 سنة، نشبت نزاعات داخلية بين ورثة العرش، وانشغل الآشوريون بالحروب ضد المناطق الشرقية لحكمهم. وقد أطلق هذا الوضع الجديد يد حزائيل في مناطق نفوذه التقليدية، وبدأ بإعادة ترتيب شئون المنطقة استعدادا لأية مواجهة مقبلة مع آشور. تفرغ ملك دمشق أولا لعقاب ياهو ملك إسرائيل بسبب موقفه المخزي من آشور وخيانته لدمشق ، وبعد أن ضمن خضوع إسرائيل له قام ببسط سلطته على كامل الأراضي الفلسطينية ووصلت قواته حتى مدينة جت على الساحل الفلسطيني. وأخبارنا عن هذه الفترة مصدرها الوحيد سفر الملوك الثاني، لأن النصوص الآشورية بقيت صامتة تماما عما يجري في مناطق غربي الفرات، وذلك حتى عام 810ق.م.
المناطق الواقعة تحت نفوذ حزائيل في سوريا الجنوبية وفلسطين.
نقرأ في سفر الملوك ما يأتي: «ولكن ياهو لم يتحفظ على السلوك في شريعة الرب إله إسرائيل من كل قلبه ... في تلك الأيام ابتدأ الرب يقص إسرائيل، فضربهم حزائيل في تخوم إسرائيل جميعها من الأردن لجهة مشرق الشمس ... واضطجع ياهو مع آبائه فدفنوه في السامرة، وملك ابنه يهوأحاز عوضا عنه. وكانت الأيام التي ملك فيها ياهو على إسرائيل في السامرة ثمانيا وعشرين سنة» (الملوك الثاني، 10: 31-36). ثم «ملك يهوأحاز بن ياهو على إسرائيل في السامرة سبع عشرة سنة. وعمل الشر في عيني الرب ... فحمي غضب الرب على إسرائيل، فدفعهم ليد حزائيل ملك آرام وليد بنهدد بن حزائيل كل الأيام ... لم يبق ليهوأحاز شعبا إلا خمسين فارسا وعشرة آلاف راجل وعشر مركبات، لأن ملك آرام أفناهم ووضعهم كالتراب للدوس ... ثم اضطجع يهوأحاز مع آبائه فدفنوه في السامرة، وملك يوآش ابنه عوضا عنه» (الملوك الثاني، 13: 1-9). بعد ضمان تبعية إسرائيل، التي تشكل القوة الرئيسية في منطقة فلسطين، شق حزائيل طريقه نحو مدن فلستيا فضمن ولاءها، ثم انقلب نحو الداخل إلى أورشليم التي أعلن ملكها ولاءه لدمشق قبل وصول قواتها أطراف أورشليم: «حينئذ، صعد حزائيل ملك آرام وحارب جت وأخذها، ثم حول وجهه ليصعد إلى أورشليم. فأخذ يهوآش ملك يهوذا الأقداس جميعها التي قدسها آباؤه ملوك يهوذا، وأقداسه. والذهب الموجود في خزائن بيت الرب وبيت الملك كله، وأرسلها إلى حزائيل ملك آرام، فصعد عن أورشليم» (الملوك الثاني، 12: 17-18).
لا يوجد لدينا سبب للشك في صحة هذه الرواية التوراتية عن حروب حزائيل في شرقي الأردن وفلسطين؛ لأن مثل هذه الحروب كانت متوقعة بعد غياب آشور المؤقت عن المنطقة. فلقد أخلى حزائيل منطقة شمال شرقي الأردن من القوات الإسرائيلية، ودفع هذه القوات بعد أن أضعفها إلى السامرة، التي لم يكن راغبا في فتحها، بل في تحييدها أو كسبها إلى جانبه في أي صراع قريب محتمل مع آشور. ثم أكد بعد ذلك سيطرته على المناطق الساحلية والداخلية في مرتفعات يهوذا، فأمن بذلك سلامة الطرق التجارية الحيوية جميعها بالنسبة لمملكة دمشق. ولسوف نجد بعد سنوات قليلة أن ابنه بنهدد يمارس السياسة نفسها في المناطق الشمالية، مما تصفه لنا بعض النصوص الآرامية المعاصرة للحدث.
لا نعرف على وجه التحديد تاريخ موت الملك حزائيل، ولكننا إذا قبلنا الخبر التوراتي الوارد في سفر الملوك الثاني (13: 22-25) يمكن أن نضع موت حزائيل حوالي العام 800ق.م. لأننا نستشف من الخبر أن الملك حزائيل والملك يهوأحاز قد توفيا في وقتين متقاربين، ولما كانت وفاة يهوأحاز تقع حوالي عام 798ق.م. فإن موت حزائيل يمكن أن يوضع قبل ذلك بعام أو عامين. فالخبر التوراتي يقول: «وأما حزائيل ملك آرام فقد ضايق إسرائيل كل أيام يهوأحاز ... ثم مات حزائيل وملك بنهدد ابنه عوضا عنه. فعاد يهوآش بن يهوأحاز وأخذ المدن من يد بنهدد بن حزائيل، التي أخذها من يده يهوأحاز أبوه بالحرب. ضربه يوآش ثلاث مرات واسترد مدن إسرائيل» (الملوك الثاني، 13: 22-25). (3) عصر بنهدد بن حزائيل
ارتقى بنهدد بن حزائيل عرش دمشق حوالي عام 800ق.م. في وقت بدأت فيه أوضاع آشور الداخلية بالاستقرار. فقد ولي عرش آشور الملك أدد نيراري الثالث بن شلمنصر، بعد فترة اضطرابات تخللت حكم أخيه شمسي هدد الخامس، وأخذ بالاستعداد لغزو بلاد الشام. ويبدو أن ملك إسرائيل يهوآش
17
قد استبشر خيرا بقدوم الملك الآشوري، وفكر بإعادة تبعية بلاده إلى آشور، فقام بمحاولة لاسترداد المناطق التي بسط عليها حزائيل سلطته المباشرة في شمال شرقي الأردن وشمال إسرائيل. ولكن بنهدد حاربه على رأس تحالف ضم اثنين وثلاثين ملكا كما تقول الرواية التوراتية في الملوك الأول 20، وكنا قد برهنا سابقا على أن الحروب الثلاثة الموصوفة في سفر الملوك الأول بين بنهدد ملك دمشق وآخاب ملك إسرائيل يجب أن يكون موضعها في سفر الملوك الثاني، وأن تكون قد جرت بين بنهدد بن حزائيل وخلفاء ياهو المدعوين يهوأحاز ويوآش. وبما أن يهوأحاز قد توفي في وقت صعود بنهدد عرش دمشق تقريبا، فإن معظم حروب بنهدد الإسرائيلية يجب أن تكون موجهة ضد يوآش. وأما خبر سفر الملوك الثاني، الذي أوردناه منذ قليل عن قيام يوآش بضرب بنهدد بن حزائيل ثلاث مرات واستعادة المدن المسلوبة منه، فلا يمكن تصديقه اعتمادا على مجريات الأحداث اللاحقة؛ لأن بنهدد بعد قتاله لإسرائيل ما يلبث أن يظهر في مناطق الشمال السوري على رأس تحالف يضم أقوى الممالك الشمالية في ذلك الوقت، الأمر الذي يدل على أن ملك دمشق الجديد قد بقي سيدا لمناطق غربي الفرات مثلما كان أبوه حزائيل.
كانت المهمة الثانية التي وضعها بنهدد لقواته بعد إخضاع إسرائيل هي إخضاع مملكة حماة التي كانت تسلك نهجا مواليا لآشور. إن الحملات الآشورية على سوريا منذ عام 845ق.م. وصولا إلى عهد أدد نيراري لم تتعرض لمملكة حماة، الأمر الذي يدل على تابعيتها الآشورية خلال تلك الفترة. فصعد بنهدد على رأس حلف سوري يضم سبع ممالك معروفة بعدائها الشديد لآشور وخصوصا مملكة بيت جوشي، التي سنراها فيما بعد على رأس تحالف سوري في مواجهة القوات الآشورية، فقاتل ملك حماة المدعو زاكير وضرب عليه حصارا طويلا، بعد أن لجأ إلى مدينة حاتريكا الشمالية عاصمة مملكة لوعاش (نوخاشي سابقا) الواقعة بين حماة وحلب، والتي ضمها إليه زاكير مشكلا قوة لا يستهان بها في ذلك الوقت. ولحسن الحظ فقد وصلتنا معلومات مباشرة عن هذه الحرب في نص تركه الملك زاكير نفسه، منقوش بالآرامية على حجر عثر عليه في قرية آفس على مسافة 40كم إلى الجنوب الغربي من مدينة حلب. ويرجح أن يكون موقع آفس هذا هو حاتريكا القديمة نفسها. نقرأ في نص زاكير ما يلي: «أنا زاكير، ملك حماة ولوعاش. كنت رجلا من العامة، ولكن الإله بعل شمين قد وقف إلى جانبي وجعلني ملكا على حاتريكا. بنهدد بن حزائيل ملك آرام جمع ضدي سبعة ملوك؛ بنهدد وجيشه، ملك غوروم وجيشه، ملك شمأل وجيشه، ملك كيليكيا وجيشه، برجوش وجيشه، ملك العمق وجيشه، ملك ميليز وجيشه. كل هؤلاء الملوك الذين جمعهم بنهدد وجيوشهم قد حاصروا حاتريكا. ولكن بعل شمين كلمني عبر العرافين والمتنبئين قائلا: لا تخف، فلقد جعلتك ملكا، ولسوف أقف إلى جانبك وأنقذك من كل هؤلاء الملوك الذين ضربوا حصارا حولك ...» (البقية مليئة بالفجوات، ولكننا نفهم منها أن الحلفاء قد فكوا حصارهم عن المدينة وتراجعوا عنها.)
18
نلاحظ من أسماء الممالك الداخلة في حلف دمشق الجديد أنها تقع جميعا في المناطق الشمالية بين الفرات والساحل السوري. وهذا يعني أن بنهدد قد بسط نفوذه على كامل مناطق الشمال السوري، إضافة إلى مناطق وسط وجنوب سوريا، وفلسطين، وأنه قد استطاع فعلا تعبئة كامل مناطق غربي الفرات في جبهة واحدة استعدادا للوقوف في وجه الملك الآشوري أدد نيراري الثالث، الذي ما لبثت جيوشه حتى ظهرت في المنطقة حوالي عام 798ق.م. أي بعد أربع سنوات من ارتقاء بنهدد عرش دمشق. أما عن النتيجة التي آل إليها حصار حاتريكا، فمن غير الممكن أن يكون زاكير قد انتصر على حلف دمشق، خصوصا إذا أخذنا بعين الاعتبار عدد الممالك الحليفة وقوة جيوشها. ويكفي أن نذكر أن مملكة جوشي، التي يتزعمها برجوش، كانت أقوى الممالك الآرامية الشمالية، وكانت أراضيها تمتد من شاطئ الفرات إلى سهل العمق غربا، أما مملكة يأدي (أو شمأل) فكانت قوة لا يستهان بها وذات ثقل في ميزان القوى العسكرية في غربي الفرات. فإذا أضفنا إلى هاتين القوتين القوة الرئيسية لمملكة دمشق، التي أعيت الآلة الحربية الآشورية لنصف قرن مضى، لأدركنا استحالة هزيمة بنهدد عند أسوار حاتريكا. وهناك نتيجتان محتملتان لهذه الحرب؛ فإما أن الحلفاء قد تراجعوا عن حاتريكا بعد أن وصلتهم أخبار عن عبور أدد نيراري نهر الفرات، وإما أنهم قد توصلوا إلى اتفاق يضمن حياد زاكير في المعركة المقبلة.
يصل أدد نيراري الثالث إلى المنطقة في أول حملة لآشور على سوريا بعد موت شلمنصر الثالث. ولدينا نص مختصر عن هذه الحملة خال من أية تفاصيل، يقول: «... وعبر شاطئ الفرات أخضعت بلاد حاتي، وكل أراضي آمورو، وصور، وصيدون، وأرض عمري، وآدوم، وفيليستيا، إلى البحر الكبير حيث تغرب الشمس. جميعهم أخضعت تحت قدمي وفرضت عليهم الجزية. سرت نحو بلاد دمشق وحبست ملكها ماري (بنهدد) في دمشق مقره الملكي، فغمره الخوف من بهاء مولاي الإله آشور وأمسك قدمي خضوعا لي. فتلقيت منه الجزية في قصره الملكي؛ 2300 وزنة من الفضة، و20 وزنة من الذهب، و5000 وزنة من الحديد ...»
19
لم يتفق المؤرخون على تاريخ حملة أدد نيراري هذه، وذلك بسبب تشوش سجلات هذا الملك من الناحية الكرونولوجية، وعدم التوصل إلى ترتيب زمني متسق لحملاته. ولكن أغلب الظن أنها جرت حوالي عام 796ق.م.
20
إلا أن الدراسة المتأنية لنص هذه الحملة، على ضوء الأحداث التي سبقتها، يمكن أن تساعدنا على صياغة سيناريو منطقي لما يمكن أن يكون قد حدث بين أدد نيراري الثالث وملوك التحالف السوري. فمن المرجح، اعتمادا على أسلوب صياغة نص الحملة أعلاه، ألا يكون هذا النص خلاصة لنتائج حملة آشورية واحدة على بلاد الشام، بل خلاصة لعدة حملات متتابعة قام بها هذا الملك. ففي الحملة الأولى واجه أدد نيراري ملوك التحالف الذي حاصر حاتريكا وأجبرهم على التراجع، مستوليا على مناطق سوريا الشمالية المدعوة «حاتي» بمصطلح الألف الأول قبل الميلاد. وفي الحملة الثانية استولى على آمورو في وسط وغرب سوريا، ومنها هبط إلى الساحل الفينيقي نحو صور وصيدون. وربما تصدى له بنهدد قبل وصوله إلى آمورو منفردا أو على رأس تحالف الملوك الجنوبيين، الذين وقفوا إلى جانبه في حصار السامرة (مما مر معنا سابقا). وفي الحملة الثالثة توجه إلى فلسطين فاستولى على أرض عمري أو إسرائيل، وفيليستيا وآدوم، ومن هناك صعد إلى دمشق، التي تم عزلها عن حلفائها جميعهم، وأجبرها على دفع الجزية لآشور لأول مرة منذ قيام الأسرة الحاكمة الآرامية فيها.
وفي نص أدد نيراري نقطة هامة ينبغي ملاحظتها وفهم مدلولاتها. فالممالك الواردة في النص جميعها قد جرى تعدادها بأسمائها دون ذكر ملوكها أو شرح مجريات المعارك التي قادت إلى إخضاعها، عدا دمشق التي توقف النص عندها مطولا وأعطانا تفصيلات حول استسلامها والجزية التي دفعتها. وهذا يدل دلالة قاطعة على أن الهدف الرئيسي لحملة، أو لحملات، أدد نيراري في مناطق غربي الفرات كان إخضاع مملكة دمشق، وأن الحملات الأولى على ممالك الشمال التي جملها النص تحت اسم حاتي، وممالك الوسط والجنوب، لم تكن إلا مقدمة ضرورية لضمان استسلام دمشق.
أما عن اسم ملك دمشق الذي ورد في نص أدد نيراري على أنه «ماري»، فمن المؤكد أنه يشير إلى بنهدد نفسه. وتفسير ذلك هو أن كلمة «ماري» بالآرامية تعني «مولاي»، وهي مشتقة من كلمة «مرا» التي تعني السيد. وكان لقب «ماري» أو «مري» يوضع قبل اسم ملوك دمشق في النصوص الآرامية. من ذلك على سبيل المثال ما وجد على عاجيات أرسلان طاش من كتابة تقول: «لمرنا حزائيل»، أي: لمولانا حزائيل، وذلك باستخدام كلمة «مرا» مع ضمير الإضافة. ويبدو أن لقب ملك دمشق في عصر بنهدد كان يستخدم تبادليا مع اسمه الشخصي، أو أنه طغى عليه في معظم الحالات،
21
كما هو الحال في لقب «فرعون» في مصر، الذي استخدم تبادليا مع الاسم الحقيقي لملك مصر في أكثر من نص آشوري.
لقد كانت دمشق آخر من دفع الجزية في مناطق غربي الفرات، منذ أن بدأت الحملات الآشورية المنظمة على بلاد الشام. ويبدو أن حملة أدد نيراري الأخيرة على دمشق قد أضعفت قوة المملكة إلى حد كبير، وأفقدتها الكثير من هيبتها كمركز ثقل إقليمي في المنطقة. وكان أول المستفيدين من ضعف دمشق مملكة إسرائيل. فقد ولي عرش السامرة بعد يوآش - الذي أخضعه بنهدد قبل أن يتوجه إلى حاتريكا - ابنه يربعام الثاني (797-753ق.م.)، ويروي لنا سفر الملوك الثاني في نص مختصر، وبدون أية تفاصيل، خبرا عن حملة يربعام الثاني هذا على مملكة دمشق، التي لم تكن قد التقطت أنفاسها من الحملة الآشورية الساحقة. هذا مع العلم بأن نص سفر الملوك الثاني قد بقي حتى هذا الوقت من مطلع القرن الثامن قبل الميلاد، متجاهلا كل ما يحدث على الساحة السورية والفلسطينية من أحداث، وأن قارئ التوراة لم يعرف بعد بوجود مملكة اسمها آشور، ولا بحملات ملوك آشور على دمشق وعلى إسرائيل وبقية الدويلات الفينيقية والفلسطينية. يقول الخبر التوراتي ما يلي: «ملك يربعام بن يوآش ملك إسرائيل في السامرة إحدى وأربعين سنة. وعمل الشر في عيني الرب ... هو رد تخم إسرائيل من مدخل حماة إلى بحر العربة حسب كلام الرب إله إسرائيل ... وبقية أمور يربعام وكل ما عمل وجبروته - كيف حارب وكيف استرجع إلى إسرائيل دمشق وحماة، التي ليهوذا - أما هي مكتوبة في سفر أخبار الأيام لملوك إسرائيل؟» (الملوك الثاني، 14: 23-28.)
وكما نرى من أسلوب صياغة الخبر التوراتي أعلاه، فإنه لا يقدم خبرا تاريخيا موثقا يمكن الركون إليه. فهو لا يذكر اسم ملك دمشق ولا اسم ملك حماة، ولا يورد أية تفاصيل عن الأوضاع العامة في هاتين المملكتين، ولا عن الأوضاع العامة في المنطقة. ويلفت النظر بشكل خاص قول النص إن يربعام استرجع إلى إسرائيل دمشق وحماة، التي ليهوذا! فمتى كانت دمشق وحماة تابعة ليهوذا، التي لم تذكر حتى الآن في السجلات الآشورية؟ هل يشير المحرر إلى حروب داود ومملكة سليمان؟ وفي الحقيقة، فلقد أدرك المؤرخون المبالغة الواضحة في نص سفر الملوك أعلاه، وأسقطه معظمهم من الحساب؛ ذلك أن مملكة حماة لم تكن في ذلك الوقت فريسة سهلة المنال، وكذلك مملكة دمشق رغم وضعها العسكري المتردي عقب حملة أدد نيراري. وقد لجأ بعض المؤرخين إلى إعادة قراءة النص اعتمادا على احتوائه لإشكاليات لغوية يمكن تأويلها. فعالم اللغات السامية
J. Gray (1970) يقرأ الجملة التي تقول بالعبرية: «وكيف حارب وكيف استرجع إلى إسرائيل دمشق وحماة، التي ليهوذا»، ويترجمها بعد تأويل إشكالياتها اللغوية على الشكل الآتي: «كيف حارب دمشق، وكيف رد غضب يهوه عن إسرائيل.»
22
ورغم أن كثيرا من الباحثين لا يجدون لهذه القراءة مستندا لغويا متينا، إلا أننا نجد في مثل هذه المحاولات ما يدعم وجهة نظرنا هنا بضعف المصداقية التاريخية لنص سفر الملوك الثاني (14: 23-28). ربما قام يربعام الثاني باستعادة بعض المواقع التي كانت دمشق قد استولت عليها في أيام أبيه يوآش، ولكنه لم يكن قادرا بالتأكيد على احتلال دمشق.
بعد عشرين سنة من حملة أدد نيراري الثالث شن الآشوريون حملة جديدة على دمشق، وذلك في عهد شلمنصر الرابع. وقد جرت هذه الحملة بقيادة عامل الآشوريين على مناطق الفرات المدعو شمسي إيلو. وكان شمسي إيلو يقيم في مدينة تل برسيب عاصمة بيت عديني السابقة، والتي كان شلمنصر الثالث قد غير اسمها إلى كار شلمنصر (أي: حصن شلمنصر) بعد أن ألحق مملكة بيت عديني بآشور نهائيا، ووضع عليها حاكما آشوريا يدير شئونها. وقد قام شمسي إيلو بعدد من الأعمال العمرانية في المدينة، ومنها قصره الكبير، الذي تم اكتشافه في الموقع وعلى بواباته أسود بازلتية ضخمة نقش عليها اسم شمسي إيلو.
23
وهذا يعني أنه كان يتصرف كملك آشوري غير متوج، وأن له مطلق الصلاحية في التصرف بشئون منطقة الفرات والخابور، والنيابة عن الملك في الحملات العسكرية التي يقرر البلاط شنها على مناطق بلاد الشام. ترك شمسي إيلو نصا منقوشا على نصب حجري يذكر فيه إنجازاته، ومنها حملته على بلاد إميريشو، وأخذه الجزية من ملكها المدعو حديانو. وقد اكتشف النص منذ سنوات قريبة وقرأه الباحث هوكنز عام 1982. أما عن تاريخ هذه الحملة فيرجح الباحثون أن تكون قد جرت حوالي عام 773ق.م.
24
وبذلك يأتينا برهان آخر على عدم صحة الخبر التوراتي في الملوك الثاني (14: 23-28) حول إلحاق دمشق بإسرائيل؛ لأن تاريخ الحملة الآشورية يقع في أواسط حكم يربعام الثاني (793-753ق.م.) الذي يعزو إليه النص التوراتي ضم دمشق وحماة.
ونستطيع الآن بفضل هذا النص الجديد أن نعرف التاريخ التقريبي لوفاة بنهدد، والذي يمكن وضعه حول 770ق.م. كما نستطيع أن نضع ثبتا بملوك آرام دمشق وفترات حكمهم خلال القرن الممتد من أواسط القرن التاسع إلى أواسط القرن الثامن، على الوجه التالي:
هدد عدر
860-844ق.م .
حزائيل
844-800ق.م.
بنهدد
800-770ق.م.
حديانو
770-؟
في هذا الوقت الذي شهد بداية النهاية لكل من دمشق وإسرائيل؛ أخذت مملكة يهوذا بالتكون والظهور على المسرح السياسي الإقليمي.
الفصل الخامس
العقود الأخيرة لدمشق وإسرائيل ونشوء يهوذا
(1) أصول يهوذا
حتى الحملة الآشورية الأخيرة التي ذكرناها على دمشق عام 773ق.م. إبان حكم الملك حديانو، لم تكن مملكة يهوذا قد تشكلت بعد ككيان سياسي واضح في فلسطين، ولم تكن مدينة أورشليم قد دخلت معترك السياسة الإقليمية والدولية. والنصوص الآشورية لم تتجاهل فقط وجود مملكة يهوذا في فلسطين، بل تجاهلت كليا مدينة أورشليم وكأنها غير موجودة على الخارطة السياسية للمنطقة. غير أن العقود اللاحقة من القرن الثامن قبل الميلاد قد بدأت تدفع أورشليم بسرعة نحو مركز الأحداث، وبدأت تظهر في النصوص الآشورية بدءا من الربع الأخير لهذا القرن الحافل بالأحداث الجسام في تاريخ بلاد الشام، والذي شهدت نهايته دمار مملكة إسرائيل وفقدان دمشق لاستقلالها وسيادتها. ولسوف نقوم فيما يلي بإعادة ترتيب المعلومات التي قدمناها سابقا في عدد من المواضع التي تحدثنا فيها عن أصول يهوذا، والتي وردت في معرض المقارنة مع أصول إسرائيل، وذلك لما لفهم أصول يهوذا من أهمية بالغة على فهم الأحداث اللاحقة ومضامينها.
إن عودة الاستيطان إلى منطقة يهوذا وبنيامين، مع الانحسار التدريجي لموجة الجفاف في المنطقة، قد سارت بشكل غير متواز مع عودة الاستيطان إلى منطقة إسرائيل (الهضاب المركزية)، وذلك من حيث الجدول الزمني لهذا الاستيطان، وأصول المستوطنين الجدد، والبنية السياسية التي جمعت القرى الجديدة إلى بعضها في النهاية. قبل عام 1200ق.م. كانت مرتفعات يهوذا فيما بين أورشليم شمالا وحبرون في الجنوب خالية تقريبا من السكان، وذلك فيما عدا موقعين صغيرين، هما خربة رابوض وبيت زور. وفي عصر الحديد الأول (1200-1000ق.م.) استمر السكن في هذه المواقع مع ظهور قرى جديدة صغيرة وقليلة جدا توضعت قرب مصادر المياه الدائمة على الأطراف الشرقية لبادية يهوذا.
1
وتظهر الأساليب الفنية لصناعة الفخار في القرى الجديدة استمرارا ثقافيا لحضارة عصر البرونز الأخير، وعدم وجود تأثيرات فنية وافدة من الخارج. كما نلاحظ الشيء نفسه في المواقع التي عبرت بنجاح فترة الجفاف، واستمرت خلال عصر الحديد. ومع التقدم في عصر الحديد الثاني (1000-700ق.م.) وخصوصا في نصفه الثاني، يتزايد عدد المواقع الجديدة بشكل كبير، ويتم سكن المنطقة على نطاق واسع لأول مرة منذ نهايات عصر البرونز الوسيط.
2
إلا أن هذا التوسع في المستقرات الزراعية الجديدة لم يأت نتيجة لاقتلاع السكان الأصليين واستبدالهم بسكان جدد وافدين على المنطقة، لأن المخلفات المادية لعصر الحديد الثاني تظهر أيضا انتماء كاملا للثقافة المحلية في البرونز الأخير وفي الحديد الأول. أما عن أصل السكان في هذه المراكز السكنية الجديدة، فيبدو أنهم أتوا من ثلاثة مصادر؛ فأولا: هناك التزايد المحلي السريع للسكان بتأثير الأحوال المناخية المؤاتية، وما تبعها من انتعاش الزراعة والأوضاع الاقتصادية عامة. وثانيا: هناك شريحة لا بأس بها من السكان الزراعيين الذين أتوا من المناطق المجاورة ليهوذا. وثالثا: هناك جماعات رعوية وفدت إلى يهوذا من المناطق الرعوية الشرقية والجنوبية، وتحولت إلى حياة الاستقرار. وقد شكلت هذه الجماعات جزءا لا يستهان به من سكان يهوذا، على عكس منطقة الهضاب المركزية التي لم تساهم الجماعات الرعوية إلا بنسبة قليلة من تركيبها السكاني.
3
لقد شهدت منطقة يهوذا خلال القرن العاشر وأوائل القرن التاسع تحولا من اقتصاد يقوم على الرعي إلى اقتصاد القرية الزراعية، مع بقاء النشاط الرعوي الذي استمر في لعب دور مهم في اقتصادياتها وحياتها الاجتماعية. وخلال القرن العاشر والتاسع قبل الميلاد حدث تزايد سريع في السكان أدى إلى توضيح البنية السياسية لمرتفعات يهوذا كمنطقة موحدة بقيادة أورشليم، إلا أن الدولة التي نعرف عنها من النصوص الآشورية لأواخر القرن الثامن قبل الميلاد، لم تكن قد تشكلت بعد. إن الاعتماد المتزايد على الزراعة المكثفة قد خلق ازدهارا اقتصاديا، وقاد إلى تكوين شبكة تجارية محلية اتصلت تدريجيا بالطرق التجارية الدولية، وذلك من أجل تسويق سلع التبادل النقدي من زيوت وأخشاب وخمور ولحوم. غير أنه من المستبعد أن تكون الفترة الانتقالية بين الحديد الأول والحديد الثاني قد شهدت قيام مدينة قوية، وذات تعداد سكاني يسمح لها بالسيطرة على بقية المراكز الحضرية في يهوذا؛ ذلك أن زيادة عدد السكان وطريقة توزع هذه الزيادة كان مؤشرا على دخول المنطقة في فترة استقرار وازدهار نسبي، وعلى قيام تنافس اقتصادي لم يؤد بعد إلى نزاع حول الموارد، التي كانت في طور النمو.
4
لقد لعبت أورشليم خلال عصر البرونز دور المركز التجاري المسيطر على المنطقة المحيطة بها، كما لعبت دور السوق التجارية للمراكز الحضرية الواقعة إلى المناطق الغربية، مثل جازر ولخيش. ومع أن أورشليم قد نجحت في عبور فترة الجفاف خلال الفترة الانتقالية من البرونز الأخير إلى الحديد الأول، وشاركت بشكل فعال في عودة النمو الاقتصادي إلى المنطقة، إلا أنها لم تكن، حتى أواخر القرن العاشر قبل الميلاد وأوائل القرن التاسع، أكثر من بلدة صغيرة لم تبلغ بأي معيار أو مقياس مبلغ المدن الكبرى. ويبدو أن موقعها المنعزل قد ساعدها على حفظ استقلالها، ولكنه عمل أيضا على حصر نفوذها السياسي ضمن منطقتها بشكل رئيسي. وبعد فترة الكمون التي مرت بها المدينة خلال الكارثة المناخية والاقتصادية أخذت أورشليم بالتطلع إلى مناطق يهوذا الواقعة إلى جنوبها، وكان ذلك بدافع التوسع الاقتصادي والتجاري لا بدافع التوسع السياسي. من هنا، فإن قيام أورشليم ببسط سيطرتها السياسية على يهوذا قد جاء عقب اكتمال عملية استيطان المنطقة بشكل واسع ولم يكن سابقا عليه.
استغرقت عملية الاستيطان في منطقة يهوذا كامل القرنين العاشر والتاسع قبل الميلاد، وأعقب ذلك ارتفاع في الإنتاج الزراعي والحيواني، جعل من يهوذا المصدر الرئيسي لسلع التبادل النقدي مع المراكز الحضرية في الغرب، ومع حبرون في الجنوب، وأورشليم في الشمال. وهذا ما وضع مدينة أورشليم في منافسة مباشرة مع هذه المدن من أجل السيطرة على المراكز الزراعية في منطقة يهوذا، والتي لم تكن تخضع لأي نوع من المركزية السياسية. ولكن المعلومات المتوفرة لدينا تشير إلى أن الوضع السياسي لمنطقة يهوذا قد بقي على حاله حتى العقود الأخيرة من القرن الثامن قبل الميلاد، عندما بدأت أورشليم تكتسب بالفعل ملامح المدينة الكبيرة. وقد ساعدها على ذلك أفول نجم السامرة، ودمار لخيش على يد آشور، وقيام الآشوريين بتنظيم تجارة الزيت في المراكز الرئيسية لإنتاجه على الساحل. كما ساعد على ذلك أيضا التغيير الجذري في الوضع السياسي لفلسطين الكبرى، واستيعاب أورشليم لأفواج النازحين من مناطق التدمير الآشوري إبان عهد تغلات فلاصر الثالث وصارغون الثاني، كما سنرى بعد قليل. وهكذا ظهرت مملكة يهوذا بقيادة النخبة السياسية والاقتصادية في مدينة أورشليم التي تحولت إلى مركز سياسي إقليمي كبير. وقد بدأت المدينة عهدها هذا عميلا لآشور، ثم قادها التدخل المتزايد في شئون التجارة الدولية إلى حتفها بعد قرن ونصف القرن تقريبا من ظهورها على مسرح الأحداث.
5
وسنعود الآن إلى متابعة أحداث القرن الثامن، ودخول مملكة يهوذا ذلك المسرح. (2) الحروب الأخيرة بين دمشق وآشور
لقد دفعت دمشق الجزية للملك أدد نيراري الثالث عام 796ق.م. ثم تمردت على آشور بعد موت أدد نيراري فأخضعت ثانية في عام 773ق.م. وقد بدا لآشور بوضوح بعد هذا التمرد أن الوضع في منطقة دمشق وسوريا الغربية والجنوبية لن يستقر إلا بعد إلحاق دمشق بآشور وحكمها بطريقة مباشرة. وكان على هذه الخطة أن تنتظر صعود ملك قوي جديد.
في عام 745ق.م. ارتقى عرش آشور الملك تغلات فلاصر الثالث (745-727ق.م.) وكان عهده فاتحة لعصر الإمبراطورية الآشورية التي دامت بعده قرنا من الزمان، وامتدت من إيران ضمنا في الشرق إلى مصر ضمنا في الغرب، ومن الأناضول ضمنا في الشمال إلى أواسط شبه الجزيرة العربية في الجنوب. وقد أسس تغلات فلاصر لسياسة ضم الأراضي المقهورة بالقوة إلى التاج الآشوري، وحكمها بواسطة ولاة آشوريين معينين عليها، يقومون بدور نائب الملك. كما أسس هذا الملك لسياسة الترحيل المنظم للشعوب المغلوبة، وإحلال جماعات متنوعة محلها يتم اختيارها من الشعوب المغلوبة الأخرى. وقد شملت عمليات التهجير الإجباري أكثر من 100 شعب، بما في ذلك الآشوريون أنفسهم الذين فتحت أمامهم فرص الهجرة والاستقرار في أفضل الأراضي الشاغرة من سكانها. وبذلك تمكن الآشوريون أخيرا من حكم الممالك الثائرة بعد أن فقدت تكوينها الإثني والسياسي، وبعد أن غيرت آشور الخريطة الديمغرافية للشرق القديم بكامله.
ترك تغلات فلاصر عددا لا بأس به من السجلات، إلا أنها وصلتنا في حالة سيئة جدا، وذلك بسبب الإهمال المتعمد لخلفائه، والذي أدى إلى تشظي الرقم الفخارية، وفقدان كثير من أجزائها، وتشوش الترتيب الزمني لأحداثها. وهذا ما صعب على الباحثين مهمة إعادة ترتيب هذه الأحداث. وفيما يتعلق بأخبار مملكة دمشق، لدينا عدد من النصوص القصيرة عن حملات آشورية مغفلة التواريخ، إضافة إلى عدد من الإشارات في الحوليات الجغرافية المختصرة (Eponym Chronicles)
التي تذكر فقط تاريخ الحملة والمكان الموجهة إليه. وبمطابقة هذه النصوص القصيرة على تلك الإشارات، والاستعانة بالأخبار التوراتية في سفر الملوك الثاني (الذي بدأ محرروه يذكرون آشور اعتبارا من الإصحاح 15، وذلك في معرض تقصيهم للأحداث الأخيرة التي قادت إلى دمار السامرة وزوال إسرائيل)؛ يمكننا فيما يلي تقديم ثبت بأسماء ملوك إسرائيل ودمشق ويهوذا وسنوات حكمهم.
دمشق
إسرائيل
يهوذا
رحيانو (رصين) 750-732
منحيم 752-742
آحاز 735-715 -
فقحيا 742-740
حزقيا 729-686 -
فقح 740-732
هوشع 732-722 (721)
لدينا ثلاثة نصوص قصيرة تذكر اسم دمشق على رأس الممالك التي أجبرت على دفع الجزية في مناطق غربي الفرات، وتذكر اسم ملكها «رحيانو»، الذي تدعوه النصوص التوراتية رصين . وهذا الاسم التوراتي ربما كان تحويرا للاسم «رصيانو»، الذي استقاه المحرر التوراتي من مصادر غير مباشرة قلبت الحاء الأكادية صادا. نقرأ في أحد هذه النصوص الثلاثة ما يلي: «تلقيت الجزية من رحيانو ملك دمشق، ومنحيم ملك السامرة، وحيرام ملك صور، وسيبتي بعل ملك جبيل، وأوريكي ملك قوية، وبيسيريس ملك كركميش، وإنيل ملك حماة، وبنامو ملك شمأل ... وزبيبة ملكة العرب.»
6
ومن المرجح أن تكون هذه الحملات الثلاثة - التي استهدفت دمشق بالدرجة الأولى - قد جرت في الفترة الواقعة بين عامي 842 و838ق.م. وهذا ما يعطينا فكرة تقريبية عن تاريخ اعتلاء الملك رصين (رحيانو) عرش دمشق. فبما أن الملك الأسبق لدمشق والمدعو حديانو قد ذكر في السجلات الآشورية عام 773ق.م.، وأن أول ذكر لرصين قد ورد حوالي عام 842ق .م.؛ فمن المرجح أن يكون رصين قد اعتلى عرش دمشق حوالي عام 750ق.م. إن ذكر مملكة دمشق في رأس قائمة المدن والممالك التي دفعت الجزية لتغلات فلاصر الثالث في سجلات حملاته الثلاثة الآنفة الذكر يجعل الاحتمال قويا في أن يكون الملك رصين قد أحيا سياسة الأحلاف القديمة، وأن تكون دمشق خاضت حروبها الأخيرة ضد آشور على رأس تحالف سوري قوي جديد، وذلك قبل أن تفقد الدويلات السورية استقلالها واحدة إثر أخرى.
ولدينا نص مفصل لتغلات فلاصر الثالث يتعلق بحملة واسعة على مناطق غربي الفرات، وإلحاق العديد من ممالكها بالتاج الآشوري. تبتدئ الحملة من مملكة حاتريكا، ثم تهبط مناطق الساحل السوري وصولا إلى غزة، ثم تصعد نحو إسرائيل، التي دفع ملكها منحيم الجزية لآشور واحتفظ باستقلال مملكته بعد خسارته جزءا من أراضيه الشمالية. نقرأ في النص: «مدينة حاتريكا وكل الأراضي إلى جبل سيوا، ومدن جبيل وسيميرا (عاصمة آمورو) وعرقاتا وأوزنو وعربا ... مدن ... البحر الأعلى جميعها بسطت نفوذي عليها، ووضعت قوادا من عندي لحكمها. وكذلك مدن ... غالزا وأبيلاكا (في شمال شرقي الأردن) المتاخمة لأرض عمري، وأرض ... الواسعة بكامله وحدتها مع مملكة آشور. أما هانو ملك غزة، الذي هرب أمام قواتي والتجأ إلى مصر، فقد قهرت مدينته غزة واستوليت على ممتلكاته وعلى صور آلهته، أقمت صور آلهتي وصوري في قصره، وأعلنتها آلهة للبلاد، وفرضت على أهلها الجزية. وأما منحيم (ملك السامرة) فقد انقضضت عليه كعاصفة ثلجية، فهرب من أمامي وحيدا كالعصفور، ثم عاد فسجد عند قدمي. فأعدته إلى قصره وفرضت عليه الجزية فضة وذهبا وعباءات حريرية مزركشة
7 ... ومن أرض عمري استوليت على ... وسقت سكانها وممتلكاتها إلى آشور ...»
8
أما سفر الملوك الثاني فيقدم لنا معلومات تتقاطع مع النص الآشوري أعلاه، ولكنه يدعو ملك آشور باسم «فول»، وهو اسم غريب ولا وجود له في لائحة ملوك آشور. ولربما اختلط على محرر السفر اسم ملك آشور تغلات فلاصر باسم واحد من قواده الذي ربما قاد الحملة على إسرائيل، في الوقت الذي كان فيه الملك مشغولا بقتال غزة. نقرأ في سفر الملوك الثاني هذا الخبر الأول عن آشور في كتاب التوراة: «ملك منحيم بن جادي على إسرائيل في السامرة عشر سنين، وعمل الشر في عيني الرب ... فجاء فول ملك آشور على الأرض، فأعطى منحيم لفول ألف وزنة من الفضة لتكون يداه معه، ليثبت المملكة في يده. ووضع منحيم الفضة على إسرائيل، على جميع جبابرة البأس، ليدفع لملك آشور خمسين شاقل فضة على كل رجل. فرجع ملك آشور ولم يقم في الأرض ... ثم اضطجع منحيم مع آبائه، وملك فقحيا ابنه عوضا عنه» (الملوك الثاني، 15: 17-22). ويشذ هذا الخبر التوراتي عن الخبر الآشوري في نقطتين؛ الأولى تتعلق باسم ملك آشور، والثانية تتعلق بعدم ذكره لقتال تغلات فلاصر لمنحيم، وهروب الأخير ثم عودته إلى السامرة بعد موافقته على دفع الجزية.
بعد الحملات المتوالية على مناطق غربي الفرات، والتي أدت إلى ضم قسم كبير من الأراضي السورية إلى التاج الآشوري، بقيت دمشق تجهز لحروب مقاومة جديدة، وتهيئ المناخ السياسي الملائم للمواجهات المقبلة. وقد ساعدها على ذلك انشغال تغلات فلاصر بحروب في المناطق الشمالية والشرقية لمدة ثلاث سنوات، فيما بين 737 و735ق.م. ولما كانت مملكة يهوذا تلعب في ذلك الوقت دور العميل الرئيسي لتغلات فلاصر الذي هاجم كل ممالك سوريا الجنوبية وفلسطين من دون يهوذا، فقد كان لا بد لرصين ملك دمشق من إزاحة الملك آحاز في يهوذا، ورفع ملك جديد يناهض آشور. وهنا تقوم دمشق بعقد حلف جديد مع إسرائيل، ويتوجه رصين وفقح ملك إسرائيل لحصار آحاز. ومعلوماتنا عن هذا الحلف مصدره الرواية التوراتية فقط. نقرأ في سفر إشعيا: «وحدث في أيام آحاز بن يوثام ملك يهوذا أن رصين ملك آرام صعد مع فقح بن رمليا ملك إسرائيل إلى أورشليم لمحاربتها، فلم يقدر أن يحاربها. وأخبر بيت داود (أي: ملك يهوذا) وقيل له: قد حلت آرام في أفرايم (أي: إسرائيل). فرجف قلبه وقلوب شعبه كرجفان شجر الوعر قدام الريح. فقال الرب لإشعيا: اخرج لملاقاة آحاز وقل له: ... لأن آرام تآمرت عليك بشر مع أفرايم وابن رمليا قائلة: نصعد على يهوذا ونقوضها ونستفتحها لأنفسنا، ونملك في وسطها ملكا؛ ابن طبئيل. هكذا يقول السيد الرب ... إلخ» (إشعيا، 1-7). ونقرأ في سفر الملوك الثاني أيضا: «كان آحاز ابن عشرين سنة حين ملك، وملك ست عشرة سنة في أورشليم. ولم يعمل المستقيم في عيني الرب إلهه، بل سار في طريق ملوك إسرائيل ... حينئذ صعد عليه رصين ملك آرام وفقح بن رمليا ملك إسرائيل إلى أورشليم للمحاربة. فحاصروا آحاز ولم يقدروا أن يغلبوه ... وأرسل آحاز رسلا إلى تغلات فلاصر ملك آشور قائلا: أنا عبدك وابنك، اصعد وخلصني من يد ملك آرام ومن يد ملك إسرائيل القائمين علي. فأخذ آحاز الفضة والذهب الموجودة في بيت الرب وفي خزائن بيت الملك وأرسلها إلى ملك آشور هدية. فسمع له ملك آشور وصعد إلى دمشق وأخذها وسباها إلى قير، وقتل رصين. وسار الملك آحاز للقاء تغلات فلاصر ملك آشور إلى دمشق» (الملوك الثاني، 16: 1-10).
لا يخرج هذان الخبران عن الخط العام الذي التزمه محررو التوراة في تقديم المعلومات التي تيسرت للمحرر من خلال رؤية أيديولوجية ساذجة لا ترى في التاريخ إلا نتاجا لتدخل القدرة الإلهية في عالم الناس، ولا تنظر إلى الأحداث في أسبابها ونتائجها، ولا تحفل بالدائرة الكبرى التي يتحرك ضمنها الحدث المنعزل الذي يجري تقديمه. فرصين ملك آرام، وفقح ملك إسرائيل ليسا إلا أداة في يد الرب أصعدهما لحصار أورشليم عقابا على خطاياها وخطايا ملكها. وملك آشور يقبل هدية آحاز ويشن حملته على دمشق بعد قبوله الرشوة من أورشليم. ولكننا إذا أردنا فهم هذين الخبرين على خلفية الأحداث الهامة في بلاد الشام في ذلك الوقت، علينا أن نبحث عن أسباب حصار أورشليم في موقفها حيال السياسة الآشورية في المنطقة، وعلاقاتها بالممالك المحلية المجاورة.
لقد اتسمت سياسة إسرائيل-السامرة حيال آشور - عقب معركة قرقرة - بالذبذبة؛ فكانت تعاضد دمشق أحيانا، وتقف على الحياد أو تعلن ولاءها لآشور وتدفع الجزية لملوكها في أحيان أخرى، وذلك حسب تقديرها للموقف السياسي العام، وتبعا للتكوين الشخصي لملوكها المتعاقبين. أما يهوذا فقد التزمت منذ قيامها موقف الممالأة لآشور والعمل على تنفيذ سياستها في سوريا الجنوبية، مستفيدة من الانهيار العام للبنى السياسية القديمة في هذه المنطقة، وسقوط الممالك السورية من حولها واحدة إثر أخرى، فانتعشت وأثرت من الدمار المنتشر من حولها. وبينما ضمت آشور معظم المناطق في سوريا وفلسطين إلى التاج الآشوري؛ بقيت يهوذا حرة مستقلة، وعبرت القرن السابع قبل الميلاد بنجاح لا تحسد عليه. من هنا، فقد عملت دمشق على إحداث تغيير جذري في هيكل السلطة السياسية في يهوذا، ووضع ملك عليها يخلع طاعة آشور ويقف إلى جانب دمشق في المعركة المقبلة، التي كانت آشور تخطط من خلالها إلى توجيه الضربة الأخيرة لمملكة دمشق، والممالك القليلة الأخرى التي بقيت حتى الآن على استقلالها. هذا، ويطلق خبر سفر إشعيا - الذي أوردناه أعلاه - على الملك البديل في يهوذا اسم ابن طبئيل دون أية تفصيلات أخرى. ومن ناحيتها، فقد كانت إسرائيل تشعر بالخطر الكبير الذي تمثله سياسة يهوذا على حدودها، واعتقدت بأن جبهة واحدة تضم دمشق وإسرائيل ويهوذا، من شأنها دفع الخطر الآشوري عن المنطقة ولو مؤقتا، بانتظار تغييرات داخلية في آشور، أو تحركات في مناطق نفوذها الشرقية والشمالية، تشغلها ردحا من الزمان.
عندما آلت أورشليم إلى السقوط بيد رصين ملك دمشق وصلته الأخبار عن عبور تغلات فلاصر الثالث نهر الفرات وتوجهه إلى سوريا الجنوبية، فتراجع عن أورشليم وعاد بسرعة إلى عاصمته استعدادا لقتال الآشوريين. وعند هذه النقطة من القصة يقفز النص التوراتي فوق الأحداث، ويظهر أن الحملة الآشورية التي قضت على دمشق هي التي أعقبت تراجع رصين عن أسوار أورشليم. أما سجلات تغلات فلاصر فتظهر بوضوح أن عامين من القتال الشديد بين دمشق وآشور قد سبقا الاستسلام الأخير لدمشق. ففي الحوليات الجغرافية المختصرة لتغلات فلاصر لدينا ثلاث حملات على سوريا الجنوبية؛
9
واحدة منها على فلسطين عام 734ق.م.، واثنتان على دمشق في عام 733ق.م. وفي عام 332ق.م. وهي الحملة التي قتل فيها رصين. خلال الحملة على فلسطين يستولي تغلات فلاصر على المناطق الشمالية من مملكة السامرة، ثم لا يتوجه لحصار العاصمة، بل يتآمر لإحداث فتنة تطيح بالملك فقح حليف دمشق. يقول تغلات فلاصر عن ذلك: «... ومن أرض عمري استوليت على ... وسقت سكانها وممتلكاتهم إلى آشور. ثم ثاروا على ملكهم بيقحا (فقح)، فجعلت عليهم المدعو أوشي (هوشع) ملكا، وتلقيت منهم جزية مقدارها 1000 وزنة من الذهب.»
10
وهنا يتقاطع الخبر التوراتي مع الخبر الآشوري، ونقرأ في سفر الملوك الثاني: «في أيام فقح ملك إسرائيل جاء تغلات فلاصر ملك آشور وأخذ عيون وآبل بيت معكة ويانوح قادش وحاصور وجلعاد والجليل وكل أرض نفتالي، وسباهم إلى آشور. وفتن هوشع بن إيلة على فقح بن رمليا، وضربه فقتله، وملك عوضا عنه» (الملوك الثاني، 15: 29-30).
إن بعض الشذرات الباقية من رقم تغلات فلاصر، إضافة إلى نص آرامي مهم من مملكة شمأل؛ تعطينا صورة عما كان يجري بين تغلات فلاصر ورصين ملك دمشق خلال هذا الهزيع الأخير من حياة مملكة دمشق المستقلة. فعلى شذرة مشوهة من أحد الرقم نقرأ بقايا نص يفيد وقوع هجوم غير ناجح على دمشق، يكتفي إثره تغلات فلاصر بتدمير عدد هائل من المدن والقرى التابعة لرصين، بينها مدينة حدرا التي يصفها النص بأنها مسقط رأس الملك رصين (رحيانو). ونرجح أن تكون حدرا هذه هي بلدة عدرا الحالية الواقعة على مسافة 25كم إلى الشمال من دمشق. يقول النص: «لقد حاصرت مدينة حدرا، بيت أسلاف رحيانو ملك إميريشو ومسقط رأسه، وفتحتها وسقت منها 800 أسير مع ممتلكاتهم غنيمة. كما سقت 750 أسيرا من مدينة كوروصا، ومن مدينة إرميا، و550 أسيرا من مدينة ميتونا غنيمة. ودمرت 591 بلدة في 16 مقاطعة من بلاد إميريشو، فتركتها كما الأنقاض بعد عاصفة الطوفان.»
11
ونستدل من هذا العدد الكبير من المدن والقرى المدمرة على أن حملة تغلات فلاصر قد طالت مملكة إميريشو الكبرى، والتي تشمل حوران والجولان والبقاع وبعض الأجزاء الشمالية من شرقي الأردن. كما يعطينا وصف الحملة الآشورية صورة عن شراسة القتال بين دمشق وآشور خلال المعارك التي ختمت قرنا ونصفا من الصراع بين هاتين القوتين العظميين في المنطقة.
ويبدو أن تغلات فلاصر كان يستعين في حروبه على دمشق بجيوش بعض الممالك المقهورة والموالية له في سوريا الشمالية. يدلنا على ذلك نص الملك بنامو بن راكب ملك يأدي (شمأل)، الذي وجد على نصب أقامه هذا الملك تخليدا لذكرى أبيه الذي قتل وهو يحارب في أرض دمشق إلى جانب الآشوريين. نقرأ في نص بنامو ما يلي: «بحكمته وبصدقه، أخذ بطرف ثوب سيده ملك آشور الذي أعلاه بين الملوك الكبار، وسار بركاب سيده تغلات فلاصر بوسط الجيش، من مطلع الشمس إلى مغربها ... ثم مات أبي بنامو على رجلي سيده تغلات فلاصر في المعركة، فبكاه أقرباؤه الملوك، وبكته قوات سيدي ملك آشور كلها. فقام ملك آشور وجعل له نصبا على الطريق. ونقل أبي من دمشق إلى آشور.»
12
أما عن اقتحام دمشق وقتل رصين فلا يوجد لدينا نص واضح يصف ذلك فيما تبقى من سجلات وشذرات سجلات تغلات فلاصر. وقد عمل الباحث
Tadmor
عام 1962 على إعادة ترتيب ثلاث شذرات لرقيم مكسور وقرأها على النحو التالي: «لقد ألحقت بآشور كل الأراضي الواسعة لبيت حزائيل (أي: مملكة دمشق) من جبال لبنان إلى بلدة جلعازو (راموت جلعاد في شرقي الأردن) وأبيلاكا (آبل بيت معكة) عند أطراف أرض عمري، وعينت عليها حاكما من قبلي .»
13
وعلى الأرجح فإن معارك حملة عام 732ق.م. كانت بمثابة المواجهة الأخيرة بين دمشق وآشور، وهي التي أفقدت دمشق استقلالها، وألحقتها بالممتلكات الآشورية. وسيكون لدمشق انتفاضة أخيرة بعد قليل، ولكن لا كمملكة كبيرة، بل كمدينة مستضعفة تحارب تحت إمرة ملك حماة. (3) نهاية إسرائيل
قبل هجومه الأخير على دمشق، عاقب تغلات فلاصر مملكة إسرائيل على وقوفها إلى جانب دمشق، فسلبها أراضيها الشمالية، وعين عليها ملكا جديدا يأتمر بأمره، ويدير شئون مملكة صغيرة تلعب دور التابع في منطقة فلسطين. فقد كانت آشور - إلى جانب اعتمادها سياسة ضم الممالك المستقلة إلى التاج الآشوري - ترغب في الإبقاء على الحكم الذاتي لبعض الممالك بعد إضعافها ونزع أسنانها، وذلك إلى الحد الذي يخدم مصالحها وحساباتها الاستراتيجية، وكانت تبقي على الأسر الحاكمة في هذه الممالك طالما أمنت لها هذه المصالح، فإذا آنس بعض هؤلاء الحكام من أنفسهم قوة، وانتهزوا فرصة سانحة للتمرد؛ عمدت آشور إلى البطش بهم وتصفية دولهم. وهذا ما حدث لإسرائيل في سنواتها الأخيرة التي عاشتها بعد نهاية مملكة دمشق.
اعتلى عرش آشور بعد تغلات فلاصر الثالث ابنه شلمنصر الخامس، الذي حكم فترة قصيرة فيما بين 726 و722ق.م.، ثم خلفه صارغون الثاني، الذي حكم سبع عشرة سنة فيما بين 721 و705ق.م.، وكان من أوائل أعماله حملته في مناطق غربي الفرات على حلف سوري جديد تشكل هذه المرة بقيادة مملكة حماة، التي اغتصب العرش فيها رجل من الجالية الحثية القوية التي تقيم فيها منذ زمن بعيد، والتي صعد من صفوفها عدد من الملوك، أشهرهم إرخوليني حليف حدد عدر الآنف الذكر. وقد تألف حلف حماة من دويلات حماة وأرواد وسيميرا والسامرة ودمشق. ولا ندري كيف شاركت دمشق في هذا الحلف بعد زوالها كمملكة مستقلة وضمها إلى التاج الآشوري. والأغلب أنها قد ثارت على الحاكم المعين عليها من آشور، ولجأت إلى ملك حماة الجديد، الذي وعدها بالحماية وتأمين الاستقلال. ومثلها في ذلك مدينة سيميرا التي كانت قد ألحقت بآشور قبل دمشق. أما هوشع ملك السامرة فقد كان يتلقى تحريضا مستمرا من مصر على الثورة، ووعودا بالدعم العسكري والمادي، وقد وجد في دعوة ملك حماة مناسبة لبدء عصيانه.
لدينا نصان لصارغون الثاني عن قتاله لحلف حماة. نقرأ في أولهما: «ياوبيدي من عامة مدينة حماة، حثي ملعون، جعل نفسه ملكا على المدينة، وحرض ضدي مدن أرواد وسيميرا ودمشق والسامرة، فتعاونوا وجهزوا جيشا مشتركا. دعوت جميع جند آشور وأطبقت عليه في قرقرة مدينته الأثيرة، ففتحتها وأحرقتها. أما هو فقد أمسكت به وسلخت جلده، وقتلت المتمردين في مدنهم، وأحللت النظام والسلام بها.» ونقرأ في النص الثاني: «لقد خربت حماة كعاصفة الطوفان، وسقت ملكها ياوبيدي وعائلته وكل محاربيه إلى آشور مكبلين بالأصفاد، فشكلت منهم فرقة مؤلفة من 300 عربة، و600 مقاتل مجهزين بالتروس والرماح، وضممتهم إلى فرقي الملكية. ثم أسكنت 6300 آشوري في أرض حماة، وجعلت عليهم حاكما من عندي.»
14
وسوف يطبق صارغون سياسة التهجير الجماعي - التي مارسها على نطاق محدود في حماة - على أوسع نطاق في إسرائيل، التي ما لبثت أن تلقت الضربة الآشورية الأخيرة التي أزالتها من الوجود باعتبارها كيانا سياسيا وشعبا.
في سجلات صارغون لدينا نصان قصيران يخبران عن دمار السامرة. نقرأ في الأول: «صارغون ملك آشور، فاتح السامرة وكل بيت عمري. الذي غنم أشدود وشينوختي، وأمسك الياماني في البحر كالسمك. الذي قضى على كاسكو وطابالي وخيلاكو. الذي طارد ميتا ملك موشكو. الذي قهر مصر في رفح. الذي أخذ هانو ملك غزة أسيرا. الذي أخضع الملوك السبعة بأراضي يدنانا على مسافة سبعة أيام في البحر.»
15
وهكذا لم يكتف صارغون الثاني بالاستيلاء على الثغور السورية على شاطئ المتوسط جميعها، من كيليكيا (خيلاكو) إلى غزة ورفح في الجنوب، بل عمل على بسط سلطته على الشعوب البحرية التي تتاجر مع الثغور السورية، مثل الأيونيين (= الياماني) في الجزر اليونانية، والقبارصة في يدنانا (جزيرة قبرص)، وبذلك ضمنت آشور السيطرة التامة على التجارة البحرية في حوض المتوسط. كما وجه صارغون إلى مصر ضربة أليمة في رفح التي تشكل آخر نقطة لحدودها الشمالية التقليدية، وذلك عقابا لها على تدخلها في شئون آشور، وتحريضها الدويلات الفلسطينية على العصيان.
وفي نص آخر أكثر تفصيلا لصارغون عن فتح السامرة نقرأ ما يلي: «لقد حاصرت السامرة وفتحتها وجلوت 27290 من سكانها، وجهزت من بينهم فصيلة بخمسين عربة ضممتها إلى فيلقي الملكي. أما المدينة، فقد أعدت بناءها بأفضل مما كانت عليه، وأسكنت فيها شعوبا من المناطق الأخرى التي قهرتها. ثم أقمت عليهم حاكما من ضباطي، وفرضت عليهم الجزية.»
16
وبالطبع فإن سفر الملوك الثاني يحدثنا عن دمار السامرة، ولكنه يعزو ذلك إلى الملك شلمنصر الخامس سلف صارغون الثاني. ولعل مما يلفت النظر فعلا أن معلومات محرري التوراة بخصوص آشور ودورها في أحداث النصف الأول من الألف الأول قبل الميلاد قد بقيت غامضة ومشوشة ، حتى عند هذا الوقت المتأخر من حياة مملكة إسرائيل. فصارغون الثاني بقي مجهولا لديهم تماما، ومحررو سفر الملوك الثاني لم يخصوه بخبر واحد رغم حملاته الشهيرة التي غيرت الخارطة السكانية لبلاد الشام. نقرأ في سفر الملوك الثاني الخبر التالي عن فتح السامرة: «ملك هوشع بن إيلة في السامرة على إسرائيل تسع سنين، وعمل الشر في عيني الرب، فصعد عليه شلمنصر ملك آشور فصار هوشع له عبدا ودفع له الجزية، ووجد ملك آشور في هوشع خيانة لأنه أرسل رسلا إلى سوا ملك مصر ولم يؤد جزية إلى آشور حسب كل سنة. فقبض عليه ملك آشور وأوثقه في السجن، وصعد ملك آشور على كل الأرض، وصعد إلى السامرة وحاصرها ثلاث سنين. في السنة التاسعة لهوشع أخذ ملك آشور السامرة، وسبى إسرائيل إلى آشور، وأسكنهم في حلج وخابور ونهر جوزان وفي مدن مادي» (الملوك الثاني، 17: 1-6).
وبسقوط السامرة في عام 721ق.م. انتهت مملكة إسرائيل ولم تقم لها قائمة بعد ذلك، كما اختفى الاسم «إسرائيل» وبطل استعماله، وحل محله اسم السامرة للدلالة على المقاطعة التي قامت على أراضي إسرائيل، وذلك من العصر الآشوري إلى العصر الروماني. (4) سياسة التهجير الآشورية: أساليبها وأهدافها
لم تكن عمليات التهجير المنظمة - التي نشطت فعليا في عهد تغلات فلاصر الثالث - بالأمر الثانوي في الأيديولوجية السياسية للإمبراطورية الآشورية، بل كانت عمادها الرئيسي. فلقد طالت سياسة التهجير المناطق الواقعة تحت سيطرة آشور كلها؛ من إيران والخليج العربي، صعودا إلى جبال طوروس، فهبوطا نحو الساحل الفينيقي، وصولا إلى حدود مصر، وكانت لها نتائج عميقة الأثر على التكوين السياسي والسكاني والاقتصادي للأراضي المقهورة. وقد وصلنا حتى الآن حوالي 150 نصا آشوريا تذكر عمليات ترحيل واسعة النطاق، والشعوب التي طالتها هذه العمليات، والمناطق التي تم تهجيرها إليها. وقد تبين أن الجزء الأكبر من عمليات الترحيل كان باتجاه مناطق آشور الرئيسية في مدن آشور وكالح ونينوى ودور شاروكين، أما بقية عمليات الترحيل فكانت نحو المناطق التي شغرت من سكانها نتيجة عمليات ترحيل سابقة.
17
فالمهجرون من مملكة حماة قد أخذوا إلى آشور كما رأينا في نص صارغون الثاني أعلاه، وتم ضمهم إلى الجيش الآشوري، وكذلك سكان مملكة كركميش على ما يذكره نص آخر لصارغون، نقرأ فيه: «في السنة الخامسة لحكمي حنث بيصيري ملك كركميش بالعهد والقسم الذي أقسمه أمام الآلهة العظام، وبعث برسالة إلى ميتاكوشي ملك موكشي مليئة بالمخططات العدوانية ضد آشور. فرفعت يدي إلى إلهي آشور بالصلاة وتوجهت إليه، فجعلته يستسلم عاجلا مع عائلته، فخرجوا جميعا من كركميش ومعهم ذهبهم وفضتهم وممتلكاتهم الشخصية تقدمة لي، فرميتهم بالأصفاد، ثم أحللت في كركميش سكانا من آشور.»
18
أما أهل القبائل العربية الذين قهرهم صارغون في المناطق الشمالية من جزيرة العرب فقد تم ترحيلهم إلى أراضي السامرة التي سبقتهم إليها جماعات مغلوبة أخرى. نقرأ في نص لصارغون الثاني: «بناء على نبوءة صادقة من إلهي آشور، سرت وقهرت قبائل ثمود وأباديدي ومارسيمانو وحاييبا؛ العرب الذين يعيشون بعيدا في الصحراء، الذين لا يعرفون البحار ولا الرؤساء، ولم يأتوا بجزيتهم لأي ملك. لقد أبعدت من بقي منهم حيا وأسكنتهم في السامرة.»
19
يذكر العديد من نصوص الترحيل الآشورية أن شعوبا بأكملها قد سيقت إلى المنفى، إلا أن النصوص التي تذكر أعداد المهجرين لا تزيد عن ثلاثة وأربعين نصا من أصل مائة وستة وخمسين. ولكي نأخذ فكرة عن العدد الإجمالي للسكان، الذين طالتهم عمليات الترحيل، يكفي أن نذكر أن 13 نصا من أصل ال 46 نصا التي تذكر أرقام المهجرين يتحدث عن تهجير ما يزيد عن ال 30000 نسمة في كل عميلة، بما فيها عملية الترحيل الكبرى لسكان بابل، والتي طالت حسب الرقم الآشوري المقدم 208000 نسمة. من هنا فإن الحديث عن ملايين الناس الذين طالتهم عمليات التهجير الآشورية لا يدخل في نطاق المبالغة.
20
أما عن أهداف سياسة التهجير الآشورية فمتعددة؛ فأولا: كان التهجير بمثابة عقوبة للشعوب الثائرة، التي لم تنفع الوسائل الأخرى في إخماد ثوراتها المتلاحقة. وثانيا: كان توطين المهجرين في المناطق الجديدة، باستثناء آشور، يستهدف تغيير التركيب السكاني في المناطق المتمردة التي رحل إليها هؤلاء المهجرون، وخلخلة التجانس الإثني فيها من أجل منع حدوث ثورات محتملة فيها. وثالثا: كان قسم لا بأس به من المهجرين يوطن في مناطق خالية من السكان بهدف إحيائها اقتصاديا والاستفادة منها لصالح التاج الآشوري. أما إعادة التوطين في مناطق آشور فقد استهدفت رفد القوة العسكرية الآشورية بأفضل جنود البلاد المقهورة، والإفادة من الحرفيين المهرة لدعم الصناعات المحلية، والإفادة أيضا من الإنتلجنسيا المغلوبة في شتى وظائف القصر والإدارات العامة، وأخيرا تزويد أعمال البناء العامة باليد العاملة المسخرة.
وكما هو شأن الدعاوى الإمبريالية الحديثة، التي كانت تقدم الاستعمار للشعوب المغلوبة على أنه إنقاذ لها من حكامها ومن أوضاعها الاقتصادية المتردية، وترسم صورة للمستعمر باعتباره مصلحا وحاملا لرسالة التقدم، كذلك كان شأن الدعاوى السياسية الآشورية التي كانت تتوجه للشعوب بشعارات مشابهة. فآشور هو المنقذ لهذه الشعوب، والمنفى الذي ينتظرها هو جنة وفردوس لمن يستسلم للآلة الحربية الآشورية. ولدينا نص من سفر الملوك الثاني يتفق كل الاتفاق مع هذه النغمة الإعلامية التي نجدها في العديد من النصوص الآشورية. فعندما كان القائد الآشوري ربشاقي يحاصر أورشليم في عهد حزقيا؛ يتوجه هذا القائد إلى أهل أورشليم بخطاب تحت السور يدعوهم فيه إلى الاستسلام، الذي ستكون مكافأته ترحيلهم إلى أرض جديدة يتملك فيها كل واحد منهم حقلة طيبة تفيض خمرا وعسلا، ويأكل من كرمته وتينته الخاصة، التي زرعها بنفسه. نقرأ في سفر الملوك الثاني: «اسمعوا كلام الملك العظيم ملك آشور. هكذا يقول الملك: لا يخدعكم (ملككم) حزقيا لأنه لا يقدر أن ينقذكم من يدي ... لا تسمعوا لحزقيا، لأنه هكذا يقول ملك آشور: اعقدوا صلحا معي واخرجوا إلي، وكلوا كل واحد من جفنته، وكل واحد من تينته، واشربوا كل واحد من ماء بئره. حتى آتي وآخذكم إلى أرض كأرضكم، أرض حنطة وخمر، أرض خير وكروم، أرض زيتون وعسل. واحيوا ولا تموتوا» (الملوك الثاني، 18: 28-33).
الفصل السادس
صعود يهوذا ونهايتها السريعة
إن حملات صارغون الثاني، التي أسفرت عن إلحاق دمشق بآشور وتدمير السامرة، قد أحدثت دمارا كبيرا شمل معظم المناطق الفلسطينية. وبشكل خاص ، فقد عاث الجيش الآشوري فسادا في المدن الواقعة إلى الغرب من مرتفعات يهوذا، بينها وبين السهل الساحلي، مثل جرار ولخيش وبيت شمش (وتدعى هذه المنطقة بمنطقة شفلح، أو التلال المنخفضة)، ولم تعد الحياة الطبيعية إلى هذه المدن إلا بعد فترة طويلة من حملات صارغون. وقد انتهز ملوك أورشليم هذه الفرصة فضموا إليها المناطق الجنوبية من حبرون إلى بئر السبع، كما ضموا مدن المناطق الغربية التي كانت تنافسهم في الماضي القريب على تسويق منتجات قرى المرتفعات. وبذلك تحولت أورشليم إلى مملكة قوية في سوريا الجنوبية، بمباركة ودعم من آشور، مكافأة لها على عمالة ملوكها وعونهم لها على دمشق والسامرة وبقية الممالك الفلسطينية. وبذلك يأتي تشكل مملكة يهوذا كناتج للمد التوسعي لمدينة أورشليم، لا كناتج لمركزية تدريجية وحدت منطقة ذات مصالح اقتصادية متبادلة، كما كان الحال في تشكل دولة السامرة. فلقد تشكلت دولة السامرة قبل أكثر من قرن ونصف القرن من تشكل دولة يهوذا، وحدث ذلك نتيجة للتقارب بين القرى الزراعية الجديدة، وتشابك مصالحها، وبحثها عن بنية سياسية قادرة على إدارة اقتصاد زراعي بلغ مرحلة النضج. فقامت بينها أسرة الملك عمري الذي بنى مدينة السامرة لتكون عاصمة لإقليم صار موحدا في اقتصادياته وملامحه الإثنية العامة. أما دولة يهوذا، فقد قامت منذ البداية ككيان مصطنع لا يجمعه إلى بعضه إلا مطامح ملوك أورشليم في السيطرة التجارية والاقتصادية على مرتفعات يهوذا، وفيما بعد على الأقاليم التي دمرتها الحروب الآشورية.
1
ويبدو أن غياب كل من مملكة دمشق وإسرائيل عن الساحة قد جعل مملكة يهوذا الحارس على طرق التجارة الدولية في فلسطين وشرقي الأردن، وصارت إلى حال من القوة والثروة جعل ملوكها يفكرون جديا بالاستقلال عن آشور، وتجيير كل المكاسب لحسابهم الخاص، يشجعهم على ذلك ملوك مصر الذين أقلقهم وصول آشور إلى حدودهم الشمالية.
شهد آحاز ملك يهوذا الاستسلام الأخير لمدينة دمشق عام 732ق.م.، وحضر شخصيا إلى المدينة للقاء تغلات فلاصر هناك، والحصول على بركته لمتابعة دوره في المنطقة (الملوك الثاني، 16: 10). ثم تابع سياسة العمالة لآشور حتى شهد أيضا دمار السامرة عام 721ق.م.، واطمأن إلى استتباب الأمور في المنطقة بما يتفق ومصالحه. بعد ذلك تخلى عن جزء كبير من صلاحياته السياسية لابنه حزقيا، الذي ارتقى عرش أورشليم بعد وفاة أبيه عام 715ق.م. وسأقدم فيما يلي ثبتا بملوك يهوذا الذين تتابعوا، من آحاز إلى صدقيا آخر ملوك يهوذا، وسنوات حكمهم؛ وذلك ليتيسر للقارئ متابعة ما سيأتي من أخبار يهوذا:
آحاز
735-715ق.م.
حزقيا
729-686ق.م.
آمون
641-639ق.م.
يوشيا
639-608ق.م.
يهوأحاز
608ق.م.
يهوياقيم
608-598ق.م.
يهوياكين
598-597ق.م.
صدقيا
597-586ق.م.
حكم حزقيا مدة طويلة جدا بلغت أربعين سنة، وقد ورث عن أبيه عمالة آشور، وسار في ظل هذه السياسة فترة طويلة استطاع خلالها بناء الدولة الحقيقية ليهوذا الكبرى، التي بقيت بمنجاة من الحملات الصاعقة، التي أكملت عملية إلحاق مدن الساحل الفلستي بآشور. وقد تلقت مدينتا جت وأشدود بشكل خاص أقسى ضربات صارغون الثاني. نقرأ في نص لصارغون: «عازوري ملك أشدود امتنع عن دفع الجزية، وكتب رسائل إلى الممالك المجاورة مليئة بالمخططات العدوانية ضد آشور، فقمت بإقصائه عن العرش جزاء خيانته، وعينت أخاه الأصغر أحيميتي ملكا. ولكن سكان أشدود كرهوا حكمه ورفعوا عليهم ملكا؛ رجلا من الإغريق لا حق له بالملك. فقمت في ثورة غضبي بالتوجه إلى أشدود دون أن أكمل استعداداتي العسكرية، وبما توفر لي من جنود مخلصين. ولما سمع هذا الإغريقي باقترابي هرب وتوجه إلى مصر. حاصرت وفتحت مدن أشدود وجت، وغنمت زوجة وأولاد الملك وكنوز قصره وسكان بلاده. ثم أعدت تنظيم هذه المدن، فأحللت فيها سكانا من المناطق الشرقية التي قهرتها سابقا، وعينت عليهم حاكما من عندي، وأعلنتهم مواطنين آشوريين.»
2
في السنوات الأخيرة من حكمه، انشغل صارغون الثاني بمشكلاته الداخلية، وأوقف حملاته السورية، ثم توفي عام 705ق.م. وخلفه ابنه سنحاريب. انشغل سنحاريب في سنوات حكمه الأولى بالقضاء على عدد من الفتن والثورات في بلاد الرافدين والمناطق الشرقية، الأمر الذي أعطى حزقيا ملك يهوذا مزيدا من الإحساس بالاستقلال والإحساس بقوته الذاتية. وقد قاده هذا إلى التفكير بالتمرد على آشور، يدفعه إلى ذلك فراعنة الأسرة الحبشية في مصر. كما ساعد حزقيا على التفكير بالتمرد الحالة العامة المناهضة للحكم الآشوري في مناطق سوريا الغربية جميعها، وخصوصا مدن فينيقيا وفلسطين. وقد اعتقد جديا ولفترة بأنه في حال نجاح هذا التمرد العام، وإخفاق آشور في إخماده، فسيكون لأورشليم الدور القيادي في فلسطين، وربما استطاعت الحلول محل آشور. ولكن هذا الوضع المتوتر في فينيقيا وفلسطين قد دفع أخيرا الملك سنحاريب إلى شن حملة كبرى على المنطقة مشهورة في تاريخ الحملات الآشورية. نقرأ في سجل سنحاريب عن هذه الحملة ما يلي: «في حملتي الثالثة توجهت إلى حاتي، لولي ملك صيدون، أخذه الخوف من هيبة جلالتي، ففر وحيدا عبر البحار واختفى ذكره. أما مدنه فقد تملكها الخوف من عظمة آشور، فأخضعت مدن صيدون الكبرى وصيدون الصغرى، وبيت زتي، وساريبتو، ومحاليبا، وأوشو (صور)، وأكزيب، وعكا. مدنه الحصينة كلها قد أخضعت تحت قدمي، وأقمت على عرش صيدون المدعو توبعلو وفرضت عليه الجزية.» عند ذلك يعلن بقية ملوك الساحل وملوك شرقي الأردن ولاءهم لسنحاريب، ويرسلون إليه الجزية. أما ملك أشقلون على الساحل الفلستي فقد بقي على تمرده، فتابع سنحاريب حملته باتجاه الساحل الفلستي، فأخضع أشقلون وقبض على ملكها المدعو صدقيا وأفراد عائلته وأرسلهم أسرى إلى آشور، ثم تابع تمشيطه لمناطق الساحل قبل أن يتوجه نحو الداخل لتأديب حزقيا ملك يهوذا، الذي وصلته نجدات عسكرية من مصر. «تابعت حملتي فحاصرت بيت داجون، وبني برقة، وآزود، وهي مدن تابعة لصدقيا ملك أشقلون، ففتحتها وحملت منها الأسلاب. أما مدينة عقرون فقد قام أهلها بوضع مليكهم بادي في الأغلال وأسلموه إلى حزقيا يهوذا، الذي رماه في السجن. ولخوفه مني دعا حزقيا مصر وإثيوبيا لمساعدته، فهبوا إليه وانتظمت صفوفهم، وشحذوا أسلحتهم ضدي في سهل ألتقو. بعد استخارة نبوءة إلهي آشور، هاجمتهم وهزمتهم. وفي غمرة القتال، قمت بنفسي بأسر فرسان العربات وأمرائهم من مصريين وإثيوبيين، ثم حاصرت مدينتي ألتقو وتمنة وأخذتهما وحملت منهما الأسلاب. بعد ذلك استبحت مدينة عقرون وقتلت مسئوليها ووجهاءها الذين أجرموا، وعلقت جثثهم على الأعمدة حول المدينة، ثم أعدت ملكها بادي من أورشليم وأقمته على العرش سيدا لهم، وفرضت عليهم الجزية. أما حزقيا يهوذا، الذي خرج عن طاعتي، فقد ألقيت الحصار على 46 من مدنه وقلاعه، وعدد كبير من القرى حولها، وأخذتها جميعا مستخدما المدكات والمنجنيق، التي قربها المشاة إلى مقدمة الهجوم فأحدثوا أنفاقا وثغرات. سقت أمامي منهم الغنائم 200150 فردا من الذكور والإناث،
3
شيبة وشبانا، وأحصنة وبغالا وحميرا وجمالا، ماشية كبيرة وصغيرة لا حصر لها. أما حزقيا نفسه فقد صار حبيسا في مقره الملكي أورشليم كعصفور في قفص، فأحطته بالمتاريس والخنادق لحجز الفارين عند البوابات، والمدن التي أخذتها منه أعطيتها لملك أشدود وملك عقرون ولملك غزة، فأنقصت بذلك مساحة أراضيه، ورفعت الجزية المفروضة عليه بما يفوق الجزية السابقة كثيرا. لقد غمره الخوف من رهبة جلالتي، والقوات التي أتى بها إلى أورشليم لمعاونته اختلت صفوفها وتركته. فأرسل إلي في نينوى عاصمة ملكي ثلاثين وزنة من الذهب، و800 وزنة من الفضة، وأحجارا كريمة، وكميات من الإثمد وقطع الصخر الأحمر، ومقاعد وكراسي مزينة بالعاج. كما أرسل إلي موسيقيين من ذكور وإناث، وأرسل بناته وسراريه.»
4
لا يذكر نص سنحاريب السبب الذي دفعه لفك الحصار عن أورشليم والعودة إلى نينوى، والكاتب ينتقل مباشرة من مشهد الحصار المطبق على المدينة إلى وصول جزية حزقيا إلى سنحاريب في عاصمته. من هنا ، فإننا نرجح أن الملك الآشوري قد ارتد عن المدينة بعد أن أعلن حزقيا خضوعه المطلق وقبل الجزية المضاعفة التي فرضت عليه، فأرسلها في إثر سنحاريب إلى نينوى. ويبدو أن سنحاريب لم تعد له مصلحة في خسارة مزيد من الوقت والجنود والأموال في حصار مدينة منيعة، غدت وحيدة في أرض محروقة ومقفرة إلى أبعد الحدود، ففضل الإبقاء على أورشليم في حالة التبعية بدلا عن تدميرها. ولعل قراره هذا قد جاء بعد وصول أخبار من آشور عن محاولة انقلابية يجري التحضير لها في نينوى، لأننا نعرف فيما بعد أن سنحاريب قد لقي مصرعه على يد اثنين من أبنائه أثناء تأديته للطقوس الدينية في المعبد. ومصدر هذا الخبر هو رواية سفر الملوك الثاني (19: 27).
لم يحفل النص التوراتي بذكر أية تفصيلات عن حملة سنحاريب على فلسطين، وقارئ سفر الملوك الثاني يظن أن الملك الآشوري قد توجه من نينوى مباشرة إلى أورشليم وألقى الحصار عليها، وكأن أورشليم هي المدينة الوحيدة القائمة في مناطق غربي الفرات. كما أن قصة المواجهة بين سنحاريب وحزقيا ينقصها الكثير من العناصر المهمة التي قدمتها الرواية الآشورية؛ فصعود القوات المصرية لمساعدة حزقيا بأعداد كبيرة غير مذكور بتاتا، رغم وجود تلميح باتكاء حزقيا على مصر، وكذلك الأمر بخصوص المعركة الكبيرة في سهل ألتقو بين القوات الآشورية وقوات مصر وحزقيا، وتراجع الأخير وتحصنه في أورشليم، أما تراجع سنحاريب عن أسوار أورشليم فيعزوه محرر السفر - وكما يمكن أن نتوقع دوما - إلى معجزة من الرب، نقرأ في سفر الملوك الثاني ما يلي: «في السنة الرابعة عشرة للملك حزقيا صعد سنحاريب ملك آشور على مدن يهوذا الحصينة جميعها وأخذها، وأرسل ملك يهوذا إلى ملك آشور، إلى لخيش، يقول: قد أخطأت، ومهما جعلت علي حملته. فوضع ملك آشور على حزقيا ملك يهوذا ثلاثمائة وزنة من الفضة، وثلاثين وزنة من الذهب. فدفع حزقيا الفضة الموجودة في بيت الرب وفي خزائن بيت الملك جميعها. وفي ذلك الزمان قشر حزقيا الذهب عن أبواب الهيكل والدعائم التي كان قد غشاها حزقيا ملك يهوذا ودفعه للملك آشور» (الملوك الثاني، 18: 12-16). يبدو لنا من هذا النص أن سنحاريب قد استولى على المدن التابعة لحزقيا، ثم قبل جزية حزقيا ولم يقترب من أورشليم. ولكن محرر سفر الملوك الثاني ما يلبث أن يقدم لنا مباشرة رواية أخرى عن قيام الجيش الآشوري بحصار أورشليم. وهنا نرى سنحاريب المشغول بحصار مدينة لخيش يرسل ثلاثة من قواده على رأس جيش إلى أورشليم: «وأرسل ملك آشور ترتان وربساريس وربشاقي من لخيش إلى الملك حزقيا بجيش عظيم إلى أورشليم، فصعدوا وأتوا إلى أورشليم. ولما صعدوا جاءوا ووقفوا عند قناة البركة العليا، التي في طريق حقل القصار، ودعوا الملك فخرج إليهم إلياقيم بن حلقيا و... إلخ، فقال لهم ربشاقي: قولوا لحزقيا: هكذا يقول الملك العظيم ملك آشور: ... والآن على من اتكلت حتى عصيت علي؟ فالآن هو ذا قد اتكلت على عكاز هذه القصبة المرضوضة، على مصر التي إذا توكأ عليها أحد دخلت في كفه وثقبتها. هكذا هو فرعون ملك مصر للمتكلين عليه جميعهم ... وإذا قلتم لي: على الرب إلهنا اتكلنا ... هل بدون الرب صعدت على هذا الموضع لأخربه؟ الرب قال لي: اصعد على هذه الأرض وخربها.» ثم يعرض القائد الآشوري على أهل أورشليم الاستسلام واعدا إياهم بالسبي إلى أرض أفضل من أرضهم، مما اقتبسناه قبل قليل. ولكن النبي إشعيا يشد من عزيمة حزقيا ويحثه على المقاومة، ويعده بتأييد من الرب الذي لم يتأخر في إظهار المعجزة: «وكان في تلك الليلة أن ملاك الرب خرج وضرب من جيش آشور مائة ألف وخمسة وثمانين ألفا. ولما بكروا صباحا إذا هم جميعا جثث ميتة. فانصرف سنحاريب ملك آشور وذهب راجعا وأقام في نينوى. وفيما هو ساجد في بيت نسروخ إلهه ضربه أدرملك وشرآصر ابناه بالسيف، ونجوا إلى أرض أراراط، وملك أسرحادون ابنه عوضا عنه» (الملوك الثاني، 19: 35-37). وهكذا عادت يهوذا إلى حضن آشور بعد هذا التمرد القصير الأجل. ورغم الدمار الذي حل بأراضيها فقد قيض لها أن تعيش مستقلة قرابة قرن آخر من الزمان تحت المظلة الآشورية. ولكن تدخلها في السياسة الدولية في عصر المملكة البابلية الجديدة قد قادها إلى حتفها.
توفي حزقيا عام 686ق.م. وخلفه ابنه منسي الذي حكم أربعين عاما بعد وفاة أبيه. ويقص سفر أخبار الأيام الثاني سيرة منسي على الوجه الآتي: «كان منسي ابن اثنتي عشرة سنة حين ملك، وملك خمسة وخمسين عاما في أورشليم، وعمل الشر في عيني الرب حسب أرجاس الأمم الذين طردهم من الرب من أمام بني إسرائيل. وعاد فبنى المرتفعات التي هدمها حزقيا أبوه، وأقام مذابح للبعل، وعمل سواري وسجد لكل جند السماء وعبدها، وبنى مذابح في بيت الرب الذي قال عنه الرب: في أورشليم يكون اسمي إلى الأبد ... ووضع تمثال الشكل الذي عمله في بيت الله ... وكلم الرب منسي وشعبه فلم يصغوا، فجلب الرب عليهم رؤساء الجند الذين لملك آشور، فأخذوا منسي بخزامة وقيدوه بسلاسل نحاس، وذهبوا به إلى بابل. ولما تضايق طلب وجه الرب إلهه وتواضع جدا أمام إله آبائه وصلى إليه، فاستجاب له وسمع تضرعه ورده إلى أورشليم إلى مملكته» (أخبار الأيام الثاني، 33: 1-13). وكما نلاحظ من هذا النص، فإن القبض على منسي ملك يهوذا لم يأت نتيجة تمرد أو عصيان من قبله، ولا لتوقفه عن دفع الجزية، أو أي شيء من هذا القبيل. ولسوف نرى بعد قليل، في نص للملك أسرحادون، سبب اعتقال منسي.
في عهد أسرحادون (680-669ق.م.) شملت أراضي الإمبراطورية الآشورية مصر بكاملها، وأجزاء لا بأس بها من شمال أفريقيا. كما بسطت آشور سلطتها على جزر المتوسط وشواطئ اليونان وآسيا الصغرى، وصارت نحو أواسط القرن السابع قبل الميلاد أعظم وأوسع إمبراطورية عرفها التاريخ حتى ذلك الوقت. ولكن أسرحادون - الذي لم تقف طموحاته عند حد ولم تعرف المعقول - قد دق المسمار الأول في نعش آشور التي بدأت تنحدر نحو الهاوية، وأمضت ما تبقى لها من عمر قصير بعد وفاته، في محاولات يائسة للسيطرة على تلك الرقعة الواسعة من الأراضي التي كانت تفوق قدرتها العسكرية والإدارية في ذلك الوقت. وقد بلغ جنون العظمة بأسرحادون حدا جعله يتسلى بإهانة وتعذيب ملوك الدول التابعة، فكان يأتي بهم من بلادهم كمشرفين على أحمال مواد البناء التي ينقلونها إلى آشور لبناء قصوره الجديدة بنينوى. وقد جاء اعتقال منسي ملك يهوذا في سياق هذا التصرف المجنون لملك مهووس فقد كل منطق وصواب في تفكيره وسلوكه.
ورغم أن النص التوراتي (الذي لا يرى من أحداث العالم المحيط به إلا ما يتعلق بيهوذا ومحيطها الضيق، وعلاقات الرضا والغضب بينها وبين إلهها الذي لم يكن مهتما أيضا إلا بهذه الفئة القليلة التي رفضته عبر تاريخها) لم يذكر شيئا عن ملابسات سوق منسي أسيرا إلى آشور، وجعل وجهته بابل لأمر لا نعرفه؛ فإن نصا لأسرحادون يعطينا صورة عن الحدث، ونعرف أن منسي قد سيق مع اثني عشر ملكا من بلاد الشام، وعشرة ملوك من جزر وشواطئ المتوسط، إرضاء لنزوة الملك الآشوري، الذي أراد أن يرى بعينيه ملوك الأرض يخدمونه في عاصمته نينوى. يقول أسرحادون: «دعوت ملوك بلاد حاتي على الجهة الأخرى للنهر؛ بعلو ملك صور، ومنسي ملك يهوذا، وقوش جبري ملك آدوم، وموسوري ملك موآب، وسلبيل ملك غزة، وميتيني بعل ملك أرواد، وآبي بعل ملك شمسي مورونا، وبودويل ملك عمون، وأهي مكي ملك أشدود ... (يلي ذلك تعداد لبقية ملوك الجزر والشواطئ المتوسطية، وبينهم ملك قرطاجة وملوك من كريت وقبرص) كل هؤلاء أرسلتهم إلى نينوى مقر ملكي، وجعلتهم ينقلون إليها - تحت أقسى الظروف - مواد بناء لقصري؛ جذوعا ودعائم وألواحا من خشب الأرز والصنوبر ... إلخ.»
5
خلال ما تبقى من فترة حكم أسرحادون، وكامل فترة خليفته آشور بانيبال؛ لا يرد ذكر ليهوذا في السجلات الآشورية، ولكننا نعرف من الأخبار التوراتية تتابع ملكين على عرش يهوذا خلال هذه الفترة، هما آمون (641-639ق.م.) ويوشيا (639-609ق.م.)، وقد حكم يوشيا فترة طويلة تقدر بثلاثين سنة، شهد خلالها انهيار الإمبراطورية الآشورية وصعود الإمبراطورية الكلدانية (البابلية الجديدة). ولدينا في أخبار الملك يوشيا بسفر الملوك الثاني رواية تستحق التوقف عندها قليلا؛ لأنها تظهر أن مملكة يهوذا حتى هذه العقود القليلة التي سبقت دمارها لم تكن على الدين التوراتي، ولم يكن أهلوها وحكامها وكهنتها يعرفون شيئا عن ذلك الدين وطقوسه. فهيكل الرب كان ممتلئا بتماثيل بعل وعشتاروت وغيرهما من آلهة كنعان، وبيوت البغاء المقدس تحيط بهذا الهيكل من كل جهاته، وكهنة يهوذا جميعا يؤدون الطقوس الكنعانية على المرتفعات، التي كان سليمان قد بناها لعشتروت ولكموش ولملكوم وغيرهم من الآلهة. وقد اهتدى الملك يوشيا إلى الدين الحق هو وأهل مملكته (وفق الخبر التوراتي) بعد أن تم مصادفة اكتشاف مخطوط في بيت الرب أثناء عملية ترميمه، يحتوي على سفر الشريعة. فجاء شافان كاتب الملك إلى حلقيا الكاهن وقال إنه وجد سفر الشريعة في بيت الرب، ودفع بالمخطوط إليه ليأخذه إلى الملك. فطلب الملك منه أن يقرأه أمامه ففعل، فخاف الملك خوفا عظيما لأنه عرف أن غضب الرب قد اشتعل على يهوذا لأن آباءهم لم يسمعوا لكلام هذا السفر، ولم يعملوا وفق ما هو مكتوب عليهم. ولنتابع ما جرى بعد ذلك، في سفر الملوك الثاني، الإصحاح 23: «وأرسل الملك فجمعوا إليه كل شيوخ يهوذا وأورشليم، وصعد الملك إلى بيت الرب وجميع رجال يهوذا وكل سكان أورشليم معه، والكهنة والأنبياء وكل الشعب من الصغير إلى الكبير، وقرأ في آذانهم كل كلام الشريعة الذي وجد في بيت الرب، ووقف الملك على المنبر وقطع عهدا أمام الرب للذهاب وراء الرب وحفظ وصاياه وشهاداته وفرائضه بكل القلب وكل النفس، لإقامة كلام هذا العهد المكتوب في هذا السفر. ووقف جميع الشعب عند العهد. وأمر الملك حلقيا الكاهن العظيم وكهنة الفرقة الثانية وحراس الباب أن يخرجوا من هيكل الرب جميع الآنية المصنوعة للبعل وللسارية ولكل أجناد السماء، وأحرقها خارج أورشليم. ولاشى كهنة الأصنام الذين جعلهم ملوك يهوذا ليوقدوا على المرتفعات في مدن يهوذا وما يحيط بأورشليم، والذين يوقدون للبعل، للشمس والقمر والمنازل ولكل أجناد السماء ... وهدم بيوت المأبونين التي عند بيت الرب حيث كانت النساء ينسجن بيوتا للسارية ... والمذابح التي على سطح علية آحاز التي عملها ملوك يهوذا، والمذابح التي عملها منسي في داري بيت الرب هدمها الملك، والمرتفعات التي قبالة أورشليم التي بناها سليمان ملك إسرائيل لعشتروت رجاسة الصيدونيين، ولكموش رجاسة الموآبيين، ولملكوم كراهة بني عمون، نجسها الملك ... ليقيم كلام الشريعة المكتوب في السفر الذي وجده حلقيا الكاهن في بيت الرب ... ولكن الرب لم يرجع عن حمق غضبه العظيم؛ لأن غضبه حمي على يهوذا من أجل جميع الإغاظات التي أغاظه إياها منسي. فقال الرب: إني أنزع يهوذا أيضا من أمامي كما نزعت إسرائيل» (الملوك الثاني، 23: 1-27).
في عهد آشور بانيبال - الذي ورث عن أسرحادون عالما يموج بالفتن والاضطرابات - ظهر للعيان تفسخ الإمبراطورية الآشورية، بعد أن كانت عوامل هذا التفسخ تعمل في الخفاء خلال أكثر من قرن. ذلك أن المظهر البراق للقوة العسكرية التي لا تهزم يخفي وراءه عملية انتحار بطيء تقدم عليه المجتمعات العسكرية وهي منساقة وراء نشوة انتصاراتها المتواصلة. ولم يكن إجهاز الكلدانيين على آشور سوى ضربة أخيرة توجه إلى جثة داخل درع سميك. فبعد وفاة آشور بانيبال قام نابو بولاصر الكلداني - الذي كان قد أعلن نفسه ملكا في بابل - بالتعاون مع المملكة الميدية الفتية في إيران، وأوقعوا آشور بين فكي كماشة، فدمروا مدينة آشور عام 614ق.م.، ثم نينوى عام 612ق.م.، فتراجع الجيش الآشوري عن كامل مناطق آشور، وأقام لنفسه مقر قيادة مؤقتة في حران، قبل أن يتشتت نهائيا ويختفي ذكر آشور من التاريخ.
في ذلك الوقت صعد الفرعون نخو الثاني من مصر نحو الفرات لمساعدة آخر ملوك آشور المدعو آشور أباليط، الذي كان يحاول من مقره الجديد في حران وقف المذبحة الشاملة للشعب الآشوري. وكانت مصر قد حصلت على استقلالها عن آشور في آخر عهد آشور بانيبال، وبموافقته الضمنية على ما يبدو، فقد أقنعت التجربة الآشوريين أن احتلال مصر باستمرار كان مسألة عسكرية صعبة. ويبدو أن ملك مصر قد خشي من أن يعمل نابو بولاصر، الملك الجديد لبابل، على ضم مصر باعتبارها من أملاك آشور السابقة، ففضل المد في حياة آشور في وضعها المستضعف الجديد على القبول بإمبراطورية فتية جديدة. ولا بد أن ملك مصر قد وضع نصب عينيه أن يلعب دور آشور في مناطق سوريا الجنوبية، وبموافقة الملك الآشوري الذي سيكون أضعف من أن يحافظ على سلطته في هذه المناطق. ولكننا نعرف من الحوليات الكلدانية
6
أن نبوخذ نصر - الذي كان وليا للعهد في ذلك الوقت - قد تصدى للمصريين وهزمهم في معركتين؛ واحدة عند كركميش، والثانية قرب حماة.
لم يتعرض النص التوراتي من قريب أو بعيد لهذه الأحداث الجسام التي قادت إلى زوال آشور وصعود الإمبراطورية الكلدانية، ولكنه يذكر خبرا عن حملة نخو الثاني على الفرات وهزيمته في كركميش، وذلك بمناسبة مرور نخو بأرض فلسطين في طريقه إلى الفرات، وتصدي يوشيا ملك يهوذا له لمنعه من متابعة الحملة. وهذا الخبر مذكور في الملوك الثاني 24، وفي أخبار الأيام الثاني 35 أيضا، حيث نقرأ: «بعد كل هذا ... صعد نخو ملك مصر إلى كركميش ليحارب عند الفرات، فخرج يوشيا للقائه. فأرسل إليه رسلا يقول: ما لي ولك يا ملك يهوذا. لست عليك اليوم، بل على بيت حربي (أي: المكان الذي سأحارب فيه)، والله أمر بإسراعي. فكف عن الله الذي معي فلا يهلكك. ولم يحول يوشيا وجهه عنه بل تنكر لمقاتلته ... بل جاء ليحارب في بقعة مجدو. وأصاب الرماة الملك يوشيا فقال لعبيده: انقلوني لأني جرحت جدا. فنقله عبيده وساروا به إلى أورشليم فمات هناك» (أخبار الأيام الثاني، 35: 20-24). أما عن هزيمة نخو في كركميش فنقرأ عنها في مكان آخر هو سفر إرميا: «كلمة الرب التي صارت إلى إرميا النبي عن الأمم، عن مصر عن جيش فرعون نخو ملك مصر الذي كان على نهر الفرات في كركميش، الذي ضربه نبوخذ راصر (= نبوخذ نصر) ملك بابل في السنة الرابعة ليهوياقيم بن يوشيا ملك يهوذا» (إرميا، 46: 1-2). لا يذكر الخبر التوراتي هنا أية دوافع حدت بيوشيا إلى التصدي لحملة نخو في مجدو. ولكن الأرجح أن ملك يهوذا - الذي لم يكن يعرف الكثير عن مخططات بابل المقبلة، وعن رغبتها ومقدرتها على ملء الفراغ الآشوري في منطقته - اعتقد أن هزيمته لنخو ملك مصر سوف تفتح أمامه الباب واسعا من أجل ملء الفراغ الآشوري بنفسه والسيطرة على المنطقة.
إن اكتفاء محرري التوراة بهذه الأخبار القليلة والمبعثرة عن تلك الفترة الحافلة في تاريخ المنطقة، والتي تزامنت مع الأحداث الأخيرة التي أدت إلى دمار أورشليم وزوال يهوذا، وعزوفهم عن تقديم صورة ولو باهتة وعديمة التفاصيل عما كان يجري في ذلك الوقت؛ لا يمكن تفسيره فقط بجهلهم وعدم توفر المعلومات بين أيديهم؛ لأن بعضهم قد سمع بهذه الأخبار ممن عاصرها وشهدها، ولم يكن بحاجة إلى مصادر خارجية، بل يجب تفسيره أيضا من خلال أهداف ودوافع المحرر التوراتي، الذي كان التاريخ آخر هم من همومه، ولا يرى من قوانين وحركة هذا التاريخ إلا تطورا لجدلية العلاقة بين الشعب وربه، ولا يأبه لأي حدث لا يتقاطع مع هذه الجدلية.
مساحة كل من إسرائيل ويهوذا بعد المد التوسعي خارج المناطق الهضبية (وفق الرواية التوراتية).
تراجع نخو أمام نبوخذ نصر، وأقام في ربلة (عند مدخل البقاع الشمالي قرب حمص) التي لا تبعد كثيرا عن موقع قادش القديمة، والتي كانت الحد الشمالي لمناطق النفوذ المصرية في سوريا إبان العصر الذهبي للإمبراطورية المصرية. ومن هناك أرسل من قبض على ملك يهوذا الجديد يهوأحاز، ابن يوشيا الذي قتله نخو في مجدو لشكه في ولائه، وأرسله سجينا إلى مصر، وعين بدلا عنه يهوياقيم أخاه، وفرض عليه الجزية (الملوك الثاني، 23: 1-7). ولكن نبوخذ نصر - الذي صار الآن ملكا على بابل خلفا لأبيه - قد وضع حدا لطموحات نخو وطارده حتى حدود مصر، ثم قفل راجعا إلى يهوذا وضمن ولاءها. ولكن يهوياكين، ابن يهوياقيم، غير سياسة يهوذا باتجاه مصر مرة أخرى، فصعد عليه نبوخذ نصر وأخذه مع أفراد أسرته إلى بابل، وسبى عشرة آلاف من الجنود الأشداء والصناع المهرة، وعين بدلا عنه عمه صدقيا (الملوك الثاني، 24: 8-18). ولكن صدقيا ما لبث أن غير ولاءه أيضا وصدق وعود الفرعون بساميتك الثاني خليفة نخو، الذي صعد إلى فلسطين في جولة ديبلوماسية عمل من خلالها على تأليب الدويلات الفلسطينية ضد بابل. وزيارة بساميتك هذه غير مذكورة في التوراة، ولكننا نعرف عنها من بردية مصرية ترجع إلى عام 591ق.م.
7
ولكن وعود مصر ذهبت أدراج الرياح، وجاء نبوخذ نصر وحاصر أورشليم. ولما رأى أن الحصار سيطول ترك قسما من جيشه هناك، وذهب إلى ربلة التي كانت مقره العسكري في سوريا لبعض شئونه الإدارية أو العسكرية. ولما اشتد الحصار على أورشليم، وأدرك صدقيا الملك أنها ساقطة لا محالة استعد للهرب مع جماعة من خيرة مقاتليه. وفي هذا الوقت أحدث الجيش البابلي ثغرة في الأسوار وبدأ يشق طريقه نحو الداخل، فانتهز صدقيا الفرصة ونفذ مع جماعته هاربا، فتبعه الكلدانيون وأدركوه عند أريحا وأخذوه إلى نبوخذ نصر إلى ربلة. فقتل ملك بابل أسرة صدقيا أمامه ثم سمل عينيه وأرسله في السلاسل إلى بابل (الملوك الثاني، 25: 1-7). ثم بعث نبوخذ نصر بقائده نبوزردان إلى أورشليم لهدمها وإحراقها: «جاء نبوزردان رئيس الشرط عبد ملك بابل إلى أورشليم، وأحرق بيت الرب وبيت الملك وكل بيوت أورشليم، وكل بيوت العظماء أحرقها بالنار، وجميع أسوار أورشليم مستديرا هدمها كل جيوش الكلدانيين الذين مع رئيس الشرط، وبقية الشعب الذين بقوا في المدينة، والهاربون الذين هربوا إلى ملك بابل وبقية الجمهور، سباهم نبوزردان رئيس الشرط. ولكنه أبقى من مساكين الأرض كرامين وفلاحين ...» (الملوك الثاني، 25: 8-13).
وقد حفظت لنا سجلات نبوخذ نصر نصا مختزلا عن حملته على يهوذا، التي انتهت بإسقاط يهوياكين وتعيين صدقيا عوضا عنه. يقول النص: «في السنة السابعة، الشهر ... قاد ملك أكاد جيوشه نحو بلاد حاتي، فحاصر مدينة يهوذا (أورو-يهوذا) وفتحها في شهر آذار، وأقام عليها ملكا جديدا اختاره، وأخذ منه جزية كبيرة حملها إلى بابل.»
8
أما النص البابلي المتعلق بتدمير أورشليم فمفقود، إلا أن التنقيبات الأثرية في الموقع قد كشفت عن آثار دمار شامل في المدينة يرجع إلى أواخر القرن السادس ق.م.، وانقطاع في الاستيطان دام قرابة قرن من الزمان، كما كشفت التنقيبات عن دمار في العديد من مدن يهوذا وانقطاع أطول في الاستيطان دام قرابة قرن ونصف.
9
خاتمةأفق الخرافة وبداية
التاريخ اليهودي
(1) خلاصة ما تقدم
لقد تتبعنا في القسم الأول من هذه الدراسة إسرائيل التوراتية كما رسمتها الأسفار المسماة بالأسفار التاريخية في كتاب التوراة، وبذلنا كل جهد ممكن من أجل التحقق من الوجود التاريخي لكل مرحلة من مراحل تشكلها وتطورها، وذلك ابتداء من عصر الآباء، وانتهاء بانهيار المملكة الموحدة وانقسامها إلى مملكتين في أواخر القرن العاشر قبل الميلاد، فلم نعثر على بينة واحدة تؤكد ذلك الوجود. وعلى العكس، فإن الشواهد الجديدة التي تجمعت لدينا تنفي نفيا قاطعا أية إمكانية لظهور كيان سياسي أو إثني من أي نوع اسمه إسرائيل قبل أواسط القرن التاسع قبل الميلاد، وذلك عقب بناء مدينة السامرة التي صارت عاصمة لمنطقة الهضاب المركزية في فلسطين، فهنا يظهر لأول مرة كيان سياسي اسمه إسرائيل، وتأخذ ملامحه الإثنية بالتوضح عقب الاتجاه نحو المركزية السياسية التي بدأت تجمع تدريجيا القرى الزراعية التي نشأت حديثا في عصر الحديد الأول، والتي جاء مستوطنوها من مصادر متنوعة لا من مصدر واحد. ومرة أخرى، فإن إسرائيل-السامرة هذه لا يربطها بصورة إسرائيل-السامرة في التوراة إلا أوهى الروابط. وكذلك يهوذا التي نشأت بعدها بقرنين من الزمان. فالدولتان قد نشأتا تباعا في فلطسين بعد القرن العاشر قبل الميلاد، ولم تسبقهما مملكة واحدة كانت أصلا لهما، ولا وجود لأرضية مشتركة جمعت بينهما. وكما نشأت هاتان الدولتان تباعا فقد دمرتا تباعا أيضا، واختلفت مصائرهما التاريخية أيما اختلاف.
إن البحث عن التاريخ في النص التوراتي هو عمل أشبه بالبحث عن السمسم في كيس من البندق؛ لأن النص التوراتي ليس نصا تاريخيا بأي معيار حديث أو قديم، وهو لم يقصد لأن يكون نصا تاريخيا، إنه قصة أصول يغيب فيها الحدث المدقق المحقق لصالح العقدة القصصية. وحتى عندما تتوفر للمحرر التوراتي بعض المعلومات التاريخية عن الفترات المتأخرة من حياة مملكتي إسرائيل ويهوذا فإنه لا يضع هذه المعلومات في سياقها التاريخي الصحيح، ولا يعمد إلى فهمها من خلال الإطار العام للأحداث الجارية في المنطقة، بل من خلال المنظور الأيديولوجي اللاهوتي، الذي لا يرى في الحدث المرصود إلا نتاجا لردود الفعل المتبادلة بين الإله وشعبه. إن الأسفار المدعوة بالتاريخية هي سلسلة من المرويات الشعبية ذات الأصول المختلفة، جمعت إلى بعضها في نسيج واهي الحبكة، وترتيب زمني مفروض عليها من خارجها، سواء فيما يتعلق بأحداث القصة الواحدة، أم فيما يتعلق بالقصص المتتابعة التي ألصق بعضها إلى بعض، والتي تظهر فجوات لا يمكن عبورها بشكل منطقي. أما الزمرة الثانية الرئيسية من أسفار التوراة، وهي أسفار الأنبياء، مثل إشعيا وإرميا وحزقيال، فليست إلا مجموعات من أقوال ومأثورات حكموية قديمة، تختصر ألف عام تقريبا من التقاليد النبوئية في فلسطين والمناطق المجاورة لها. وموضوع هذه التقاليد هو إدانة السلوك العام للناس، ونقد الحكومات، والكشف عن الانحرافات والمظالم والانحطاط الخلقي والنفاق الديني في المجتمع. وقد قام المحررون التوراتيون بجمع هذه المادة الغنية القديمة، فرتبوها وصنفوها ووضعوها على لسان شخصيات نبوية متميزة قد يكون بعضها من أصل تاريخي. ثم جعلت هذه المادة تدور حول فكرة أساسية في أسفار الأنبياء جميعها، وهي أن دمار إسرائيل ويهوذا كان بمثابة عقاب إلهي على خطايا الجماهير والحكام، وتجاهلهم عبادة الإله الحق، وأن الرحمة الإلهية سوف تلحق بالتوابين العائدين من السبي البابلي إلى حظيرة الرب. ورغم احتواء أسفار الأنبياء على العديد من الأخبار المتعلقة بدولتي إسرائيل ويهوذا وأخبار فترة السبي البابلي إلا أن هذه الأخبار ترد خارج سياقاتها التاريخية، وتوظف لخدمة الرؤية اللاهوتية.
إن هم المحرر التوراتي ليس هما تاريخيا بالدرجة الأولى، بل هم تراثي، إنه يعمل على جمع وتصنيف وإعادة صياغة تركة ثقافية شعبية متعددة النشأة والأصول وخطوط التداول، ليصنع منها قصة أصول. وضمن هذا الجنس الكتابي فإن المحرر يلجأ إلى استبعاد ما حصل فعلا، هذا إذا توفرت لديه المادة الموثقة، لصالح رغبته في تصديق سلسلة ما من الأحداث، أو جعل قارئه في حالة تصديق لها. وليس الناتج الأخير لهذه العملية الشاقة فعلا والمعقدة إلا جنسا كتابيا هجينا لا يربطه بجنس الكتابة التاريخية إلا أوهى الروابط.
لقد استطعنا من خلال النقد النصي والتاريخي والأركيولوجي للأسفار التاريخية أن نظهر وبالتفصيل أن محرري التوراة في الفترات المتأخرة إبان العصر الفارسي لم يكن بين أيديهم معلومات تتعلق بتلك الفترات الموغلة في القدم التي يروون عن أحداثها، سواء أكانت هذه المعلومات متناقلة شفاها أو كتابة، وذلك من عصر الآباء إلى انهيار المملكة الموحدة. أما المصادر الكتابية - التي يدعي المحررون في بعض المواضع الاستناد إليها - فإننا غير متأكدين من وجودها أصلا، ولا من الطريقة التي عمد المحررون إلى الإفادة منها، وذلك مثل سفر ياشر وسفر موسى وغيرها.
ففيما عدا مصر - التي لم يذكر النص التوراتي اسم فرعونها في سفر التكوين وفي سفر الخروج، ولم يورد أية معلومات يمكن أن تساعد على تبين الحقبة الموازية في التاريخ المصري - فإن النص التوراتي لم يتعرض إلا للشعوب والقبائل المجاورة للمناطق الهضبية التي قامت على أراضيها فيما بعد دولتا إسرائيل ويهوذا، وذلك مثل موآب وآدوم وعمون في الشرق، وفلستيا في الغرب. وغالبا ما وردت أسماء هذه الشعوب في سياق زمني يتضمن مفارقة تاريخية واضحة. فممالك شرقي الأردن التي قهرها موسى في آخر مراحل ملحمة الخروج لم تكن موجودة في ذلك الوقت على ما يبينه المسح الأركيولوجي للمنطقة. ومنطقة الساحل الفلسطيني الجنوبي - التي يدعوها سفر الخروج بأرض الفلسطينيين (= الفلستيين) - لم تكن قد استقبلت زمن الخروج أية موجة من موجات شعوب البحر من فلستيين وغيرهم. ومن بين الممالك الفينيقية على الساحل السوري جميعها لم يرد إلا ذكر صيدون. أما بقية تلك الممالك من أوغاريت إلى صور فغائبة تماما. ومثلها تلك الممالك الكبرى التي ازدهرت من حول أولئك الإسرائيليين المفترضين عبر عصورهم. فبابل حمورابي في بلاد النهرين، وماري على الفرات الأوسط، وحلب (يمخاض) وآلالاخ في الشمال السوري، وقطنة وقادش في سوريا الوسطى؛ غائبة عن سير عصر الآباء الذين كانوا يرتحلون بين الفرات وفلسطين، وكأنما يتحركون على مسرح خال تماما إلا من القبائل الرحل وآبار المياه في الواحات. وكذلك الأمر فيما يتعلق بالممالك الحثية الجديدة في الشمال السوري، والممالك الآرامية الجديدة على الخابور والفرات وفي المناطق الغربية، التي ازدهرت منذ مطلع عصر الحديد، فجميعها غائب عن عصر يشوع وعصر القضاة، وكذلك مصر التي كانت تسيطر في ذلك الوقت على وادي يزرعيل وعدد من النقاط الاستراتيجية الأخرى. وفي عصر المملكة الموحدة لا يرد ذكر لآشور التي كان نفوذها قد تجاوز الفرات ووصل إلى مناطق الساحل، ولا للممالك الآرامية القوية التي كانت تقارع آشور على الفرات وفي الشمال السوري. وبدلا من هذه الممالك التي تجملها أخبار الملك داود تحت عنوان «آرام التي في عبر النهر»، فإن محرر سفر الملوك الأول يبتكر ممالك لم يرد لها ذكر في التاريخ، ولم تقم الدلائل الأركيولوجية على وجودها، وذلك مثل آرام صوبة ومعكة وبيت رحوب وجيشور وغيرها. وبالمقابل فإن السجلات الكتابية للحضارات القديمة جميعها لم تورد خبرا واحدا يدعم الرواية التوراتية من عصر الآباء إلى قيام أسرة الملك عمري وبناء مدينة السامرة في النصف الأول من القرن التاسع قبل الميلاد.
فمع قيام أول أسرة حاكمة في إسرائيل، وهي أسرة الملك عمري الذي بنى السامرة حوالي عام 880ق.م.، يبدأ اسم إسرائيل بالظهور في وثائق الشرق القديم، ولكن بصيغة إسرائيل-السامرة لا بصيغة دولة كل إسرائيل التوراتية. أما دولة يهوذا فلم يرد ذكرها، ولا ذكر أحد من ملوك أورشليم إلا بعد مرور قرن ونصف القرن على ورود اسم إسرائيل وأسرة عمري. فقد ورد اسم آحاز ملك يهوذا في وثائق آشور حوالي عام 732ق.م. بشكل عارض، وضمن لائحة الملوك الذين أرسلوا الجزية إلى الملك تغلات فلاصر في نينوى، وهذا أول ذكر في التاريخ لأي ملك من ملوك يهوذا أو أورشليم، الأمر الذي يقدم بينة إضافية على أن مملكة يهوذا قد نشأت بعد مملكة إسرائيل ولم تعاصرها إلا فترة قصيرة فقط. من هنا، فإن ملوك أورشليم السابقين الذين يرد ذكرهم في المرويات التوراتية على أنهم ملوك يهوذا لم يكونوا (في حال صحة الأخبار التوراتية عن أسمائهم وسنوات حكمهم) سوى أمراء محليين لمدينة أورشليم التي كانت صغيرة ومنعزلة عن الأحداث الدولية.
وتقدم نتائج علم الآثار صورة أكثر تخييبا للآمال في العثور على إسرائيل التوراتية. فالمواقع الفلسطينية جميعها في منطقتي الهضاب المركزية ومرتفعات يهوذا، وخارجهما؛ تظهر استمرارية ثقافية محلية كنعانية فيما بين عصر البرونز الأخير وعصر الحديد الثاني، ولا يوجد أي دليل أثري على حلول أقوام جديدة في هذه المنطقة جلبت إليها تقاليد ثقافية مغايرة. وقد سقطت اليوم إلى غير رجعة نظرية الاقتحام العسكري لأرض كنعان من قبل القبائل الإسرائيلية الموحدة تحت قيادة يشوع بن نون، وتدمير مدنها الرئيسية؛ لأن نتائج التنقيب الأثري في هذه المواقع تنفي الرواية التوراتية. أما عن المملكة الموحدة، فإن المسح الأركيولوجي للمناطق الهضبية - التي كانت نواة هذه المملكة - ينفي وجود قاعدة سكانية واقتصادية في هذه المناطق خلال القرن العاشر، تسمح بقيام مثل هذه المملكة. فمملكة داود وسليمان ليستا مستبعدتين تاريخيا فقط، بل إنهما مستحيلتا الوجود. ناهيك عن نتائج التنقيب الأثري في موقع أورشليم ذاتها، والذي أظهر أن مدينة أورشليم في القرن العاشر قبل الميلاد لم تكن إلا بلدة صغيرة جدا، ومن غير الممكن أن تكون هذه البلدة قد استطاعت بناء هيكل ديني يربو على مساحتها، وبناء قصور ملكية لسليمان وزوجاته، وصروحا مدنية وإدارية ضخمة. وذلك إضافة إلى عدم العثور على أي شاهد أثري على أن هذه الأبنية قد قامت في يوم من الأيام.
أما في القسم الثاني من دراستنا فقد تتبعنا اتجاهات البحث التاريخي الحديث في أصول إسرائيل، وبسطنا أمام القارئ أهم النظريات الحديثة في هذا الموضوع، فوجدنا أنه فيما عدا البقية المتعنتة من أصحاب الاتجاه المحافظ التقليدي فإن نظريات الباحثين المحدثين قد نحت جانبا الرواية التوراتية في أصول إسرائيل، وحاول كل منها على طريقته البحث عما حدث فعلا خلال الفترة الانتقالية من عصر البرونز الأخير إلى عصر الحديد وأدى إلى نشوء إسرائيل. ثم انتقلنا اعتمادا على النتائج الميدانية للمسح الأركيولوجي الشامل لمنطقتي الهضاب المركزية ومرتفعات يهوذا إلى رسم الصورة الأكثر قربا إلى الحقيقة التاريخية لتشكل مملكة إسرائيل التاريخية ومملكة يهوذا، ووجدنا أن هاتين الدولتين قد نشأتا على الخلفية الثقافية العامة لعصر البرونز الأخير في فلسطين في حقبتين متباعدتين وشروط مختلفة. فبينما اكتملت القاعدة السكانية والاقتصادية لقيام إسرائيل في أوائل القرن التاسع قبل الميلاد، فإن القاعدة السكانية والاقتصادية اللازمة لقيام يهوذا لم تكتمل قبل أواخر القرن الثامن قبل الميلاد. وقد جاء سكان هاتين الدولتين من مصادر فلسطينية محلية متعددة ومن المناطق الرعوية في البلاد المجاورة، إضافة إلى شرائح سكانية مقتلعة من مواطنها في حوض المتوسط. ويظهر الطابع الثقافي الكنعاني السائد في المواقع التي تم التنقيب فيها جميعها أن الشريحة السكانية المحلية لا بد وأنها كانت الغالبة على التركيب السكاني في إسرائيل ويهوذا. من هنا، فإن الروابط التي يمكن أن تكون قد جمعت بين هاتين المملكتين ليست أكثر من الروابط التي جمعت أية دولتين أخريين في منطقة فلسطين والجنوب السوري، والقاعدة المشتركة بينهما ليست إلا من ابتكار قصة الأصول التوراتية. وقد بينا أن المساحة التي شغلتها كل من إسرائيل ويهوذا لم تتعد المناطق الهضبية من فلسطين إلا في الأزمنة المتأخرة، وعلى شكل مد استعماري قصير الأجل، لم يتوصل إلى استيعاب سكان المناطق المستعمرة وضم أراضيها بشكل كامل. وإذا كان كل من إسرائيل ويهوذا قد حقق في منطقته الهضبية نوعا من الإثنية خلال الفترة القصيرة لحياته، فإن هذه الإثنية لم تصمد أمام التخريب الشامل للطابع الإثني لفلسطين نتيجة لسياسة الاقتلاع والتهجير الآشورية، ثم البابلية. ودخلت مناطق فلسطين جميعها العصر الفارسي وقد تغيرت بشكل جذري.
إضافة إلى تباين أصول إسرائيل ويهوذا، واختلاف مسار حياتهما ومصائرهما التاريخية، فإن القاعدة الدينية التي جمعت بينهما لم تكن أكثر تجانسا من القاعدة الدينية التي جمعت أية مملكتين في فلسطين وسوريا الجنوبية خلال تلك الفترة من حياتهما. لقد ابتكرت قصة الأصول التوراتية كيانا إثنيا اسمه «كل إسرائيل» منذ مرحلة الخروج من مصر، ثم ابتكرت له صيغة سياسية وجدتها في مملكة داود وسليمان. ولكي تكتمل وحدة هذا الكيان فقد سحب محررو التوراة تصوراتهم الدينية التي نضجت خلال العصر الفارسي على مراحل قصة الأصول جميعها، وجعلوا الإله الواحد المجرد الذي بشرت به أسفار الأنبياء إلها للقبائل الإسرائيلية منذ بداياتها الأولى. فهذا الإله المتأخر هو نفسه إله الآباء، وهو الذي أعطى الشريعة لموسى على جبل حوريب، وهو الذي بنى له سليمان هيكلا في أورشليم. إلا أن المحررين لم يفلحوا في ضبط الإطار الأيديولوجي الديني لتلك القصص القديمة التي بقيت تسبح في أجوائها الدينية الأصلية، وكهنوت أورشليم في العصر الفارسي الذي كان مدفوعا بهاجس لاهوتي توحيدي بتأثير المناخ الفكري السائد خلال العصر البابلي الجديد والعصر الفارسي قد أخفق في فرض رؤياه عبر تفاصيل قصة الأصول.
يطالعنا سفر إشعيا على وجه الخصوص بعدد من التصورات الجديدة حول إله واحد شمولي لم نعهدها عبر أسفار الكتاب. فنقرأ فيه على سبيل المثال: «أنا هو. أنا الأول وأنا الآخر، ويدي أسست الأرض ويميني نشرت السموات. أنا أدعوهن فيقفن معا» (48: 12-13). «هكذا قال الرب: السماء كرسيي والأرض موطئ قدمي. أين البيت الذي تبنون لي، وأين مكان راحتي، وكل هذه قد صنعتها يدي» (66: 1-2). «أنا الرب ولا إله غيري، إله بار ومخلص ليس سواي. التفتوا إلي وأخلصوا يا جميع أقاصي الأرض، لأني أنا الله وليس آخر. بذاتي أقسمت، خرج من فمي الصدق كلمة لا ترجع: أنه لي تجثو كل ركبة، يحلف كل لسان» (45: 21-23). وهذا الإله الجديد - الذي يعلن نفسه إلها للشعوب جميعها في أقاصي الأرض - لا يرضى بالذبائح، ولا تلذ له رائحة المحرقات مثل ذلك الإله القديم، بل يطلب الخير في الناس والعمل الصالح. نقرأ في عاموس: «اطلبوا الخير لا الشر لكي تحيوا ... بغضت كرهت أعيادكم، ولست ألتذ باعتكافاتكم. إني إذا قدمتم لي محرقاتكم وتقدماتكم لا أرضى، وذبائح السلامة من مسمناتكم لا ألتفت إليها. أبعد عني ضجة أغانيك، ونغمة ربابك لا أسمع. وليجر الحق كالمياه، والبر كنهر دائم» (عاموس، 55: 14). وفي هوشع نقرأ: «إني أريد رحمة لا ذبيحة، ومعرفة الله أكثر من محرقات» (هوشع، 6: 6). وفي إشعيا نقرأ أيضا: «لماذا لي كثرة ذبائحكم؟ يقول الرب. أتخمت من محرقات كباش وشحم مسمنات ... اغتسلوا، تنقوا، اعزلوا شر أفعالكم من أمام عيني» (إشعيا، 1: 11-17). وبالطبع فإن إشعيا، أو أي واحد من هؤلاء الأنبياء، سوف يصاب بالهلع إذا قرأ في الأسفار السابقة أن الله قد تناول وجبة الغداء تحت الشجرة في ضيافة إبراهيم وسارة، وأن يعقوب قد صارعه حتى طلوع الفجر عند مخاضة يبوق، وأن سبعين من شيوخ إسرائيل قد صعدوا جبل حوريب مع موسى ورأوا الله وجها لوجه، وأكلوا وشربوا هناك، إلى آخر هذه القصص التي تنتمي إلى أيديولوجيا مختلفة تماما عن أيديولوجيا أسفار الأنبياء.
وقد انتقل بنا البحث أخيرا إلى دراسة وتفسير الأحداث التي جرت في فلسطين وبلاد الشام خلال النصف الأول من الألف الأول قبل الميلاد، وألقينا الضوء على دور مملكة آرام دمشق في تلك الأحداث وعلاقاتها مع آشور وبقية دول المنطقة، ورصدنا بالتفصيل المجريات التي قادت إلى نهاية دمشق كمملكة مستقلة، وإلى دمار كل من إسرائيل ويهوذا، وذلك من خلال منهج علمي يعتمد بالدرجة الأولى على السجلات التاريخية والوثائق الكتابية، ويربط الأسباب بالنتائج دون شطط في الخيال، أو تغليب للهوى الشخصي، أو مسايرة لما يعرفه الناس على حساب ما يجب أن يعرفوه.
عند هذه النقطة، أعتقد أن السؤال الكبير الذي صرنا مطالبين بالإجابة عليه هو التالي:
إذا لم تكن إسرائيل التوراتية قد وجدت قط، وإذا لم تكن دولتا السامرة ويهوذا قد نشأتا عن المملكة الموحدة لداود وسليمان، ولم يكن لهما قاعدة مشتركة جمعتهما على أي صعيد، وإذا لم يكن للدين التوراتي أي أثر في فلسطين قبل العصر الفارسي، ولم يكن ليهود ما بعد السبي علاقات مباشرة بأهل إسرائيل ويهوذا ما قبل السبي؛ فلماذا وكيف تم خلق هذه الخرافة الكبرى؟ (2) اليهودية والنظام العالمي الجديد للإمبراطورية الفارسية
لم تكن عمليات التهجير الجماعي التي مارسها الآشوريون بمثابة عقاب للشعوب المغلوبة فقط، وإنما هدفت إلى تحقيق حالة من التوازن الإثني والسياسي في المناطق التي تم ترحيل الشعوب المسبية إليها. فكان الآشوريون، ومن بعدهم البابليون، يمنحون المهجرين في مناطقهم الجديدة أراضي خصبة، ويبسطون حماية الدولة عليهم لكي يغدو هؤلاء بمثابة ممثلين للسلطة الإمبراطورية في تلك المناطق، فيعملون على معارضة أو قمع النزعات التحررية التي يمكن أن تنشأ بين السكان ضد الحاكم. وقد لعب المهجرون هذا الدور المرسوم لهم حتى في بعض المدن الكبرى في الإمبراطورية، حيث شكلوا جيوبا اجتماعية تعمل على تهدئة القلاقل وتخفف من حدة المعارضة. وقد تابع حكام الإمبراطورية البابلية الجديدة وحكام الإمبراطورية الفارسية هذه السياسة على نطاق واسع، وحاولوا من خلال التحكم بتحركات الشعوب خلق شرائح اجتماعية مدعومة ومدربة من قبل السلطة وموالية لها، ولكن إلى الحد الذي لا يؤدي إلى خلق قوى إقليمية تخرج في النهاية عن تابعيتها للإمبراطورية.
1
وكورثة لإمبراطورية مؤسسة ومستقرة تقريبا، لم يكن على البابليين والفرس أن يدافعوا عن «حق المنتصر» على أراضي المقهورين وثرواتهم، فهؤلاء الورثة كانوا يتعاملون مع شعوب قد تم قهرها وترويضها، ولا حاجة بهم إلى إعادة توكيد السلطة عليها. من هنا فإن الإدارة الإمبراطورية الجديدة قد توجهت في سياستها إلى توكيد «حق الوراثة» لا «حق المنتصر». وتحولت أساليبها الدعائية من فرض الخوف والرعب إلى كسب الدعم والولاء للوارث الجديد. ذلك أن البنى التحتية للمقاطعات الآشورية السابقة يمكن الآن إعادة بنائها لكي تساهم في الإنعاش الاقتصادي العام للإمبراطورية، بعد أن زال الخوف تقريبا من تشكيلها تهديدا حقيقيا لأمن الحاكم. إن نصوص التهجير، أو إعادة الترتيب السكاني في الإمبراطورية البابلية أقل بكثير من النصوص الآشورية، وهي مختلفة جوهريا من حيث أدواتها الخطابية والإعلامية. ونحن هنا أمام نغمة إعلامية جديدة تهدف إلى إقناع الشعوب بقبول السيد الجديد، وما جلبه حكمه من تغييرات جذرية، والحصول على الولاء الطوعي من قبل التركيب السكاني المعقد للإمبراطورية الواسعة الأرجاء. فالسيد الجديد، كما تعيد هذه النصوص وتكرر، هو محرر الشعوب من نير الاستعباد، ومخلصهم من الحاكم البربري السابق الذي داس على كرامتهم، وشتتهم وسبى آلهتهم.
2
ورغم أن حكام الإمبراطورية الجديدة قد تابعوا عمليات السبي والتهجير الجماعي على الطريقة الآشورية، إلا أنهم قد ابتدءوا في الوقت نفسه سياسة إعادة توطين المهجرين السابقين في أراضيهم، ووضعوا النظرية الإعلامية لهذه السياسة، وهي النظرية التي تبناها حكام الإمبراطورية الفارسية بعد ذلك، وصارت عماد دعاوتهم السياسية . ولدينا أكثر من نص بابلي يؤسس لنظرية وممارسة إعادة التوطين، منها نص لنبوخذ نصر يقدم فيه نفسه كمحرر للقرى اللبنانية من القمع الأجنبي؛ فهو من أعاد السكان إلى مواطنهم، وهو الذي جمعهم ووجههم إلى أراضيهم ... إلخ.
3
وهنا يجري التأسيس لأول مرة لفكرة «العودة» كعنصر مركزي في سياسة التهجير وإعادة التوطين البابلية. وتظهر هذه الفكرة بشكل خاص في نصوص الملك نابونيد الذي يقدم نفسه فيها محررا للآلهة من الأسر، ومحرر رعاياه الذين أعاد توطينهم في أراضيهم، وباني المعابد المهجورة التي عهد بها إليه الإله مردوخ. ولعل أهم نصوص نابونيد التي تؤسس لنظرية وممارسة السياسة السكانية البابلية هو نص إعادة بناء مدينة حران، الذي يتحدث فيه عن إحياء المدينة المهجورة، وإعادة بناء معبد الإله سن فيها، وجمع السكان إليها من عدد من بقاع الإمبراطورية البابلية. نقرأ في النص: «هذه هي المعجزة التي أظهرها الإله سن. المعجزة التي لم يكن لإله آخر أن يظهر مثلها. لقد هبط سن، سيد الآلهة والإلهات في السموات العلا، نزل من عليائه إلي أنا نابونيد، ودعاني لأن أكون ملكا بعد أن تضرع إليه كل الآلهة والإلهات ليفعل ذلك. وفي منتصف الليل، جاءني في الحلم وقال لي: أعد بناء إهلهول؛ معبد سن في حران، ولسوف أسلم إلى يديك قياد البلاد جميعا ... سن يا سيد الآلهة، أنت الذي يمسك بيده قوى الإله آنو، ويستخدم كل قوى الإله إنليل، ويسيطر على قوى الإله إيا، فيجمع بذلك إليه كل القوى السماوية. أيها السيد بين الآلهة، يا ملك الملوك ويا رب الأرباب، أمرك لا يعارضه أحد، وكلمتك لا يطالها تغيير. تنفيذا لأمر إلهي أعدت بناء إهلهول معبد سن، وسقت إلى حران جماعات من بابل ومن سوريا العليا، من حدود مصر عند البحر الأعلى (المتوسط) إلى شواطئ البحر الأدنى (الخليج العربي)، وجميعهم ممن عهد بهم إلي الإله سن ملك الآلهة. وعند اكتمال المعبد أتيت إليه بالإله سن، وننجال ونسكو وسادرنونا، فأقمت صورهم على قواعد راسخة، وقربت إليهم القرابين الكثيرة. فأكملت بذلك فريضة سن؛ ملك الآلهة ورب الأرباب في السماء، أولئك الأرباب المعينين من قبله، المنفذين لأوامر الهلال المقدس الذي يعلوهم جميعا.»
4
يتخذ هذا النص مكانة هامة بين بقية نصوص الإمبراطورية البابلية الجديدة،
5
لكونه مفتاحا لفهم المنعطف الذي اتخذه مسار الأيديولوجيا الدينية في المنطقة، والذي وجد أحد تجسيداته المهمة بعد ذلك في كتاب التوراة. فنحن هنا أمام ثلاث فكر رئيسية جديدة، هي: (1) فكرة الإله الواحد. (2) فكرة إعادة بناء هيكل هذا الإله الواحد. (3) فكرة بناء مجتمع جديد يتمركز حول الهيكل وإلهه.
فالإمبراطور البابلي يعيد إلى حران المهدمة والمهجورة إلهها القديم التقليدي سن، ولكن لا كإله محلي، بل كإله شمولي أوحد يجمع إليه سلطات بقية الآلهة العظام ممن تحولوا إلى أتباع معينين في وظائفهم من قبله، يستمدون قدرتهم على الفعل من الألوهة الكلية القدرة المتجسدة في سن. وتحمل عملية إحياء عبادة الإله القديم هنا كل معاني الخلق الجديد لمعتقد وعبادة وطقوس لا تربطها بالصورة الماضية إلا أوهى الروابط. ولكن هذا المعتقد الجديد - الذي يدور حول إله قديم في صورة جديدة - يحتاج إلى مجتمع جديد يتلاحم حول الهيكل الذي قام في منطقة خلت من سكانها الذين شتتهم الأسر والنفي أو الهجرة. من هنا، فقد ساق نابونيد إلى حران جماعات من مناطق متفرقة من الإمبراطورية، بعضهم ولا شك من سكان حران السابقين، وبعضهم من المهجرين من مناطق أخرى، وأعطاهم وطنا يعملون على بنائه، وإلها شموليا هو الإله القديم لحران وقد غدا الآن ممثلا للصورة الإلهية في عالم الإمبراطورية البابلية الجديدة.
إن تقديم الإمبراطور البابلي هنا في صورة المنقذ الذي يعيد الآلهة المنفية إلى معابدها، والشعوب المهجرة إلى أراضيها، والأفكار الجديدة التي يقوم عليها هذا النص ونصوص التهجير البابلية الأخرى؛ يدلنا على أن الإدارة الإمبراطورية كانت في طريقها إلى جمع شعوب الإمبراطورية تدريجيا تحت معتقد ديني، يبحث في كل إله محلي عن صورة للإله الأوحد البابلي، الذي بدأ يتخذ اسم «إله السماء» لا بالمفهوم القديم لإله موكل بالسماء في مقابل آلهة أخرى موكلة بالأرض أو بالهواء أو بغيرها، بل بالمفهوم الشمولي الجديد لقوة السماء باعتبارها القوة الإلهية المطلقة. إلا أن عمر الإمبراطورية البابلية القصير، وسقوط بابل أخيرا بيد الفاتح الفارسي؛ قد وضع إكمال هذا المشروع بين يدي القوة الجديدة الصاعدة التي ورثت كلا من بابل وآشور لفترة طويلة قادمة.
سار الإعلام الفارسي - الذي وضع مبادئه الملك قورش عقب دخوله بابل - على نسق إعلام الإمبراطورية البابلية الجديدة. ففي نص قورش المشهور، الذي يعتبر بمثابة البيان السياسي للإمبراطورية الفارسية، يتهم الحاكم الفارسي سلفه بالظلم والاستبداد، وتسخير الرعية وتهجيرهم، وبالإساءة إلى الآلهة وتجاهل عبادتها. وهو يدعي أن الإله مردوخ الذي هجر بابل مع بقية الآلهة قد دعاه لينقذ الشعب ويعيد الأمور إلى نصابها، وأسلمه بابل التي فتحت ذراعيها لاستقباله دون مقاومة. وهو من بابل التي قصدها ملوك الجهات الأربع لتقديم ولائهم يعلن عن سياسته في إعادة بناء المدن المقدسة وهياكلها التي نقلت منها صور الآلهة، وإعادة المهجرين مع آلهتهم إلى تلك المدن التي جعلها البابليون خرابا. وعلى حد قول النص في نهايته: «لقد أرجعت إلى المدن المقدسة على الجهة الأخرى من الدجلة معابدها التي كانت خرابا لمدة طويلة، كما أعدت إليها صور الآلهة التي كانت تعيش فيها، وجمعت سكانها المنفيين وسقتهم إلى أوطانهم. وتنفيذا لأمر مردوخ الإله العظيم، فقد أعدت صور آلهة سومر وأكاد - التي جلبها نابونيد إلى بابل - سليمة إلى محاريبها السابقة، الأماكن التي تسر فؤادها.»
6
هذا البيان السياسي الفارسي - رغم أسلوبه الدعائي الموجه إلى شعوب الإمبراطورية لكسب ولائها - قد وضع بالفعل موضع التنفيذ العملي، وسارت عملية إعادة الشعوب والآلهة إلى مواطنها على قدم وساق خلال فترة حكم قورش وخلفائه، وذلك تحت شعارات «التجديد» و«إعادة البناء». إلا أن الخيال يجب ألا يذهب بنا إلى تصور الإمبراطور الفارسي في حلة المنقذ الحقيقي الذي يهب الشعوب كرامتها واستقلالها، ويسمح بعودة القوى الإقليمية إلى ما كانت عليه سابقا، ذلك أن ما هدفت إليه السياسة الفارسية هو خلق نظام إداري للإمبراطورية ذي طابع لا مركزي من حيث الشكل، يساعد على حكم المناطق الشاسعة للإمبراطورية بكفاءة عالية وبنفقات أقل، كما يساعد على فرض القوانين والشرائع الفارسية بعد إعطائها طابعا إقليميا محليا. وفي سعيها إلى خلق هذه الكيانات الإقليمية التابعة، التي تستقبل عن طيب خاطر القوانين والشرائع الفارسية التي توحدها مع جسد الإمبراطورية، فقد عملت الإدارة الفارسية على مطابقة الآلهة المحلية في المجتمعات الجديدة - التي تم خلقها أو إحياؤها في حلة جديدة - مع «إله السماء» الفارسي أهورا مزدا؛ الإله الواحد الحق الذي بشر به زرادشت قبل قرن من الزمان تقريبا. إن إمبراطورية على هذا القدر من الاتساع لا يمكن ضبطها إلا بنظام قانوني تشريعي واحد، وإله واحد تتنوع أسماؤه وتجلياته في الأقاليم، ولكنها تتحد في النهاية تحت مفهوم الإله الواحد للإمبراطورية. وهذه السياسة الفارسية لم تكن في واقع الحال إلا تطويرا لما كان الملوك البابليون قد وضعوه موضع التطبيق، ولكن لم يساعدهم الوقت على إتمامه.
7
في هذا السياق التاريخي والمناخ الفكري نستطيع فهم الأخبار التوراتية حول «إعادة بناء» هيكل الرب في أورشليم، وإحياء المجتمع القديم في المنطقة. إن «العائدين» إلى أورشليم منذ أواخر القرن السادس قبل الميلاد لم يكونوا استمرارا لأولئك المهجرين على يد نبوخذ نصر، وما بنوه في أورشليم من هيكل ومدينة لم يكن استمرارا للبنية القديمة، بل بنية جديدة تحتضن مجتمعا جديدا تم تصميمه وفق التصورات العامة السياسية والأيديولوجية للنظام العالمي الفارسي. إن قراءة تحليلية متأنية لسفر عزرا ونحميا - اللذين يقدمان لنا معظم المادة الإخبارية عن «العودة» و«إعادة البناء» - سوف تكشف لنا بقية القصة. فمع هذين السفرين نغادر تاريخ إسرائيل وندخل في تاريخ «اليهودية».
رغم أننا لا نملك وثيقة فارسية تخبر عن عودة المهجرين من يهوذا في زمن الملك قورش أو في زمن خلفائه، إلا أنه لا يوجد لدينا من الأسباب ما يدعو إلى الشك في الخطوط العامة لقصة «العودة» كما يرويها سفرا عزرا ونحميا؛ لأنها تتفق مع الإطار العام للسياسة الفارسية، وعلى الأخص بيان الملك قورش الوارد في الإصحاح الأول من سفر عزرا، الذي يسير على النهج الإعلامي الفارسي الذي عرفناه، حيث نقرأ ما يلي: «في السنة الأولى لكورش ملك فارس، عند تمام كلمة الرب بفم إرميا، نبه الرب روح كورش ملك فارس فأطلق نداء في كل مملكته وبالكتاب أيضا قائلا: هكذا قال كورش ملك فارس: جميع ممالك الأرض دفعها لي الرب إله السماء، وهو أوصاني أن أبني له بيتا في أورشليم التي في يهوذا. من منكم من كل شعبه ليكن إلهه معه ويصعد إلى أورشليم التي في يهوذا فيبني بيت الرب إله إسرائيل، هو الإله الذي في أورشليم. وكل من بقي في أحد الأماكن حيث هو متغرب، لينجده أهل مكانه بفضة وبذهب وبأمتعة، مع التبرع لبيت الرب الذي في أورشليم ... والملك كورش أخرج آنية بيت الرب التي أخرجها نبوخذ نصر من أورشليم وجعلها في بيت آلهته، أخرجها كورش ملك فارس وعدها لشيشبصر رئيس يهوذا، وهذا عددها ... والكل أصعده شيشبصر عند إصعاد السبي من بابل إلى أورشليم» (عزرا، 1: 1-11).
نلاحظ في هذا النص المطابقة التامة بين إله قورش وإله المجتمع الجديد في أورشليم، واستعمال لقب «إله السماء» لأول مرة في معرض الإشارة إلى الإله القديم يهوه الذي لبس الآن لبوسا جديدا باعتباره صورة محلية عن الإله الشمولي للإمبراطورية الفارسية. وهذا ما يظهره بكل وضوح قول قورش: «جميع ممالك الأرض دفعها لي الرب إله السماء، وهو أوصاني أن أبني له بيتا في أورشليم.» كما نلاحظ أيضا تطابق هذا النص مع إعلان الملك البابلي نابونيد الذي قال: «تنفيذا لأمر إلهي، أعدت بناء إهلهول معبد سن، وسقت إلى حران جماعات من بابل ومن سوريا العليا ... إلخ، وجميعهم ممن عهد إلي بهم الإله سن ملك الآلهة. وعند اكتمال المعبد أتيت إليه بالإله سن ... إلخ فأكملت بذلك فريضة سن ملك الآلهة ورب الأرباب في السماء.» وبشكل خاص، تظهر المطابقة بين «إله السماء» الجديد ويهوه القديم في سفر إشعيا الذي يلقب قورش بمسيح الرب: «هكذا يقول الرب لمسيحه كورش، الذي أمسكت بيمينه لأدوس أمامه أمما ... أنا أسير قدامك، والهضاب أمهد، وأعطيك ذخائر الظلمة وكنوز المخابئ، لكي تعرف أني أنا الرب إله إسرائيل. أنا الرب وليس آخر. لا إله سواي» (إشعيا، 45: 1-6). وفي الواقع، فإن كل التصورات الواردة في سفر إشعيا عن الإله الشمولي، والجديدة تماما على المناخ الديني التوراتي (وخصوصا في الإصحاحات من 40 إلى 48) تأتي في سياق المطابقة بين الإله المحلي القديم والإله الشمولي الجديد للإمبراطورية الفارسية؛ إله السماء، وهذا الإله العائد مع المسبيين ليقيم في هيكله الجديد لا يربطه بالإله القديم يهوه إلا الاسم فقط.
يقص علينا سفرا عزرا ونحميا القصة الكاملة للعودة وبناء الهيكل ثم أسوار المدينة. ونعرف أن العودة قد جاءت على عدة موجات؛ كانت أولاها بقيادة المدعو شيشبصر ابن الملك يهوياقين الملك الأسبق ليهوذا. ويبدو أن هذه الموجة قد تحركت نحو أورشليم بأعداد قليلة عقب دخول قورش إلى بابل عام 539ق.م. بوقت قصير. وقد جاء شيشبصر إلى أورشليم واليا عليها، وباشر بوضع الأساسات لبناء الهيكل، ولكنه لم يستطع متابعة المهمة (عزرا، 1: 7-11، و5: 14-16)، ثم يختفي شيشبصر من مسرح الأحداث دون تفسير ظاهر. وفي السنوات الأولى لحكم الملك داريوس (522-486ق.م.) تنطلق الموجة الثانية من العائدين، وتعدادها 42360 عدا العبيد، بقيادة الوالي الجديد على أورشليم المدعو زربابل ومعه يشوع الكاهن. وقد زودهم داريوس بمخطط لهيكل أورشليم أعد في عهد الملك قورش، وأعطى أوامره إلى عامله على مناطق غربي الفرات ليقدم لزربابل نفقة بناء الهيكل من خراج تلك المناطق، ويعطيه كل ما يحتاجه في ذلك دون تقصير أو تردد (عزرا، 6: 1-12). وهنا يبدو بوضوح تام من مضمون أمر داريوس المتضمن بناء الهيكل أن الإله الذي يقام له هذا الهيكل هو إله داريوس بالدرجة الأولى قبل أن يكون إلها للعائدين. نقرأ في خاتمة أمر داريوس ما يأتي: «وما يحتاجون إليه من الثيران والخراف والكباش محرقة لإله السماء لتعط لهم يوما بيوم، حتى لا يهدءوا عن تقريب روائح سرور لإله السماء، والصلاة لأجل حياة الملك وحياة بنيه ... والله الذي أسكن اسمه هناك يهلك كل ملك وشعب يمد يده لتغيير أو هدم بيت الله هذا الذي في أورشليم. أنا داريوس قد أمرت، فليفعل عاجلا» (عزرا، 6: 9-12).
إن اهتمام الملك داريوس ببناء الهيكل وإرسال الدفعة الثانية من العائدين لإنعاش المجتمع الأورشليمي؛ ينبغي أن يفهم من خلال عملية الإصلاح الإداري الشامل التي قادها في أنحاء الإمبراطورية جميعها، وعملية ترميم وتنشيط البنى السياسية المحلية في كل مكان، سيرا على المبادئ الأولى التي وضعها الملك قورش. وقد اكتمل بناء هيكل أورشليم في السنة السادسة لحكم داريوس (عزرا، 6: 14-15). ولكننا لا ندري بالفعل فيما إذا كان زربابل هو الذي أنهى بناء الهيكل، لأن نص سفر عزرا يتوقف عن ذكره بشكل مفاجئ وقبل إنهاء الهيكل عام 516ق.م.، كما يتوقف أيضا عن ذكر الكاهن يشوع؛ الرجل الثاني بعد زربابل. وعند تدشين الهيكل لا تظهر هاتان الشخصيتان في الاحتفال الديني الكبير الذي أقيم بهذه المناسبة.
بعد عام من انتهاء العمل في بناء هيكل أورشليم، يقوم المدعو عزرا الكاهن بقيادة الموجة الثالثة من العائدين بأمر من الملك أرتحشتا (أرتازكسريس)؛ خليفة داريوس الأول. نقرأ في سفر عزرا: «في ملك أرتحشتا ملك فارس؛ عزرا بن سرايا صعد من بابل، وهو كاتب ماهر في شريعة موسى التي أعطاها الرب إله إسرائيل. وأعطاه الملك حسب يد الرب إلهه كل سؤله. وصعد معه من بني إسرائيل والكهنة واللاويين ... إلخ، إلى أورشليم في السنة السابعة لأرتحشتا الملك ... لأن عزرا هيأ قلبه لطلب شريعة الرب والعمل بها، وليعلم إسرائيل فريضة وقضاء، وهذه صورة الرسالة التي أعطاها الملك أرتحشتا لعزرا الكاهن الكاتب، كاتب وصايا الرب وفرائضه على إسرائيل: من أرتحشتا ملك الملوك إلى عزرا الكاهن كاتب شريعة إله السماء الكامل، قد صدر مني أمر أن كل من أراد في ملكي من شعب إسرائيل وكهنته واللاويين أن يرجع إلى أورشليم معك فليرجع. من أجل أنك مرسل من قبل الملك ومشيريه السبعة لأجل السؤال عن يهوذا وأورشليم حسب شريعة الرب إلهك التي بيدك، ولحمل فضة وذهب تبرع به الملك ومشيروه لإله إسرائيل، الذي في أورشليم مسكنه ... ومني أنا أرتحشتا الملك صدر أمر إلى كل الخزنة الذين في عبر النهر أن كل ما يطلبه منكم عزرا الكاهن كاتب شريعة إله السماء فليعمل بسرعة ... كل ما أمر به إله السماء فليعمل باجتهاد لبيت إله السماء ... أما أنت يا عزرا فحسب حكمة إلهك التي بيدك ضع حكاما وقضاة يقضون لجميع الشعب الذي في عبر النهر، من جميع من يعرف شرائع إلهك، والذين لا يعرفون فعلمهم. وكل من لا يعمل شريعة إلهك وشريعة الملك فليقض عليه عاجلا إما بالموت أو بالنفي أو بغرامة المال والحبس» (عزرا، 7: 1-26).
منذ أيام الملك داريوس بدأت الإدارة الفارسية بخطة جادة تهدف إلى مركزة وتنميط البنى القانونية والاقتصادية للإمبراطورية، واعتمدت في ذلك على فرض ما يسمى «بشريعة الملك» وهي الشريعة التي تلقاها من إله السماء أهورا مزدا. وقد تم فرض هذه الشريعة في صيغ محلية تجعلها تبدو وكأنها إحياء للممارسات والتقاليد والأعراف المحلية في البلدان المختلفة، وخصوصا في تلك المجتمعات الجديدة التي تم إحياؤها بعد أن خرب الآشوريون بناها الفوقية والتحتية.
8
وهذه الشريعة هي التي أعطيت لعزرا من قبل الملك الفارسي ليعمل على تطبيقها في مقاطعة اليهودية. فلقد جاء عزرا إلى أورشليم لا كوال سياسي مثل زربابل، بل كمتفقه في «شريعة الرب» و«شريعة الملك»، على حد تعبير النص التوراتي. وبما أن عزرا، كما سوف نرى بعد قليل، قد قرأ شريعة الرب على مسامع جميع الرعية وأفهمهم إياها، ولم يقرأ شريعة الملك، فإن النتيجة الوحيدة التي يمكن الخروج بها هي أن الشريعتين ليستا في حقيقة الأمر سوى شريعة واحدة قد أرسلها الملك الفارسي بيد عزرا، من أجل تنظيم شئون المجتمع الجديد من النواحي الاعتقادية والطقسية والإدارية، بحيث تم تأييد القوانين المدنية بالأوامر والنواهي الدينية لتزويدها بسلطان ذاتي.
لقد جاء عزرا بسفر الشريعة، كما يسميه نص عزرا ونص نحميا، ومصدره البلاط الفارسي، ثم قرأ فقراته على مسامع الشعب - الذي لم يكن يعرف عنه شيئا - في احتفال عظيم، وأخذ عليهم عهدا وميثاقا بقبوله. نقرأ في نحميا: «اجتمع كل الشعب كرجل واحد إلى الساحة التي أمام باب الماء، وقالوا لعزرا الكاتب أن يأتي بسفر شريعة موسى التي أمر بها الرب إله إسرائيل. فأتى عزرا بالشريعة أمام الجماعة ... وقرأ بها من الصباح إلى نصف النهار أمام الرجال والنساء والفاهمين، وكانت آذان الشعب نحو سفر الشريعة ... وبارك الرب الإله العظيم عزرا. وأجاب جميع الشعب: آمين آمين، رافعين أيديهم، وخروا وسجدوا للرب على وجوههم إلى الأرض. ويشوع وباني ... إلخ، واللاويون أفهموا الشعب الشريعة، والشعب في أماكنهم، وقرءوا في السفر في شريعة الله ببيان، وفسروا المعنى، وأفهموهم القراءة ... وفي اليوم الثاني اجتمع رؤساء آباء جميع الشعب والكهنة واللاويون إلى عزرا الكاتب ليفهمهم كلام الشريعة» (نحميا، 8: 1-13). وبعد ذلك يعطي الشعب عهدا وميثاقا بقبولهم للشريعة أمام عزرا الكاهن الكاتب، ونحميا الإداري والسياسي الذي عينه الفرس واليا على أورشليم: «ومن أجل ذلك، نحن نقطع ميثاقا ونكتبه، ورؤساؤنا ولاويونا وكهنتنا يختمون ... والذين ختموا هم نحميا وصدقيا و... إلخ. وباقي الشعب والكهنة واللاويين وكل الذين انفصلوا من شعوب الأراضي إلى شريعة الله، ونسائهم وبنيهم وبناتهم، كل أصحاب المعرفة والفهم لصقوا بإخوتهم وعظمائهم، ودخلوا في قسم وحلف أن يسيروا في شريعة الله التي أعطيت عن يد موسى عبد الله، وأن يحفظوا ويعملوا جميع وصايا الرب سيدنا وأحكامه» (نحميا، 9: 38، و10: 1-29).
إن ما تقوله لنا هذه الفقرات السابقة من سفر نحميا هو أن عزرا هذا قد جاء إلى أورشليم بشريعة، أو بنواة شريعة، جديدة كل الجدة على المجتمع الآخذ بالتشكل في هذه المنطقة التي يعاد إحياؤها وفق السياسة العامة لترميم مقاطعات الإمبراطورية الفارسية، التي أفرغت من سكانها، وعانت من تخريب الحاكم السابق. وقد كان الشعب يستمع إلى فقرات هذا القانون لأول مرة، من هنا فقد كان على عزرا أن يشرح فقراته للكهنة واللاويين ورؤساء الشعب ليعمل هؤلاء على شرحها للبقية وإفهامهم مضمونها. وبالطبع فإن هذا الشرح وإعادة الشرح لا يمكن أن يكون موضوعه شريعة موجودة بين أيدي الشعب، تنظم أحواله الدينية والدنيوية، وترقى إلى أيام موسى. وليست تسمية هذه الشريعة في سفري عزرا ونحميا بشريعة موسى إلا لمسة تحريرية وضعها المحررون عندما ألحقوا أخبار الفترة الفارسية بالقصة التوراتية الطويلة. وفي الحقيقة فإن الميثاق الذي أخذته الجالية الجديدة في أورشليم على نفسها بقبول شريعة الله وشريعة الملك هو «العهد الأول» الذي يتم بين إله السماء الجديد في هيكل أورشليم وبين شعبه الجديد، وهو الذي أسقطه المحررون على قصة الأصول فعقدوه منذ البداية بين إبراهيم وإلهه، وجددوه مع بقية الآباء.
ورغم أن اللمسة التحريرية تجعل من هذا العهد نتاجا للرضا العام به وقبوله غير المشروط من قبل الشعب، إلا أن المضامين الأصلية للخبر واضحة كل الوضوح وتؤدي عكس ذلك، فالجالية الجديدة في أورشليم لم يكن أمامها إلا أحد خيارين؛ فإما قبول شريعة الله وشريعة الملك أو مواجهة أقسى العقوبات. وهذا ما تنص عليه آخر فقرات أمر الملك الفارسي التي تنص على أن «كل من لا يعمل شريعة إلهك وشريعة الملك فليقض عليه عاجلا إما بالموت، أو بالنفي، أو بغرامة المال والحبس» (عزرا، 7: 26). وهذا يعني أننا أمام نوع من «عقد الإذعان» المفروض من قبل السلطة الفارسية، وأن مجتمع أورشليم لم يكن أمامه سوى خيار واحد هو القبول بلائحة القوانين الجديدة التي تنظم أحواله الدينية والاجتماعية والسياسية، وفق الخطة الموضوعة لهذه المنطقة من الإمبراطورية.
لا يعطي سفر عزرا ونحميا كثيرا من التفاصيل حول مضمون الشريعة الجديدة، والفقرات القليلة المذكورة في نحميا 10 لا تشبه في صياغتها ومضمونها شريعة موسى التي فصلتها الأسفار الخمسة، إلا أننا نستطيع تخمين مصادر وموضوعات سفر الشريعة هذا. فأما الموضوعات فقد تركزت حول المعتقد الديني والطقوس المكملة له، وحول القضايا الإدارية والتنظيمية للبنية المدنية الجديدة، والأحوال الشخصية للجالية الجديدة في منطقة اليهودية، وهي أورشليم وما يحيط بها. وقد تم ربط هذه القوانين الناظمة للحياة الدنيوية للجماعات بالمعتقد الديني لإعطائها تأييدا مزدوجا. وأما مصادر سفر شريعة عزرا فمتعددة. فلدينا أولا: الأيديولوجيا الدينية الفارسية المتعلقة بإله السماء الفارسي أهورا مزدا، الذي سعى ملوك فارس لرفعه إلها أوحد للإمبراطورية عن طريق مطابقته تعسفيا مع الآلهة المحلية للمقاطعات المحكومة، وخصوصا تلك المقاطعات الداخلة في برنامج التجديد والإحياء. وثانيا: لدينا القوانين والشرائع الفارسية التي حاولت الإدارة الإمبراطورية من خلالها تنميط أساليب الإدارة والحكم في المقاطعات. وثالثا: لدينا التقاليد المحلية المتجذرة في المنطقة منذ القدم.
وبالطبع، فإن هذه النواة الأولى للشريعة - والتي صلحت في البداية لخلق الاستقرار في مجتمع أورشليم - لم تبق على حالها. والكاهن عزرا الذي يمكن أن يدعى بحق «أبا اليهودية» قد عمد فيما بعد إلى توسيع وتطوير هذه النواة بما يتلاءم مع التقاليد القديمة في المنطقة من جهة، ومع مستجدات حياة الجماعة. ثم جاء تلامذته وخلفاؤه، ممن شكلوا الآن كهنوتا رسميا راسخا في أورشليم، فتابعوا هذه المهمة، وأخذوا على عاتقهم فوق ذلك ابتكار أصول لهذه الشريعة تجعل منها تقليدا مترسخا في المنطقة لا أمرا عارضا مفروضا عليها من الخارج. وهكذا ابتدأ العمل في قصة إسرائيل التوراتية. ففي سياق عملية ابتكار تاريخ للشريعة بهدف تأصيلها وتثبيتها كان لا بد من ابتكار أحداث وشخصيات تحمل هذا التاريخ وتطوره من مرحلة إلى أخرى، فابتدأت القصة بشكلها الجنيني المتواضع ثم أخذت بالتشعب والتوسع، ونشأت على جوانب الخط الرئيسي لها قصص متفرقة متنوعة معظمها مستمد من التراث المحلي، تم اقتباسه وإدماجه في النسيج العام للرواية التوراتية.
وتكبر الخرافة وتتسع، وتستكمل حلقاتها خلال قرنين أو ثلاثة من عودة عزرا بسفر الشريعة من البلاط الفارسي، ويتم ربط تاريخ اليهودية بتاريخ ما قبل اليهودية؛ أي تاريخ إسرائيل ويهوذا. وتتابع قصة الأصول توغلها في الماضي المجهول مما سبقهما. ثم كان لا بد من إيقاف هذه العملية عند حد معين، فعمد كهنة أورشليم أخيرا إلى جمع هذه الأدبيات وإعادة صياغتها بشكل أخير وفق إطار أيديولوجي وكرونولوجي يضم التقاليد المتفرقة في كل موحد. وبذلك أنجز كتاب التوراة، وظهرت إسرائيل التوراتية ككيان ذهني وأدبي على أنقاض تاريخ السامرة ويهوذا المطمور تحت ركام الدمار الآشوري والبابلي.
إن الرواية التوراتية هي قصة أصول مبتكرة لدين جديد ومجتمع جديد، يحاول أن يثبت أقدميته وتجذره في المنطقة. وإن المحررين الذين صاغوا هذه القصة كانوا مدفوعين بهاجس تراثي لا بهاجس تاريخي. لقد جمعوا ما وصل إلى أيديهم من شذرات الأخبار القديمة، والأدب الشعبي الفلسطيني، ونتف من الأخبار عن السامرة ويهوذا، وبعض الوثائق القليلة المكتوبة، فصاغوا منها مادة قصصهم التي ضمت إلى بعضها من خلال منظور أيديولوجي فضفاض، وتسلسل زمني مليء بالفجوات والانقطاعات. وفي الحقيقة، فإن ما يبدو لأول وهلة تسلسلا زمنيا في القصص التوراتي ليس إلا إيهاما من صنع المحرر التوراتي الأخير، الذي جعل القصص ذات المنشأ المستقل تبدو وكأنها حلقات في سلسلة متتابعة. والناتج الأخير لهذه العملية هو رواية خيالية لا تتقاطع مع التاريخ الفلسطيني ولا مع تاريخ الشرق القديم في كل تفاصيلها هبوطا إلى موت الملك سليمان، ولا تتقاطع مع هذا التاريخ إلا في نقاط غامضة ومبعثرة من حياة مملكتي السامرة وإسرائيل. أما عن ذلك المنظور الأيديولوجي الذي حاول كهنوت أورشليم فرضه على روايتهم فقد بقي غريبا عن جو القصص التوراتي التي استقل كل منها برؤياه الدينية الخاصة. فإله الآباء لا يشبه إله الخروج، وهذا لا يشبه إله القضاة، وإله إشعيا غريب كل الغرابة عن كل ما سبقه من تصورات، وسفرا أيوب والجامعة لا يمكن قراءتهما بعيني إرميا، ونشيد الأنشاد لا يمكن وضعه في أي سياق ديني توراتي. وهذا يعني أننا لسنا أمام أيديولوجيا دينية متسقة، تعلن عن نفسها بالطريقة نفسها عبر أسفار الكتاب، بل أمام أيديولوجيا توفيقية لا تملك الحد الأدنى من الوحدة والانتظام.
إن إسرائيل التوراتية تظهر إلى الوجود، لأول مرة، كناتج فكري من نواتج الوضع الخاص للمجتمع الأورشليمي المصطنع في العصر الفارسي. من هنا، فإن هذه الإسرائيل لا تتمتع بوجود موضوعي خاضع لعملية الاستقصاء التاريخي، وأي مجهود يبذل في هذا الاتجاه هو مجهود لا طائل من ورائه، ذلك أن العملية التحريرية التي قادت إلى إنتاج إسرائيل التوراتية لم تكن تهدف إلى إنتاج نص أمين عن الماضي، بقدر ما هدفت إلى صياغة نص يعطي معنى للحاضر، ويرسم صورة للمستقبل. والمضمون الذي يتكشف لنا عبر أسفار الأنبياء والأسفار التاريخية ليس موجها نحو الكشف عن الماضي إلا بقدر ما يقدمه هذا الماضي من دعم وتثبيت للمؤسسة الدينية والدنيوية الناشئة. وبمعنى آخر، فإن ما يبدو في هذه الأسفار على أنه تأمل تاريخي ليس في حقيقة الأمر إلا تأملا مستقبليا يرسم صورة للمجتمع الجديد باعتباره وريثا لمجتمع قديم آل إلى اللعنة والتحلل والدمار. وهذه الصورة عن إسرائيل الجديدة هي التي تتحكم بنوع الأحداث التي يتم جمعها وتذكرها باعتبارها تاريخا.
من هنا نستطيع أن نفهم أصول الأفكار الرئيسية الموجهة للتقاليد التوراتية الرئيسية. وهذه الأفكار يمكن تلخيصها في خمسة، هي: العهد، والوعد، والغربة، والعصر الذهبي والسقوط، والتجديد.
لقد كان العهد الذي قطعه أهل أورشليم أمام عزرا الكاهن بقبول شريعة الملك وشريعة الرب بمثابة بداية للتاريخ اليهودي. كما كان في الوقت ذاته النقطة المثالية التي ابتدأ منها المحرر التوراتي بابتكار قصة الأصول. فهذا العهد بين الشعب وإلهه ليس جديدا، بل هو تجديد لعهد عتيق كان الأسلاف الأولون لهذه الجماعة الأورشليمية قد أبرموه مع إله عتيق أيضا. وكما ارتبط إبرام العهد مع ممثلي السلطة الفارسية عزرا ونحميا، مع تثبيت العائدين في أرض عودتهم (لأن كل من لا يعمل بشريعة الملك وشريعة الرب يقتل أو ينفى، وفق أمر الملك الفارسي)؛ كذلك ارتبط العهد العتيق مع إبراهيم وخلفائه بالوعد بالأرض. فالرب قد أعطى أرض كنعان لإبراهيم وذريته، وتعهد بحمايتهم مقابل عبادتهم له وحده، ثم جدد عهده مع إسحاق ويعقوب. وهذه الوعود القديمة كلها ليست إلا نموذجا بدئيا للوعد الجديد الذي يقطعه إله السماء الفارسي مع بقية يهوذا فيقودهم إلى الأرض الموعودة ذاتها. ولقد قاد إحساس القلة الباقية من يهوذا بالغربة في «أرض العودة» التي جاءوا إليها مع من رافقهم من مسبيي المناطق الأخرى؛ إلى إدخال عنصر «الغربة الدائمة» في قصتهم الطويلة عن الأصول. فالآباء المؤسسون كانوا غرباء عن أرض كنعان وفدوا إليها من بلاد الرافدين، مثلما وفد إليها من بلاد الرافدين أيضا بقية سبي يهوذا والغرباء الآخرون المشتتون في الأرض. وجماعة موسى كانت غريبة في مصر وغريبة مرة أخرى في كنعان التي دخلتها مع يشوع، وقصة استعبادهم في مصر هي نموذج بدئي لقصة سبيهم في بابل، وفرعون القديم هو نبوخذ نصر الجديد. وبذلك ترتبط الأفكار الثلاثة عن العهد والوعد والغربة ارتباطا عضويا على مستوى الرواية لا على مستوى الواقع. كما تؤسس هذه الأفكار الثلاثة بدورها لفكرة التجديد وإعادة البناء؛ فالمسبيون قد عادوا من بابل لتجديد وإعادة بناء أورشليم، مثلما عاد المستعبدون من مصر وبنوا المملكة الموحدة في كنعان. وعملية التجديد وإعادة البناء هذه لا تأخذ معناها إلا بارتباطها بفكرة العصر الذهبي والسقوط، ذلك أن العائدين قد جاءوا لتجديد ملك زال، ودولة آلت إلى الانحدار والسقوط. فقصة الأصول، والحالة هذه، يجب أن تبلغ ذروتها في العصر الذهبي لمملكة داود وسليمان، ثم تئول إلى الانحدار فالسقوط عبر المصائر القاتمة لكل من مملكتي السامرة ويهوذا. وكل ذلك يأتي وفق مخطط من الرب الذي قضى على عالم فاسد قديم لكي يقيم على أنقاضه عالما نقيا جديدا. نقرأ في سفر حزقيال إحدى المعالجات الدقيقة والواضحة لهذه الفكرة، حيث يقول الرب: «... إن أرسلت أحكامي الرديئة على أورشليم سيفا وجوعا ووحشا رديئا ووباء، لأقطع منها الإنسان والحيوان، فهو ذا بقية فيها ناجية تخرج بنين وبنات. هو ذا يخرجون إليكم فتنظرون طريقهم وأعمالهم، وتتعزون عن الشر الذي جلبته على أورشليم، عن كل ما جلبته عليها. ويعزونكم إذ ترون طريقهم وأعمالهم، فتعلمون أني لم أصنع بلا سبب كل ما صنعته فيها، يقول السيد الرب» (حزقيال، 14: 21-23).
والسؤال الأخير الذي يطرح نفسه الآن هو التالي: إذا كان المجتمع الجديد في مقاطعة اليهودية قد أنشأته بقية المسبيين من يهوذا، فلماذا بنى كهنوت أورشليم قصة الأصول حول إسرائيل، وجعلوا من هذه البقية آخر من تبقى من سلالة بني إسرائيل؟ الجواب على هذا السؤال متشعب، ولكنني أود أن أطرح مبدئيا فكرة مفادها أننا لسنا متأكدين بالفعل من أن بناة المجتمع الجديد في أورشليم هم حصرا من بقية يهوذا المسبية في بابل؛ لأن مصدرنا الوحيد عن هذه المرحلة من الرواية التوراتية هو النص التوراتي وحده. ومن المرجح أن تكون الجماعات التي سيقت إلى أورشليم قد ضمت - إلى جانب بقية سبي يهوذا - شرائح من شعوب مسبية أخرى قد فقدت ارتباطها بمواطنها الأصلية، ولا تمانع من التوجه إلى أي منطقة مستفيدة من سياسة الإنعاش وإعادة البناء. كما نرجح أن تكون الإدارة الفارسية قد ضمت إلى هؤلاء في أورشليم جماعات كانت تعيش حياة البؤس والكفاف في المناطق الفلسطينية الأخرى التي آلت إلى الخراب. وبما أن دولة إسرائيل-السامرة كانت أقوى الدويلات الفلسطينية وأكثرها شهرة، وكان إلهها الرسمي يهوه أعلى الآلهة الفلسطينية شأنا؛ فقد تم إفهام جماعات العائدين والمرحلين إلى أورشليم الجديدة بأنهم ورثة مملكة إسرائيل، وأن إله السماء الفارسي هو الآن يهوه القديم في حلته العالمية الشمولية الجديدة.
9
لقد هدفت سياسة الترحيل الآشورية إلى التخريب المنظم للبنى التحتية للمقاطعات المقهورة، وسيقت إلى مناطق آشور الشرائح المتنورة في هذه المقاطعات، واليد الفنية الماهرة والكتاب والمعلمون والكهنة والعسكريون المدربون، أي كل الشرائح التي تعطي للمجتمع هيكليته وتطلق فعاليته. وقد طالت عمليات الترحيل في كثير من الأحيان مناطق زراعية بأكملها، فتركت بوادي قاحلة لفترة طويلة لاحقة. أما المقاطعات التي تم الحفاظ على هيكليتها السياسية فقد تم استغلالها إلى أبعد الحدود، وخضعت للنهب المنظم عن طريق الجزية، وعن طريق سلب مواردها الطبيعية، ودفع إليها بجماعات مسبية غريبة لتقيم بين ظهرانيها وتفتت وحدتها الإثنية. وفيما يتعلق بفلسطين، فقد خلت بعض مناطقها من السكان تماما، وتضاءل عدد السكان في المناطق الأخرى وآلت إلى الفقر المدقع. ومنذ نهاية القرن السادس افتقدت فلسطين إلى الحد الأدنى من التلاحم الإثني واللغوي والديني والسياسي، وتوزع من تبقى من سكانها بين جماعات غير متجانسة سيقوا إليها من المناطق المغلوبة الأخرى.
وبما أننا لا نعرف عن أي مشروع فارسي آخر للإحياء في منطقة فلسطين، غير مشروع إحياء أورشليم، فإننا نرجح أن يكون الهدف منه هو تجميع تلك الجماعات المتفرقة ذات الأصول العرقية المختلفة التي بقيت خارج الأطر السياسية والاجتماعية في عالم متهدم تماما، إضافة إلى من يود العودة من بقية يهوذا المسبية في بابل؛ لصهرها في بوتقة واحدة، وإفهامها بأنها الآن وريثة إسرائيل البائدة، في عملية إحياء لمنطقة يهوذا تحت شعار تجديد المجتمع القديم. وقد قام على تنفيذ هذه السياسة ولاة من يهوذا تدربوا في البلاط الفارسي، ووصلوا فيه إلى أعلى المناصب، مثل نحميا الذي كان ساقيا للملك الفارسي وموضع ثقته يرافقه في حله وترحاله (نحميا، 2). وقد تم تجميع هذا المجتمع الجديد حول هيكل إله السماء الفارسي الجديد، بعد أن تم إفهام الجميع من خلال سفر الشريعة الذي أتى به عزرا من بابل، بأن هذا الإله هو نفسه الإله القديم يهوه إله السامرة وإله يهوذا السالفتين ، وصار الدخول في هذه العبادة الجديدة شرطا للانتماء إلى المجتمع الجديد.
ورغم أن كهنة أورشليم قد ابتدءوا منذ عزرا الكاهن بعملية تدوين تاريخ لهذه الجماعة على أنه تاريخ إسرائيل، وابتكار أصول لديانة إله السماء ضاربة في أعماق هذا التاريخ، إلا أن تسمية «اليهودي» و«اليهودية» صارت علما على دين أورشليم وعلى الأفراد المنتمين إلى المجتمع الأورشليمي، من دون «الإسرائيلي». فكل ما هو «إسرائيلي» ينتمي إلى الماضي، إلى «القصة»، وكل ما هو «يهودي» ينتمي إلى الحاضر، حاضر ذلك المجتمع الجديد الذي يحاول مستميتا أن يؤكد تلاحمه وتجانسه كشعب مختار من قبل إله السماء. لقد اختار إله السماء هذه الفئات التي تم تجميعها في منطقة أورشليم لتكون له شعبا، كما وجدت هذه الفئات وحدتها وتجانسها من خلال إحساسها بالانتماء إلى ذلك الإله وإقامة العهد معه.
وهكذا، ومع تشكيل مقاطعة اليهودية ككيان سياسي ينتمي إلى النظام العالمي الفارسي الجديد، تدخل القصة التوراتية عتبة التاريخ. من هنا يتوجب علينا أن نعيد فهم مسألة «السبي البابلي» كحادثة تاريخية من جهة، وكفكرة ملهمة في سياق القصة التوراتية من جهة أخرى، ذلك أن تقسيم تاريخ «بني إسرائيل» إلى ثلاث فترات - هي ما قبل السبي، وفترة السبي، وما بعد السبي - هو تقسيم باطل على ضوء ما تقدمنا به حتى الآن. فبنو إسرائيل ليس لهم وجود خارج مجال قصة الأصول التوراتية، وتاريخ دولتي السامرة ويهوذا قد انتهى وصار ملكا للذاكرة البشرية الجمعية بعد زوال إسرائيل عام 721ق.م. وزوال يهوذا عام 587ق.م. أما التاريخ اليهودي الذي ابتدأ مع بناء أورشليم الجديدة وهيكلها الجديد فليس استمرارا على أي صعيد للتاريخ الفلسطيني في العصر الآشوري والعصر البابلي، رغم النغمة الإعلامية الفارسية التي تحدثت بلغة «الإحياء» و«التجديد». إن ما تم «إحياؤه» في مقاطعة اليهودية لم يكن إحياء ليهوذا القديمة ولا لإسرائيل القديمة، بل خلقا من جديد لمجتمع قوامه فئات اجتماعية دخلت العصر الفارسي وقد تغيرت تغيرا تاما.
وفي الحقيقة، فإن «مسألة السبي» لم تعد بالنسبة لجماعة أورشليم الجديدة واقعة تاريخية بقدر ما غدت «فكرة» و«واقعة نفسانية» تساعد على فهم هذه الجماعة لنفسها باعتبارها البقية الناجية من «إسرائيل». فأفراد هذه الجماعة، سواء تحدروا من بقية يهوذا المسبية في بابل أم من غيرها، يستطيع واحدهم الانتماء إلى تلك الإسرائيل عن طريق تصور جذوره في المنفى البابلي، ومن خلاله صعودا نحو المجد المفقود في مملكة سليمان، ويتجاوز ذلك ليدخل كنعان مع يشوع، ثم يتطوح في الصحراء مع موسى، ويتنقل بعد ذلك مع قوافل إبراهيم وبقية الآباء المؤسسين.
إن التاريخ اليهودي ليس صفحة جديدة في تاريخ فلسطين القديم، بل تاريخ مستقل في أصوله ومساره ومصائره، ويجب أن يدرس على هذا الأساس. وبما أن دراسة التاريخ اليهودي تتطلب منهجية ومرجعية مختلفة تماما عن تاريخ فلسطين القديم، فإنه لا يدخل في منظور هذا الكتاب، كما أنه لا يدخل ضمن اهتمامي الشخصي في الوقت الحاضر.
حلب، تموز (يوليو) 1995
مراجع البحث
Cambridge Ancient History (the), University Press, London, 1975.
Albright, W. F., Yahweh and the Gods of Canaan, Anchor Books, New York, 1969.
De Vaux, R., A History of Israel, Philadelphia, 1972.
Diakonoff, I. M., Semito-Hamitic Languages, Moscow, 1965.
Gordon, C. H., The Ancient Near East, Norton, New York, 1965.
Gottwald, The Tribes of Yahweh, Maryknoll, N. Y. Orbis Books, 1975.
Kathleen Kenyon, Archaeology in the Holy Land, Methuen, London, 1985.
Kathleen Kenyon, The Bible and Recent Archaeology, Colonnades, London, 1978.
Kathleen Kenyon, Digging Up Jerusalem, Ernest Benn, London, 1974.
Kathleen Kenyon, Royal Cities of the Old Testament, Bori and Jenkins, London, 1971.
Matthiae, Paolo, Ebla, Hodder and Stoughton, London, 1980.
McNeill and Sedlar, The Ancient Near East, Oxford, 1968.
Mendenhall, The Hebrew Conquest of Palestine, Biblical Archaeologist, 25, 1962.
Moscati, S., Ancient Semitic Civilization, Elec Books, London, 1957.
Moscati, S., Comparative Grammar of the Semitic Languages, Wiesbaden, 1969.
Moscati, S., The World of the
1973.
Damascus, Eisenbrauns, Indiana, 1987.
Ancient Near Eastern Texts, Princeton, 1969.
Shanks, Hershel, Ancient Israel, Prentice Hall, New Jersey, 1988.
Schneider, Tammi, Jehu, Biblical Archaeology, November 1995.
Thompson, Thomas L., Early History of the Israelite People, Leiden, 1994.
Wright, Ernest, edt. The Bible and the Ancient Near East, Indiana, 1979.
Zertal, Adam, Israel Enters Canaan, Biblical Archaeology, September 1991. (1) للاستزادة:
Albright, W. F., The Archaeology of Palestine, London, 1949.
Albright, W. F., The Biblical Period from Abraham to Ezra, New York, 1963.
Alt, Abrecht, Essays on Old Testament History and Religion, N. Y. Doubleday, 1968.
Garbini, G., History and Ideology in Ancient Israel, London, 1988.
Hayes and Miller, edt. Israel and Judean History, Philadelphia, 1977.
Moscati, S., Comparative Grammar of the Semitic Languages, Wiesbaden, 1969.
Lemche, N. P., Early Israel, Vetus Testamentum Supplements, Leiden, 1985.
Van Seters, J., Abraham in History and Tradition, New Haven, 1975. (2) مراجع عربية:
علي أبو عساف: الآراميون، دار أماني، طرطوس، سوريا 1988.
ألفونسو آركي: الشواهد الكتابية في إيبلا، ترجمة قاسم طوير، ضمن كتاب بعنوان: إيبلا، دمشق 1984.
أنيس فريحة: أوغاريت، دار النهار، بيروت 1980.
عيد مرعي: إدريمي ملك آلالاخ، مجلة دراسات تاريخية، عدد شهر آذار، دمشق 1988.
هيرودوتس: التاريخ، ترجمة حبيب فندي بسترس، بيروت 1886.
سباتينو موسكاتي: الحضارات السامية القديمة، بيروت 1986.
Unknown page