Arab Thought in the Renaissance Era
الفكر العربي في عصر النهضة
Publisher
دار النهار للنشر بيروت
Genres
الاجتهاد التي أسندتها الشريعة للحاكم المدني. لكن من الأكيد أن سلطة الرقابة لم تكن كلها من جانب واحد. فقد وضع أكبر الفقهاء العثمانيين هذه القاعدة: على قضاة الشريعة أن يذعنوا لتوجيهات السلطان في قضاء العدل (٣).
ومع أنه كان للسلطان ولكبير وزرائه وحكامه في الولايات دواوينهم لقضاء العدل، فالقضاة الوحيدون المعترف بهم رسميًا إنما كانوا قضاة الشرع. وبالواقع، كان العثمانيون أول من أعطى المحاكم الشرعية شكلها النظامي، وأخضع موظفيها لتنظيم رسمي. فالقضاة الذين يقضون بالشرع، والمفتون الذين يفسرونه، والأساتذة الذين يدرسونه في المدارس، وحتى موظفو الجوامع، كانوا كلهم منتظمين في هيئة رسمية لها رتبها المعروفة ونظامها التدرجي.
وكانت هذه الهيئة تشكل بالفعل جزءًا جوهريًا من جهاز الحكم، إلى جانب الهيئتين العسكرية والإدارية. وكان أفرادها يقومون بالواقع بدور ضروري، كصلة معنوية، وإلى حد ما، كصلة إدارية، بين السلطان ورعاياه، خاصة في الولايات الإسلامية العربية. فبواسطتهم كان السلطان يعلن أعماله وأحكامه على الشعب، كما كان بواسطتهم وحدهم يؤثر في «الرأي العام» المسلم. إلا أن هؤلاء كانوا، هم بدورهم، الناطقين باسم الرأي العام، لا يبلغون السلطان شكاوى مختلف فئات الأهالي فحسب، بل يسمعونه أيضًا صوت ضمير أهل السنة والجماعة. وكانوا يشتركون في النشاط السياسي في العاصمة وفي عواصم الولايات، كأن يفتوا مثلًا بما يبرر خلع الحكام، إلا أنهم لم يكونوا ليسهموا في الحركات الشعبية ضد السلطان، بل كانوا موالين له، يستدرون له ولاء الشعب. أما الطرق الصوفية، فقد لعبت أحيانًا، في الولايات التركية على الأقل، دور الأقنية التي يجرى فيها الاستياء الشعبي.
وسواء كان ذلك اختيارًا أو نتيجة للقيود الضرورية التي يفرضها حكم إمبراطورية شاسعة ومتنوعة، فقد كانت وظائف السلطان
1 / 44