ووصل الأمر إلى حد ظهور «عبادة أو عقيدة للعمل»، تعزى فيها إلى العمل صفات القداسة، ويوصف بأسمى العبارات الصوفية، وفي ظل هذه النظرة الحديثة إلى العمل أصبح ينظر إلى الإنسان على أنه - قبل كل شيء - كائن يقهر الطبيعة ويشكلها كما يشكل ذاته، ويمنحها قدرات جديدة بإخضاع الطبيعة لسلطانه.
وهذا ما عبر عنه «برودون
» حين عرف العمل بأنه «امتداد الكائن بنفسه وتوسيعه لها بفضل ممارسة عمله على الطبيعة.» وعبر عن تفضيل العمل المادي على العمل العقلي بقوله: «من كانت فكرته في راحة يده كان على الأرجح إنسانا أعقل، وهو على أية حال إنسان أكمل، ممن يحمل فكرته في رأسه، ولا يستطيع التعبير عنها إلا على شكل صيغة نظرية.»
وإذن ففي بداية العصر الصناعي كانت البشرية تحلم بعهد تتحرر فيه - بفضل العمل - من خضوعها لقوى الطبيعة، وتنتصر على المظالم الاجتماعية التي تجثم فوق صدرها، وظل هذا الشعور ملازما للمفكرين فترة غير قصيرة، غير أن انتشار الآلية على نطاق واسع، وما صاحبه من ظروف أليمة لحياة العمال في العصر الصناعي الجديد، أدى إلى حلول التشاؤم تدريجيا محل التفاؤل المفرط، وإلى خيبة الآمال التي ظلت تداعب البشرية قرابة قرنين من الزمان قبل ذلك العهد؛ فقد أخذ المفكرون يدركون أن تمجيدهم المطلق للعمل كان سذاجة مفرطة، وبدءوا يرفعون أصواتا ساخطة يعلنون فيها أن الآلة التي أتت لتخفيف آلام البشر لم تؤد إلا إلى مضاعفة هذه الآلام، وأن العصر «الذهبي» المزعوم قد اتضح أنه عصر أسود «فحمي»، وبدلا من أن يصبح الإنسان - بفضل الآلة - سيد الطبيعة ومالكها، أصبح عبدا لما خلقه هو ذاته، وبالاختصار ظهرت لهم حقيقة بشعة، هي أن الآلة تنتج البؤس بدلا من الثروة والرخاء.
ولقد وجد المفكرون والشعراء - بوجه خاص - مظاهر متعددة في العصر الصناعي الجديد، تدل على أن هذا العصر قد نشر القبح وقضى على ما في العالم من جمال؛ ذلك لأن الآلات المستخدمة في مستهل العصر الصناعي كانت بالفعل آلات قبيحة؛ لأنها بدائية وناقصة ومعقدة ، ومن جهة أخرى فإن الطبقة الاجتماعية الجديدة التي أدت الثورة الصناعية إلى صعودها وتفوقها على غيرها من الطبقات كانت تفتقر إلى التهذيب وإلى حاسة الذوق والجمال، «فأغنياء الصناعة» الذين أصبحوا يحتلون قمة السلم الاجتماعي في ذلك العصر، كانوا في الأغلب أناسا غير مثقفين، تمكنوا بفضل ثروتهم أو قدرتهم على تحسين آلة معينة من أن يتفوقوا على الطبقات العليا القديمة، ولم يكن لهم من هدف سوى زيادة ثروتهم وتوسيع نطاق أعمالهم فحسب، ولا وجه للمقارنة على الإطلاق بين هؤلاء وبين أقطاب الصناعة الحاليين في البلاد الرأسمالية الكبرى؛ إذ إن بعض هؤلاء الأخيرين قد استطاع أن يكتسب بمضي الوقت نوعا من الثقافة أو الإحساس بالفن والجمال، أما في العصر الذي نتحدث عنه فلم يكن الوقت قد اتسع لهم لاكتساب شيء من هذه الصفات، بل كان هدفهم الأوحد من الحياة هو سحق المنافسين، وكان ذهنهم عاجزا عن استيعاب أي شيء يخرج عن دائرة مصالحهم وأعمالهم، كذلك كان الفارق هائلا بينهم وبين أفراد الطبقة العليا القديمة؛ طبقة الإقطاعيين الوراثيين، الذين كان لديهم من الوقت ومن الفراغ - في حياتهم ذات الإيقاع الهادئ البطيء - ما يسمح لهم بإبداء الاهتمام بكثير من الميادين الثقافية والفنية.
ولسنا في حاجة إلى الاستطراد في بيان مساوئ أحوال العمل الصناعي، من بطالة وسوء أجور وتدهور للأحوال الصحية والنفسية للعامل؛ إذ إن هذه قصة معروفة طالما تناولتها الأقلام، والذي يهمنا في هذا الصدد هو أن عددا كبيرا من المفكرين الذين هاجموا العصر الصناعي - في هذه الفترة - كانوا أناسا مخلصين ثارت نفوسهم على النزعة الآلية بعد أن بدا لهم أنها مصدر كل الشرور في ذلك العصر؛ فتلك النزعة قد أدت - في رأيهم - إلى القضاء على ما في العالم من تنوع وفردية، وأحلت محله الاطراد الممل الرتيب، وهي قد أدخلت لأول مرة عبادة الكم والضخامة العددية الخالصة، واستعاضت بها عن تقدير الكيف والقيم الكامنة للأشياء، وهي قد أدت إلى تدهور الأذواق وانخفاض مستوى الثقافة، وأخضعت الإنسان للسعي وراء الكسب، وعودته اللذات السوقية، وقضت على العمق أو البعد الباطن في حياة الإنسان، ووصل الأمر بالبعض إلى حد القول إن العامل الذي يقف أمام الآلة ليؤدي عملا رتيبا متكررا عددا لا متناهيا من المرات، تنحط إنسانيته إلى حد لا يختلف كثيرا عن حالة الرقيق في العصر اليوناني أو الروماني.
ولا شك أن رد الفعل هذا كان عنيفا إلى حد بعيد، وكان مسرفا في انتقاده للعصر الصناعي؛ إذ نسب إليه أخطاء لم يكن له دور فيها، على حين أنه نسب إلى العصور السابقة عليه مزايا مبالغا فيها إلى حد بعيد، فعصر الحرف - الذي سبق العصر الصناعي في أوروبا - كان بدوره عصر بؤس شديد، ولم يكن العامل فيه حرا على النحو الذي صوره الكتاب الرومانسيون الساخطون على الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر، كذلك صور هؤلاء الكتاب مدن العصور الوسطى على نحو مبالغ فيه، وتخيلوها بصورة أجمل بكثير من صورة المدن المزدحمة القبيحة التي نمت بسرعة في العصر الصناعي، ومع ذلك فقد كانت هذه المدن تمثل واحات صغيرة من الرخاء وسط صحراء من البؤس والفقر المدقع في الريف، الذي كانت أحوال الفلاحين فيه تقرب بالفعل من أحوال العبيد.
وإذن فمهما قيل عن مساوئ العصر الصناعي في فترته الأولى، فهو على أسوأ الفروض لم يزد من البؤس الموجود فعلا، بل لقد كان السبب الحقيقي في ذلك الشعور الواضح ببؤس العامل في تلك الفترة هو الإحساس الواعي بوجود الطبقة الدنيا من المجتمع، وبأن لهذه الطبقة مشاكلها التي ينبغي أن تعالج على نحو حاسم؛ فقبل العصر الصناعي كانت مشكلات هذه الطبقة الدنيا تتوارى تماما وراء السطح الظاهري الذي تمثله حياة الطبقات العليا في المجتمع، ولم يكن هناك بالتالي إحساس واضح بطبيعة الحياة البائسة التي تحياها الكثرة الغالبة من المجتمع، أما منذ العصر الصناعي، فقد ازداد الكتاب والأدباء وعيا بالأحوال التي تعيش فيها الطبقات الكادحة، وبدأ ظهور المثل الديمقراطية التي أتاحت لعدد متزايد من الأقلام أن تصف حقيقة الفقر الذي يعانيه العامل، وتقترح مختلف الوسائل لمكافحته، ومعنى ذلك - باختصار - أن ما زاد بالفعل لم يكن بؤس الطبقات الدنيا من المجتمع، وإنما وعي المجتمع بهذا البؤس.
ومن جهة أخرى، فقد أدرك المفكرون الأكثر تعمقا أن انتشار البؤس في العصر الصناعي لم يكن راجعا إلى الآلة ذاتها، أو إلى طبيعة العمل في صورته الصناعية الجديدة، وإنما إلى العلاقات الاجتماعية التي تتحكم في طريقة توزيع الثروة في العصر الجديد؛ فالتنظيم الاجتماعي القائم - بما فيه من استغلال واستعباد للعامل الصناعي - كان مسئولا إلى حد بعيد عن تدهور أحوال الطبقات الدنيا من المجتمع في عصر كان يمكنهم فيه الإفادة إلى حد بعيد من ذلك الشكل الثوري الجديد من أشكال الإنتاج، وأعني به الصناعة. وهكذا كانت محاولات الإصلاح تسير في طريق مزدوج - طريق فني أو تكنولوجي - يتم فيه تحسين الآلات وزيادة كفاءتها وقدرتها الإنتاجية والإقلال من تعقيدها، وطريق اجتماعي يتم فيه تغيير العلاقات الاجتماعية الاستغلالية السائدة، ويستعيد فيه العامل تدريجيا حقوقه المسلوبة.
ونستطيع أن نقول إن العصر الصناعي الحالي قد حقق الثورة الفنية أو التكنولوجية الكفيلة بالقضاء على كثير من مساوئ أحوال العمل في العصر الصناعي المتقدم، وأنه مضى شوطا بعيدا في سبيل تحقيق الثورة الاجتماعية التي تعيد إلى العامل قيمة عمله كاملة، فهل اختفت - نتيجة لذلك - مشكلات العمل؟ وهل أفلحت التطورات التكنولوجية والاجتماعية الحاضرة في إضفاء طابع إنساني على العمل، وإزالة الفوارق بين العمل الآلي أو اليدوي وبين سائر أنواع النشاط التي يشتغل بها الإنسان؟ الواقع أن المشكلة أعقد من أن يمكن الإتيان بجواب مبسط لها، ولا بد لتقدير أبعادها الحقيقية من تقديم عرض مفصل لطبيعة المشكلات الإنسانية التي يواجهها العمل في وقتنا الحالي.
Unknown page