ولنضرب لفكرتنا هذه مثلا آخر: ففي الغرب انتشرت تيارات فردية وتشاؤمية قاتمة، وظهر صدى هذه التيارات واضحا في كثير من الفلسفات والاتجاهات الفكرية، بل إن البعض يعزو انتشار الوجودية - أو على الأصح عودة إحيائها بعد أن ظهرت بوادرها في النصف الأول من القرن التاسع عشر وظلت منسية قرابة ثلاثة أرباع القرن - إلى ظروف خاصة مر بها المجتمع الغربي وفرضت عليه التشاؤم والفردية؛ فمنذ الحرب العالمية الأولى وبعد الحرب الثانية - بوجه خاص - كان واضحا أن الإنسان الغربي يسير في طريق لا نهاية له إلا الدمار الشامل، وكانت أبواب الأمل في حياة هادئة تخلو من القتل والتدمير والشعور الدائم بالخطر تكاد تكون كلها موصدة في وجهه، وكان طبيعيا أن يميل هذا الإنسان إلى فلسفة تؤكد خلو الحياة من كل معنى، وتضع بين الفرد والآخر حواجز لا تعبر إلا بوسائل مصطنعة غير مؤكدة، ولكن أيحق لنا في الشرق أن نتصور هذه الفلسفة معبرة عن أخص ما يميزنا؟ إن الإنسان في الشرق لم يصب بمثل هذا التشاؤم الذي تملك الإنسان الغربي؛ لسبب بسيط هو أنه لم يخض مثله حروبا طاحنة، ولم يشعر بأن مستقبله مهدد بالفناء، وما زال في حياة الشرق من التماسك العائلي ومن الشعور بأهمية القيم المشتركة ما يحول دون الإحساس بالتفكك، الذي يشجع على انتشار الروح الفردية، فنحن إذن لسنا ملزمين بأن نرى في هذا التيار ما يعبر عن وضع الإنسان في عالمنا الخاص.
تلك إذن أمثلة أردت أن أسوقها لكي أدلل بها على أن الإفراط في النزعة العالمية، والاعتقاد بأن المشكلات الفلسفية لا تعرف أية حواجز قومية أو محلية، هو بدوره خطأ ينبغي أن نحذر الوقوع فيه.
فباسم العالمية يعتقد البعض بأن وضع الإنسان المعاصر - في عمومه - يحتم عليه أن يخوض تجربة اللامعقول، وباسم العالمية يعتقد البعض الآخر أن موقف الإنسان في عصرنا هذا يفرض عليه الاتجاه إلى التشاؤم والانعزال والفردية المتطرفة، مع أن هذه كلها مواقف مرهونة بمجتمع يمر تطوره بمرحلة معينة، ولا يحق للمجتمعات الأخرى أن تحاكيها ما دامت تمر في تطورها بمرحلة مختلفة كل الاختلاف.
كيف تتحقق فلسفتنا القومية؟
وأخيرا فما زال هناك سؤال رئيسي لم يجد القارئ إجابة عنه بعد، وإن كان لا بد قد ألح عليه منذ بداية هذا المقال؛ فقد أوضحنا الحدود الواجبة للنزعتين القومية والعالمية في الفلسفة، وبينا الأخطاء التي يمكن أن يؤدي إليها التطرف في كل من هاتين النزعتين، ولكنا لم نتناول بعد موضوعا قد يكون هو بيت القصيد في بحث كهذا، وأعني به: كيف نستطيع أن نخلق فلسفتنا القومية ونضفي عليها صبغة عالمية؟ وبعبارة أخرى، كيف يمكننا أن نخلق فلسفة مستمدة من بيئتنا وظروفنا الخاصة، ونضمن في الوقت ذاته احترام العالم وتقديره لنا؟
إذا كان المقصود من «الفلسفة» في هذه الحالة هو «طريق الحياة» أو «الاتجاه العام للمجتمع» فأحسب أن هذا موضوع يتجاوز نطاق مقال كهذا.
أما إذا كان المقصود هو الفلسفة بمعناها الضيق - أي بمعنى المذهب الفلسفي المتخصص - فإن الإجابة المقنعة عن هذا السؤال تقتضي - مرة أخرى - استقراء بعض أمثلة التاريخ؛ ففي إنجلترا ظهرت منذ القرن السابع عشر - وربما قبل ذلك - فلسفة محددة المعالم تستطيع أن تدرك معالمها وخصائصها المميزة بوضوح كامل حتى يومنا هذا، فهي فلسفة تجريبية لا تفرق كثيرا في مشكلات ما بعد الطبيعة، وتتخذ من التحقيق الفعلي معيارا لصحة كل حكم يصدره العقل، وفي فرنسا ظهرت في الوقت نفسه تقريبا فلسفة أخرى لا بد من الاعتراف بأن لها طابعا قوميا مميزا؛ إذ إنها تعتمد على الوضوح الفكري وعلى ما أسماه باسكال بروح اللطف أو الدقة، أي على الإحساس المرهف بالفوارق الدقيقة للمعاني والأفكار، وفي ألمانيا ظهرت منذ القرن الثامن عشر فلسفة ذات نزعة مثالية متصلة، يحس فيها المرء بأن طريقة استجابة الفلاسفة المختلفين للمشكلات كانت متشابهة أو متكاملة، ومع ذلك فكيف اتخذت هذه الفلسفات طابعها القومي هذا؟ هل قام هؤلاء الفلاسفة بتحليل للخصائص القومية لبلادهم، ثم شيدوا فلسفة تتلاءم مع هذه الخصائص؟ لا شك أن شيئا من هذا لم يحدث، فما الذي حدث إذن حتى ظهرت هذه الفلسفات؟
من المؤكد أن الفلسفة القومية لا تتعمد أن تكون قومية، ولا يسعى الفيلسوف إلى الكشف أولا عن الخصائص القومية لبلاده لكي يبني مذهبا فلسفيا منطبقا عليها، وإنما يمارس الفيلسوف تفكيره، وتأتي أجيال تالية من الشراح تكشف خصائص مشتركة بينه وبين غيره من بني وطنه، فتكون تلك الخصائص هي الروح القومية في الفلسفة، ومعنى ذلك أن المرحلة الأولى هي التفلسف - أعني ممارسة الفكر على أوسع نطاق ممكن - وهي مرحلة لا نستطيع أن نقول إننا قد سرنا فيها بعد بما فيه الكفاية؛ فقبل أن تكون هناك «فلسفة قومية» ينبغي أن تكون هناك «فلسفة» أولا، ولا معنى لأن نؤكد ونلح - ونحن ما زلنا في أولى المراحل - على ضرورة صبغ فلسفتنا بالطابع القومي؛ لأننا لو عرفنا كيف نمارس الفكر الفلسفي ممارسة سليمة عميقة، فلا بد أن يصطبغ هذا الفكر من تلقاء ذاته بالصبغة القومية.
وإذن فلنحرص أولا على التفلسف ذاته؛ لنؤلف ونكتب ونشرح، ثم نتعمق ونسير في اتجاهات فكرية خاصة، وسوف تتضح حتما سماتنا القومية في أفكارنا، وسيكشفها غيرنا باستقراء مختلف أعمالنا، كما كشفت سمات الفلسفات القومية الإنجليزية والفرنسية والألمانية من قبل، أما أن تعلو الأصوات هاتفة بإلحاح: لنضع فلسفة قومية! فما أظن أن هذا أفضل السبل إلى بلوغ الهدف الذي نريد.
الفلسفة والتخصص العلمي1
Unknown page