الحرية حالة أم عملية؟
ولست أود أن أطيل الحديث عن ذلك النوع الآخر من القيم الذي يتمسك به التقدميون والرجعيون في آن واحد، ولكنهم يختلفون أساسا في تحديد معانيه، وهو النوع الذي وعدت القارئ في بداية المقال بالحديث عنه؛ فلدينا لهذا النوع أنموذج واحد عظيم الأهمية، تغنينا معالجته عن الكلام في القيم الأخرى المنتمية إلى هذه الفئة، ذلك الأنموذج الواحد هو قيمة الحرية.
ففكرة الحرية تكون جزءا أساسيا من مجموعة القيم التي لا يستطيع الإنسان الاستغناء عنها، وإن يكن فهمه لها يختلف من النقيض إلى النقيض تبعا لفلسفته العامة في الحياة، وهكذا يدعو أنصار التخلف وأنصار التقدم معا إلى الحرية، ويعدونها قيمة رئيسية تتوج حياة الإنسان المعنوية، ولكن الاختلاف بينهما في تفسير معناها يصل إلى حد التضاد التام، بحيث لا يعود هناك عنصر مشترك بين هذه الحرية وتلك سوى اللفظ فحسب.
ولقد أسهب المفكرون في إيضاح مفهومي الحرية عند أنصار التقدم والتخلف إلى حد لا يعود من الممكن معه إضافة أية فكرة جديدة إلى هذا الموضوع في مثل هذا الحيز الضيق، ومع ذلك فربما كان من المفيد أن نقدم إلى القارئ صيغة موجزة تعبر بدقة عن التضاد بين النظرة التقدمية والنظرة الرجعية إلى قيمة الحرية، هذه الصيغة هي أن الحرية في التفكير الرجعي «حالة»، وفي التفكير التقدمي «عملية»؛ فعندما يتحدث الداعون إلى قيم التخلف عن الحرية، يعنون بذلك حالة معينة يتصف بها الإنسان، ويدور كل الخلاف الميتافيزيقي بين أنصار الحرية وأنصار القهر أو الجبرية حول السؤال الآتي : هل هذه الحالة أم عكسها هي التي تلازم الإنسان؟ أعني هل يعد الإنسان بحكم تركيبه وتكوينه كائنا حرا أم مجبرا؟ مثل هذا السؤال لا يحتمل إجابة وسطا، وإنما هو يقرر أحد الأمرين على نحو مطلق، فإما أن تكون للإنسان حرية كاملة أو لا تكون له حرية على الإطلاق، أما الداعون إلى قيم التقدم فإنهم يتحدثون عن الحرية على أنها عملية نامية متطورة، تسير مع تاريخ الإنسان بالتدريج ولا يمكن أن تقف عند حد أو تكتسب كاملة، وهكذا تتمشى النظرة «السكونية» إلى الحرية - عند أنصار القيم المتخلفة - مع موقفهم العام في الدفاع عن الثبات والأزلية وإنكار حقيقة التغير، على حين أن المفهوم «الحركي» للحرية عند أنصار القيم المتطورة يتلاءم تماما مع فكرة التغير والتقدم التي وصفناها من قبل بأنها جزء أساسي من البناء التقدمي للقيم، بل إن التقدم في معناه الحقيقي إنما هو نفس العملية التي تنمو بها الحرية، وتتحقق بها سيطرة الإنسان على الكون وتنميته لمواهبه وقدراته، وبهذا المعنى تكون الحرية عملية مستمرة، لا تعرف حدا نهائيا تتوقف عنده، وتظل تنمو طوال تاريخ الإنسان؛ ففي كل اختراع جديد - من العجلة الخشبية إلى الصاروخ الموجه - مزيد من الحرية، وفي كل مرض يقهره الإنسان مزيد من الحرية، وفي كل عائق طبيعي يتغلب عليه الإنسان مزيد من الحرية، وبالاختصار فإن الإنسان لا «يكون» حرا، وإنما «يصبح» حرا على قدر ما يبذل من الجهد وما يحقق من التقدم.
هذه بعض القيم الفلسفية الرئيسية في مفاهيمها التقدمية والرجعية، ومن الواضح أن الاختلاف في هذه المفاهيم ليس مجرد خلاف نظري أو فلسفي، وإنما هو خلاف في النظرة الكاملة إلى العالم، وفي الطريقة التي يحكم بها الإنسان على حاضره ومستقبله، والسؤال الذي يجب أن نوجهه لأنفسنا في هذه المرحلة من تاريخنا هو: إلى أي حد استطاعت أذهاننا أن تتخلى عن قيم التخلف وتتحول إلى قيم التقدم؟ وإلى أي حد أمكنها أن تجعل من هذه القيم الأخيرة، لا مجرد أقوال تسرد بل أسلوبا كاملا في الحياة؟
الفكر الاشتراكي والتحدي المعاصر1
في رأيي أن ضرورة التجديد كامنة في صميم الفكر الاشتراكي ذاته؛ فهناك على الأقل مبدآن رئيسيان في هذا الفكر، يحتمان القيام بمراجعة دائمة لأصول النظرية الاشتراكية:
أول هذين المبدأين:
أن كل نظرية إنما هي انعكاس لواقع معين وتعبير عنه، وأنها ليست بناء فكريا يرتكز على فراغ، بل إن جذورها تتغلغل دائما في الواقع الذي نبتت منه.
وثانيهما:
Unknown page