إن المستقبل يحمل في طياته للجنس البشري نوعا من الحياة يمكنه أن يستبدل فيه بأعضائه الطبيعية التالفة أعضاء أخرى صناعية أفضل وأكفأ، وأن يكتسب القدرة على استئصال الأمراض كلها، فإذا تحقق ذلك، فما الذي يمنع من تصور إنسان يعيش في المتوسط مائتي عام ثم خمسمائة عام؟ وما الذي يمنع من محاولة قهر الموت؟
ولنتأمل الأمر من زاوية أخرى: إن جاذبية القمر سدس جاذبية الأرض، والجهد الذي يتحمله قلب الإنسان على سطح الأرض يستطيع أن يتحمل ستة أضعافه على سطح القمر، وهذا وحده كاف - حتى بدون التقدم الطبي - لكي نتصور إنسانية تحقق لنفسها - في السماء - حياة أخرى أبقى من الحياة الأرضية، وستكون هناك علاقة متبادلة بين طول عمر الإنسان وبين استكشافه لأبعاد الكون الفسيح؛ إذ إن الحياة في الفضاء بلا جاذبية أو بجاذبية قليلة، ستؤثر هي ذاتها في إطالة عمر الإنسان، واستكشاف الكواكب ثم النجوم البعيدة يحتاج من جهة أخرى إلى إنسان يعيش مئات السنين حتى يقطع الرحلة الطويلة، ولنتخيل ماذا يستطيع مثل هذا الإنسان - سواء على الأرض أو في الفضاء الفسيح - أن ينجزه خلال حياته الطويلة، لقد أنجز الإنسان في جيلنا الحاضر كشوفا مذهلة في ميدان الفضاء في مدى اثني عشر عاما فقط، ومعدل التقدم العلمي في ازدياد مستمر، فما ننجزه الآن في خمسين عاما سينجزه الإنسان في نهاية القرن في عشرة أعوام، وربما أنجزه في القرن التالي في عامين أو ثلاثة، وهلم جرا، فإذا أضفنا إلى ذلك زيادة كبيرة في عمر الإنسان، ومزيدا من الخبرات لكل جيل على حدة (إذا ظل هناك معنى لكلمة «جيل» في المستقبل) فهل يستطيع الخيال عندئذ أن يحيط بما يمكن إنجازه؟
إن تطورات مذهلة تنتظر الإنسان، وما نشاهده اليوم ليس إلا أول البدايات، فما زال تاريخ البشر حتى الآن «أرضيا»، ولكن بوادر التاريخ «السماوي» قد بدأت تظهر، والمهم أن تظل البشرية حية، وتلقي جانبا بتلك الألعاب الخطرة السخيفة المسماة بالأسلحة النووية وبالأسلحة الكيميائية والبكتريولوجية، وعندئذ نستطيع أن نتساءل: إذا كانت الإنسانية قد انتقلت من عصر الخيل إلى عصر الصواريخ والقمر في مائة عام، فما الذي ستكون عليه أحوالها لو عاشت ألف عام أخرى؟
لنسرح بخيالنا كما نشاء، فسوف تظل عقولنا الحالية - مهما أسرفت في التخيل - عاجزة عن إدراك لمحة واحدة من أبعاد هذا الأفق الفسيح.
الباب الثاني
نقد القيم الاجتماعية
القيم الإنسانية بين الحركة والجمود1
في كل عصر من عصور التحول الكبرى تتكرر من جديد قصة «دون كيخوته»، فتجد في ذلك العصر نفوسا تدافع بحرارة وإخلاص عن قيم تجاوزها ركب الزمان، وتتوهم أن هذه القيم أزلية مخلدة، وتشن حربا شعواء على كل من يدعو إلى أي نوع من التجديد أو التغيير فيها، أما الدعوة إلى التخلي عنها وإحلال قيم أخرى محلها، فتلك في رأيها قمة الكفر وأوضح الدلائل على المروق.
وعصرنا هذا عصر تحول حاسم في تاريخ البشرية، بل إن الفترة الراهنة من تاريخ العالم قد تكون أهم نقطة تحول طوال ذلك التاريخ، صحيح أن كل عصر يظن نفسه «حاسما»، وأن المفكرين في كل زمان كانوا دائما يعتقدون أنهم يقفون في مفترق الطرق، ويتصورون الفترة التي يعيشون فيها على أنها أعظم أهمية بالنسبة إلى مصير البشر من كل فترة مرت بالإنسان من قبل، هذا صحيح كل الصحة، ويبدو أنه يرجع إلى ميل طبيعي في العقل البشري إلى إعلاء شأن العصر الذي يعيش فيه، والنظر إليه على أنه محور التاريخ كله. ومع ذلك فإن القول بأن عصرنا هذا هو عصر التحول الأكبر في تاريخ الإنسانية لا ينبع من أي ميل عاطفي إلى إعلاء الذات، أو أية رغبة متعمدة في تأكيد أهمية هذا العصر، وتأكيد أهمية أنفسنا معه، وإنما هو يرجع إلى حقائق موضوعية لا تقبل الخلاف أو الجدل، ويكفي دليلا على ذلك أن ندرك حقيقتين أساسيتين: الأولى أن هذا العصر هو الذي سيقرر نهائيا مصير مشكلة الحرب والسلام، فإن كانت حرب فهي الأخيرة، وإن كان سلام فهو السلام الذي لا حرب بعده. والحقيقة الثانية أن عصرنا هذا هو الذي سيشهد التحول الحاسم للعلاقات البشرية من علاقات استغلال إلى علاقات مشاركة وتضامن ومساواة، فإذا تذكرنا أن الحرب ظاهرة قديمة قدم التاريخ، حتى لقد تحدث البعض عن «غريزة القتال أو الحرب» في الإنسان، أدرجوها ضمن غرائزه المتأصلة التي لا يستطيع التخلص منها، وإذا تذكرنا أيضا أن استغلال الإنسان للإنسان ظل على الدوام صفة ملازمة للعلاقات البشرية منذ أقدم عصور التاريخ؛ لأدركنا أننا حين نصف عصرنا هذا بأنه عصر التحول الحاسم، فإننا لا نكون في ذلك مغالين على الإطلاق، ولا يكون حكمنا هذا صادرا عن أي غرور أو رغبة في تأكيد أهمية الذات.
في مثل هذا العصر تعيش القيم المتطلعة إلى الوراء والقيم المتطلعة إلى الأمام جنبا إلى جنب، ويدور بين هذه وتلك صراع فكري عنيف، تزداد حدته بقدر رغبة القديم في التشبث بآخر معاقله، والجديد الوليد في تأكيد ذاته وإثبات جدارته بالحياة. ومما يزيد هذا الصراع الحاد تعقيدا أنه لا يتخذ على الدوام شكل تعارض بين قيم رجعية وقيم تقدمية، وإنما يتخذ في كثير من الأحيان شكل اختلاف في تفسير قيم واحدة؛ فقد تظل نفس القيم باقية، ولكنها تكتسب مع أنصار الجديد دلالة جديدة، على حين أن أنصار القديم يتمسكون بدلالتها التقليدية، فيزداد الصراع بين الطرفين تعقيدا؛ لأن كليهما ينادي بنفس القيم، وإن تكن المعاني الكامنة من وراء هذه القيم المشتركة مختلفة كل الاختلاف.
Unknown page