إن الحقيقة الأولى والأساسية هي أن عصر الفضاء بأكمله إنما بدأ أصلا بوصفه واقعة من وقائع الحرب الباردة، وجزءا لا يتجزأ من الصراعات المرتبطة بهذه الحرب؛ ففي أكتوبر من عام 1957م عندما أعلن الاتحاد السوفييتي افتتاح هذا العصر بإرسال «سبوتنيك» إلى الفضاء، كان من الواضح أن هذا الكشف الجديد - والمذهل في ذلك الحين - مرتبط أوثق الارتباط بحقائق الحرب الباردة؛ ذلك لأن الاتحاد السوفييتي ترك الولايات المتحدة تنفق ألوف الملايين من الدولارات لكي تحيطه بقواعد عسكرية تساعدها على الوصول بالطائرات السريعة إلى قلب بلاده في حالة الحرب، وركز جهوده على سلاح جديد يجعل من هذه القواعد العسكرية شيئا عقيما لا جدوى منه، هو القذائف العابرة للقارات، ولقد كانت القوة الدافعة لهذه القذائف هي ذاتها التي أتاحت إرسال أقمار صناعية تدور حول الأرض، وكان إطلاق القمر الصناعي الأول ينطوي على الوجهين معا بوضوح كامل؛ فهو من جهة كشف علمي عظيم فتح أمام العقل البشري آفاقا جديدة، بل إنه ظهر أصلا بوصفه جزءا من برنامج «السنة الجيوفيزيقية الدولية» (العام 1957م)، وهو من وجهة أخرى إيذان ببداية مرحلة جديدة في الاستراتيجية العسكرية العالمية، ودليل على أن أسلوب القواعد العسكرية القريبة من أراضي العدو والمحيطة به من كل جانب، قد أصبح أسلوبا عفا عليه الزمان، وعلى أن الدول المتفوقة تكنولوجيا تستطيع أن تصيب أهدافا على بعد آلاف الأميال، دون أن تضطر إلى مغادرة أرضها، وكانت التعليقات التي استقبل بها العالم هذا الحدث تكشف بوضوح عن تلازم هذين الوجهين، فبالإضافة إلى الترحيب بدخول البشرية عصرا جديدا - هو عصر استكشاف الفضاء - كان هناك إدراك واضح - لا سيما في الولايات المتحدة - للإمكانات الاستراتيجية التي ينطوي عليها هذا الفتح الجديد، ولم يكن من الممكن أن تقف الولايات المتحدة مكتوفة الأيدي وهي تشهد خصمها ينقل توازن القوى إلى مرحلة جديدة ترجح فيها كفته رجحانا واضحا، وهكذا قررت الولايات المتحدة أن تدخل سباق الفضاء بكل قواها، وكان من الواضح أن تضافر الأموال الأمريكية والعقول الألمانية يستطيع أن يحقق الكثير.
ومنذ ذلك الحين كانت كل مرحلة من مراحل سباق الفضاء تكشف عن التداخل الوثيق بين الوجهين: العلمي والسياسي أو الإنساني والعسكري ، فعلى حين أن أوزان الأقمار الصناعية أخذت تثقل وحمولتها البشرية تزيد وفوائدها العلمية تتراكم، فإن استخداماتها الحربية كانت في الوقت ذاته تتنوع، من صواريخ تحملها الغواصات السريعة التنقل، إلى صواريخ مدفونة تحت الأرض ومصوبة إلى أهداف محددة في أراضي العدو، إلى صواريخ متعددة الرءوس ... إلخ. وبينما كان العالم يهلل لأقمار الاتصال التي أتاحت الربط بين أجزاء كبيرة من العالم في شبكة تليفزيونية ولاسلكية واحدة، كان نوع مشابه من الأقمار يقوم بمهمة الجاسوس العالمي الذي يدور حول العالم على فترات منتظمة لكي يصور بدقة ما يجري في كل بقعة صغيرة منه، وهكذا كان عنصر المنافسة العسكرية - التي تعد انعكاسا للمنافسة الأيديولوجية - واضحا منذ اللحظة الأولى، إلى جانب عنصر المنافسة العلمية.
وأصبح كل نصر جديد يحرزه أحد الطرفين في ميدان الفضاء لا يعد دليلا على ارتفاع مستواه العلمي والتكنولوجي فحسب، بل يستغل أيضا بوصفه مظهرا لتفوق نظامه الاجتماعي، ولم تكن الحرب الدعائية - التي تكمن من وراء المنافسة في ميدان الفضاء - خفية أو متوارية خلف ستار، بل كانت صريحة سافرة، وعلى الرغم من «الروح الرياضية» التي دأب كل من الطرفين على أن يبديها إزاء الآخر، فيبعث إليه ببرقيات التهنئة كلما أحرز نصرا جديدا، فإن السباق كان يجري على أشده لكي يثبت كل طرف للآخر ولبقية العالم، أن نظامه الذي أتاح له إحراز هذا النصر أفضل من النظام الآخر، وحين ظهر بوضوح للدولتين المتنافستين أن كشوف الفضاء هي أكثر أنباء عالمنا المعاصر إثارة لشعوب الأرض كلها، وأقواها تأثيرا في ميدان الدعاية، أخذت حرارة المنافسة بينهما تشتد، ولم تعد كل منهما تبخل بجهد وبمال على هذا الميدان الذي لم يكن له وجود منذ سنوات قلائل، وفي اعتقادي أن هذا العامل من العوامل الهامة التي أدت إلى الإسراع بسباق الفضاء، وإعطائه الأولوية في ميزانيات الدولتين المتنافستين.
وفي ضوء هذه الاعتبارات يمكن القول إن وصول إنسان أمريكي إلى القمر يعد دفعة قوية للنظام الرأسمالي بأسره، وهي دفعة ينبغي أن تعمل لها الدول البعيدة النظر حسابا، صحيح أن أناسا كثيرة قد شعروا بالأسف لأن المجتمع الذي تم على يديه هذا الكشف هو نفسه المجتمع الذي يسحق الإنسان في فيتنام، ويمتص خيرات أمريكا اللاتينية، ويهدر حقوق شعب بأكمله في فلسطين، ولكن للقوة في عالم القرن العشرين احترامها مهما كانت غاشمة، وأبلغ دليل على ذلك أن بلدا هائلا كالصين قد عمد إلى إخفاء أنباء رحلة القمر فترة طويلة، وذلك - قطعا - بدافع الخوف مما يمكن أن تحدثه هذه الأنباء من تأثير في معنويات شعبه، مع أن هذا الشعب ربما كان أشد شعوب الأرض عداء للنظام الأمريكي وإصرارا على مواجهته.
وعلى أية حال فإن الأمر المؤكد الذي يثبته هذا الكشف هو أن أصحاب الحلول السهلة والعبارات الروتينية المحفوظة عن الانهيار الوشيك للرأسمالية التي تتآكل بفعل تناقضاتها الداخلية ينبغي أن يدركوا أن الواقع أعقد بكثير مما يتصورون، أما بالنسبة إلينا - نحن سكان العالم الثالث - فهذا دليل آخر - إن كان يعوزنا الدليل - على أن المستقبل رهن بالتقدم العلمي، وعلى أن إنسان المستقبل لن تكون له كرامة إلا بقدر علمه، وعلينا أن ندرك أن الهوة تزداد اتساعا بسرعة مخيفة بين الأمم العارفة وغير العارفة، وأن نركز كل طاقتنا في اللحاق بالركب.
العلم والتخطيط في عصر القمر
إن روعة الكشف الذي تم والدقة المذهلة التي أنجز بها، ربما جعلت الكثيرين ينسون حقيقة معروفة، هي أن عصر الفضاء بأكمله يقل عمره عن اثني عشر عاما! فلم يكن أحد يتصور - قبل انطلاق «سبوتنيك السوفييتي» في أكتوبر من عام 1957م - أن الفضاء قابل للاستكشاف وللملاحظة التجريبية المباشرة بواسطة الآلة، وبواسطة حواس الإنسان ذاتها، وما زلت أذكر ذلك المثل الذي ساقه برتراند رسل في أحد كتبه الفلسفية التي صدرت قبل هذا التاريخ بفترة غير طويلة، حين وصف أية قضية تتحدث عن الوجه الآخر للقمر بأنها قضية غير قابلة للتحقيق التجريبي، هكذا كانت العقول الممتازة ذاتها تتصور الأمور قبل أكتوبر 1957م!
لكن هل كان أحد يتصور - بعد هذا التاريخ ذاته مباشرة - أن التطور سيسير بهذه السرعة المذهلة؟ لقد حاولت الولايات المتحدة في أواخر العام نفسه أن تدخل سباق الفضاء، وكان أول مشروعاتها صاروخ «فانجارد»، ولن أنسى تلك التجربة الأولى التي شاهدتها بنفسي على شاشة التليفزيون الأمريكي في يوم من أيام ديسمبر عام 1957م، حين كان الشعب الأمريكي كله يترقب بأعصاب متوترة صعود الصاروخ الذي يحمل قمرا صناعيا أظن أن وزنه كان خمسة أرطال، فإذا بالصاروخ بعد أن أصدر ضجيجا يصم الآذان ودخانا يغشى العيون، يرتفع بتؤدة فوق الأرض مسافة لا تزيد عن المترين، ثم يميل بتثاقل على أحد جانبيه؛ لينتهي به الأمر إلى رقاد مريح، وفي الأيام التالية كانت السخرية تنهال على المشروع بأكمله، حتى إن ابن مصمم المشروع كان يشكو من أن تلاميذ المدرسة الصغار أخذوا يعيرونه ولا يكفون عن سؤاله: متى يقذف أبوك بهذه الكرة إلى أعلى؟
بين هذا الحادث وبين أول خطوة خطاها نيل أرمسترونج على أرض القمر أقل من اثني عشر عاما، فما دلالات هذا التطور المذهل؟
إن أولى الدلالات - بطبيعة الحال - هي المعدل المخيف لسرعة التقدم العلمي والتكنولوجي؛ ففي جيل واحد - بل في فترة قصيرة من حياة ذلك الجيل - استطاع العقل البشري أن ينتقل من الإخفاق في إرسال كرة صغيرة في مدار حول الأرض، إلى النجاح في إرسال مركبة كاملة تهبط برفق، ومعها حمولتها من البشر والآلات فوق القمر، ثم تغادره وتعود إلى الأرض في زمانها ومكانها المحددين، وخلال هذه السنوات القلائل تمكن الإنسان من أن يسيطر على آلاف المشكلات المتعلقة بقوة دفع أحمال ضخمة بسرعة هائلة تكفي للإفلات من جاذبية الأرض، والتغلب على الحرارة الشديدة الناتجة عن الاحتكاك بالغلاف الجوي عند العودة، وتحديد اتجاه الصاروخ حين يخرج من أرض تتحرك بسرعة هائلة ليصيب قمرا يتحرك بدوره بسرعة هائلة على مسافة مئات الألوف من الأميال، وحل عشرات المشكلات الطبية والبيولوجية المتعلقة بحياة رواد الفضاء في مركبتهم وتنفسهم وتغذيتهم وغير ذلك من وظائفهم الطبيعية في جو محكم الإغلاق، ونوع ملابس الرواد في كل مرحلة من الرحلة، والانفصال عن السفينة الأم وعودة الاتصال بها، والسير دون خطأ على أرض كوكب مجهول، والاتصال اللاسلكي والتليفزيوني بالأرض من هذا البعد السحيق، إلى آخر المشكلات الهائلة العدد التي كان أبسط خطأ يرتكب في إحداها كفيلا بإفساد الرحلة كلها، وكان حل هذه المشاكل يعني تقدما علميا وتكنولوجيا في مجالات الفيزياء والكيمياء والفلك والرياضة والحاسبات الإلكترونية والفسيولوجيا والطب والتغذية وغير ذلك من الميادين المعروفة، والميادين الجديدة التي استحدثها عصر الفضاء.
Unknown page