في كتاب «الموقف الروحي للعصر» - الذي ألفه ياسبرز عام 1930م - يتخذ المؤلف موقف المفكر الناقد للحضارة المعاصرة، ويحاول طوال الكتاب أن يهتدي إلى مكان للإنسان وسط الآلية الشاملة التي أصبحت تحاصر حياتنا من كل جانب. وحين يتحدث ياسبرز عن الحضارة، فهو إنما يعني الحضارة الغربية، أما غير ذلك من الحضارات فلا تهمه في قليل أو كثير، بل إنه في الحالات القليلة التي يتحدث فيها عن الحضارات الشرقية أو الزنجية مثلا يردد تلك الأحكام السطحية المحفوظة المألوفة التي لا تنم عن تعمق في الموضوع أو اهتمام به؛ فالعصر كله - في رأيه - عصر الغرب، والقيم السائدة في العالم بأسره هي قيم الغرب، وفي الغرب سيتقرر مصير الإنسان ويتحدد شكل حياته في المستقبل.
وربما كان للمرء أن يلتمس لياسبرز العذر في إغفاله كل ما عدا الغرب في الفترة التي ألف فيها هذا الكتاب، حين كان الغرب وحده هو المحور الذي تدور حوله كل أحداث العالم، ولكن كتابات ياسبرز المتأخرة تكشف عن نفس هذا التجاهل الغريب لأي نمط للحياة غير النمط الغربي، وهي تفعل ذلك في الوقت الذي أصبح الاعتراف فيه عاما بالعالم الثالث كقوة لها وزنها في العالم، وكأسلوب في الحياة له نمطه المميز، وفي الوقت الذي ظهرت فيه في الشرق الأقصى على الأقل - أعني في الصين - وكوريا وفيتنام (ومن قبلهما اليابان)، روح جديدة سرت في شعوب ذات حضارات عريقة، وهي روح لا يعود من الصعب معها - لكل مفكر فاحص - أن يتنبأ بالمكان الذي ستبلغ فيه حضارة المستقبل أوج ازدهارها.
وعلى أية حال فإن ياسبرز يحدد - في مقدمة كتابه هذا - المشكلة التي يسعى إلى مواجهتها، فيقول إن غرور الإنسان المعاصر قد هيأ له الاعتقاد بأنه قادر على فهم العالم بأسره، والسيطرة عليه وفقا لرغباته، ولكنه سرعان ما يدرك الحدود التي لا يستطيع أن يتعداها، فيتولد لديه شعور بالعجز، ومن هنا يأخذ ياسبرز على عاتقه مهمة تحليل أسباب هذا الإحساس بالعجز وفقدان الحيلة، وبيان الوسيلة التي يستطيع بها الإنسان أن يسترد ذاته وسط هذا الضياع العام المحيط به من كل جانب.
وحين يحدد ياسبرز السمات التي تميز العصر الحاضر، يجد أن أهمها هو ذلك التقدم التكنولوجي السريع، الذي يخضع للعقلانية الصارمة والحساب الدقيق وقابلية التنبؤ، وهي سمة تباعد بين الإنسان وبين منابع الإحساس والشعور في حياته. كذلك يتسم عصرنا بسيطرة الجماهير، وهو يعني بالجماهير ذلك التجمع العفوي العابر المفتقر إلى التنظيم، الذي يسهل التأثير فيه، وينقاد بسهولة للانفعالات، ويميل بطبيعته إلى العنف، ويتشابه أفراده ولا يقوم بينهم أي نوع من التمايز، هذه الجماهير أو الدهماء هي المسيطرة على عصرنا الراهن، وهي التي تفرض عليه أذواقها ورغباتها، ويتملقها الحكام ويتقرب إليها قادة الرأي العام.
ولقد أصبحت حياة الإنسان ذاتها - في عصرنا الحاضر - تنظم على نمط أسلوب العمل في المصانع؛ ففي المصنع يتم كل شيء في موعده، ولا يضيع أي شيء هباء، ويستحيل أن يكون في جميع عملياته أي عنصر لا يمكن التنبؤ به، بل يخضع كل شيء للحساب الدقيق وللتخطيط المنظم. وهكذا أصبحت حياتنا؛ فلم تعد الآلة أسلوبا في الإنتاج فحسب، بل أصبحت أيضا أسلوبا في الحياة، أما الوجود الإنساني الحق فقد ضاع وسط هذا التنظيم التكنيكي لحياة الناس.
لقد أصبح العمل اليومي رتيبا متكررا مملا لا هدف له، «أصبح الإنسان محروما من العالم، إن جاز التعبير»؛ فوجود الإنسان أصبح مجرد وظيفة يؤديها للمجتمع ككل، ولكن الوظيفة - مهما اتسع معناها - لا يمكن أن تستوعب الإنسان ككل، من حيث هو شخصية أصيلة متميزة، وهكذا يقوم الصراع بين إرادة تحقيق الذات في الإنسان، وبين التنظيم الشامل الذي تقتضيه الحياة الحديثة.
إن العصر الحاضر يرد الوجود البشري كله إلى «العام»، وفيه يفقد الإنسان لذة الاستمتاع بالتجارب الشخصية الفريدة التي لا تتكرر، أما الحياة الخاصة التي يمكن أن تتاح للإنسان في عالم كهذا فما هي إلا سلسلة من حالات الإثارة والتعب والرغبة في التجديد ثم نسيان الجديد بدوره، وذلك في تعاقب أشبه ما يكون بلقطات متقطعة في شريط سينمائي يعرض في سرعة لاهثة.
فهل نجد للفرد مكانا في مثل هذا العالم الآلي؟ لقد أصبح الفرد قابلا لأن يستغنى عنه، ويمكن أن يحل أي فرد آخر محله، ما دامت ماهيته لم تعد شخصيته الفريدة المميزة، أو كيانه الحق الذي لا يستبدل به أحد، بل أصبحت هي الوظيفة التي يؤديها من أجل الكل، في مثل هذا العالم يختفي الأفراد المتميزون، وتصبح السيادة لأوساط الناس، وتحل الكفاءة والفعالية - أي حسن أداء الوظيفة - محل العبقرية.
ولكن هل جلب هذا التنظيم الآلي للحياة الاطمئنان للناس حتى الأوساط منهم؟ حسبنا أن نلقي نظرة حولنا؛ لنجد الناس أبعد ما يكونون عن راحة البال وهدوء النفس. إن القلق هو الشعور المسيطر على حياة الإنسان في هذا العصر، إنه قلق ينتابه في كل ساعاته، ويحاصره من كل جوانبه، قلق على الحياة، على المركز والعمل، على الصحة؛ «فالوجود كله ليس إلا قلقا»، والإحساس الغالب على الإنسان هو الإحساس بهوة سحيقة يخشى في كل لحظة من حياته أن تبتلعه. •••
لست أود أن أستطرد طويلا في عرض الملامح العامة للصورة القاتمة التي رسمها ياسبرز - في أول الثلاثينيات - للعصر الحاضر، وللإنسان الضائع في عالم لا يكترث به، ولا يحرص إلا على استمرار سير الآلية الشاملة بدقة وانتظام، إنها - على أية حال - صورة مألوفة، انضم بفضلها ياسبرز إلى صفوف أولئك الذين يرون في الحضارة الصناعية شرا مستطيرا يهدد الوجود الحق للإنسان بالضياع، أو يفضي به إلى السطحية. وعلى الرغم من أنني لا أريد أن أنساق وراء الرغبة الشديدة في مهاجمة هذا اللون الشائع من ألوان التفكير، فإني أود مع ذلك أن أشير إلى بعض المآخذ التي ينبغي أن ينتبه إليها المرء قبل أن ينزلق مع ياسبرز وأشياعه في طريقة التفكير هذه التي تجمع بين الجاذبية والخطورة في آن واحد.
Unknown page