ولكن هذه الحرية التي جاهد فولتير في اكتسابها طوال حياته ظهر جهاده فيها خصبا منتجا عندما استقرت به الدار في سويسرا وفي فرنسا.
في ذلك الوقت كان فولتير شيئا عجبا؛ كان فولتير رجلا كالرجال ولكنه كان دائرة معارف، وكان في الوقت نفسه صحفيا لا يصدر جريدة بل كان يصدر كتبا ورسائل ومقطوعات ويذيع هذا كله بطرق مختلفة من طرق الإذاعة.
اتخذ قصره معملا للأدب والفلسفة والتاريخ والنقد على اختلاف أنواع النقد.
يعنينا من كل هذا الآن نقده للحياة الفرنسية، لم يكن فولتير، كغيره من الفلاسفة المعاصرين، صاحب مذهب معين واضح منظم في السياسة أو الفلسفة السياسية، إنما كان عمليا، يلاحظ الحياة الفرنسية العملية وما فيها من العيوب السياسية والاجتماعية، ولا يكاد يلاحظ عيبا في الحياة السياسية إلا قيده، ثم فكر فيه تفكيرا يسيرا، ثم كتب فيه كتابا أو رسالة، ثم تطبع خلسة في السر دون أن يشعر أحد بها ثم تمتلئ بها حقائب المسافرين الذين كان فولتير يكثر الاتصال بهم، وإذا هؤلاء ينتشرون في فرنسا ويذهبون إلى باريس وغير باريس، وإذا كتب فولتير تملأ الأرض الفرنسية ولا يكاد يمضي شهر، بل لا يكاد يمضي أسبوع حتى ينتشر في فرنسا رسالة أو كتاب صغير يمس ناحية من النواحي الاجتماعية أو السياسية في فرنسا؛ حتى أصبح فولتير في العشرين سنة الأخيرة من حياته مسيطرا على الرأي العام الفرنسي بل الأوروبي كله، حتى أصبح الرأي العام الفرنسي أداة يصرفها كما يحب وكما يشتهي، وقد ظهر أثر هذا ظهورا واضحا جليا في بعض الحوادث؛ فقد اتهم في تولوز رجل من البروتستانت بقتل ابنه، وحوكم الرجل وحكم عليه بالموت وأنفذ فيه الحكم، ووصل إلى فولتير أن هذه القضية قد وقع فيها خطأ قضائي وأن الرجل بريء فاهتم بالأمر وأخذ يدرس القضية وتبين أن الرجل كان بريئا، وأنه لم يقتل فأخذ يدافع عن الرجل وأسرته، وأخذ ينشر الرسائل ويسعى لدى رجال القضاء والقصر ورجال الدولة، وينشر في دفاعه نثرا وشعرا حتى ألب الرأي العام الفرنسي تأليبا عنيفا، حتى صدرت أوامر القصر بإعادة النظر في القضية، ثم تنظر القضية من جديد ثم يظهر أن الرجل بريء ثم يلغى الحكم وتبرأ أسرة هذا الرجل ويرد إليها اعتبارها.
هذه الحركة في قضية كالاس جعلت للفيلسوف مكانة أخرى في فرنسا غير مكانة الفيلسوف والأديب والشاعر، نظر الشعب إلى فولتير على أنه حامي الشعب وقائده إلى الحرية ومنقذ الشعب، وأنه حامي المضطهدين، ومن هذا الوقت تغلغل تأثير فولتير في قلب الشعب، واتصل الشعب بقلب فولتير.
وأخذ فولتير كلما سمع عن نقيصة يبحث فيها ويهاجمها ويكشف أستارها ويندد ويسعى عند الحكومة والمحاكم والقصر في إزالتها، وكان ينتصر في أكثر الأحيان حتى أصبح زعيما بأدق معاني الكلمة وأوسعها، وهذا كله لم يصرفه عن الإنتاج الأدبي الراقي الذي هو إنتاج المترفين في الفن، كما أنه لم يصرفه عن العمل في الاتصال السياسي بملوك أوروبا، فكان على اتصال بفردريك وكاترين وكبراء الإنجليز.
وعلى هذا النحو أصبح فولتير ملكا في ضيعته هذه، ملكا بأوسع معاني الكلمة - مستمتعا بما كان يستمتع به الملوك من السلطان العملي والقانوني أيضا - له قصره وله حاشيته وموظفوه وهو في الوقت نفسه زعيم لشعب عظيم هو الشعب الفرنسي، وهو قائد الرأي العام الجديد في أوروبا، هو داعية الحرية والمدافع عنها في جميع الأقطار الأوروبية، لا عند عامة الشعب بل عند الأشراف والنبلاء كذلك.
وفي أواخر حياته في سنة 1778 كان فولتير قد وصل إلى أبعد ما يمكن أن يصل إليه رجل من الشهرة وبعد الصيت والحب في جميع الطبقات الفرنسية حتى كانت الملكة تتمنى لو استطاعت أن تراه وأن تقبله، وكان أهل باريس يشعرون بشوق إلى لقاء فولتير وكانوا يلحون عليه إلحاحا شديدا أن ينزل إلى باريس، واضطر إلى أن يستجيب للباريسيين فسافر إلى باريس في فبراير سنة 1778، ولا أستطيع أن أصور لكم ما تذكر الكتب عن احتفال الباريسيين بهذا الرجل، وعن هذا المجد العظيم الذي لم يظفر به أديب ولا فيلسوف من قبل، كان فولتير أديبا، ومعنى هذا أنه كان يحب المجد ويكلف بالشهرة ويحرص على السلطان، وكانت هذه الأشهر القصيرة التي قضاها في باريس أسعد أيامه؛ فكان منتصرا دائما وسكت خصومه جميعا فلم يسمع إلا صوت الحمد والإعجاب، وكان في الخامسة والثمانين من عمره وكان ضعيفا، ولكنه اندفع في أسباب المجد الذي لقيه في باريس، فكان كثير الحركة والانتقال يذهب إلى الملعب ليشاهد التمثيل، ويذهب إلى المجمع اللغوي ليعرض على المجمع مشروع معجم جديد للغة الفرنسية، ويذهب إلى القصر ويذهب هنا ويذهب هناك، وهو مع ذلك قليل الأكل كثير الشرب للقهوة؛ فقد كان يشرب خمسة وعشرين قدحا في اليوم الواحد.
وفي أوائل مايو أدركه المرض واستيأس الأطباء وأخذ فولتير يحس ألما شديدا؛ ألما جسمانيا وألما نفسيا، وكان يعتقد أنه لو استطاع أن يعود إلى ملكه في فرنيه لاستطاع أن يعنى بنفسه عناية تعصمه من الموت إلى حين، وكان يتوسل إلى طبيبه أن يخرجه من هذه الورطة، ولكنه أشرف على الموت، وعرف أنه مشرف على الموت، وهنا أخذ رجال الدين يسعون حوله ويتحركون ويسرفون في الحركة يريدونه على أن يموت مسيحيا كاثوليكيا، ولكنه فيما يظهر لم يكن مستعدا لأن يستجيب لرجال الدين إلى كل ما كانوا يريدونه منه؛ إذ كانوا يريدون منه أن يعلن إيمانه بالكاثوليكية وأن يرفض كل ما كتب، فكتب لهم شيئا غامضا مبهما، فألحوا عليه، ولكنه طلب إليهم أن يتركوه، وأن يدعوه يموت هادئا، ثم كتب الإعلان أو الرأي الذي مات عليه، وهو يلخص في هذه الكلمات: «أموت عابدا لله، محبا للأصدقاء غير كاره للأعداء، عدوا للاضطهاد.»
وفي اليوم العاشر من مايو سنة 1778 توفي فولتير ورفض رجال الدين أن يدفن في باريس في مقابر المسيحية، وكان فولتير قد قبل المفاوضات مع رجال الدين اتقاء لهذا الرفض، كان يريد أن يدفن كما يدفن الناس، ولكنه لم ينته إلى هذه النتيجة التي كان يسعى إليها فأبى القسس أن يدفنوه، ولكن بعض أصدقائه أخفوا جثته إخفاء وخرجوا بها من باريس خلسة وذهبوا بها إلى «شامباني»، وهناك تلقاه رئيس ديني ودفنه كما يدفن النصارى، وما كاد هذا القسيس يفعل ذلك حتى عزل من عمله، على أن بضع عشرة سنة لم تكد تنقضي على موت فولتير ورفض رجال الدين دفنه حتى تغيرت الحال وأعلنت الثورة الفرنسية، ثم قررت فرنسا ممثلة في نوابها أن ينقل جثمان فولتير من شامباني إلى البانثيون حيث يستقر عظماء الفرنسيين.
Unknown page