على أن فولتير حين سافر من فرنسا إلى إنجلترا لم يسافر دون أن يصطحب معه كتبا تقدمه إلى بعض كبراء الإنجليز وبينها كتاب إلى سفير فرنسا في لندرة، وهذا السفير قدمه إلى عظماء الإنجليز ونبلائهم، عندما وصل فولتير إلى إنجلترا واتصل بهؤلاء لم يكن إلا الفرنسي الذي يتأثر بالحياة الفرنسية وحياة الطبقة الوسطى في فرنسا التي لا تلائم الحياة الإنجليزية الدقيقة سيما حياة النبلاء والممتازين، ويقال إنه عندما زار الشاعر الإنجليزي المعروف «بوب» دعاه إلى الغذاء، وكان فولتير ضعيفا ممعودا، فأخذت زوج الشاعر تحثه على الأكل، وأخذ فولتير يقص عليها الأسباب التي من أجلها يشعر بالألم، فكان في هذه القصص بسيطا يسيرا فرنسيا بأدق معاني الكلمة، ناسيا أو متجاهلا تقاليد الإنجليز حتى إن اللادي حين سمعت هذا كله ضاقت به واشمأزت وتركت المائدة وانصرفت.
اتصل في إنجلترا بفلاسفة الإنجليز الذين كانوا يعاصرونه، وقرأ آثار الفلاسفة الذين سبقوه، واتصل بالشعراء ورجال المال والسياسة، وتأثر بالحياة الإنجليزية في جميع أطوارها وفروعها أشد التأثر، وفي هذه المدة التي أقامها في بلاد الإنجليز أتم كتابه الذي كان قد بدأه في السجن، ونشره ففاز في هذا الكتاب بنجاح عظيم، وهو قصيدة قصصية عن حياة هنري الرابع والحروب المدنية الفرنسية، وفي سنة 1729 سعى حتى أذن له بالعودة إلى فرنسا؛ لأنه لم يستطع أن يعيش في إنجلترا عيشة هادئة، إنما اشتغل بأشياء كرهها منه الإنجليز؛ اشتغل بالسياسة، وبالسياسة الدولية اشتغل بشيء يوشك أن يكون تجسسا، وسعى بين رجال القصر وبين بعض الأفراد من النبلاء فكرهه أولئك وهؤلاء ، وأصبحت الإقامة في إنجلترا عليه أمرا متعذرا، فاستأذن حتى أذن له بالعودة إلى بلاده، ولكنه لم يعد صفر اليدين إنما عاد مملوء القلب والعقل بما أخذ وحفظ في بلاد الإنجليز، ومملوء اليد أيضا بما كسب من مال. ولم يكد يستقر في فرنسا حتى أصدر كتابا سماه الرسائل الإنجليزية أو الرسائل الفلسفية، والغرض الأساسي من هذه الرسائل هو المقارنة بين الحياة الإنجليزية والحياة الفرنسية، هذا الكتاب وضعه بالطبع باللغة الفرنسية ولكنه نشر ترجمته بالإنجليزية في بلاد الإنجليز أولا ثم عاد ونشره في فرنسا، ولم يكد يظهر ما في هذا الكتاب من وصف الحياة الإنجليزية والثناء عليها، وذكر الحرية الإنجليزية العليا - الحرية الشخصية، حرية الصحافة، حرية الفكر السياسي - ومن ذكر العلاقة بين الشعب والملك وبين الشعب والوزراء، وبين الشعب والبرلمان، لم يكد يفصل هذه الأشياء ويبين الفرق بينها في إنجلترا، وبين الحياة الفرنسية الخاضعة للاستبداد الذي لا حد له؛ حتى أحدث ثورة عنيفة جدا في بلاده اشترك فيها رجال السياسة والدين والجيش والقضاء والوزراء، وأصدر البرلمان حكمه بتحريق الكتاب، واضطر فولتير إلى أن يهرب إلى الحدود الفرنسية إلى اللورين، وهناك نزل ضيفا على قصر من قصور النبلاء وعاش أعواما في هذا القصر، كان لها أيضا أثر ليس أقل من الأثر الذي تركته الأعوام التي قضاها في إنجلترا في حياته.
كانت صاحبة القصر سيدة اختلفت فيها آراء الناس؛ قالوا إنها شديدة القبح وكانت تزعم أنها جميلة، وبعض الناس يقولون إنها كانت على شيء من الجمال ولكنها كانت ساحرة خلابة على كل حال، هذه السيدة هي مدام دي شاتيليه، أحبها فولتير وأحبته وكان حبهما غريبا حقا، كان فيه ما يكون في الحب عادة، ولكن كان فيه شيء آخر هو هذا الحب العلمي العالي؛ فقد كانت مدام دي شاتيليه مثقفة ثقافة علمية راقية، كانت شغوفة جدا بالعلوم التجريبية وبعلم الطبيعة بنوع خاص، فحببت هذه العلوم إلى فولتير، أو دفعته إليها دفعا، فإذا القصر يستحيل إلى مدرسة أو معمل طبيعة، وإذا العاشقان يشتركان في التجارب العلمية المختلفة وكانت على ذلك توجهه في العلم والأدب، وتسيطر على ما يكتبه من الآثار العلمية، وتطلب إليه أن يخفف من هذا أو ذاك، وتأذن له بنشر هذا أو ذاك، ثم هي تسعى في الوقت نفسه في أن تظفر بالعفو عنه في القصر، وما تزال تجد حتى توفق، وإذا فولتير يعود إلى باريس بل إلى فرساي وإذا هو مرضي عنه يختلف إلى القصر، ويختلط بمن فيه من الأشراف والنبلاء ويشترك معهم في الحياة، ثم يسافر فولتير إلى ألمانيا فيتصل بفردريك ملك بروسيا ثم يعود ويعيش في فرساي عيشة سعيدة جدا، وقد ظفر برضى الملك وصاحبة الملك مدام دي بمبادور، وهو في هذه الحياة بين مدام دي بمبادور وصديقته مدام دي شاتيليه.
ولكنه أديب حاد الطبع، طويل اللسان مندفع إلى الحرية، مندفع إليها في غير تحفظ حتى يضيق به النبلاء في هذه المرة كما ضاقوا به قبلا، ثم في ذات ليلة كانت صديقته مدام دي شاتيليه تلعب الورق وتخسر وتسرف في الخسارة، فقال لها فولتير بالإنجليزية: لعلك تلعبين مع جماعة من الذين يسرفون في الغش، وفهمت جملة فولتير وتألب عليه النبلاء وتعرض لخطر عظيم، واضطر إلى أن يهرب من القصر مع صديقته مدام دي شاتيليه وأن يعيش مشردا.
وفي نحو سنة 1750 دعاه فردريك إلى أن يتصل به، فذهب إليه فأقام عنده أعواما، وكان الحب قويا جدا بينه وبين الملك الألماني، وكان هذا الملك شديد الحب للأدب الفرنسي، وكان لا يتحدث ولا يكتب إلا باللغة الفرنسية، حتى قال فولتير إن اللغة الألمانية في ألمانيا هي لغة الشارع والخيل، أما لغة القصر ولغة المثقفين فهي اللغة الفرنسية.
كان إذن فولتير سعيدا مع صديقه ملك بروسيا، ولكنه لم يتحرج من أن يتصل بالسياسة هناك أيضا، وأن يحاول العمل لفرنسا، وفي أن يحدث أو ينشئ بعض العلاقات الودية بين فريدريك وفرنسا، ولكن فولتير كان أديبا، وكان حاد الطبع، حاد اللسان أيضا، فما هي إلا أن أخذت الغيرة تظهر بينه وبين الملك، وأخذ الناس يتحدثون بأن فولتير يمن على الملك؛ لأنه يعينه على أن يظهر ما أظهر من آثار، وأخذ الملك يظهر شيئا من الضيق بفولتير كما ضاق فولتير به، ثم ينتهي الأمر بخطوب تغضب الملك على فولتير، فيضطر فولتير إلى أن يترك برلين وأن يعود إلى فرنسا، فأنتم ترون أن الرجل كان مضطربا مشردا، ينشأ مضطهدا في فرنسا، ثم يضطر إلى بلاد الإنجليز، ثم يعود إلى فرنسا، ثم يضطر إلى اللورين، ثم يعود إلى باريس، ثم إلى ألمانيا، ثم إلى باريس مرة أخرى بعد أن غضب عليه فردريك، وبعد أن تعرض للخطر هناك.
ولكن فولتير لم يكن أديبا فحسب ولكنه كان ماهرا في اكتساب المال، وماهرا جدا في إرضاء الملوك والعبث بحبهم للتملق، وفي اكتساب المال منهم إلى أقصى حد ممكن، ثم كان مضاربا ماهرا في المضاربة، فلما عاد من ألمانيا كان قد كون لنفسه ثروة ضخمة حقا لم يظفر بها أديب قط؛ فكان يستطيع أن يجد لنفسه مكانا يعيش فيه بعيدا عن الكيد والدس عيشة حرة مترفة مملوءة بالنعيم، وقد فعل، فذهب إلى سويسرا واشترى لنفسه دارا في جنيف، وأخرى في لوزان، دارا للشتاء وأخرى للصيف، ولكنه لم يكد يستقر في جنيف حتى أغضب منه أهل المدينة، أغضبهم بسبب بسيط؛ فقد كان فولتير كاتبا ماهرا وشاعرا عظيما في التمثيل خاصة، وكان يحب التمثيل بينما كان أهل جنيف متأثرين بمذهبهم، مذهب «كلفن» حريصين على حياة توشك أن تكون شديدة الخشونة فكانوا يكرهون التمثيل والكوميديا بنوع خاص.
فلما سمعوا بتمثيله الكوميديا في منزله تحرجوا وغضبوا، وما كادوا يعلمون أن فولتير سيأتي بالممثلين حتى اجتمع مجلسهم وطلبوا إليه ألا يفعل، وأحس فولتير أنه سيلقى مقاومة، فاتخذ لنفسه قاعدة وسطا واشترى في فرنسا - ولكن قريبا جدا من جنيف - أرضا اتخذ لنفسه فيها قصرا، وهي في فرنيه، على بعد نصف ساعة من جنيف؛ فكان له إذن قصره في جنيف، واستأجر أرضا مجاورة في فرنيه واتخذ لنفسه أيضا فيها مقاما، ورأى أنه على هذه القاعدة يستطيع أن يكون في فرنسا وسويسرا في وقت واحد، فهو يلجأ إلى فرنسا حين يكرهه أهل جنيف، ويعود إلى جنيف حين يضيق به أهل فرنسا، دون أن يكلفه ذلك إلا مسيرة نصف ساعة، وكتب إلى بعض أصدقائه يقول: «لقد أصبحت الآن رجلا يقوم على أربع؛ لي رجلان في سويسرا، ورجلان في فرنسا.»
أخذت حياته بعد ذلك تعرف الهدوء، ولكنه الهدوء الخصب المنتج الذي نستطيع أن ننظر في الأدب القديم والحديث فلا نظفر بهدوء يشبهه خصبا وإنتاجا؛ فقد قضى في هذه الحياة الخصبة الهادئة المنتجة أكثر من عشرين سنة، كان فولتير ضعيف الصحة معتلا دائما، ولكنه عمر حتى نيف على الثمانين، ومع أنه كان متمرضا دائما فإنه كان منتجا دائما؛ منتجا في جميع فروع الإنتاج الأدبي والعقلي التي عرفها هذا العصر، كان منتجا في النثر والشعر، في التاريخ والفلسفة، منتجا في كل ما كان يتعرض له الأدباء والعلماء والفلاسفة في ذلك الوقت. ويكفي أن تعلموا أن آثار فولتير عندما جمعت وطبعت بلغت سبعين مجلدا ضخما.
أما الذي أريد أن أصوره لكم بعد هذا التلخيص الضئيل فهو جهاد فولتير في سبيل حرية الرأي، ظهر هذا الجهاد منذ أخذ فولتير يفكر ويكتب في فرنسا قبل أن يسافر إلى إنجلترا، فلما عاد من إنجلترا كان قد اشتد تأثره بالحرية الإنجليزية، واقتنع أشد الاقتناع بأن المثل الأعلى في الحرية هو هذه الحرية الإنجليزية التي تبيح للناس أن يفكروا ويكتبوا وأن ينشروا ويعلنوا ما يفكرون وما يكتبون، وكان اجتهاد فولتير وتحريق كتابه واندفاعه إلى الجد في سبيل الدفاع عن حرية الرأي؛ فكانت كل كتبه التي كتبها في التاريخ أو الفلسفة أو الأدب تنتهي دائما إلى غاية واحدة هي كسب هذه الحرية؛ حرية التفكير وحرية الإعلان.
Unknown page