وإذا لم يكن بد من أن أؤدي إليكم بكل صراحة وشجاعة رسالة العقل ورسالة الإسلام معا، فإني أعلن إليكم صادقا بغير تردد: «أن كل من يخاصم حرية الرأي فهو عدو للإسلام.»
فولتير
سيداتي، ساداتي
انتهينا من حرية الرأي في المحاضرة الماضية إلى هذا العصر الحديث الذي كان فيه الصراع شديدا بين مذهب الإصلاح وبين الكاثوليكية، وقد قلت لكم في آخر المحاضرة إن هذا الصراع وهذه المقاومة التي لقيها مذهب الإصلاح أنتجا ظهور فلاسفة يدعون إلى حرية الرأي ويجاهدون في سبيلها ويلحون في جهادهم حتى انتهوا إلى ما انتهوا إليه من الثورة الفرنسية.
وأريد اليوم أن أحدثكم عن فيلسوف من هؤلاء الذين دعوا إلى حرية الرأي وجاهدوا في سبيلها، وانتهى بهم الجهاد إلى نصر مؤزر، وهذا الفيلسوف هو فولتير.
وأحب قبل أن أحدثكم عن فولتير أن ألاحظ بعض الملاحظات التي لا بد منها؛ فاسم فولتير من هذه الأسماء التي تثير الحب عند كثير من الناس، ولكنها في الوقت نفسه تثير البغض عند كثير منهم أيضا؛ ذلك أن هذا الرجل قد أحسن إلى كثيرين وأساء إلى كثيرين؛ أحسن إلى المضطهدين، ولكنه أساء إلى الذين كانوا يضطهدون الناس، أحسن إلى الضعفاء، ولكنه أساء إلى الأقوياء، أحسن إلى المظلومين، وأساء إلى الظالمين، ومن حيث إن الظالمين عادة لا يظلمون عفوا، وإنما يعتمدون على بعض الأصول والمبادئ يتخذونها سبيلا إلى الظلم، ويتخذون العدل أداة إلى الجور، والحق سبيلا إلى الباطل؛ فلم يسئ فولتير إلى الظالمين من حيث إنهم ظالمون فحسب، ولكنه أساء إلى الظالمين وإلى الأصول التي اعتمدوا عليها في ظلمهم وجورهم، وأظنكم قد فهمتم ما أريد أن أقول، فقد كره فولتير الاضطهاد الديني وقاومه مقاومة عنيفة، فلم يكتف بالإساءة إلى الظالمين والمضطهدين باسم الدين، ولكنه اندفع في ذلك إلى غير جد فأساء إلى الدين نفسه، وهو من هذه الناحية كان بغيضا إلى رجال الدين وما زال بغيضا إليهم، وسيظل بغيضا دائما إلى كل مؤمن بدينه حقا، فأحب أن تلاحظوا أنني عندما أتحدث عن فولتير أتحدث عنه حديث مؤرخ ليس غير، وسواء لدي أكان فولتير مصيبا أم مخطئا، أم كان مرضيا أم مغضبا، إنما الذي يعنيني من فولتير الآن هو ذلك الفيلسوف الذي جاهد في سبيل حرية الرأي وأثر جهاده في الحياة الفرنسية أولا ثم الأوروبية بعد ذلك، ثم الإنسانية بوجه عام.
ولد فولتير في أواخر القرن السابع عشر الميلادي، بالضبط في سنة 1694 من أسرة من الطبقة الوسطى ، كان أبوه موثقا في باريس، ثم انتهى إلى عمل في ديوان المحاسبة، وفي هذا الوقت كانت الطبقة الوسطى في فرنسا قد أخذت تتقدم تقدما واسعا في الحياة الاجتماعية، كانت تظهر من التقدم في جميع فروع الحياة ما مكنها من أن تفرض نفسها على الجماعة الفرنسية فرضا، وكانت قد لقيت من معونة السلطان شيئا كثيرا، فاستطاعت أن تحرز مركزا ممتازا في التجارة والصناعة والأعمال الحرة بوجه عام، بل استطاعت أن ترقى إلى المناصب العامة بعد أن كانت هذه المناصب مقصورة على طبقة الأشراف، بل استطاعت أن ترقى إلى طبقة الأشراف نفسها بواسطة هذه القرارات والمراسيم التي كان يصدرها الملوك فيرفعون بها الرجل من الطبقة الوسطى إلى طبقة النبلاء.
ولد إذن فولتير من أسرة من هذه الطبقات الوسطى نشيطة عظيمة الحظ من النشاط، وكان أبوه بحكم صناعته متصلا بالطبقات الراقية وبأكبر النبلاء في باريس، كان موثقا لجماعة عظيمة من الكبراء الباريسيين، فكان يلقاهم ويتحدث إليهم، وكانوا يزورونه ويزورهم، وكان الشعراء الذين امتازوا في القرن السابع عشر في فرنسا من نفس طبقة فولتير، كورني وبوللو وراسين وموليير وغيرهم، كانوا كلهم من هذه الطبقة.
نشأ فولتير إذن في بيئة لا بأس بها، ليست معدمة ولا فقيرة، بل لها حظ من اليسار والغنى، ثم ليست منحطة من الناحية الاجتماعية، بل راقية محترمة، ثم هي مقربة من النبلاء ومن يتصلون بالقصر والذين يتقربون إليه، ثم هي بحكم هذا كله على اتصال بالصالونات الأدبية التي يروى فيها شعر راسين وموليير وكورني وغيرهم من الأسماء التي تملأ الأندية في باريس في ذلك الوقت.
ولم يكد فولتير يبلغ العاشرة من عمره حتى أرسل إلى مدرسة من مدارس اليسوعيين، فتعلم فيها.
Unknown page