وقال سيديليو: وقد اشتهرت مدرسة بغداد في أول أمرها بفكرتها العلمية حقيقة، وكان لها التأثير الأكبر في أعمال العرب، فساروا من المعلوم إلى المجهول، واستنبطوا أسرار المحسوسات ليرجعوا الأسباب إلى مسبباتها، لا يقبلون إلا ما أثبتته التجربة. هذه من الأصول التي لقنها العلماء، ولقد كان العرب في القرن التاسع متمكنين من هذه الطريقة الخصيبة التي صارت بعد عند المحدثين أداة استعملوها للوصول إلى أجمل ما كشفوه. فكانت التجربة والملاحظة من أسلوب العرب، ودرس الكتب والاكتفاء بترديد رأي المعلم كانت طريقة أوروبا في القرون الوسطى، والفرق ظاهر بين الطريقتين، ولا تقدر طريقة العرب في العلم حق قدرها إلا بالبحث فيها.
ولقد اعتمد العرب على التجارب، وسبقوا العالم وظلوا على سبقهم زمنا طويلا وعرفوا مكانة هذه الطريقة، وليس لليونان في الكيمياء ولا مجرب واحد، ويعد المجربون بالمئات عند العرب، وقد أورثت عادة التجربة أعمالهم العلمية هذا الوضوح والإبداع الذي لا ينتظر أبدا أن يسقط عليهما عند من لم يدرس الظاهرات إلا في الكتب، ولم يفتهم الإبداع إلا في علم استحال عليهم فيه الرجوع إلى التجارب وهو علم الفلسفة، وقادتهم الأساليب التجريبية التي كتب لهم فضل السبق فيها إلى كشف أمور مهمة وفقوا إليها بالضرورة في ثلاثة أو أربعة قرون، لم يكتب مثله لليونان في زمن أطول من زمنهم بكثير، وهذه الذخيرة في العلم الماضي التي انتقلت إلى اليونان قبلهم، ولم يستخرجوا منها كبير أمر منذ أحقاب، نقلها العرب برمتها مبدلة إلى أخلافهم. ولم يقف عمل العرب عند تثمير العلم بما أوجدوه، بل نشروه بواسطة جامعاتهم وكتبهم، فالتأثير الذي أثروه من هذا النظر في أوروبا كان عظيما في الحقيقة، وكانوا خلال عدة قرون أساتيذ متفردين عرفتهم الأمم النصرانية، وإليهم يرجع الفضل في معرفتنا المدنيتين اليونانية واللاتينية، وفي العهد الحديث فقط تجرد تعليم جامعاتنا من الاعتماد على تراجم كتب العرب وكف الغرب عن الأخذ بواسطتهم.
وللعرب في باب الهندسة الإبداع الذي أقرهم عليه كل عارف، ولم ينازعهم فيه منازع، ولم يخترع العرب أبنية خاصة بهم، بل تجلى في هندستهم حبهم للزخرف واللطف، واخترعوا القوس المقنطر ورسم البيكارين، وجعل تفننهم في هندسة القباب والسقوف والمعرشات من الأشجار لجوامعهم وقصورهم بهجة لا يبلى على الدهر جديدها، ودلت كل الدلالة على إيغالهم في حب النقوش والزينة، كأن أبنيتهم ومصانعهم هي برود من أكسية الشرق تفنن حائكها في رقشها ونقشها كما قال أحد العارفين من الإفرنج. وعقد لبون فصلا في تأثير العرب في الصنائع ولا سيما في الهندسة في الغرب؛ فقال: ربما ادعى بعضهم أن الهندسة الغوتية مأخوذة عن العرب وهذا وهم، فإننا إذا قابلنا بين كاتدرائية غوتية من القرن الثالث عشر والرابع عشر وبين مسجد من ذينك القرنين نجد اختلافا بينا بين الهندستين. ولما كانت الفنون تعبر عن حاجات عصر وعواطف أهله، اختلفت هندسة الغرب عن الهندسة العربية في الشرق. وقد أخذت أوروبا من العرب أشياء في الزينة ووجدت على بعض البيع في فرنسا صور حروف عربية منحوتة في الحجر، وأكاليل على بعض الحصون تشبه الطراز العربي، وكثير من كنائس فرنسا تأثرت بالهندسة العربية ولا سيما في المدن التي كان لها علائق كثيرة مع الشرق. وقد جلب الصليبيون من الشرق أصول هندسة بيت المؤذن في المنارات والمشربيات والمعرقات والمراصد في الأبراج والزغاليل والمحارس الناتئة والأفاريز ذات الدرابزين، واستخدمت فرنسا كثيرا من مهندسي الأجانب وكان فيهم العرب، حتى إن كنيسة نوتردام دي باري المشهورة في عاصمة فرنسا عمل فيها مهندسون من العرب.
أما تأثير العرب في هندسة إسبانيا فظاهرة ظهور الشمس والقمر، إلى أن قال: قد ينقرض شعب وتحرق كتبه وتهدم مصانعه، ولكن التأثير الذي أثره يقاوم أكثر مما يقاوم الصلب ، وليس للطاقة البشرية أن تأتي عليه، والقرون قد تفعل في القضاء عليه أكثر من ذلك.
وقال أيضا: إن من ألقى نظرة على المساجد والقصور، وعلى غيرها من الآثار العربية من منقولها وغير منقولها، يشهد أنها نسجت على غير مثال، وأن الإبداع فيها ظاهر محسوس. وإذا رجعنا إلى أوائل عهد المدنية العربية وهي في أوجها، نجد التقليد للصنائع الفارسية والرومية ظاهرا فيها، وكل شعب يقتبس عمن سبقه صنائعه، وهذا يصدق على كل الأمم، وكان الناس إلى عهد قريب يعتقدون أن الفنون اليونانية قامت على غير مثال. فالعرب واليونان والرومان والفينيقيون والإسرائيليون وغيرهم أو جميع الأمم قد انتفعت من الماضي، وكل شعب أخذ عن غيره وزاد من عنده ما وسعته الزيادة. ولذا لا ينبغي أن يبعد الناس في مزاعمهم أن العرب لم يكن لهم فن فيه إبداع؛ لأنهم اقتبسوا الأصول الأولى من أعمالهم عن الأمم التي تقدمتهم، ويعرف الإبداع الحقيقي في أمة من السرعة التي بها تحول المواد التي بين أيديها فتجعلها وفق حاجتها وتنشئ فنا جديدا. وما من شعب فاق العرب في هذا الباب؛ فإن فكر الإيجاد عندهم قد تجلى في مصانعهم الأولى مثل مسجد قرطبة، ولم يلبثوا أن ألقوا في روع المفننين الأجانب أنهم كانوا يعمدون إلى طرق جديدة فيها كل الحذق والمهارة. فقد كانت سواري المعابد القديمة التي بين أيدي العرب من القصر بحيث لا تتناسب مع عظمة الأبنية واتساعها؛ فقاموا هم ينشئون في أسفلها قواعد وغطوها بقناطر وضعت على غاية من الدقة. ولو كان الترك مكان العرب ما كان خطر لعقولهم الغليظة مثل هذا الفكر. وكان من أمر الشعوب التي خلفت العرب في البلاد التي خضعت لسلطانهم أن رأوا مصانع قديمة سبقت العرب فما استطاعوا أن يدبروها تدبيرا جديدا، فظل التقليد باديا في أصولها وفروعها. أما في المصانع العربية كقصور إسبانيا وجوامع القاهرة، فإن المواد الأصلية قد استحالت إلى ترتيبات بلغ من جدتها أن يتعذر القول من أين جاءت.
وقال: إن من ألقى نظرة على الأعمال الأدبية والفنية التي تمت على أيدي العرب يتجلى له أنهم حاولوا أبدا أن يزينوا الطبيعة، وطابعهم الذي يبدو في الفن العربي هو التخيل والبهاء والضياء والتزيد في الزينة والأناقة. فالعرب عنصر شعر، وأي شاعر لا ينطوي على متفنن، اغتنوا بحيث تم لهم تحقيق جميع هذه الأحلام، فأولدوا هذه القصور البديعة التي تبدو للعيان كأنها تضاريس من الرخام المرصع بالذهب والأحجار الثمينة. وما من شعب حاز مثل هذه العجائب، وما من شعب سيدانيهم في الأخذ بطرائقها، ومن العبث أن نتطلب مضاهاتها من الدور الذي دخلت فيه الإنسانية اليوم، فأصبحت لا تعرف من الصنائع إلا المبتذلة والمقصود منها النفع فقط وهي شاحبة باردة.
وقال ميجون: لا ننكر على العرب أن لهم الحظ الأوفر من هذه المدنية وهم واضعو أسسها، وقد أفرغوا هذه العناصر المختلفة في قالب متجانس فأوجدوا منها مدنية مطبوعة بطابع عظمتهم مشعرة بسلامة ذوقهم. ولم يمض قرن على فتوح العرب وبسط سلطانهم على الشرق وإفريقية الشمالية وإسبانيا حتى تبدل النظام الاجتماعي في البلاد المغلوبة، وحل محله دين وإدارة وعادات وأخلاق جديدة، وهكذا يقال في صناعاتهم وفنونهم وكثير من احتياجاتهم. وإن توحيد تلك البلاد من بحر الظلمات إلى المحيط الهندي، وإخضاعها لسلطان واحد ونظام شامل، والعناية بالجندية، وإقبال المسلمين على أداء فريضة الحج، كل ذلك سهل سبل التعارف بين المؤمنين وجعل كل واحد منهم يحمل إلى بلاده ما استحسنه في البلدان الأخرى. ولذلك رأينا التأثيرات الشرقية في أقدم بناء إسلامي في الغرب كالجامع الكبير في قرطبة وجامع سيدي عقبة في القيروان مغربية بطرز بنائها شرقية بزخارفها.
وذكر مركيه في كتابه الفن والتاريخ أن العرب ورثوا فيما ورثوا عن الأمم التي دخلت في سلطانهم الفنون والصنائع، وأخذوا يحذقونها ويبرعون فيها في مدارس المورثين؛ إذ لم يكن في استطاعتهم أن يرتجلوا فنا كما ارتجلوا لهم ملكا. ومع ذلك لم يمض زمن طويل حتى نبغ فيهم البناءون والحفارون والمصورون والنقاشون، دون أن يروا في شيء من ذلك مخالفة لنصوص كتابهم، أو معارضة لشريعة نبيهم. ولم يقفوا عند حد الحذق والبراعة، بل تعدوه إلى التفنن والإبداع، فنقحوا وصححوا وحذفوا وأضافوا، ثم اخترعوا وابتكروا، حتى طبعوا تلك الفنون بالطابع العربي، وصبغوها بالصبغة الإسلامية ، حرصا على شخصيتهم أن تفنى، وعلى نبوغهم وعبقريتهم أن يذهبا، فأصبح الروح العربي بارزا واضحا يندمج فيه غيره، ولا يندمج في شيء؛ ولهذا خلقت العرب لها فنا يوافق ذوقها ويسير مع طبعها، وسرعان ما انتشر في أرجاء تلك المملكة الواسعة انتشار الكهرباء. ا.ه، قالوا: وقد خضعت الفنون الإسلامية لنواميس الطبيعة الإقليمية فاصطبغت في كل قطر بصبغته الخاصة، وكانت في عامة أحوالها من أندلسي ومغربي وصقلي ومصري وشامي وعراقي وفارسي وهندي ومغولي؛ إسلامية أصلية كريمة نبيلة تنطق بما للإسلام من إباء ونجدة وشهامة ونخوة ... إلخ.
هذا يا سادتي ما لقفه العرب ولقفوه، بل هذا مجمل ما اخترعوه وكشفوه، استفادوا منه وأفادوا أهل المدنية الحديثة، عملوا فيه وحدهم بعقولهم وتجاريبهم، وتواضعوا على ما لم تشاركهم فيه أمة (انتهي ملخصا من كتابنا الإسلام والحضارة العربية). وبعد؛ فإذا كانت للعرب عناية فائقة بعلوم الطب والتشريح والأقرباذين وعلوم النبات والحيوان والبيطرة والبيزرة وأحكام النجوم والطلسمات والسيمياء والكيمياء والفلاحة والملاحة والهندسة وعقود الأبنية والمناظر والمرايا المحرقة ومراكز الأثقال وإنباط المياه والبنكامات والآلات الحربية والزيجات والتقاويم والمواقيت والأرصاد وتسطيح الكرة والآلات الظلية والحساب المفتوح وحساب التخت والميل والجبر والمقابلة وحساب الخطأين، إلى آخر العلوم التي أفردوها بالتأليف وتوفروا على خدمتها؛ فإن لهم في فروع أخرى من علوم الحضارة ما لا يخطر بالخاطر أنهم سبقوا ووضعوا فيه نتائج تجاربهم؛ فلهم في فن الطبخ والأطعمة والمزورات وتدبير المنزل والمدينة تآليف جميلة، وفي علم العرافة والقيافة والريانة والفراسة واستحضار الأرواح والقرانات وقلع الآثار إلى غير ذلك مما عالجوه من الموضوعات وجعلوه علوما قائمة برأسها، ما دلوا به على أن هواهم بعلوم الدنيا وازى هواهم بعلوم الآخرة. ولولا أن ضاعت كتبهم فلم ينته إلينا منها غير نحو عشرها، لوقفنا من علومهم وفنونهم على أكثر مما وقفنا. وكان الفضل في الانتفاع ببقايا فضلهم لوراثي مجدهم العلمي أهل المدنيات الحديثة.
أثر المدنية الغربية في البلاد العربية
Unknown page