ويقول الإسبان اليوم إنك إذا أنصت للغناء في شوارع قرطبة وإشبيلية وغرناطة توقن أنه غناء عربي، وإذا طعمت في دار أندلسية تجد الطعام طعاما مغربيا، وإذا شهدت من يجلسون إلى خوان في مقهى تحصي لهم عادات أهلية خاصة، وإن جميع حياة الأندلس تذكر بالأمة العربية القديمة، وإن الحدائق والحقول تسقى من ترع وقني عربية، وإن الموسيقى عربية، وهناك صناعات صغيرة وتجار صغار وقوافل من الحمير والأتن تجتاز الأزقة على نحو ما هي في البلاد العربية، وإذا استمعت من بعد إلى تلفظ أهل تلك المدن الأندلسية يتكلمون بالإسبانية تحسبهم يتكلمون بالعربية لا بالإسبانية، أما هندستهم وشوارعهم وأحياؤهم وقني بيوتهم، فهي عربية صرفة على مثال ما هو من نوعها في دمشق وتونس.
ويقول لبون إن تأثير العرب في الغرب كان عظيما، وإليهم يرجع الفضل في حضارة أوروبا ولم يكن نفوذهم في الغرب أقل مما كان في الشرق ولكنه كان يختلف عنه. أثروا في بلاد المشرق بالدين واللغة والصنائع، أما في الغرب فلم يؤثروا في الدين، وكان تأثيرهم في الفنون واللغة ضعيفا، وعظم تأثيرهم بتعاليمهم في العلم والآداب والأخلاق، ولا يتأتى للمرء معرفة التأثير الذي أثره العرب في الغرب إلا إذا مثل لعينيه حالة أوروبا في الزمن الذي دخلت فيه الحضارة، وإذا رجعنا إلى القرنين التاسع والعاشر من الميلاد يوم كانت المدنية الإسلامية في إسبانيا زاهرة باهرة؛ نرى المراكز العلمية الوحيدة في عامة بلاد الغرب عبارة عن مجموعة أبراج يسكنها سادة نصف متوحشين، يفاخرون بأنهم أميون لا يقرءون ولا يكتبون. وكانت الطبقة العالية المستنيرة في النصرانية عبارة عن رهبان فقراء جهلة يقضون الوقت بالتكسب في أديارهم بنسخ كتب القدماء ليبتاعوا ورق البردي لاستنساخ كتب العبادة.
قال: وطال عهد الجهالة في أوروبا وعم تأثيره بحيث لم تعد تشعر بتوحشها ولم يبد فيها بعض ميل للعلم إلا في القرن الحادي عشر، وبعبارة أصح في القرن الثاني عشر. ولما شعرت بعض العقول المستنيرة قليلا بالحاجة إلى نضو كفن الجهل الثقيل الذي كان الناس ينوءون تحته طرقوا أبواب العرب يستهدونهم ما يحتاجون إليه؛ لأنهم وحدهم كانوا سادة العلم في ذلك العهد. ولم يدخل العلم أوروبا في الحروب الصليبية كما هو الرأي الشائع، بل دخل بواسطة الأندلس وصقلية وإيطاليا، وفي سنة 1130م، أنشئت مدرسة للترجمة في طليطلة بعناية رئيس الأساقفة وأخذت تنقل إلى اللاتينية أشهر مؤلفات العرب، وعظم نجاح هذه الترجمات وعرف الغرب عالما جديدا، ولم تفتر الحركة في هذه السبيل خلال القرن الثاني عشر والثالث عشر والرابع عشر. ولم تنقل إلى اللاتينية كتب الرازي وأبي القاسم وابن سينا وابن رشد وغيرهم، بل نقلت إليها كتب اليونان أمثال جالينوس وأبقراط وأفلاطون وأرسطو وأقليدس وأرخميدس وبطليموس، وهي الكتب التي كان المسلمون نقلوها إلى لسانهم.
أصبحت اللغة العربية منذ النصف الثاني من القرن الثامن للميلاد لغة العلم عند الخواص في العالم المتمدن، وحافظت على مرتبتها الأولى بين سائر اللغات إلى آخر القرن الحادي عشر، وكان يقضى على كل من يحب الاطلاع من أهل القرن الحادي عشر على آراء عصره أن يتعلم اللغة العربية؛ ولذلك قالوا إن كثيرين من زعماء النهضة كروجر باكون وغيره كانوا يعرفون لغتنا. وكان ملوك الأندلس يفاوضون جيرانهم باللغة العربية، وهؤلاء يجيبونهم بها على لسان تراجم لهم يجيدون العربية، ويقضى على أكثر سفراء الإفرنج عند ملوك الأندلس أن يلموا ولو إلماما خفيفا بلغة العرب.
وبعد أن أخذ الغرب العلم عن كتب العرب وقلدهم في مخابرهم ومعاملهم وجامعاتهم ومدارسهم، وقرئت كتبهم وعلومهم في جامعات الغرب مدة ستمائة سنة ودام ذلك إلى القرن الثامن عشر؛ لا نستغرب أن تدخل في جميع اللغات الغربية الألفاظ العلمية العربية ولا سيما في الإيطالية والفرنسية والإسبانية والبرتقالية، وفي كل لغة من هذه اللغات اللاتينية بضعة ألوف من الألفاظ العربية، أخذوها مضطرين عن العرب؛ لأن هؤلاء احتلوا بلادهم أو أماكن منها، بل لأن العلم العربي كان وحده هو المتفوق في العالم، وكان العرب دعاته ورعاته خلال بضعة قرون.
نعم، لم يجد العلم ملجأ أمينا له غير العرب في تلك القرون، وهذه فرنسا لم تنهض من كبوتها بعد غارات البرابرة إلا بعد ثمانية قرون وذلك بفضل العرب، ومن علماء فرنسا من يعز عليهم الاعتراف بهذه الحقيقة، وبينا كانت المدنية الإسلامية زاهرة، كانت فرنسا في أحط دركات التأخر، ولم ينتشر الطب والصيدلة في ربوعها إلا بمساعي أطباء اليهود الذين اعتصموا بإسبانيا ثم بإقليم لانكدوك بعد القرن الحادي عشر، وفي لانكدوك أنشئوا عدة مدارس ومنها مدرسة مونبلية، واضطرت بعض الأمم الغربية أن تحمل بعض أبنائها على تعلم اللغة العربية، وأسست جنوة مدرستها لتعليم العربية سنة 1207م، ورأى ملوك قشتالة بعد وقعة العقاب التي كتب فيها النصر للإسبان على العرب، أن لا يقاطعوا الماضي القديم وأنهم في حاجة إلى أن يتعلموا من معلميهم القدماء من العرب، فحاول ألفونس العاشر أن يعمل لإسبانيا النصرانية ما عمله العرب لإعلاء شأن الإسلام، وذلك بالأخذ من أحسن ما في الحضارتين الإسلامية والنصرانية ومزجهما بالحضارة الإسبانية؛ فأسست سنة 1254م في إشبيلية مدرسة عامة لاتينية وعربية، واستدعى الملك إلى عاصمته العلماء من جميع الملل والنحل ليؤسس مدرسة طليطلة الثانية يجمع فيها بين الأوضاع العربية وغيرها. وقضى مجمع فينا الديني سنة 1311م أن تؤسس في باريز وأكسفورد وبولون وسلمنكة دروس عربية لتنصير المسلمين، ودروس عبرانية لتنصير اليهود، وعنيت إيطاليا منذ ذلك العهد عناية خاصة بالعربية ترى تعليمها من الضرورات لكل تجار المدن البحرية، وكان من ذلك أن احتكرت البندقية تجارة أوروبا مع الشرق، واستأثرت بتجارة آسيا الصغرى، وتمت للبندقية وبيزا وجنوة وطسقانة معرفة الشعوب الإسلامية أكثر من عامة أهل أوروبا، وكان من العادة الجارية في طبقة التجار من أبناء البندقية أن يتكلموا بالتركية والعربية، ويأخذوا أنفسهم ببعض العادات والأنسة بالمصطلحات الشرقية، وملك البيزيون والجنويون والبنادقة أملاكا مهمة في الشواطئ الشرقية من البحر المتوسط وفي غيرها، وامتزجوا بأهل البلاد، وتأخرت الممالك الأخرى في تلقف العربية إلى القرن السابع عشر والثامن عشر.
أصبح البحر الرومي بما فتحه العرب من شواطئه بحرا عربيا في أوائل القرن الثالث؛ وذلك لأن شواطئ إفريقية وإسبانيا وكثير من الجزر كجزائر منورقة وميورقة ويابسة المعروفة بجزائر الباليار أو الجزائر الشرقية وغيرها قد دخلت في حكمهم، ولما فتحوا في سنة 212ه جزيرة صقلية، وكانوا غزوها غير مرة منذ أخذوا يسافرون على سفنهم على عهد الخليفة الثالث، وأتبعوها بجزيرة سردانية وغيرها؛ تراجعت سفن الروم إلى المواني القريبة من بلادهم، وامتدت غزوات العرب إلى بلاد أنكبردة أو لمبارديا وقلوية؛ أي كالابرا، من جنوبي إيطاليا، واستولوا على أكثر أصقاعها الجنوبية نحو تسع وعشرين سنة، ومن البلاد التي احتلوها احتلالا موقتا أو غزوها وتخلوا عنها، ريو والبندقية وطارانت وسالرن وأمالفي ونابل ورومية وجنوة، والغالب أن العرب في الولايات التي نزلوها من جنوبي إيطاليا لم يؤثروا بصناعاتهم وعلمهم، ولم يخلفوا أثرا من آثارهم كالنقود والرنوك والمصانع والجوامع على ما حقق ذلك العلامة نالينو.
أما في جزيرة صقلية، فإن العرب طالت فيها أيامهم إلى سنة 484ه وأثروا فيها أنواع التأثير؛ فتركوا لأهلها أولا عاداتهم وقوانينهم وحريتهم الدينية المطلقة، واكتفوا منهم بجباية قليلة كان مقدارها أقل مما كان يستوفيه اليونان منهم وأعفوا منها النساء والأولاد والرهبان، وحافظوا على جميع الكنائس الموجودة ولم يسمحوا بإنشاء غيرها، على خلاف ما جروا عليه في الأندلس، وعمدوا إلى الزراعة والصنائع فأحيوها، وأدخلوا أصنافا من الزرع لم تعرفها الجزيرة، ومنها القطن وقصب السكر والزيتون والبردي والكتان والمران، وأقاموا المجاري التي لم تبرح ماثلة للعيان، وعلموا الناس عمل القني ذات الأنابيب المعقفة (السيفونات ) وكانت قبلهم غير معروفة.
وأنشأت العرب في صقلية مصانع لصنع الورق ومنها انتشرت الوراقة في إيطاليا، وعدنوا مناجم الجزيرة وعلموا أهلها صنع الحرير، والغالب أن صناعة صبغ الثياب انتشرت في أوروبا من صقلية، ومن مصانع الصقليين كانت تصدر الأكسية المحلاة بالجواهر، والطنافس المصورة والمنقوشة، والجلد المدبوغ والحلي البديع. وبالإجمال، حمل العرب إلى صقلية مظاهر غريبة من فنهم وقناطرهم العالية الجميلة ونقوشهم من المقرنصات وجمال قاشانيهم ذي الميناء والفسيفساء المعمولة من الرخام الملون، وصورهم الجميلة وبهيج صناعاتهم، وما كادت أعلامهم تعلو هذه الجزيرة العظيمة حتى نمت التجارة وكانت قبلهم ضئيلة، وأنشئوا يقلعون على سفنهم إلى الجهات الأربع وكانت لهم حكومة ذات مجد ورقي، وكثر المسلمون فيها خلال قرنين حتى أصبحوا نصف سكان الجزيرة.
وسار النورمان على سياسة رشيدة لما استولوا على صقلية وقضوا على سلطان العرب فيها؛ فأبقوا المسلمين على عاداتهم ودينهم ولسانهم، واستعملوا منهم كثيرين في قصورهم وحروبهم، فكان منهم القواد والعظماء والعلماء في خدمة الدولة الجديدة، وبقيت لغتهم رسمية في الجزيرة مدة حكم النورمانيين، وتعلم ملوكها العربية ومنهم من برزوا فيها، ونظموا فيها الأشعار وطربوا لأدبها. وهكذا تخلق النورمان بأخلاق رعاياهم وعاملوهم معاملة نادرة في باب التسامح السياسي وعدم التحزب الديني في القرون الوسطى، حتى اتهم الباباوات أمراء النورمان بأنهم دانوا بالإسلام وما زالوا بهم حتى قضوا عليهم بهذه التهمة وغيرها.
Unknown page