3 (1-3) فلسفة الديمقراطية
حقا إن أثمن ما في تجارب الإنسان يتعرض للتهديد - في المأزق الحاضر - على مستوى عالمي، لا من جانب الديانات المتسلطة التي قاست العذاب مما لاقته من آلام على أيدي ما ينافسها من العقائد الدنيوية، ولكن من جانب التوسع المريع في الاستالينية وما يصدر عنها من إرهاب شامل مطلق. وإن ما نريده شعارا لنا هو الحرية وليس الخلاص. وقد يختار المرء الخلاص لروحه ويخسر الدنيا في سبيل هذا الخلاص، كما أن ما يراه أحد الناس خلاصا يراه غيره خرافة. ومن المؤكد أن نخسر المعركة في سبيل عالم ديمقراطي إذا سمحنا للبابا أن يتزعم حربا صليبية ضد البلشفية. إن كفاح العقل الخالي من الأصفاد ضد الأرثوذكسية المنظمة يجب أن يستمر بالرغم من أن المذاهب الأرثوذكسية المتصارعة تجد نفسها - بسبب اهتمامها بتحررها الديني - متحالفة في الوقت الحاضر ضد أرثوذكسية أعلى لا تحتمل معارضة، حتى إن كانت عن طريق الصمت.
وكما أن قيادة الكفاح الدولي ضد الاستالينية باسم الرأسمالية قاتل، مع العلم بأن اتفاقها مع الرأسمالية المحتضرة أيسر لها من اتفاقها مع الاشتراكية الديمقراطية، فكذلك الأمر مع شعارات ديانات الغرب الإقليمية التي لا تقبلها أكثرية البشر. أما ما يوحد بين المسيحيين وغير المسيحيين على السواء في كفاح مشترك في سبيل الحرية، فهو فلسفة الديمقراطية التي يجمع عليها كل الناس.
4
وبالديمقراطية كطريقة من طرق الحياة نعني طريقة لتنظيم العلاقات الإنسانية تتجسد فيها مجموعة معينة من المثل الخلقية. إننا جميعا على علم ببعض المواقف التي نقول فيها إن الديمقراطية السياسية قد هتكت مثلها التي تنادي بها. وكلما وجهنا نقدا إلى دول قائمة تسير وفقا للتعريف السياسي للديمقراطية على أساس أنها ليست ديمقراطية بالقدر الكافي، وكلما قلنا إن الديمقراطية الأثينية كانت مقصورة على الأحرار من الرجال وحدهم، أو إنها في بعض أجزاء أمريكا الجنوبية مقصورة على البيض وحدهم، أو إنها في بعض البلدان مقصورة على الرجال وحدهم، كلما قلنا ذلك كنا بمثابة من يستحث قيام مبدأ ديمقراطي أشمل نتقيد به ونحتكم إليه عندما نصدر أحكاما مقارنة. وهذا المبدأ من المبادئ الخلقية.
ما هذا المبدأ الذي تتمثل فيه الديمقراطية المثالية؟ إنه مبدأ المساواة، المساواة لا في المركز الاجتماعي ولا في النشأة، ولكنها المساواة في الفرص، وفي الوظائف الملائمة، وفي المشاركة الاجتماعية (لماذا نعامل الأفراد ذوي المواهب والاستعدادات المتفاوتة كأنهم أشخاص لهم حقوق متساوية في الاعتبار والرعاية المناسبة؟) لن أقدم في الإجابة على هذا السؤال بحثا شاملا، ويكفيني أن أذكر الأسباب دون التوسع في الحاجات الملموسة للوضع الاجتماعي التي تسعى الديمقراطية إلى سدها والطرق الدستورية التي يجب أن تسدها وفقا لها. (1)
إن هذه الطريقة من طرق معاملة الأفراد أكثر نجاحا من أية طريقة أخرى من حيث إثارتها للحد الأقصى من الحد التلقائي الخلاق من جانب جميع أعضاء المجتمع. وإذا ما نحن طبقنا هذه الطريقة تطبيقا صحيحا، قدمنا لكل فرد في المجتمع سندا، واستنبطنا منه أقصى ما يمكن من ولاء معقول. (2)
هذه الطريقة توسع أفق تجاربنا؛ لأنها تمكننا من اكتساب النظر الثاقب في حاجات الآخرين ودوافعهم وآمالهم؛ فإن معرفتنا بالطريقة التي تسير بها الحياة في مجالات أخرى من الخبرة حافز لخيالنا ومدرب له في آن واحد، وفي معاونتنا غيرنا على النمو نعاون أنفسنا أيضا على النمو. (3)
إن رغبتنا في إدراك وجهة نظر رجل آخر دون أن يتحتم علينا الاستسلام له يجعل من الأرجح أن تلتقي وجهات النظر المختلفة، وتسوي ما بينها من خلاف، وتتعلم كيف تتعايش في سلام. إن المجتمع الديمقراطي لا يمكن أن يخلو من النضال في عالم توجد فيه دائما أسباب لعدم المساواة. غير أن القواعد الخلقية لهذا المجتمع - إذا ما طبقت تطبيقا معقولا - تجعل من الأرجح الحد من هذا النضال، أو تحوله إلى صور أقل ضررا من الناحية الاجتماعية مما يحدث لو أنا أنكرنا مبدأ المساواة. والنتيجة أن يقل التزلف، ويقل الخوف، ويقل التضارب في المجتمع الذي تسوده المساواة عما يحدث في المجتمع الذي يسوده عدم المساواة. (4)
إننا حينما نتعهد قدرات كل فرد من الأفراد حتى تبلغ أقصى ما تستطيع أن تحققه، نقتسم على أحسن صورة ممكنة ما لدينا من كنوز الحق والجمال، ونكتشف أبعادا جديدة في هذين المجالين. وكيف يعترض - دون تناقض - أي شخص وهب حياته لقيم العلوم والفنون على سياسة ترفع إلى الحد الأقصى إمكان اكتشاف الحق العلمي والمعاني الفنية، ونشرها على أوسع نطاق؟ (5)
Unknown page