وموجز القول أن القوى التي تعمل على تماسك المجتمع العالمي محدودة. ولا تعني إشارتنا إلى هذه الحقيقة أن كل جهد يبذل في سبيل تعزيز تماسك المجتمع العالمي وتوسيع رقعته عبث لا طائل تحته؛ فإن هذا الواجب ينبغي أن يشغل ضمير البشرية لعدة قرون مقبلة، ولسوف يحدث ذلك قطعا. بيد أن بناء الحكومة الذي سوف نشيده لن يكون سليما نافعا إلا إذا تناسب ارتفاعه مع قوة المواد التي تقيمه منها. والموقف السياسي الراهن يتطلب منا ألا نسعى إلى السلام فحسب، بل نسعى كذلك إلى الاحتفاظ بحضارة نعتقد أنها أفضل من الاستبداد العالمي الذي يهددنا به الاعتداء السوفيتي، وهدفنا هو أن ننجح في هذا الواجب المزدوج، ولا ينبغي لنا أن نحيد عن هذا الهدف ونظن أنه بوسعنا أن نستبدل به غيره.
وأعتقد أن فرصة النجاح في كفاحنا ضد العدو المتعصب تكون أكثر سنوحا لنا إذا نحن خففنا من ثقتنا فيما عندنا من طهارة وفضيلة. إن غرور الأمم القوية وإيمانها بفضلها أشد خطرا على نجاحها في مجال السياسة من حيل الأعداء. وإذا نحن استطعنا أن نجمع بين قدر أكبر من التواضع وعزمنا الأكيد، فقد لا يقف الأمر عند حد زيادة نجاحنا في صد تيار الاستبداد، بل يتخطاه تدريجا إلى إقامة إحساس صادق بمشاركة العدو، مهما تكن هذه المشاركة ضئيلة. ومهما اشتد عنادنا في مقاومة الضغط الروسي، فلا بد لنا من شيء من الحس بمشاركة الاتحاد السوفيتي، نستمده من حسنا باشتباكنا في مصير مشترك يدعو إلى الأسى الشديد، ومن إدراكنا للإثم المشترك الذي نقترفه بتبادل الخوف والفزع. وإذا كان المجتمع في قواعده الأساسية يقوم بتأثير قوى التاريخ العضوية المختلفة، فلا بد من حفظ كيانه في نهاية الأمر بتبادل الاحتمال والتسامح.
5 (1-6) الله ومصير الإنسان
ربما فشل جيلنا، وربما أعوزنا التواضع والمحبة والبر الذي يلزم لتحقيق هذا الهدف، بل إن هناك ما ينذر بإمكان فشلنا، بل وباحتماله. وفي الكتاب المقدس وعد بحياة جديدة للأفراد والأمم، ولكن ليس هناك ما يضمن النجاح على مدى التاريخ. وليست هناك وسيلة إلى تحويل العقيدة المسيحية إلى نظام من التفاؤل يدوم ما دام التاريخ. إن الانتصار الحاسم على فوضى الإنسان يكون من عند الله ولا يكون من عند الإنسان، ولكنا مسئولون عن الانتصار المؤقت. والحياة المسيحية إذا خلت من الحس المرهف بالمسئولية عن صحة مجتمعاتنا وشعوبنا وثقافاتنا تتدهور إلى تفكير في العالم الآخر لا يطاق. ونحن لا نستطيع أن ننبذ موطننا فوق الأرض، ولا نستطيع أيضا أن نزعم أن انتصاره أو هزيمته هو الذي يحدد المعنى النهائي لوجودنا.
ولقد بكى المسيح على بيت المقدس وأسف؛ لأن هذا البلد لم يعرف ما يتعلق بأمنه وسلامه. ولدينا في العهد القديم قصة إبراهيم المؤثرة وهو يجادل الرب في عدد الأفراد اللازمين لإنقاذ المدينة، هل يحتاج الأمر إلى خمسين أو أربعين أو ثلاثين؟ واتفق مع الرب في النهاية على عشرين. إن الأمر لا يحتاج إلا إلى خميرة صغيرة. إن مركزا صغيرا من الصحة قد يكون وسيلة إلى النقاهة لمجتمع بأسره. وتحدد هذه الحقيقة المسئولية الضخمة التي تقع على عاتق شعب الله في مدن الخراب في هذا العالم.
غير أن لهذه القصة مغزى بعيدا كثيرا ما نهمله، وهو مغزى خطير يمكن تطبيقه على عصرنا الحاضر؛ فإنه مهما تكن البقية الصالحة التي يحتاج إليها الإله لإعادة بناء مجتمعاتنا صغيرة، فإنها لم تبشر بالظهور في سدوم وعامورة، وربما كان من الصواب أن نقول إن الأقلية الصالحة في سدوم ربما كانت كافية في عددها، غير أن صلاحها لم يكن كافيا لإنقاذ سدوم وعامورة. وإني لأحس في غير اطمئنان أن اليوم في مثل هذا الوضع؛ ففي مدينتنا الحديثة بأسرها قليل جدا من الصحة، حتى إن المرء ليضل الطريق إلى موضع النظام الذي يقاوم منه الفوضى. وأمسى الاختيار أمامنا محدودا جدا. هل لا بد لنا أن نختار في النهاية بين الفناء بالذرة أو الخضوع لظلم شامل؟ إذا جاء هذا اليوم يجب أن نذكر أن لغز السيادة والرحمة الإلهية يتجاوز مصير الإمبراطوريات والمدنيات. والله باق في علاه حتى بعد فناء هذه الإمبراطوريات والحضارات. ومهما يكن من أمر فإن الله لا يحب الهلاك لهذه الإمبراطوريات والحضارات، وإنما يحب لها أن تتخلى عن وسائلها الشريرة وتحيا، وهو يطلب إلينا أن نعمل في ضوء النهار، ما دام ظلام الليل آتيا، وعندئذ لن يستطيع أحد منا أن يعمل.
6
المصادر
كل المختارات في هذا الفصل مقتبسة من كتاب «الواقعية المسيحية والأزمة السياسية» لرينولد نيبور .
1
Unknown page