(1892م-...)
إذا كان هناك خيط واحد يربط بين المؤلفات العويصة الفصيحة التي أسهم بها نيبور فيما كتب متعلقا بالفلسفة الحديثة وبالدفاع عن البروتستانتية، فمن الجائز أن ننعته بأنه حرب صليبية موجهة ضد التفاؤل الشديد الذي ساد عصر العقل والعلم، وذلك بالرجوع إلى فكرة الخطيئة الأولى وحالة الإنسان التي تدعو إلى الأسف والأسى. وتصف صفحات إحدى المجلات الواسعة الانتشار رينولد نيبور بأنه «رجل الدين الأول في بروتستانتية الولايات المتحدة». وفي عبارة أفضل انتقاء وأقوى تبيانا يقول المؤرخ آرثر شلنجر: «إنه لم يظهر في هذا الجيل واعظ له ما لنيبور من قوة الأثر، ولم يظهر واعظ له ما له من أثر في الدنيا العلمانية.»
ونيبور، الذي يشغل الآن منصب نائب رئيس اتحاد المعاهد الدينية بنيويورك، ولد في مدينة رايت بميسوري يوم 21 من يونيو من عام 1892م. وقد جاء أبوه مهاجرا إلى هذه البلاد (أمريكا) من ألمانيا في سن السابعة عشرة. وعندما رزق رينولد كان راعيا للكنيسة الإنجيلية الطائفية في مدينة رايت. وربما كان لوفاة والده في سن مبكرة، وما ترتب على ذلك من ضيق مالي عانت منه أمه، التي كان عليها أن تواجه تربية أبنائها ، شأن بالتحاق نيبور بكلية ألمهرست في ألينواز، وهو معهد تخرج فيه عام 1910م دون الحصول على درجة علمية، لكي يلحق بمعهد إيدن الديني، بجوار سنت لويس، ثم انتقل بعد ذلك بثلاث سنوات إلى مدرسة ييل للاهوت، ومنها حصل على درجة البكالوريوس في اللاهوت عام 1914م، وعلى درجة الأستاذية في عام 1915م.
وفي عام 1915م عندما نصب قسيسا في كهنوت الكنيسة الإنجيلية الطائفية بشمال أمريكا، تولى نيبور أول وآخر وظيفة له كراع في كنيسة بثل الإنجيلية بدترويت. وتميزت خبرة السنوات الثلاثة عشرة في دترويت باهتمام حماسي بحركة العمال، وبنوع من الوعظ الثائر الذي كان يعطف على الاشتراكية وعلى القادة المجاهدين في صفوف عمال السيارات بتلك المدينة الهامة. وقد شاع بين الناس أن رجال الصناعة تنفسوا الصعداء عندما غادر نيبور دترويت لكي يلتحق بهيئة اتحاد المعاهد الدينية. وبعد عامين عين نيبور أستاذا لكرسي وليم رودج، وهي أستاذية في المسيحية التطبيقية في اتحاد المعاهد الدينية. وبمرور السنين اشتد ارتباطه وزادت مسئولياته إزاء هذه المؤسسة.
وقد أدرك نيبور منذ أيام دترويت أن الأزمة العالمية في عصرنا الحاضر تتعلق بالمشكلات الأساسية للخلق السياسي. وكتابه «الإنسان الخلقي والمجتمع غير الخلقي» لا يزال بيانا قويا عن الحاجة إلى نظام اجتماعي عادل قبل أن نتوقع ل «الإنسان الخلقي» أن ينتعش. وفي كتابه «أبناء النور وأبناء الظلام» يهاجم نيبور تخلي «أبناء النور» عن المسئولية الخلقية، فهم يعجزون عن اللحاق بوقائع السلطة المعقدة، بالرغم من نبل نواياهم وطهارتها. وفي هذا الصدد ألف نيبور أن ينقد مرة كل أسبوعين الكنائس الأمريكية والزعماء الدينيين، ويصمهم بأنهم إنما يلقون المواعظ والنصائح الخطرة التي ليست لها بواقع الحياة صلة. وبسبب هذا النقد المتواصل اكتسب نيبور بعض الأعداء الأقوياء في الدوائر الأمريكية المسيحية. أما في شئون السياسة فقد نادى نيبور بضرورة التزام الحكمة التي تخلو من التعصب، وهي الحكمة التي تطابق المذهب البراجمي (العملي) المتحرر. وتدل بعض مؤلفاته الأخيرة مثل «المسيحية وسياسة السيطرة» و«الواقعية المسيحية والأزمة السياسية»، ومقالاته العديدة التي نشرها في صحف الرأي مثل «الرائد الحديث»، على عادته في وزن الأمور على أوجهها الواقعية المختلفة وزنا دقيقا، ووزن النتائج الخلقية للقرارات السياسية.
وقد أظهر نيبور مرة أخرى عند اقتراب الحرب العالمية الثانية الشجاعة والنزاهة التي دفعته من قبل إلى أن ينضم إلى الاشتراكيين في الفترة التي تقع بين عام 1930 و1940م، وذلك حينما انفصل عن الاشتراكيين في يونيو من عام 1940م، واختلف معهم بشأن الحرب الأوروبية، التي أدرك أنه لا مناص للولايات المتحدة من دخولها، والتي ينبغي لها من الناحية الخلقية أن تتدخل فيها. ولما كان نيبور يعتقد «أن قدرة الإنسان على العدالة تجعل الديمقراطية ممكنة، غير أن ميل الإنسان إلى الظلم يجعل الديمقراطية ضرورة»؛ فقد اهتم اهتماما بالغا بالقضايا الملموسة في السياسة الخارجية، كما اهتم بالسياسة الداخلية الوطنية في أمريكا. وبينما نراه يلجأ إلى نوع من الوعظ المسهب بشأن الأخطاء الأمريكية في كتابه «سخرية التاريخ الأمريكي»، نجد أنه يعتقد بشدة في قدرة أمريكا على أن تحدد مصالحها الوطنية في إطار سمح يسمح بحقوق الأمم الأخرى.
وفي كتابه «النفس ومسرحية التاريخ» يرتد نيبور إلى الاهتمام الذي سيطر عليه في محاضرات جفورد التي ألقاها بأدنبرة في عام 1929م، حينما اختار موضوع «الطبيعة ومصير الإنسان» للمحاضرة. وهنا نراه يذكر في عبارة بليغة تقديره للعنصر العبري في المدنية الغربية، كما أنه يحتفظ بالتقاليد الهلينية، وهو فوق ذلك يقدم لنا في قوة مؤثرة فلسفة عامة في النفس، سواء من ناحية تقيدها بظروف خلقها أو من ناحية أمجادها الخلاقة. (1) الواقعية المسيحية والأزمة السياسية
رينولد نيبور (1-1) الجذور العلمانية لورطتنا
إن الميل الطبيعي عند المسيحي المؤمن حينما ينظر إلى الوقائع المؤسفة في حياتنا المعاصرة، هو أن يرى الحق في المسيح إزاء ما نستعيض به عن الإيمان المسيحي، وهو استبدال الباطل بالحق، الأمر الذي ربما عاون على إيجاد هذا العالم المفجع الذي نعيش فيه اليوم. ألم يهدم هذا الذي استبدلناه بالإيمان المسيحي الإحساس بالسياسة المقدسة التي نخضع لها جميعا؟ ألم يخترع وسائل للتخلص من الشر جعلت الشعور بالندم أمرا لا ضرورة له ؟
هذا الميل قد يحدد أيضا مسئوليتنا. غير أني أشك فيما إذا كانت هي مسئوليتنا الأولى؛ فالفرصة سانحة لنا كذلك لكي نجعل لصدق كلمة الله أثرا في الجذور الدنيوية للورطة التي نحن فيها اليوم؛ لأن تاريخنا الجاري هو في الواقع مثل رائع للوسيلة التي يباغت بها إله الانتقام كبرياء الإنسان، وللطريقة التي يوقع بها الحكم الإلهي العقوبة على الأفراد والشعوب الذين يرفعون أنفسهم فوق مستواهم.
Unknown page